تعداد نشریات | 418 |
تعداد شمارهها | 9,997 |
تعداد مقالات | 83,560 |
تعداد مشاهده مقاله | 77,800,521 |
تعداد دریافت فایل اصل مقاله | 54,843,327 |
دلالة السیمیائیة فی قصیدة "لامیة العرب" للشنفرى "دراسة وتحلیل" | ||
إضاءات نقدیة فی الأدبین العربی و الفارسی | ||
مقاله 4، دوره 4، شماره 14، آبان 1435، صفحه 86-69 اصل مقاله (1.65 M) | ||
نوع مقاله: علمی پژوهشی | ||
نویسندگان | ||
شهریار همّتی1؛ جهانگیر امیری1؛ مهدی پورآذر2 | ||
1أستاذ مشارک بجامعة رازی، إیران. | ||
2طالب الدکتوراه بجامعة رازی، إیران. | ||
چکیده | ||
ممّا یمیز اللغة الأدبیة عن غیرها من اللغات العادیة احتواء اللغة الأدبیة على سمات وعلائم لغویة ترمز إلى دلالات ورموز معنویة طریفة. إنّ وجود هذه السّمات اللّغویة فی اللغات الأدبیة یرتقی بمستواها التعبیری ویزید من طاقاتها الإیحائیة بحیث یعود بإمکان القارئ فهمها وتفسیرها من منظور جدید بعد توظیفه السمات والدلالات اللفظیة التی تحفّ بالنصّ الأدبی وتمنحه طاقة دلالیة مخصّبة لا تستنفد حیویتها ودینامیکیتها عبر القرون والأعصار وممّا له دورٌ هامٌ فی عملیة استیعاب النصّ الأدبی استجلاء طرائفه وجمالیته والکشف عن العناصر الفنیة التی أعطت على النصّ الأدبی رمزیتها وسیمیائیتها؛ إذن یمکن القول إنّ الاتجاه السیمیائیة فی مطالعة النّص الأدبی یُعدُّ من أهمّ الصیغ والآلیات اللغویة التی یستخدمها اللغویون لخرق الحواجز والتّوغل فی أعماق النصّ. یحاول هذا المقال من خلال المنهج الوصفی– التحلیلی أن یدرس "لامیة العرب" للشاعر الجاهلی الشنفرى مستعیناً بالسیمیائیة التی حظیت باهتمام شدید من قبل علماء اللغة فی الآونة الأخیرة. من النتائج التی توصلنا إلیها عبر هذا البحث هی أنّ الدراسة السیمیائیة تساعد على استقصاء الجمالیات الخفیة فی قصیدة الشنفرى وکشف الکنوز المعنویة المختبئة فی تضاعیفها؛ فتنطوی عناصر السیمیائیة فی اللامیة على ما یلی: البیئة القبلیة، والترحال، وبیئة الوحوش، والذئب، وتحمّل المشاقّ، والنّفس الأبیة. | ||
کلیدواژهها | ||
الشنفرى؛ لامیة العرب؛ السیمائیة؛ الحیاة الصعلوکیة؛ الحیاة القبلیة | ||
اصل مقاله | ||
«نظم فی العصر الجاهلی عدد من الشّعراء الکبار قصائد رائعة بروی اللّام، من أبرزهم امرؤالقیس، وزهیر بن أبی سلمى، وعنترة، وکعب بن زهیر إلّا أنّ أسماها منزلة وأکثرها شهرة هی قصیدة لامیة أنشأها الشنفرى. کفاها فخراً واعتزازاً أنّها وحدها سمیت بـ"لامیة العرب" دون غیرها. ذلک لأنّها تمثّل العرب وأمجادها وقیمها جملة وتفصیلاً.» (حفنى، لاتا: 7) «استقطبت هذه القصیدة اهتمام الباحثین والناقدین منذ أقدم العصور والسبب فی ذلک یعود إلى ما تتمیز به القصیدة من غزارة الألفاظ وجودة السبک والطاقة التصویریة الهائلة التی تجسّد الحیاة الجاهلیة بکلّ ما فیها من القیم والمثالب أمام ناظری المتلقی.» (الشنفرى، 1991م: 19) «لقد لفتت القصیدةُ اللامیة للشنفرى انتباهَ المستشرقین أیضاً فإنّهم أکبّوا على القصیدة یتناولونها بالدّرس والتحلیل ویترجمونها إلى مختلف اللغات الحیة والذی زاد من إعجابهم بهذه القصیدة أنّهم وجدوا فیها تصویراً صادقاً ودقیقاً لحیاة العرب البدویة یستمدونه کنوافذ للتّسرب فی بواطن حیاة العرب أسرارها وخبایاها.» (خلیف، 1982م: 181) «ظنّ البعض أنّ القصیدة لخلف الأحمر ولیس للشنفرى.» (المصدر نفسه: 179-181) «ولکن واجه هذا الرأی بالرفض من قبل العدید من الباحثین الذین اعتبروه رأیاً لاینسجم مع المعاییر العلمیة ووصفوه بالسطحیة والرکاکة.» (المناعی، 2006م: 78) کما أشرنا إنّ هذا المقال یحاول تحلیل قصیدة "لامیة العرب" للشنفرى ضمن الإجابة عن السؤالین التالیین: 1. ما هو أهمّ الدلالات السیمیائیة فی قصیدة "لامیة العرب"؟ 2. هل تعکس القصیدة خصائص الشاعر وبیئته فی ضوء الإیحاءات السیمیائیة؟ أهمّ الدلالات السیمائیة التی استخدمها بقصیدته هی القبیلة، والتّرحال، وبیئة الوحوش، والذئب والنفس الأبیة. من المفترض أنّ قصیدة اللامیة للشنفرى تعکس حیاة الشاعر وبیئته فی ضوء الدلالات السیمیائیة. الدراسات السابقة سبق أن أشرنا إلی أنّه لقد تمّت حول هذه القصیدة ومبحث السیمیائی دراساتٌ عدیدةٌ قیمةٌ استفدنا منها کثیراً، ومن أهمّها: 1. یتناول سید محمد موسوی بفرویی فی مقالته المعنونة بـ "دراسة نقدیة فی تسمیة لامیة العرب" القصیدة بمقارنة قصیدة زهیر بن أبی سلمى والنابغة الذبیانی مع النقد والتحلیل فی المعنى والمحتوى. 2. یدرس محمدرضا هاشملو والآخرون فی مقالهم تحت عنوان "آیا انتساب لامیة العرب به شنفرى درست است؟" هذه القصیدةَ مستعیناً بآراء الناقدین والعلماء. 3. تحاول آفرین زارع وطاهره طوبایی فی مقالهما المعنون بـ "تحلیل سیمائی لرائیة ابنالعرندس ومقارنتها مع أشعار معاصریه" البحثَ عن أسباب نجاح هذه القصیدة خلال دراسة سیمیائیة تحلیلیة مقارنة بینها وبین أشعار معاصریه. 4. یکشف محمد خاقانی ورضا عامر فی مقالهما المعنون بـ "المنهج السیمیائی: آلیة مقاربة الخطاب الشعری الحدیث وإشکالیاته" عن أهمیة المنهج "السیمیائی" فی الدراسات الأدبیة للنصّ العربی الحدیث. هذا غیض من فیض البحوث والدراسات التی أنجزت حول القصیدة والمبحث السیمیائی، ونحن لم نتوان جهداً فی مراجعتها والإفادة منها لإعداد هذا المقال إلّا أنّ کثرة البحوث وضخامة الدراسات التی تمّت حول القصیدة لا تمنعنا من أن نقول بأنّ القصیدة لم تستوف بعدُ حقّها من الدراسات الحدیثة فی مجال النقد واللغة. نحن لم نتهاون فی مراجعة هذه البحوث والإفادة منها لإعداد مقالنا هذا. نرید التوغل والغوص فی خضم القصیدة عبر التنقیب عن القشور الدلالیة لها لیتمّ الکشف فی نهایة المطاف عن التناغم والتناسق الموجود بین الرموز الدلالیة ومدلولاتها قبل الدّخول فی صمیم البحث. نرى أنّه من الأنسب أن نتطرّق فی البدایة إلى مفهوم السیمائیة کحقل من الحقول المعرفیة فی إطار الدراسات اللغویة الحدیثة. الإطار النظری السیمائیة «مصطلح السیمائیة اختاره علماء اللغة العرب لیقابل کلمة "Semiotics" المأخوذة من أصل یونانی، فالأصل الیونانی کان یدخل فی حیز المصطلحات الطبیة التی تدلّ على أسلوب خاصّ یعالج به المرضى عن طریق فحص علائم المرض من شحوب اللون والحمّى وتحلیل عینات من بَول المریض أو دمه. هذا الاتجاه الطبی أدّى تدریجیاً إلى نشوء هذا الاتجاه الطبی وصار مصدر إلهام لنشوء علم السیمائیة لدى علماء اللغة ووسائل الأعلام إلا أن بواکیر هذا العلم لم تظهر إلا فی أوائل القرن العشرین.» (قائمینیا، 1389م: 38) «حیث أرسى علماء من أمیرکا وسویسرا قواعد السیمائیة وأسّسوا رکائزها. کان فردینان سوسور "Ferdinand Sosor" وجارلز ساندرز "Charlz Sanders" من أبرز روّاد ومبدعی هذا العلم. تقوم السیمائیة على رکیزة أساسیة هی أنّ اللغة عبارة عن منظومة مکوّنة من العلامات والرموز الدلالیة تترابط ربطاً فسیفسائیاً إلّا أنّ العلماء الأوائل تعدّدت مذاهبهم ومناحیهم فی هذا العلم فبینما أخذ منهج العالم اللغوی الشهیر بیرس طابعاً فلسفیاً اصطبغ مذهب سوسور بصبغة لغویة واضحة بحتة أسفرت أخیراً عن علم السیمائیة بمفهومه الحدیث الذی لعب دوراً هاماً ومفصلیاً فی الدراسات اللغویة.» (المصدر نفسه: 45) «یرى سوسور أنّ السیمائیة هی علم یقوم بدراسة الوظیفة التی تمارسها الرموز الدلالیة فی الحیاة الاجتماعیة وعلم اللغة یعدّ من أهمّ وأبرز فروعه.» (چندلر، 1387م: 25-26) «فاللغة فی منظور سوسور عبارة عن منظومة متکاملة من العلائم التی تعبّر عن المعانی وتأتی کلّ علامة قائمة على الوضع والاعتبار.» (احمدی، 1380م: 15) «على سبیل المثال کلمة الشجرة هی علامة وُضعت لتدلّ على المعنى الذی یعرفه الناطقون بلغة الضاد. من جهة أخرى اعتبر سوسور کلّ علامة من العلائم اللغویة مشتملة على الشیئین هما الدّال وهو الجزء الصوتی والمدلول وهو الجزء المعنوی.» (سجودی، 1390م: 12-13) «من المؤکد أنّه لیس الدال ولا المدلول بوحدهما العلامة اللغویة بل العلاقة البنیویة الوثیقة التی تربط بینهما هی التی تشکّل النواة الرئیسیة للعلامة أخذاً بنظر الاعتبار أنّ العلاقة بین الدال والمدلول کما أسلفنا توّاً تقوم على أساس الوضع والاعتبار ولیس التکوین أو ما شابه ذلک.» (مکاریک، 1390م: 327) «فالعلائم اللغویة فی رؤیة سوسور لا تدلّ على أی معنىً فی حدّ ذاتها بل تکتسب معناها عبر وضعها داخل منظومة لغویة شاملة وتوظیفها فی مختلف الحالات الدلالیة التی تعمل على تحدید الإطار المعنوی للعلائم کالتباین والترادف والمقارنة وما إلى ذلک من الحالات الدلالیة.» (المصدر نفسه: 328) للعلامة عند بیرس مفهوم أکثر تعقیداً فهو یقول بهذا الصدد: «العلامة فی رأیی عبارة عن فعل أو أثر جاء حصیلة للشراکة المنسقة بین ثلاثة أشیاء هی: صورة للعلامة، دلالة العلامة والعلاقة بینهما.» (أحمدی، 1380م: 23) «یمکن القول إنّ السیمیائیة من العلوم التی توظّف لتحلیل النصوص واستجلاء الدلالات من خلال إزاحة القناع عن وجوه العلائم أو الرموز اللغویة. کما یمکن اعتبار السیمیائیة العملیة اللغویة التی یتمّ بها التنقیب عن البنى التحتیة للمعانی فی ظلّ دراسة وتحلیل الدلالات الصوریة والظاهریة للغات.» (حمداوی، 1997م: 79) من هذا المنطلق ثمّة ارتباط وثیق بین السیمیائیة واستیعاب المفاهیم والمدالیل. ذلک لأنّه یتمّ البحث فی السیمیائیة عن کیفیة دلالة الألفاظ التی هی بمثابة الرموز والعلائم على مدالیلها ومعانیها. «وحسبما قاله "إیکو" أنّه لایتمّ دلالة شیء على شیء إلّا لمن هو واعٍ بالرموز الدلالیة بینهما.» (إیکو، 2000م: 13) لغة الشعر «قبل أن نتطرق إلى دراسة القصیدة من المفید أن نشیر إلى أنّ لغة الشعر قد تختلف عن اللغة المعیار.» (أحمدی، 1380م: 71) «فاللغة فی النصوص الأدبیة شعراً کان أم نثراً، لغة غیر مباشرة یتمّ فیها إیصال المعانی إلى المتلقی عبر الصناعات الأدبیة وجمالیات البلاغة. ولذلک استیعاب لغة الشعر أو النثر یتطلّب تجاوز الطرق المعهودة والمألوفة فی إلقاء المعانی العادیة والروتینیة.» (پاینده، 1388م: 165) «فی الحقیقة یکون الشعر محاولة جادّة لإیصال المعنى بالأسالیب التی تتخطى الأطر الدلالیة للّغات المألوفة والشائعة.» (أحمدی، 1374م: 528) فما أدقّ ما قاله هیدغر "Hideger" فی هذا المجال. حیث قال: «إنّ الإشارات الموحیة التی تحملها لغة الشعر فی طیاتها رغم غموضها وإغلاقها تفصح عن أسرار خافیة وبأسلوب یکتنفه الغموض والتعقید.» (المصدر نفسه: 46) وما قاله عین القضاة الهمذانی حول اللغة الشعریة یزوّدنا برؤیة جدیدة فی هذا المضمار، فهو یقول: «الشعر مرآةٌ، من نظر إلیها رآى صورته فیها فمن قال إنّ الشعر لیس له معنى سوى المعنى الذی أراده شاعره فکأنّه قال إنّ المرآة لا تعکس إلّا صورة صانعها الذی نظر فیها لأول مرة.» (المصدر نفسه: 136) «من هنا یمکن القول بأنّ الشعر هو انطلاقة من معنى واحد إلى معانٍ رحبة موسّعة کلّ معنیً یفتح الطریق لمعانٍ أخرى قد تکون المعانی باهتة اللون خافیة الملامح یصعب استیعابها اللّهم إلّا لمن کان له نظرة ثاقبة ورؤیة مستنیرة وفکرة متوهّجة واعیة.» (حقشناس ولطیف عطاری، 1386م: 33) القسم التحلیلی دراسة سیمائیة فی قصیدة "لامیة العرب" تبدأ القصیدة الجاهلیة عادة بمقدمة تغزلیة والوقوف عند الدّمن والأطلال یتحدث الشاعر ضمنها بأسلوب خیالی وفی أجواء نوستالیجیة عن حبیبته والآثار المتبقیة عنها ومن ثمّ ینتقل إلى صمیم الموضوع. ولکنّ الشنفرى لایلتزم بهذه السّنة الشعریة بل یبدأ قصیدته ببیت یشعر به أبناء قبیلته بعزمه على الرحیل قائلاً: أَقِیمُـوا بَنِـی أُمِّـی صُـدُورَ مَطِیـکُمْ فَإنِّـی إلى قَـوْمٍ سِـوَاکُمْ لَأَمْیـلُ إنّ الأسلوب الانزیاحی الذی استخدمه الشاعر لم ینته عند هذا الحدّ بل تعدّاه حیث خاطبَ أبناء قبیلته بلفظة "بنی أمی" ونسبهم إلى أمّهم فی حال أنّ العرب کانت تعزو الأبناء إلى آباءهم ولا أمهاتهم. «یبدو أنّ الشاعر أراد بهذا الخطاب استخفاف قومه والحطّ من شأنهم کأسلوب للتعبیر عن سخطه واستیاءه أمامهم.» (حفنی، لاتا: 8) من الملاحظ أنّ الشاعر بدأ قصیدته بالفعل الذی هو "أقیموا"، ولکنّ لم یقصد الشاعر بهذا الأمر دعوة قومه إلى الرحیل لأنّه هو الذی عزم على الرحیل دون قومه إلّا أنّه أراد بذلک أن یلمح إلیهم أنّ قوم الشنفرى بعد رحیل الشاعر لن یطیب بهم المقام ولن یشعروا بالسعادة والکرامة. فَقَدْ حُمَّتِ الحَاجَاتُ وَاللَّیـلُ مُقْمِـرٌ وَشُـدَّتْ لِطِیـاتٍ مَطَایـا وَأرْحُلُ «کرّر الشاعر فی هذا البیت عزمه على الرحیل وفی استخدامه "واللیل مقمرٌ" دلالة على أنّه على أهبة الاستعداد لمغادرة القبیلة ولیس هناک عامل یثنیه عن الذهاب فإنّه حزم أمتعته والقمر مضییء وبإضاءته أنار الطریق للسفر. یذکر أنّ ثمّة من یعتقد أنّ عبارة "واللیل مقمر" لا یحمل معناه الحقیقی بل إنّها تعنی أنّ الشاعر یعیش حالة فراغ البال ورباطة الجأش وسکون النّفس فلا تعتریه حالة النّدم أو الارتباک.» (حفنی، لاتا: 8) وقد تکرّر المعنى نفسه فی الشطر الثانی. لقد أضفى الشاعر على البیت شحنة کبیرة من الشعور بالاعتداد والتعجرف فالشاعر یتحدّث وکأنّه یهدد أبناء قبیلته أنّه لو رحل عنهم لحلّت بهم المصائب عن أیمانهم وعن شمائلهم. وفی الأَرْضِ مَنْـأَى لِلْکَرِیـمِ عَنِ الأَذَى وَفِیهَا لِمَنْ خَافَ القِلَـى مُتَعَـزَّلُ لَعَمْـرُکَ مَا بِالأَرْضِ ضِیـقٌ على امْرِىءٍ سَرَى رَاغِبَـاً أَوْ رَاهِبَـاً وَهْوَ یعْقِـلُ «یذکر الصعالیک فی العصر الجاهلی لم یحتلّوا منزلة سامیة بل کانت القبیلة تطردهم وتناصب لهم العداء لسواد لونهم ووضاعة نسبهم.» (البستانی، 1998م: 181) کان الشنفرى ابن جاریة سوداء «وَزعم بَعضهم أَن الشنفرى لقبه وَمَعْنَاهُ عَظِیم الشّفة وَأَن اسْمه ثَابت بن جَابر وَهَذِه غلط کَمَا غلط الْعَینِی فِی زَعمه أَن اسْمه عَمْرو بن براق بِفَتْح الْبَاء وَتَشْدید الرَّاء الْمُهْملَة.» (البغدادی، 1418هـ: 3/343) لقد سمّت القبیلة الشنفرى ومن انخرط فی سلکه من الصعالیک بالأغربة لسواد بشرتهم وقبح منظرهم. وما لقیه الصعالیک من الاحتقار والازدراء أثار الأحقاد والضغائن عندهم وملأ نفوسهم نفوراً وکراهیة، وأذکى فی قلوبهم نیران العداوة والبغضاء. والمشاعر العدائیة التی أضمرها الصعالیک تجاه القبیلة، طغت على السطح وجاءت فی الواجهة حیث إنّهم جاهروا بالمعاداة وصرّحوا بالوقوف فی وجه القبیلة فی أشعارهم. «الصعالیک لم یأملوا فی العودة إلى القبیلة إذ أنّهم اعتبروا عناصر غیر المرغوب فیها وذلک بموجب السنن والتقالید التی أدانتهم ورفضتهم وکانت بقوة الشرائح السماویة التی لا یمکن تجاوزها بأیّ حال من الأحوال.» (الخشروم، 1984م: 23) الرسالة التی یرید الشاعر إیصالها فی "لعمرک مَا بِالأَرْضِ ضِیـقٌ على امْرِىءٍ/ سَرَى رَاغِبَـاً أَوْ رَاهِبَـاً وَهْوَ یعْقِـلُ" هی أنّ الإنسان یتمکن من اجتیاز التقالید الظالمة وتخطّیها إذا تحلّى بالتعقل والطموح: ولا یلیق بالإنسان الکریم والشجاع أن یرضخ للحیاة الضیقة التی یسودها الذلّ والهوان مع أنّه یستطیع أن یحصل على حیاة کریمة أبیة بالضرب فی نواحی الأرض الواسعة المترامیة والتوطین فی ناحیة تنأى وتبتعد عن أیّ ظلم وإذلال. ویبدو من البیت أنّ الشاعر یعرف جیداً أنّه فی حال عدم احترامه لعادات القبیلة وتقالیدها یعاقب بأشدّ العقوبة إلّا أنّ الخوف من العقوبة لم یحمله على التنازل والاستسلام الظالمین الطغاة. وَلِی دُونَکُمْ أَهْلُـون: سِیـدٌ عَمَلَّـسٌ وَأَرْقَطُ زُهْلُـولٌ وَعَرْفَـاءُ جَیـأَلُ هُـمُ الأَهْلُ لا مُسْتَودَعُ السِّـرِّ ذَائِـعٌ لَدَیهِمْ وَلاَ الجَانِی بِمَا جَرَّ یخْـذَلُ وَکُـلٌّ أَبِـی بَاسِـلٌ غَیـرَ أنَّنِـی إذا عَرَضَتْ أُولَى الطَرَائِـدِ أبْسَـلُ أعرب الشاعر فی هذا المقطع الشعری عن امتعاضه وإشمئزازه من القیود الاجتماعیة والقبلیة التی تحتقر الإنسان لأمور تتعلق بظاهره ونسبه وعنصره ممّا لیس للإنسان فیه من ید ولا خیار. هذا الأمر جعل الشاعر یفضّل العیش بجوار الوحوش على العیش فی القبیلة. ذلک لأنّ الوحوش رغم وحشیته تظلّ شجاعة ووفیةً لا تذیع الأسرار ولاتجرح أحداً لبشرته أو أسرته. «شبه بعض الأدباء عملیة تفسیر النصّ الأدبی بتعبیر الرؤیا فکما یخفى تأویل الرؤیا على صاحبه کذلک یخفى تفسیر النصّ الأدبی على الأدیب زد على ذلک أنّ تفاصیل الرؤیا لها دور هام فی التوصل إلى تأویله إلى درجة أنّه لا یمکن الربط بین أجزاء الرؤیا ورسم صورة واضحة عن تأویله إلّا بعد الوقوف على تفاصیله ودقائقه.» (میلانی، 1387ش: 78) لفظة "أبی" فی المقطع السابق هی بمثابة النافذة التی نُطلّ عبرها على شخصیة الشاعر والتغلغل فی أعماقها. ذلک لأنّ کلمة "الأبی" وهی من الإباء تشکّل المیزة الرئیسیة التی تتمیز بها أفکار الشاعر ونفسیته الأبیة. والدلالة السیماویة التی تحملها هذه المفردة هی عبارة عن نزوع الشاعر إلى التمرد على العصبیات القبلیة وتقالیدها الظالمة. وَإنْ مُـدَّتِ الأیدِی إلى الزَّادِ لَمْ أکُـنْ بَأَعْجَلِهِـمْ إذْ أَجْشَعُ القَوْمِ أَعْجَلُ وَمَـا ذَاکَ إلّا بَسْطَـةٌ عَـنْ تَفَضُّـلٍ عَلَیهِـمْ وَکَانَ الأَفْضَـلَ المُتَفَضِّـلُ کما رأینا افتخر الشنفرى فی المقاطع الشعریة السابقة بکونه شجاعاً أبیاً لم یخضع أمام تقالید القبیلة الجائرة لکنّه فی هذا المقطع یفتخر بالمناعة والعفة. الشجاعة والمناعة هما صفتان بارزتان یتسم بهما الصعالیک الذین یحیون حیاة التنقل والرحال. فالصعلوک الذی یخالط الوحوش ویعیش فی أحضان الصحراء المقفرة والملیئة بالأخطار ولا یدری ماذا یخبّئ له القدر لا بدّ أن یتحلّى بالشجاعة والأنفة. أضف إلى ذلک أنّ الشخص الکریم الذی یحتجّ على السنن القبلیة الجائرة ویرید الحفاظ على القیم والمُثُل لا یلیق به أن یکون جشعاً وطمّاعاً بل یطیب له أن یکون ذا نفس منیعة وطبع عفیف. حاول الشنفرى حسبما رأینا فی الأبیات السابقة أن یوضّح لنا معالم شخصیته عن طریق المقارنات والمقابلات التی أجراها بینه وبین قبیلته. فإنّ قصیدة الشنفرى أشبه ما یکون بحلبة السباق التی ینافس الشاعر فیها قبیلته والفائز فی هذا السباق یکون دائماً هو ولیس القبیلة. فإنّه یخرج فی نهایة المطاف متحلیاً بصفات الشجاعة والترفّع کما یصف أبناء قبیلته بالجبن والذلّ والجشع والملفت للانتباه أنّ الشاعر لم یتحدث قطّ عن شرف الأصل وکرم المحتد لأنّه لا یعتبر التفاضل فی النسب مدعاة للفخر والاعتزاز ثمّ أنّ الصعالیک لم ینتموا إلى أسرة شریفة حسب المعاییر الجاهلیة حتى یتفاخروا بها. لقد استجمع الشاعر قواه لإثبات ذاته وإعطاء صورة واضحة عن شخصیته الفذّة وصفاتها النبیلة من الشجاعة، والعفة، والأنفة، والقناعة من جهة وبذل أقصى جهوده لرسم صورة مشوهة فاضحة عن أبناء قبیلته التی وصفهم بإذاعة الشر والتّخاذل والجشع وخرج الشاعر فی نهایة المطاف من هذه المعرکة مفتخراً معتزاً بفروسیته وبطولته. «یمکن اعتبار قصیدة الشنفرى حُزمة من الأوصاف المضاربة عبّر عنها العالم اللغوی "گریماس" بالمرّبع السیمائی.» (ربابعة، 2011م: 16) فبإمکاننا أن نبین الفروق الأساسیة بین حیاة القبیلة وحیاة الوحوش خلال الرسمین التالیین:
الرسم الأول: حیاة القبیلة
الرسم الثانی: حیاة الوحوش
وَإنّـی کَفَانِـی فَقْدَ مَنْ لَیسَ جَازِیاً بِحُسْنَـى ولا فی قُرْبِـهِ مُتَعَلَّـلُ ثَـلاَثَـةُ أصْحَـابٍ: فُـؤَادٌ مُشَیـعٌ وأبْیضُ إصْلِیتٌ وَصَفْـرَاءُ عَیطَـلُ «فی هذا المقطع الشعری یفتخر الشاعر بشجاعته وسیفه القاطع وقوسه المنحنیة وهی الأشیاء الثلاثة التی یستغنی بها عن قبیلته التی شرّدته، وخذلته، وتخلت عن حمایته. یُرینا المقطع السابق، النفسیة الصعلوکیة التی یمتلکها الشاعر ویفتح أمامنا نافذة علی حیاة الصعالیک التی تشکّل الشجاعة وآلات الحرب البدائیة کالسیف والقوس إحدی أهمّ رکائزها ومقوّماتها.» (رضایی، 1390ش: 177) هَتُـوفٌ مِنَ المُلْـسَ المُتُـونِ تَزِینُـها رَصَائِعُ قد نِیطَـتْ إلیها وَمِحْمَـلُ إذا زَلَّ عنها السَّهْـمُ حَنَّـتْ کأنَّـها مُـرَزَّأةٌ عَجْلَـى تُـرنُّ وَتُعْـوِلُ «لمّا کانت الشجاعة والفروسیة فی الحیاة الجاهلیة مدعاة للفخر والاعتزاز تغنّی الشاعر بحذقه ومهارته فی الرمایة واستخدام القوس کالسلاح الفتاک الذی یتطلب من الرامی القوة والبراعة، ولذلک قالت العرب قدیماً: أعطِ القوسَ باریها. اعتبر بعض العلماء اللغة الشعریة لغة رمزیة یوظّفها الشاعر للتعبیر عن أسراره التی لایدلّ علیها الشعر بظواهره بل لایمکن استیعاب معانیه والتغلغل فی بواطنه إلّا بعد فکّ الطلاسم عن الرموز والعلائم المتشابکة التی تختفی وراءها أفکار الشاعر ورؤاه.» (پاینده، 1388ش: 167) بناءً علی ذلک نقول إنّه لیس من الصدفة أن شبّه الشنفری الصوت الذی یحدثه وتر القوس عند انطلاق السهم عنه بالعویل الذی تُطلقه إمرأة ثکلی تبکی علی فقد فلذة کبدها. فإنّه یرید أن یوحی بأنّ أبناء القبیلة یجدر بهم البکاء والعویل بعد رحیل الشاعر عنهم شأن تلک المرأة الثکلی لأنّهم فقدوا وخسروا إنساناً کریماً وشجاعاً لیس کذاک الراعی الذی یخرج بالقطیع الی المرعی لیلاً خوفاً من الظمأ وحرّ الشمس ولیس کالذی تکون فصائل نیاقه مهزولة ضعیفة، مع أنّ النیاق لا حاجز علی ضرعها، وذلک لأنّه یشرب اللبن کله بنفسه ویشفی به غلیله. أو لیس شاعرنا الضعیف الرأی الخفیف العقل، بحیث یجالس زوجته یستشیرها دائما فیما یفعل ولیس جباناً کتلک النعامة التی یخفق قلبه جُبناً بحیث کأنّ فی قلبها طائراً یرفرف بجناحیه ولیس کالرجل العدیم الهمة والمسلوب الإرادة الذی لا یغادر بیته کسلاً ولایستطیع فعل شیءِ سوى مغازلة النساء والادّهان والاکتحال: وَلَسْـتُ بِمِهْیـافٍ یعَشِّـی سَوَامَـه مُجَدَّعَـةً سُقْبَانُهـا وَهْی بُهَّـلُ ولا جُبَّـأٍ أکْهَـى مُـرِبٍّ بعِرْسِـهِ یطَالِعُهـا فی شَأْنِـهِ کَیفَ یفْعَـلُ وَلاَ خَـرِقٍ هَیـقٍ کَـأَنَّ فــؤادَهُ یظَـلُّ به المُکَّـاءُ یعْلُـو وَیسْفُـلُ ولا خَالِــفٍ دارِیــةٍ مُتَغَــزِّلٍ یـرُوحُ وَیغْـدُو داهنـاً یتَکَحَّـلُ وممّا یسترعی الانتباه فی المقطع السابق أنّ الشنفری عندما یتحدّث عن حیاة القبیلة ومساراتها الخاطئة یستخدم أسلوب النفی لکنّه حینما یتطرق الی الحیاة الصعلوکیة ویتغنّی بالقیم والمثل التی یؤمن بها الصعالیک یستخدم أسلوب الإیجاب کما نلاحظه فی المقطع الآتی والسؤال الذی یطرح نفسه هو: لماذا یختلف أسلوب الشاعر فی الموضعین؟ کیف یمکن تفسیر الموضوع من منظور الدراسات اللغویة المتعلّقة بالسیمائیة. والسرّ فی ذلک ربّما یکمن فی أنّ استخدام الشنفرى لأسلوب النفی فیما یتعلق بالحیاة القبلیة یکون ناجماً عن الأحقاد والأضغان التی یکنّها الشاعر حیال القبیلة، کأنّه بهذا الأسلوب ینتقم من القبیلة ویصبّ علیها کؤوس المرارة والشقاء. إذ أنّها لم تدّخر جهداً فی تهجیر الشاعر والتشهیر به لا لذنب سوى أنّه لم ینسجم مع المعاییر القبلیة. فإنّه تجاوز واخترق الخطوط الحمراء التی تحترمها القبیلة. فلنلاحظ کیف استخدم الشاعر أسلوب الإیجاب فی المشهد التالی من القصیدة: أُدیـمُ مِطَـالَ الجُـوعِ حتّـى أُمِیتَـهُ وأضْرِبُ عَنْهُ الذِّکْرَ صَفْحاً فأُذْهَـلُ وَأَسْتَـفُّ تُرْبَ الأرْضِ کَی لا یرَى لَـهُ عَلَـی مِنَ الطَّـوْلِ امْـرُؤٌ مُتَطَـوِّلُ وَأَطْوِی على الخَمْصِ الحَوَایا کَما انْطَوَتْ خُیوطَـةُ مـارِی تُغَـارُ وتُفْتَـلُ فإنّی لَمَولَى الصَّبْـرِ أجتـابُ بَـزَّهُ على مِثْلِ قَلْبِ السِّمْعِ والحَزْمَ أنْعَلُ الشاعر یتناول حشائش الصحراء وأعشابها ویتحمّل مرارة الجوع، ومشقّة السفر، والتّرحال کل ذلک یمارسه الشاعر لکی یحصل على ما یسدّ به جوعه ویقوّم به أوده فلا یضطرّ إلى من یتصدق علیه بالمنّ والأذى. تکون لامیة العرب فی الحقیقة تجسیداً واضحاً وترجماناً لحیاة الصعالیک وآراءهم وصف فیها الشاعر الصحراء الجدباء التی لا نبتة فیها ولاماء. فإنّها تشبه المسرح الذی تجری فیه حیاة الصعالیک القاسیة ولا تلعب علیه سوى الرملة، والعاصفة، والإبل، وسائر الحیوانات التی تقاوم حرارة الشمس المرهقة والظمأ القاتل، والصعلوک هو الکائن الآخر الذی یجرأ على التنقل والتّرحال فی الصحاری المترامیة الأطراف تحت شروق الشمس الحارقة باحثاً عن الماء والطعام شأن الإبل، والذئب، والضبع، وسائر الحیوانات المفترسة التی تکون أبطال مسرح الصحراء. الشنفرى أشجع هؤلاء الأبطال وأسرعهم بحیث إنّ القطا وهو أسرع طیور الصحراء یشرب دائماً من الماء الذی ورده قبله الشنفری وشرب منه صافیاً. وَتَشْرَبُ أسْآرى القَطَا الکُـدْرُ بَعْدَما سَرَتْ قَرَبَـاً أحْنَاؤهـا تَتَصَلْصَـلُ الحیاة فی الصحراء متقلبة بصورة لا تطیقها إلّا الوحوش والصعالیک الذین جعلتهم الحیاة فی الصحراء کالأفاعی المتململة فی رمضائها أیام اشتداد الحرّ التی یجرى حرّها کاللّعاب. وَیومٍ مِنَ الشِّعْـرَى یـذُوبُ لُعَابُـهُ أفاعِیـهِ فـی رَمْضائِـهِ تَتَمَلْمَـلُ قد یشتدّ البرد فی الصحراء اشتداداً یدفع بالإنسان إلى أن یضرم النار فی قوسه وسهامه یستدفئ بدفئها فی لیلة باردة تدبّ البرودة فی العظام دبیب السوس: ولَیلَةِ نَحْـسٍ یصْطَلی القَوْسَ رَبُّـها وَأقْطُعَـهُ اللَّاتـی بِـهَا یتَنَبَّـلُ لیس وصف الصحراء الهدف الذی یرمیه الشاعر بل یرید الشنفرى من وراء هذا الوصف التباهی بقدراته ومواهبه التی یستأهل بها العیش فی الصحراء الرهیبة التی تحیط بها الأخطار والمشاق حسبما وصفها الشاعر. فالشنفرى یتباهى بأنّه یکون شجاعاً إلى حدّ یستطیع قطع الصحاری والجبال الوعرة التی تشبه ظهر الترس فی جفافها ووعورتها. وَخَرْقٍ کظَهْرِ التُّـرْسِ قَفْـرٍ قَطَعْتُـهُ بِعَامِلَتَیـنِ، ظَهْـرُهُ لَیسَ یعْمَـلُ بینما یصف الشاعر صعوبات الصحراء وتحدیاتها یثیر فی أذهان القارئین سؤالاً هو: لماذا یکلف الشاعر نفسه الحیاة فی الصحراء التی تفتقد أبسط وسائل العیش مع أنّه کان بإمکانه البقاء فی القبیلة والاستمرار فی الحیاة مع أبناءها؟ والجواب أنّ الشنفرى یأنف العیش فی البیئة التی یعامَل فیها بالازدراء والتهمیش، فإنّه فی ظلّ هذه الظروف السیئة فقدَ آماله بالحیاة الکریمة مع أبناء بیئته. «فبلغ التطلع إلى الحیاة الکریمة فی نفس الشاعر مبلغاً هوّن له الصعوبة والمرارة التی یتحملها عبر حیاة التنقل والتّرحال ففضّل خشونة الحیاة وشظف العیش على البقاء فی القبیلة التی لا یشعر فیها بالکرامة والاحترام. والحلم بالمستقبل المشرق ظلّ یراود الشاعر أثناء حیاة التشرد ویؤید ذلک ما قاله کارل یونج وإریکسون حول تأثیر العوامل السیاسیة والاقتصادیة على شخصیة الأفراد وقراراتهم.» (شولتز، 1385: 135) «أو حسبما یقوله آلفرى آدلر العوامل الجسمیة والاجتماعیة قد تقوّی وتغذی الاحساس بالحقارة والمهانة لدى الأشخاص.» (شاملو، 1382: 93) ربّما یمکن تفسیر ما یفتخر به الشاعر من قتله لأبناء القبیلة ووصفه لغاراته على القبیلة ونهبه لأموالها وممتلکاتها على ضوء ما نقلناه من کارل یونغ وإیکسون، فها هو الشنفرى یتشدّق فخراً بأنّه یقتل الرجال فی الحروب ویجعل النساء مرملات والأولاد یتامى فیرجع سالما غانماً قبل أن ینقضی اللیل: فأیمْـتُ نِسْوَانَـاً وأیتَمْـتُ ولْـدَةً وَعُـدْتُ کما أبْدَأْتُ واللَّیلُ ألْیـلُ موجة الضغائن والأحقاد التی غمرت الشاعر بادیةٌ فی کلماته جلیاً. الأمر الذی حثّه على مؤانسة الوحوش بدل القبیلة فها هو الذی خالط الأماعز الجبلیة حتّى أنّها تظنّه واحداً منها وتلتفّ حوله، ذلک لأنّ مظهر الشاعر بملابسه الرّثة وشعره المکثّف الأشعث، یضاهی منظر الوعول بأقرانها الطویلة: تَرُودُ الأرَاوِی الصُّحْـمُ حَوْلی کأنّـها عَـذَارَى عَلَیهِـنَّ المُلاَءُ المُذَیـلُ ویرْکُـدْنَ بالآصَـالِ حَوْلِی کأنّنـی مِنَ العُصْمِ أدْفى ینْتَحی الکِیحَ أعْقَلُ فالشنفرى أرادَ بهذین البیتین ما هو أبعد من ظاهرهما، فإنّه أولاً یقول بأنّه اختار لنفسه بیئة جدیدة تقطنها الوحوش التی لا تخون صاحبها ولا تعامله باحتقار وانتقاص للون بشرته أو انحطاط عنصره، ثمّ یفتخر بشجاعته ومغامرته حیث إنّه لا یهاب قبیلته التی ترید قتله وإنّه یخالط الوحوش المفترسة دون أن یتهیب الأخطار المحدقة به. لیس الشنفرى الشاعر الوحید الذی تحدّث عن الوحوش المفترسة، لقد أشار الکثیر من الشعراء الجاهلیین إلى الوحوش فی أشعارهم. لکنّ ثمّةَ فارقا کبیرا بین الشنفرى وغیره. کما یقول مناعی: «الفارق یتمثل فی أنّ الشعراء عندما یتحدثون عن الوحوش فإنّهم یریدون بذلک إبراز شجاعتهم وبراعتهم فی ملاحقة الوحوش واصطیادها. أمّا الشنفرى حینما یذکر الوحوش فی قصیدته فإنّه یفضّل مجالستها ومصادقتها کخیر بدیل عن القبیلة التی توغّلت فی إیذاءه وإذلاله.» (مناعی، 2005م: 133) فالرسالة التی أراد الشاعر إیصالها هی أنّ الحیوان المفترس هو أسمى شأناً من الإنسان الذی یدوس على القیم الإنسانیة ویسعى فی المساس بأبناء جنسه والإضرار بهم، ذلک لأنّ الحیوان مهما کان وحشیاً ومفترساً فإنّه لن یفکّر فی إلحاق الأذى ببنی نوعه. والملفت للنظر فی قصیدة الشنفرى أنّه أکثرَ من ذکر الذئب ووصفه مقارنة بالوحوش الأخرى. التأمل فی أبیات القصیدة ربّما یعطی الباحث القناعة، بأنّ الذئب بخفّته، وسرعة جریه، وشراسته یرمز إلى شخصیة الشاعر نفسه. فالذئب هو الذی یحمل خصائص الشاعر ومواصفاته کأنّ روحه حلّت به. کثیراً ما شبه الشنفرى نفسه بالذئب فی غاراته اللیلیة. فها هو عبّر عن نفسه فی البیت التالی بالذئب الذی هاجم القبیلة فأخافها حتّى بدأت الکلاب تعوی خوفاً. فَقَالُـوا: لَقَدْ هَـرَّتْ بِلَیـلٍ کِلَابُنَـا فَقُلْنَـا: أذِئْبٌ عَسَّ أمْ عَسَّ فُرْعُـلُ أو کما یقول فی البیت التالی إنّه یقضی یومه بأقلّ مقدار من القوت والمعاش ثمّ وصف نفسه بالذئب النحیف والمهزول الذی یقطع الفلوات ویجتاز الصحاری: وأَغْدُو على القُوتِ الزَهِیـدِ کما غَـدَا أَزَلُّ تَهَـادَاهُ التنَائِـفَ أطْحَـلُ کلمة الذئب مشتقة من "ذأب" وهو یعنی عدم القرار والاستقرار، «تذاءبت الریح أی اضطرب هبوبها، ومنه سمّی الذئب ذئباً لاضطراب مشیته.» (ابنمنظور، 1998م: 1051) فالذئب یسمّى ذئباً لأنّه لا یستریح عن الحرکة ولا یقرّ له قرارٌ مادام حیاً. یمکن القول بانّ بین حیاة الذئب وحیاة الشنفری وکثیر من الصعالیک مماثلة واضحة، فکلاهما یعیش فی حرکة ودأب دائمین. فلاغرو إذاً أنْ أصبح الشنفرى معجباً بالذئب لأنّه رأى طریقة حیاته أشبه ما یکون بالطریقة التی یعیشها هو والصعالیک. ومن الرسم التالی یتبین ذلک بصورة واضحة:
الرسم الثالث: وجوه التشابه بین الشنفرى والذئب
یمکن القولُ إنّ الذئب فی قصیدة الشنفرى لم یعد على صورته الحیوانیة بل بات یمثّل شخصیة الشاعر الصعلوکیة وأبرزُ دلیل على ذلک، تلک الصفاتُ المشترکةُ التی جمعت بین الشاعر والذئب من جهة واشتهار الصعالیک بذؤبان العرب من جهة أخرى. النتیجة تناول هذا البحثُ قصیدةَ لامیة العرب الشهیرة للشنفرى بنظرة سیمیائیة. استخدم الشاعرُ قصیدتَهُ کبوقٍ نفخ فیه أحقاده وأضغانه ضدّ القبیلة. فتکاد کلُّ کلمة من القصیدة تکون ضربةً قاضیة تنهال على جسد القبیلة. فیمکن اعتبارُ القصیدة ترجمةً حرفیةً للقلق النفسی والتألّم الروحی الذی عاشه الشاعرُ کما یتّضح ذلک خلال دراستنا للقصیدة فی ضوء السیمیائیة. ومن أهمّ الإیحاءات السیمیائیة فی القصیدة: أهمّ الکلمات التی أضفت على القصیدة إیحاءات السیمیائیة هی: القبیلةوهی رمز للبیئة التی لا تنسجم معها شخصیة الشاعر وخصائصه ولذلک أعطى الشاعر لها صورة سیئة مظلمة من خلال ألفاظ قصیدته الموحیة. وکلمة التّرحالوهی ترمز إلى وسیلة یستخدمها الشنفرى للابتعاد والاستخلاص من الظروف المهینة له. وکلمة بیئة الوحوش فهی تعبّر عن مدینة أحلام الشاعر حیث لا یشعر فیها بالأذى، والحقارة، والتخاذل. وکلمة النفس الأبیة وهی رمز للشخصیة الکریمة الأبیة التی حاول الشاعر أن یرسمها لنفسه فی ضوء إعطاءه لها أروع الصفات کالقناعة، والعفة، والشجاعة، والکرم، وسرعة الجری، وتحمل الصعاب والمشاق، ومجالسة الوحوش الضاریة رغم رجال القبیلة الذین یجالسون النساء ویستشیرونهنّ فی أمورهم. کما تکون القصیدة بمثابة المرآة الصافیة التی تعکس حیاة الشاعر الصعلوکیة على قدم وساق. فکل کلمة أو وصف أو تشبیه وظّفه الشنفرى فی قصیدته یکون ذا علاقة وطیدة مع نفسیة الشاعر بحیث تجسّد لنا بیئة الشاعر وحیاته الصعلوکیة من خلال منظومته الفسیفسائیة الملیئة بالإیحاءات السیمیائیة. | ||
مراجع | ||
ابنمنظور، ابوالفضل جمالالدین محمد بن مکرم. (1998م). لسان العرب. بیروت: دار الجیل. أبوزید، نصر حامد. (1389ش). معنای متن. ترجمه مرتضى کریمی نیا. لامک: طرح نو. احمدی، بابک. (1380ش). ساختار و تاویل متن. تهران: نشر مرکز. ــــــ. (1374ش). حقیقت و زیبایی. تهران: مرکز نشر. إیکو، أمبرتو. (2000م). التأویل بین السیمیائیة والتفکیکیة. ترجمه سعید بنکراد. بیروت: المرکز الثقافی العربی. البستانی، أفرام فؤاد. (1998م). المجانی الحدیثة. قم: ذوى القربى. البغدادی، عبدالقادر بن عمر. (1418هـ). خزانة الأدب ولب لباب لسان العرب. تحقیق وشرح: عبد السلام محمد هارون. القاهرة: مکتبة الخانجی. بلقاسم، دفة. (2000م). علم السیمیاء والعنوان فی النصّ الأدبی. الجزائر: جامعة محمد خضیر بسکرة. پاینده، حسین. (1388ش). «نقد نشانه شناختی شعر زمستان». نشریه فرهنگ و هنر گوهران. شماره 21-22. صص54-69. جاب الله، احمد. (2000م). السیمیاط مفاهیم وأبعاد. الجزائر: جامعة محمد خضیر بسکرة. جوهری، اسماعیل بن حماد. (1410ش). محقق: احمد عبد الغفور عطار. بیروت: دار الملایین. چندلر دانیل. (1387ش). مبانی نشانه شناسی. ترجمه: مهدی پارسا. لامک: پژوهشگاه فرهنگ و هنر اسلامی. حفنی، عبدالحلیم. (لاتا). شرح ودراسة لامیة العرب. القاهرة: مکتبة الآداب. حقشناس، محمد علی، لطیف عطاری. (1386ش). «نشانهشناسی شعر». مجله دانشکده ادبیات و علوم انسانی دانشگاه تهران. صص46-62. حمداوی، جمیل. (1997م). السیمیوطیقا والعنونة. مجلة عالم الفکر. العدد3. صص45-67. خشروم، عبدالرزاق. (1982م). الغربة فی الشّعر الجاهلی. دمشق: منشورات اتحاد الکتاب العرب. خلیف، یوسف. (1978م). الشعراء الصعالیک فی العصر الجاهلی. القاهرة: دار المعارف. دزفولی، محمد، سید احمد امام زاده. (1388ش). ترجمه وشرح لامیة العرب. تهران: کلک سیمین. ربابعة، موسى. (2011م). آلیات التأویل السیمیائی. الکویت: مکتبة آفاق. سجودی، فرزان. (1390ش). نشانهشناسی کاربردی. تهران: نشر علم. شاملو، سعید. (1382ش). مکتبها و نظریهها در روانشناسی شخصیت. تهران: انتشارات رشد. الشنفرى، الأوس بن الحجر. (1991م). الدیوان، جمع وتحقیق وشرح: إمیل بدیع یعقوب. بیروت: دار الکتب. شولتز والآخرون. (1385ش). نظریههای شخصیت. ترجمه: یحیى سید محمدی. تهران: نشر ویرایش. ضمیران، محمد. (1383ش). درآمدی بر نشانه شناسی هنر. تهران: نشر قصه. فراهیدی، خلیل بن احمد. (1410ق). العین. قم: نشرت هجرت. قائمینیا، علیرضا. (1389ش). بیولوژی نص. تهران: سازمان انتشارات پژوهشگاه فرهنگ و اندیشهی اسلامی. مکاریک، ایرنا ریما. (1390ش). دانشنامهی نظریههای ادبی. ترجمه: مهران مهاجر ومحمد نبوی. تهران: آگاه. مناعی، البشیر. (2005م). اللغة الشعریة عند الشنفرى. الجزائر: جامعة الجزائر. میلانی، عباس. (1387ش). تجدد و تجدد ستیزی در ایران. تهران: نشر اختران. هاشملو، محمدرضا. (1383ش). بررسی و نقد اشعار صعالیک. گیلان: دانشگاه گیلان. یعقوب، امیل بدیع. (1996م). دیوان الشنفرى. بیروت: دار الکتاب العربی. | ||
آمار تعداد مشاهده مقاله: 2,815 تعداد دریافت فایل اصل مقاله: 4,677 |