تعداد نشریات | 418 |
تعداد شمارهها | 10,005 |
تعداد مقالات | 83,623 |
تعداد مشاهده مقاله | 78,416,274 |
تعداد دریافت فایل اصل مقاله | 55,444,817 |
تحلیل مواقف أبی حیان التّوحیدی فی کتاب "الإمتاع والمؤانسة" (ومقارنته بغیره من المصادر القدیمة والجدیدة) | ||
إضاءات نقدیة فی الأدبین العربی و الفارسی | ||
مقاله 7، دوره 2، شماره 7، اسفند 1433، صفحه 153-129 اصل مقاله (245.19 K) | ||
نوع مقاله: علمی پژوهشی | ||
نویسنده | ||
مهدی عابدی جزینی | ||
أستاذ مساعد فی جامعة إصفهان، إیران. | ||
چکیده | ||
إنّ کتاب "الإمتاع والمؤانسة" ممتع مؤنس کاسمه، یلقی أضواء ساطعة علی العراق فی النصف الثانی من القرن الرابع- أعنی فی العصر البویهی- وهو عصر موصوفٌ بالظّلام، فإنه یعرض لکثیر من الشؤون الاجتماعیة فی ثنایا حدیثه، فیصف الأمراء والوزراء ومجالسهم ومحاسنهم ومساویهم، ویصف العلماء ویحلّل شخصیاتهم وما کان یدور فی مجالسهم من حدیث وجدال. دأبُ أبی حیّان فی هذا الکتاب هو أنّ ابن سعدان کان یسأله وأبوحیّان یُجیبه، وأحیاناً یطرح علیه السؤال ویمهله إلى الغد لیجیب، أو یمهله إلى أجل غیر معلوم، حتى یقرأ ویسأل ویباحث غیره، ثمّ یُجیب شفهیا أو کتابیة.ولم یکن ابن سعدان یکتفی بالسّماع، بل کان أحیانا یشارک فی البحث برأیه ویناقش ویفنّد. إنّ کتاب الإمتاع والمؤانسة یصوّر حیاة الأرستقراطیین، کیف یبحثون، وفیمَ یفکّرون، ویصوّر هذه الحیاة فی شکل قصصیّ مقسّم إلى لیالٍ، ولکن حظّ الخیال فی الإمتاع والمؤانسة أقلّ منه فی کتاب "ألف لیلة ولیلة". فیتفق الکتاب مع بقیة المراجع بصورة عامّة فی إبراز الخصائص العامّة فی ذلک العصر. أمّا الاختلافات الموجودة بین الإمتاع والمؤانسة وبین غیره من الکتب، فإنّما هی اختلافات جزئیة تخصّ دقّة بعض المعلومات أو وضوح بعض الصّور، ولذا فإنّنا نقرّ بوجود قیمة وثائقیة عامّة للکتاب رغم النقص الذی نری فیه. | ||
کلیدواژهها | ||
الإمتاع والمؤانسة؛ المجتمع العباسی؛ أبوحیان التوحیدی | ||
اصل مقاله | ||
الهدف من هذا المقال هو أن نبحث فی مدی قیمة وثائقیة الصّورة التی قدّمها لنا التّوحیدی من خلال کتاب الإمتاع والمؤانسة عن مختلف مظاهر الحیاة فی عصره، وأن نحاول معرفة الدّوافع المختلفة التی أثّرت فی آرائه وأفکاره. وقداضطرّنا البحث إلى أن نعود إلى مصادر ومراجع مختلفة من الکتب القدیمة والحدیثة التی عنیت بالحدیث عن القرن الرّابع للهجرة عامّة، أو عن أبیحیّان التوحیدی خاصّة. ورکّزنا العمل أساسا علی مصدرین حدیثین عُدنا إلیهما تقریبا فی أغلب الأحیان؛ لأنّ تأخّرهما فی الکتابة والنّشر مکّن صاحبیهما من الرّجوع إلى أمّهات الکتب التی وجدا فیها حدیثا عن ذلک العصر والکتابان هما: 1. الحضارة الإسلامیة فی القرن الرابع الهجری أو عصر النهضة فی الإسلام من تألیف الأستاذ المستشرق آدم متز(1917المیلادی)، وقد ألّفه باللّغة الألمانیة، ومات قبل أن یتمکّن من نشره، وتولّی ترجمته ونقله إلى العربیّة "محمد عبد الهادی أبو ریدة" الأستاذ بکلیة الآداب بجامعة القاهرة، ونشرته دار الکاتب العربی ببیروت. والمهمّ فی الکتاب أنّ الأستاذ آدم متز قدعاد عند تألیفه إلى أمّهات الکتب العربیة، وإلى مخطوطاتٍ لم تنشر بعد، وجدها فی مکتبات أوربیة، وعمد الأستاذ أبو ریدة عند الترجمة إلى العودة إلى النّصوص الأصلیة للأمّهات وحتّی المخطوطات، وقد مکّنته معرفته باللغة الألمانیة من تصحیح بعض الأخطاء التی وقع فیها المؤلّف عند ترجمته للشّواهد من العربیة إلى الألمانیة. وامتاز الکتاب بدقّة المنهجیة فی البحث، وهو أمر أعوز المؤلّفات القدیمة. 2. أمّا الکتاب الثّانی فهو ظهر الإسلام (الجزء الأوّل والثانی) للأستاذ أحمد أمین؛ یبحث الجزء الأوّل فی الحالة الاجتماعیة ومراکز الحیاة العقلیة من عهد المتوکّل إلى آخر القرن الرّابع للهجرة، ویبحث الجزء الثانی فی تاریخ العلوم والآداب والفنون فی القرن الرابع للهجرة. وأهمّیة الکتاب تکمن فی وضوح أقسامه وعناصره، وفی الجهد الکبیر فی استیعاب مادة التّاریخ المتعلّقة بالقرن الرّابع الهجری وتحلیلها. وقد قارنّا بین الکتابین، فوجدنا المعلومات متشابهة والاستشهادات متماثلة أو تکاد، فدعم ذلک ثقتنا فیهما ورغّبنا أکثر فی الاعتماد علیهما بالدّرجة الأولى، ولکنّنا نؤکّد أنّنا لم نهمل إهمالاً تامّاً المراجع القدیمة. فقد عُدنا إلیها، وأفدنا منها فی ما لم یذکره أحمد أمین أو آدم متز.کما عُدنا عند تحلیل مواقف التّوحیدی وأسبابها إلى بعض مؤلّفاته الأخری غیر الإمتاع والمؤانسة، وإلى مؤلّفات أخری مخصّصة للحدیث عن أبی حیّان وعن أدبه. قد أشرنا إلى مواقع الإفادة من تلک المراجع فی هامش التّحلیل، وأثبتنا لها قائمة فی آخر البحث، وانطلاقاً من وعینا بأنّ تقییم الأثر لیس تحدیداً لمحاسنه ومساوئه فقط، وإنّما هو إثراء للأثر مورد البحث بمعلوماتٍ قد لاتوجد فیه، فإنّنا تحدّثنا عن بعض مظاهر الحیاة التی لم یتحدّث عنها الإمتاع والمؤانسة کالحیاة الاقتصادیة أو بعض صور من الحیاة الاجتماعیة والسّیاسیة دون إطالة أو إملال. القیمة الوثائقیة للإمتاع والمؤانسة ونبدأ أولاً بالحدیث عن القیمة الوثائقیة للإمتاع والمؤانسة، فنرى أنّه توجد عوامل کثیرة تجعلنا لانقتنع بوجود قیمة وثائقیّة تامّة للصّورة التی قدّمها لنا الکتاب عن المجتمع فی القرن الرابع الهجری من ذلک علی سبیل المثال: - إنّ التوحیدی لم یتحدّث عن الرّبع الأخیر من القرن الرابع الهجری، فهو قد أنشأ الکتاب وأرسله إلى صدیقه أبی الوفاء المهندس حوالی سنة 375ق. ثمّ إنّه لم یتحدّث إلا عن شؤون البلاد الخاضعة للنّفوذ البویهی أی العراق والریّ مع إشارات بسیطة إلى ما وقع بخراسان سنة370ق داخل الدّولة السامانیة من ثورة الجیش علی الجور. (التوحیدی، 1956م: 3/81) بینما البلاد الإسلامیة أوسع من ذلک بکثیرٍ، وکانت عدّة أجزاء منها خاضعة لغیر البوبهیّین، فقد حکم الأمویّون بالأندلس والفاطمیّون بمصر والعبیدیّون بإفریقیة والحمدانیّون بحلب، إلخ. ورغم أنّ الدّولة البویهیّة تعتبر من أهمّ الدّول آنذاک فإنّ المجتمع الإسلامی أوسع من ذلک بکثیر، هذا إضافةً إلى أنّ القضایا المطروحة فی الکتاب کانت فی إطار دولة شیعیّة المذهب، وذلک یجعلنا أن لانتناول نوع الحیاة وطبیعتها داخل الدّولة الأمویة بالأندلس. ولم یتحدّث أبو حیان التوحیدی عن الحیاة الاقتصادیة بالبلاد، بینما کانت تلک الحیاة داخل الخلافة تبدو نشیطةً علی المستوی المالی والمستوی الصّناعی والمستوی التّجاری. فقد تمیّز النظام المالی بکثره الضّرائب المفروضة علی النّاس، وقد تضرّر من ذلک صغار الفلاحین الذین لجأوا إلى الکبراء والأقویاء للاحتماء بهم من الضّرائب، وقد عرف ذلک العمل بنظام الإلجاء، وقد کثرت فی ذلک العصر المصادرات عند احتیاج السلطة إلى الأموال، «ولذلک شاعت عادةُ خزن الأموال وإخفائها فی غیر مضانّها، کالدّفن فی الأرض ونحو ذلک.» (أمین، 2006م: 1/7-8) ولم تقتصر مصادرة الأموال علی الأحیاء، بل شملت الموتى أیضاً، فکانت أموالهم لاترجع إلى ورثتهم، بل تعود إلى ودائع السّلطان، وقدنشطت التّجارة نشاطاً کبیراً، فکانت بغداد تتحکّم فی الأسواق والأسعار؛ لأنّها المرکز التّجاری الأهمّ فی بلاد الإسلام کلّها. وکانت الصّناعة ذات نشاط حثیث، وقد تفنّن الصّنّاع فی إنتاج الملابس الفاخرة والسّتائر الجمیلة لتزیین البیوت والدّور، وتطوّرت صناعة الحریر کذلک وکان أشهر مراکز إنتاجه إقلیم خوزستان، ولم یکن التفنّن فی هذه الصّناعات إلا تلبیة للتّرف الشّدید الذی کانت تعیشه الخاصّة. ومن العوامل الأخری التّی تجعلنا لانرتاح ارتیاحاً کاملاً للقیمة الوثائقیة للکتاب أنّه لم یتحدّث عن الدّور الذی کان یضطلع به الخلفاء فی السّیاسة. فهو لم یذکر من الخلفاء إلا المطیع لله، وذلک عند حدیثه عن ثورة الرّوم سنة 362ق، وقد أشار إلیه إشارةً عابرةً فی قوله، وهو ینقل حدیث العامّة: «وإنّهم یقولون: لوکان لنا خلیفةٌ أو أمیرٌ أو ناظرٌ سائسٌ لم یُفْضِ الأمرُ إلى هذه الشِّناعة، وأنّ أمیرَالمؤمنین المطیعَ لله إنّما ولّاه من وراءِ بابِهِ لیتَیَقّظَ من لیله متفَکِّراً فی مصالح الرَّعَایا...» (التوحیدی، 1956م: 3/153) فهل کان الخلفاء غائبین عن السّاحة السیاسیة والاجتماعیة کلّ هذا الغیاب؟ تؤکّد کتب التّاریخ أنّ الدّور الأکبر فی تعیین الخلفاء وعزلهم، کان للوزراء البویهیّین، ولکن الخلفاء أثّروا تأثیراً واضحاً فی الحیاة العامّة بالبلاد من ذلک أنّ الخلیفة القاهر: «کان شدیدَ الإقدام علی سَفْک الدّماء، محبّاً للمال، قبیحَ السِّیاسة، قلیلَ الرّغبة فی اصطناع الرّجال، غیرَ مفکّر فی عواقبِ الأمور، وکان مُولعاً بالشّراب لا یکاد یَصحُو من السُّکْر، وکان یَسمع الغِناء ومَعَ ذلک حَرّم على الناس الخمرَ و القیانَ.» (متز، لاتا: 1/36) وسوف نحاول إبراز الأسباب التی جعلت أبا حیّان لایتعرّض بالذّکر إلى الخلفاء بینما تحدّث طویلاً عن الأمراء والوزراء. أمّا العامل الأخیر الذی یقلّل من القیمة الوثائقیة للکتاب فهو التّباین الکبیر بین ما قدّمه لنا أبو حیّان من صور عن بعض الوزراء، وبین ما وجدناه فی الکتب القدیمة والحدیثة عنهم. فالصّاحب ابن عبّاد (المتوفّی عام 385ﻫ.) أشادت المراجع بخصاله ونبله، فقد قال فیه ابن خلّکان فی کتابه وفیات الأعیان: «کان نادرةَ الدّهر وأعجوبةَ العصر فی فضائله ومکارمه وکرمه.» (ابن خلّکان، لاتا: 1/228) وقال فیه الثّعالبی فی یتیمة الدّهر: «لیست تحضُرُنی عبارةٌ أرضاها للإفْصاحِ عن عُلوّ محلّه فی العلم والأدب وجَلال شأنه فی الجود والکرم وتفرُّدِهِ بالغایات فی المحاسن وجمعه أشتاتِ المفاخر، لأنّ همّةَ قولی تَنخفضُ عن بلوغ أدْنَى فَضائله و معالیه.» (الثعالبی، 1375ق: 1/230) ونقل آدم متز صورة عن خبر موته فقال: «ولمّا مات الصّاحبُ عمل له ما یعمل للملوک، فحضر جنازتَهُ مخدومُهُ فخرُ الدّولة وجمیعُ أعیان المملکة، وقد غیّروا لباسَهم، فلمّا خرج نعشُهُ صاح الناسُ صیحةً واحدةً، وقبّلوا الأرضَ لنعشه، ومَشى فخرُالدولة أمامَه، وقَعدَ للعزاء أیّاماً.» (متز، لاتا: 1/197) فأین هذه الصورة المادحة لخصال الصّاحب ابن عبّاد من قول أبی حیّان فیه: «والنّاسُ کلُّهُم محجُومونَ عنه، لجرأته وسَلاطَتِهِ واقتداره وبَسطَته، شدیدُ العقاب، طَفیفُ الثواب، طویلُ العتاب، بَذئ اللّسان،یُعطی کثیراً قلیلاً (أعنی یعطی الکثیرَ القلیل)، مغلوبٌ بَحرارة الرأس، سریعُ الغضب، حَسودٌ حَقودٌ وحسدُه وقفٌ على أهلِ الفضل وحِقدُه سارٍ إلى أهل الکفایة، أمّا الکُتّاب والمتصرّفون فیخافُونَ سَطْوتَهُ، وأمّا المنتجِعُون فیخافون جَفْوتَه...» (التوحیدی، 1956م: 1/55) فإنّنا نعتقد أنّ التوحیدی قد قسا علی الصّاحب ابن عبّاد، فقدّم لنا صورة غیر موافقة للحقیقة لعدّة أسباب سنتولّی تحلیلها عند عرض مواقف المؤلّف.وقد صوّر لنا التّوحیدی شخصیة أبی الفتح ابن العمید مخالفةً لما حدّثت به عنه کتب التّراجم والسیر. فقد قال الزّرکلی فی ترجمته لابن العمید: «أحبّتْهُ القُوّاد وعساکرُ الدّیلم لکرمه وطِیب أخلاقه.» (الزرکلی، 1992م: 5/143) ولقد «أجمع مؤرّخوه على أدبه وفضله وسماحة أخلاقه وکفایته فی إداره الدولة وإیثاره لذوی الفضل والأدب والعلم...» (محیی الدین، 1942م: 78) أمّا أبو حیّان التوحیدی فقد أبرز حسداً للصّاحب وقال: «لقَى النّاسُ منه الدّواهیَ لهذه الأخلاق الخبیثة...» (التوحیدی، 1956م: 1/67)،کما تحدّث عن لهوه وتفریطه فی مباشرة واجباته السیاسیّة وانشغاله باللّهو والشّراب. (المصدر نفسه: 216-217) لکنّنا نلاحظ أنّ حدیث التوحیدی عن ابن العمید کان أقلّ قسوةً من حدیثه عن الصّاحب، بل إنّ فی ما قدّمه لنا عنه شیئاً من الصّحة، فقد عرف عن أبی الفتح شیء من المجون ومیل إلى الصّید والظّهور بمظهر الزّینة والاحتشاد والإسراف فی الملذّات، وقد کان المأخذ الأساسی للتّوحیدی عن الرّجل حسدَه للأدباء والعلماء، وهو ما لایتوافق وما حدّثت به عنه کتب التّراجم والسّیر. هذه أبرز العوامل التی تجعلنا نشکّ فی القیمة الوثائقیة التّامّة للصّورة التی جاءت فی کتاب الإمتاع والمؤانسة عن القرن الرابع الهجری. لکنّنا نؤکّد أنّ هذا الموقف لیس تهجیناً للکتاب أو استنقاصاً لقیمته العلمیة، فهو کتاب أدب ولیس کتاب تاریخ، وقد کتبه أبو حیّان التوحیدی تحت عدد کبیر من الضّغوط المادیة والأدبیة. فأردنا بهذه المآخذ علی الکتاب تحدید المنزلة العلمیة للقیمة الوثائقیّة للأثر لا غیر. ونجد مقابل هذه المآخذ، عناصر أخرى تُغرینا بوجود وجه وثائقیّ للإمتاع و المؤانسة، من ذلک أنّ التّوحیدی قد عاش ببغداد، وألّف الکتاب بها، وبغداد کانت آنذاک: «هی العاصمة بمعنى الکلمة الحقیقی، وآیة ذلک أنّ جمیع الحرکات الرّوحیة فی مملکة الإسلام کانت تتلاطم أمواجُها فی بغداد، وکان بها جمیع المذاهب أنصاراً.» (متز: لاتا: 1/133) لهذا تکون الصّورة الموجودة فی الإمتاع والمؤانسة عن المجتمع معبّرة بصورة عامّة عن أحوال المعیشة فیها سیاسیاً واجتماعیاً وفکریاً، وهذا ما سنحلّله فی مایلی: تحلیل الأحوال السیاسیة فی الإمتاع والمؤانسة وفیما یتعلّق بالأحوال السّیاسیة رأینا التّوحیدی یطیل فی إبراز التوتّر السیاسی والفساد السیاسی اللّذین سادا المجتمع آنذاک، ومن مظاهر التوتّر السّیاسی انعدام الأمن الخارجی، وظهر ذلک فی حدیث التّوحیدی عن ثورة الرّوم وهجومهم على البلاد الإسلامیة فی سنة 362ق. وقد حاولنا أن نقارن بین ما أورده التّوحیدی وما وجدناه فی کتب التّاریخ بشأن هذه الثورة، فوقفنا على تماثل تامّ فی روایة الأحداث إلّا فی ما یتعلّق بموقف العامّة من الخلیفه المطیع لله. فبینما أشار أبو حیّان مجرّد إشارة إلى المطیع لله وکأنّه لیس مسؤولاً عمّا یقع فی البلاد. وحمّل الأمیر عزّالدولة، الأمرَ کلّه وبیّن أنّ ثورة العامّة کانت علیه، لا علی الخلیفه. (التوحیدی، 1956م: 3/153) ونجد فی کتب التّاریخ أنّ النّاس ثاروا علی الخلیفة لاعلی عزّالدولة. ففی کتاب "شذرات الذّهب فی أخبار من ذهب" لابن العماد الحنبلی نقرأ فی أخبار سنة 362ق: «وفیها أخذت الرّوم نَصیبین واستباحُوها، وتوصّل من نجا إلى بغداد، وقامَ معهم المطوّعَةُ، واستنفروا النّاسَ، ومنعُوا من الخطبة، وحاولوا الهجومَ علی المطیع لله، وصاحوا علیه بأنّه عاجزٌ، مضیِّعٌ لأمر الاسلام...» (ابن العماد، لاتا: 4/327؛ ابن خلدون، 1981م: 2/331) کما جاء فی تاریخ الطبری: «خرج الدّمستقُ فی جموعٍ کثیرةٍ إلى بلاد الإسلام، فَوطئَها، وأثّر الآثار القبیحةَ فیها... وأقام بها خمسةً وعشرین یوماً، وأنفذ إلیه أبو تغلب مالاً هادنَهُ بِهِ، وأتی المستغیبونَ من أهل تلک البلاد إلى بغداد، وضَجُّوا فی الجامع، وکسروا المنابرَ، ومنعوا من الخُطبة، وصاروا إلى دار المطیع لله، وقلعوا بعضَ شبابیکِها، وکان عزّالدولة بالکُوفة... ثمّ وصل الخبرُ بأنّ الدّمستق قصدَ آمدَ، فخرج إلیه وإلیها "هزارمرد"، مولى أبی الهیجاء بن حمدان، وانضمّ إلیه هبة الله بن ناصر الدولة، وساعدهم أهل الثّغور، فنصرهم الله، وکثُرَ القتلُ، والأسرُ لأصحاب الدّمستق، وأخذ مأسوراً، وذلک فی ثانی شوّال.» (الطبری، لاتا: 11/428) ونقرأ کذلک فی کتاب آدم متز نقلاً عن عدد من المصادر القدیمة حدیثاً فی نفس الموضوع یبرز فیه ثورة العامّة على الخلیفة یقول: «قصدوا دارَ الخلیفة فحاولوا الهجومَ علیه واقتعلوا بعضَ شبابیک دارالخلافة وخاطبوا الخلیفةَ بالتّعنیف، فرماهم الغلمانُ بالنِّشابِ من الرّواشن...» (متز، لاتا: 1/27) وفی ما عدا هذا الاختلاف نجد الرّوایة بین الإمتاع والمؤانسة وبقیة المراجع متوافقة، وذلک ما یجعلنا نقرّ بوجود قیمة وثائقیة- ولو أنها غیر کلّیة- فی الکتاب. وتحدّث التّوحیدی عن کلّ ما فعله العیّارون سنة 362ق ببغداد من نهب وسلب وقتل وسفک الدّماء. ففقدت المدینة أمنَها، علی أنّ هذا الأمر لم یکن حدوثه فُجائیاً مثلما توحی بذلک روایة التّوحیدی، فالعیّارون قدبدأ استبدادهم ببغداد منذ سنة 315ق. فهاجموها وعاثوا فیها فساداً. وقد تفاقم أمرهم حتى أعیى السّلطة. واشتهر منهم لصوص کابن حمدی وغیره. یقول آدم متز واصفاً ما أصاب الناس من أفعال هذا اللّص: «ومضی علی النّاس فی أیّام ابن حمدی وقتٌ تحارسوا فیه بالبُوقات فی اللّیل، وامتنع علیهم النّومُ خوفاً من کَبساتِ هذا الّلصّ وأصحابه.» (متز، لاتا: 1/30-31؛ مسکویه، 1379ش: 6/89) وورد فی التاریخ أنّ: «فی أیام المتّقی، کان ابن حمدی اللصّ ضمنه ابن شیرزاد لمّا تغلّب علی بغداد اللّصوصیة بخمسة وعشرین ألف دینار فی الشّهر، فکان یکبس بیوتَ النّاس بالمشعل والشّمع، ویأخذ الأموالَ وکان اسکورج الدّیلمی قدولىَ شرطةَ بغداد. فأخذه ووسّطه وذلک سنة اثنتین وثلاثین.» (ابن الأثیر، 1989م: 8/416؛ ابن العماد، لاتا: 4/299) وقد تحدّث أبوحیّان کثیراً فی کتابه عن جور الحکّام وعن صراعاتهم السّیاسیة، وهذه عین الصّورة التی نجدها فی المراجع الأخری، فالأمیر معزّ الدولة لم یتوانَ عن مصادرة ثروات النّاس وأخذ أموالهم لیبنى لنفسه داراً جدیدة فی شمال بغداد، «وکان لایأبه کثیراً بحقوق رعیّته، فاضطرّ إلى خَبط النّاس، واستخراج الأموال من غیر وجوهها.» (متز، لاتا: 1/59) ولم یبق للخلیفة من الأمر شیء البتّة منذ أیّام معزّ الدولة «ونظر وزیر الخلیفة مقصورٌ علی أقطاعه ونفقات داره والوزارة منسوبة إلى معزّ الدولة وقومه من الدّیلم شیعة للعلویّة...» (ابن خلدون، 1988م: 3/522) وذکر التّوحیدی حادثة قتل عضدالدولة للوزیر ابن بقیّة وصلبه ببغداد (التوحیدی، 1956م: 1/41-42) وفصّلت بقیّة المراجع کیف وقع القتل والصّلب، فنجد مثلاً فی کتاب ابن خلّکان، وفیات الأعیان أنّ عضدالدولة قدسمل عینَی ابن بقیّة، ووضعه تحت أرجل الفیلة سنة 367ﻫ، وصلبه ببغداد، فبقى مصلوباً إلى أن مات عضدالدولة. (ابن خلّکان، لاتا: 4/203- 204؛ الحصری، لاتا: 4/110؛ الصفدی، 1991م: 1/100؛ البیهقی، 1982م: 208) وتدلّ هذه الحادثة علی شدّة الصّراع السیاسی بین الحکّام مثلما أکّده أبوحیّان، وقد کثرت الإهانة والقتل والتّنکیل بین رجال السّیاسة، ولم یسلم من ذلک حتّی الخلفاء. فقد امتهنهم البویهیّون، وأساؤوا إلیهم مثلما وقع للخلیفة الطائع. فقد «دخل بعضُ الدّیلم کأنّهم یریدون تقبیلَ ید الخلیفه، فجذَبُوه وأنزلوه عن سریره، وهو یستغیثُ، ولایلتفت إلیه أحدٌ، وأخذوا ما فی داره... ثمّ أمروه أن یخلع نفسه، ففعل بعد أن نزل للبویهیین عن کلّ شیء.» (أمین، 1/53، الزرکلی، 1992م: 4/53؛ ابن خلکان، لاتا: 182؛ ابن کثیر، 1986م: 11/308) وقد کان هذا الصّراع قائماً بین وزراء الدّولة من البویهییّن. فأبو الفتح بن العمید وزیر رکن الدولة بالریّ قدوقع سجنه وسمل عینه الوحیدة، ثمّ قتله، کلّ ذلک بتآمر من الصّاحب ابن عبّاد مع بعض أعداء ابن العمید. (الزرکلی، 1992م: 2/116؛ ابن خلدون، 1988م: 4/599؛ مسکویه، 1379م: 6/314) ففی ما یتعلّق بالحیاة السیاسیة نستطیع إذن أن نؤکّد أنّ الإمتاع والمؤانسة قدصوّر لنا خصائص العصر کما هی من توتّر وفساد وظلم وصراعات سیاسیة إلخ. والاختلاف بینه وبین کتب التاریخ أو التراجم، إنّما هو فی دقائق المعلومات وفی بعض التّفصیلات الأخری، ولاغرابة فی ذلک، لأنّ الکتاب، کتاب أدب ولیس کتاب تاریخ. تحلیل الأحوال الاجتماعیة فی الإمتاع والمؤانسة لم تکن الصّورة العامّة التی قدّمها لنا التّوحیدی عن الحیاة الاجتماعیة مخالفة للواقع السائد آنذاک ولعلّ الصّورة عن الأحوال الاجتماعیة تبدو أصدق من الصّورة المعطاة عن الأحوال السّیاسیة؛ وإنّ أهمّ ما میّز الحیاة الاجتماعیة، هو التباین الطّبقی بین الخاصّة والعامّة وترف الأولى وخصاصة الثّانیة. ونجد نفس هذه الصّورة منبثّة فی کلّ الکتب التی تتحدّث عن ذلک العصر، فالأثریاء کانوا یملکون القصور الفاخرة والغلمان والجواری، وکانوا یحرصون على اقتناء الجواهر الفاخرة والنادرة. ویحدّثنا أحمد أمین عن ثراء الوزراء فیقول: «وهکذا کان تیّارُ التّرف شدیداً جارفاً حتّی لیکتسح مَن وَقفَ فی سبیله، وقدأنشأ عضدُالدولة البویهی بُستاناً بلغت النّفقةُ علیه وعلی سوق الماء إلیه خمسةُ آلاف درهم.» (المسعودی، لاتا: 2/338؛ أمین، 2006م: 1/85) والوزیر ابن مُقلة یربّی الحیوانات فی قصره، ویعتنی بها أکثر عنایة، «فکان له بستان عظیم عدّة أجربة شجر بلانخل، عمل له شبکة أبریسم، وکان یفرخ فیه الطّیور التی لاتفرخ إلا فی الشّجر.» (المصدر نفسه) والوزیر ابن الفرات کان یملک أموالاً کثیرة تزید على عشرة آلاف آلاف دینار، وکان ابن الفرات لایأکل إلا بملاعق البُلور، «وکان لا یأکل بالملعقة إلّا لقمةً واحدةً.» (ابن خلّکان، لاتا: 1/530؛ أمین، 2006م: 1/86) وبلغ بالکبراء التّرف أن جعلوا مع الطّباخ رجلاً یعتنی بتقدیم الشّراب لهم سمّوه الشّرابی، یقول آدم متز: «وکان فی بیوت الکبراء إلى جانب صاحب المطبخ رجلٌ یسمّی الشّرابی، شأنه العنایة بالشّراب وآلته وبالفاکهة والروائح.» (متز، لاتا: 2/245) وبینما کانت الخاصّة تملک المال الوفیر، وتعیش عیشة التّرف والنعیم، کان أکثر الشّعب بائساً فقیراً لایستطیع توفیر قُوت یومه، وکانت لذلک نتائج اجتماعیة واضحة، یقول عنها أحمد أمین: «نشأ عن هذه الحالة الاجتماعیة مظاهر متعدّدة، ترفٌ لاحدّ له فی بیوت الخلفاء والأمراء وذوی المناصب، وفقر لاحدّ له فی عامّة الشّعب والعلماء والأدباء اللّذین لم یتّصلوا بالأغنیاء، ثمّ المظاهر التی تنتج عادةً من الإفراط فی التّرف کالتفنّن فی اللّذائذ والاستهتار والنّعومة وفساد النفس وکلّ المظاهر التی تنشأ عن الفقر کالحقد والحسد والکذب والخبث والخدیعة.» (أمین، 2006م: 1/99) إذن هناک تماثل واضح بین ما صوّره التّوحیدی من تباین بین الأغنیا والفقراء وما صوّرته الکتب التی تحدّثت عن القرن الرابع الهجری وهذا التّماثل یعطی کتاب الإمتاع والمؤانسة قیمةً وثائقیةً لا شکّ فیها. ومن خصائص العصر الاجتماعیة من خلال الإمتاع والمؤانسة انعدام الأمن ونقتصر فی تأیید ذلک علی ما أصاب الناس بمدینة بغداد فی ذلک العصر، فقد: «خلت المنازل ببغداد من أهلها، وصاروا یطلبون من یسکن الدّار بأجرة یتعطّاها لیحفظها، وقد أغلقت عدّة حمّامات ومساجد.» (متز، لاتا: 1/31) وفسّر أبوحیّان فی الإمتاع والمؤانسة انعدام الأمن بالتعصّب المذهبی، ونجد آدم متز یفسّر هذه الظاهرة بنفس السّبب معتمداً علی کتب قدیمة کتاریخ ابن الأثیر وتاریخ یحیی بن سعید (وهو مخطوط بمکتبة باریس) وغیرهما ویقول: «وأضیف إلى هذا ما کان بین السنّیین والشّیعة من نزاعٍ دائمٍ، فکانوا یُلقون النّارَ بعضُهم علی بعضٍ دائماً، وفی سنة361ق قامَتْ بالکَرخ فتنةٌ، فأرسل الوزیرُ حاجبَه لقتال العامّة، وکان شدیدَ التعصّب للسنَّةِ، فاضطرّ إلى إلقاء النّار فی أماکن کثیرةٍ لیَقضی علی الفتنة، فاحترق الکرخُ حریقاً عظیماً، وکان عدّة من احترق فیه سبعةَ عشرَ ألف إنسانٍ، واحترقت طائفةٌ کثیرةٌ من الدّور والأموال من ذلک ثلاثمائة دکّانٍ وثلاثة وثلاثون مسجداً...» (ابن کثیر، 1986م: 11/273؛ مسکویه، 1379ش: 5/386-389؛ ابن خلدون، 1988م: 3/531؛ متز، لاتا: 4/59-60) وقد رأینا کیف صوّر کتاب الإمتاع والمؤانسة انتشار ظاهرة المجون فی الکلام، وهی ظاهرة تؤیّدها المصادر الأخری. فقد تحدّث أبو حیّان عن انشغال الأمیر عزّالدولة بالقَصف والعزف وولوعه بالصّید، وهاهو مسکویه فی کتابه "تجارب الأمم" یؤکّد نفس هذه الصورة، فیقول متحدّثا عن عزّالدولة: «وکان یحبّ أن یقضی أوقاته فی الصّید والأکل والشّرب والسّماع واللّهو واللّعب بالنَّرد وتحریش الکلاب والدِّیکةِ والقَباج...وقد اتّقق مرةً أن أُسِرَ له غلامٌ ترکیٌّ، فجنّ علیه جنوناً، وتسلّی عن کلّ شیء خرج عن یده إلا عنه وامتنعَ عن الطّعام والشَّراب، وانقطع إلى النَّحیب والشَّهیق والعَویل.» (مسکویه، 1379ش: 6/349؛ متز، لاتا: 1/59-60) ومن الوزراء الذین اشتهروا بالمجون، أبوالعبّاس الخصیبی الذی «کان یواصلُ شربَ النّبیذ باللّیل، والنّومَ بالنهار فی أیّام وزارته کلّها، وکان ینتبه مخموراً لافضلَ فیه للعمل.» (متز، لاتا: 1/193) وعزل هذا الوزیر بعد سنة وشهریْن من الوزارة «بالقبض علیه وحبسه، وذلک لإهماله أمر الوزارة، وذلک لانشغاله بالخمر فی کلّ لیلة، فیصبح مخموراً لاتمییز له، ووکّل الأمور إلى نوّابه، فخانوا وعملوا لمصالحهم...» (ابن کثیر، 1986م: 11/154؛ ابن خلدون، 1988م: 3/467؛ ابن الأثیر، 1989م: 8/314) هذه إذن خصائص الحیاة الاجتماعیة فی کتاب الإمتاع والمؤانسة تبدو معبّرة عن الصورة العامة لأحوال العصر بما فیها من تباین اجتماعی وفساد أخلاقی، وهذه الصورة لاتخصّ مدینة بغداد وحدها أو الدولةَ البویهیّة فقط، بل هی تعمّ أحوال المجتمع الإسلامی بکلّ أقسامه مع اختلاف فی جزئیّات بعض الأمور، وذلک ما یجعل الکتاب صادقاً فی اتّصاله بالواقع الاجتماعی وفی التّعبیر عن خصائصه العامّة وهو ما یعبّر عن وعی المؤلّف للأحداث التی تعیشها البلاد. تحلیل الحیاة الفکریة فی الإمتاع والمؤانسة تنطبق نفس هذه الملاحظة المذکورة علی الصّورة العامّة التی قدّمها لنا التّوحیدی عن الحیاة الفکریة، فقد أبرز کتاب الإمتاع والمؤانسة تعدّد المشاغل الفکریّة فی القرن الرّابع من العلوم اللّغویة إلى الفلسفة، إلى علوم الدّین والأدب وغیرها، وإنّ نظرة بسیطة إلى کتب تاریخ الأدب تجعلنا نقف علی حرکة فکریة نشیطة فی القرن الرّابع الهجری، أخذت فیها کلّ المعارف حظّها من الاهتمام والتطوّر. فقد تجاوزت الدّراسات اللغویة العراق لتصل إلى مصر والأندلس؛ فممّا یحکی أنّ طالبین مصریین درسا النّحو والصّرف ببغداد، «ثمّ عادا إلى مصر، فملآها نحواً وصرفاً... وکوّنا مدرسة فی القاهرة تشبه مدرسة الزجّاج فی بغداد.» (أمین، 2006م: 2/120) وتطوّرت الدّراسات اللغویة بتأثیر الفلسفة الیونانیة، وقد کان أبوالحسن الرّمّانی أوّل من مازج بین النّحو والمنطق، فأحدث ذلک نقاشاً حول أیّهما أفضل، النّحو العربی أم النحو الیونانی. (المصدر نفسه: 2/123) وقد أعطانا التوحیدی مثالا حول هذا النّقاش عندما روی لنا المناظره التی دارت بین أبی سعید السّیرافی ومتّی بن یونس القنّائی، وتعبّر هذه المناظرة عن وثیقة فریدة من نوعها احتفظ لنا بها کتاب الإمتاع والمؤانسة. وعندما نقارن بین الصّورة التی قدّمها لنا کتاب الإمتاع والمؤانسة عن العلوم الصّحیحة، وما تعرّضت إلیها الکتب الأخری نلمس الفرق بیّناً؛ لأنّ حدیث التّوحیدی حول هذه العلوم کان باهتاً لایعکس ما وصلت إلیه فی القرن الرّابع الهجری من دقّة وتطوّر، فقد نشطت هذه الحرکة فی کلّ البلاد الإسلامیة ونبغ فی کلّ علمٍ رجالٌ طوّروه. یقول أحمد أمین فی وصف ما وصلت إلیه تلک العلوم فی دیار الإسلام: «وقد عَنیت طائفةٌ بها، وتقدّمت تقدّماً کبیراً فی هذا القرن الرابع، وتفاخَرَ الملوکُ والأمراءُ بها، وزیّنوا أقطارَهم بها، فجبریلُ ابن بختیشوع فی العراق وابن الهیثم فی مصر وعلی بن رضوان فی مصر وابن البیطار النباتی وغیرهم.» (أمین، 2006م: 2/191) وکم کان أبو حیّان التوحیدی صادقاً فی تصویر سوء منزلة المفکّرین فی عصره، فقد أثبتت کتب التّراجم بؤس کلّ مفکّر لم یتّصل بأمیر أو وزیر، وهو ما بیّنه أبو حیّان فی الإمتاع والمؤانسة، عندما أبرز شدّة الخصاصة التی عاناها هو وعاناها أبو سلیمان السجستانی وابن یعیش الرقّی وغیرهم. کما أنّه نفسه مع علمه الواسع وأدبه الفیّاض وفلسفته وبلاغته واتّصاله بالوزراء والعلماء وکدّه فی الحیاة بالوراقه ونسخ الکتب وتآلیفه الغزیرة، یقول محدثاً عن نفسه: «ولقَد اضطررتُ بینَهم بعد الشُّهرة والمعرفةِ فی أوقات کثیرةٍ إلى أکْلِ الخُضْر فی الصَّحراء، وإلى التکفُّفِ الفاضِحِ عند الخاصّة والعامّة، وإلى بیعِ الدّین والمُروءَةِ، وإلى تَعاطی الرّیاءِ بالسُّمعة والنِّفاق، وإلى ما لایَحسُنُ بالحُرّ أن یَرسُمَهُ بالقَلم، ویَطرحَ فی قلبِ صَاحِبِه الألمَ.» (التوحیدی، 1956م: 1/21) وهذا أبو العبّاس المعروف بابن الخبّاز الموصلی،کان من کبار النحوییّن والأدباء قال فی خطبة کتابه المسمّی "بالفریدة فی شرح القصیدة": «ومن عَلمَ حقیقةَ حالی، عَذرنی إذا قصّرتُ، فإنّ عندی من الهموم ما یَزعُ الجِنانَ عَن حفظه، ویکفُّ اللّسانَ عن لَفظِهِ: ولَو أنَّ ما بی بالجِبالِ لهَدَّمها وبالنّار أطفاها وبالماء لم یجرِ وبالنّاسِ لم یحیوا وبالدَّهرِ لم یکنْ وبالشَّمسِ لم تطلُعْ وبالنَّجمِ لم یسرِ وأنا أسال الله العظیمَ أن یکفینی شرَّ شَکواى وألّا یزیدنی على بَلوای، فإنّی کلّما أردتُ خفضَ العیشِ صار مرفوعاً، وعاد بالحزن سببُ المسرّة مقطوعاً والله المستعانُ فی کلِّ حالٍ.» (أمین، 2006م: 1/97) وهذا الخطیب التبریزی کان له نسخة من کتاب "التّهذیب فی اللغة" للأزهری فی عدّة مجلّدات أراد تحقیق ما فیها وسماعها علی عالم لغوی، فدلّ علی أبی العلاء المعرّی، فجعل الکتاب فی مخلاة، وحملها علی کتفه من تبریز إلى معرّة النّعمان، ولم یکن له من المال ما یستأجر به ما یرکبه، فنفذ العرق من ظهره إلیها، فأثّر فیها البَلَلُ ومن شعره: «فمَنْ یَسأمْ من الأسْفارِ یَوماً فإنّی قد سَئِمتُ من المُقامِ أقمنا بالعراقِ على رجالٍ لِئامٍ یَنْتَمون إلى لئامِ» (الحموی، 1414ق: 6/28) وحکی لنا أبو حیّان التوحیدی حادثة انتحار فظیعة، فقال: «شاهدنا فی هذه الأیّام شیخاً من أهل العلم ساءت حالُهُ وضاق رزقُهُ واشتدّ نُفورُ الناس عَنه ومقتُ معارفِهِ له، فلمّا توالى علیه هذا، دَخلَ یوماً منزلَهُ ومدّ حَبلاً إلى سقف البَیتِ واختنق بِهِ، فلمّا عرفنا حالَهُ جَزعنا وتوجَّعْنا وتناقلنا حدیثَه وتصرَّفنا فیه کلَّ مُتَصرّف» وأخذ أبو حیّان وأصحابه یتجادلون فی أنّه له الحقّ فی الانتحار أو لا. (التّوحیدی، 1953م: 219) هذا شأن العلماء، أمّا عامّة الشّعب فکانوا أسوأ حالاً. وفی معجم الأدباء، وجدنا أمثلة موجعة عن بؤس المفکّرین فی عصرهم ذاک، فهذا أبوبکر القومسی الفیلسوف شکا الفقرَ بقوله: «ماظننتُ أنّ الدّنیا ونکدَها تبلُغُ من إنسانٍ ما بلغ منّی، إن قَصَدتُ لأغتسلَ منها نَضبَ ماؤُها وإن خَرَجتُ إلى قِفارٍ لأتیمَّمَ بالصّعیدِ عاد صَلداً أملسا.» (الحموی، 1414ق: 15/10) وهذا المعافی بن زکریا النهروانی: «قد نامَ مُستدبرَ الشّمس فی یومٍ شاتٍ وبه من أثرِ الفقر والبُؤس أمرٌ عظیمٌ مع غزارة علمه، واتّساع أدبه وفضله المشهُور.» (المصدر نفسه: 19/151) والأمثلة فی هذا الموضوع کثیرة، وذاک ما یدلّ علی شدّة الغبن الذی کان یحیاه المفکّرون فی ذلک العصر. بعد هذه المقارنات بین الصورة التی قدّمها لنا کتاب الإمتاع والمؤانسة وبین ما جاء فی المراجع الأخری من حدیث عن القرن الرابع الهجری، نستطیع أن نوکّد ما یلی: - أنّ الکتاب یتفّق مع بقیة المراجع بصورة عامّة فی إبراز خصائص العامّة فی ذلک العصر، أمّا الاختلافات الموجودة بین الإمتاع والمؤانسة وبین غیره من الکتب، فإنّما هی اختلافات جزئیة تخصّ دقّة بعض المعلومات أو وضوح بعض الصّور، ولذا فإنّنا نقرّ بوجود قیمة وثائقیة عامّة للکتاب رغم النقائص التی بیّناها فی بدایة هذا المقال. ثمّ إنّ التوصّل إلى استخراج هذه القیمة یتطلّب جهداً کبیراً، لتشتّت المعلومات وتوزّعها علی کلّ أجزاء الکتاب ویبدو لنا هذا الأمر طبیعیاً إذ أنّ کتاب الإمتاع و المؤانسة کتاب أدب ولیس کتاب تاریخ. ونؤکّد کذلک أنّ التوحیدی لم تختلف آراءه ومواقفه عن آراء وأفکار عصره، فانطبعت هذه الصورة العامّة بنظرة المؤلّف وبعقیدته، ولعلّ ذلک ما یفسّر لنا تلک الاختلافات الجزئیّة بین الإمتاع والمؤانسة وبین غیره من الکتب. أمّا إذا أردنا تحلیل مواقف المؤلّف فی الإمتاع والمؤانسة فإنّنا نقول: إنّ المواقف التی اتّخذها أبو حیّان التّوحیدی من مختلف قضایا عصره، تعبّر عموماً عن عدم رضاه بالواقع السائد فی المجتمع وعن تربّصه بالعصر قیماً بدیلةً وحسنةً لتخلف القیم الفاسدة. وقد تلوّنت صورة المجتمع المرسومة فی الإمتاع والمؤانسة رغم اکتسابها عامّة طابعاً وثائقیاً بمواقف المؤلّف وانطباعاته وانفعالاته. تقییم مواقف التّوحیدی ونحن فی هذا المقام نرید أن نقیّم مواقف التوحیدی فی هذا الکتاب محدّدین مختلف الأسباب الذّاتیة أو العامّة الدافعة إلیها. لقد اتّخذ أبوحیّان مواقف عدیدة فی الإمتاع والمؤانسة تحت ضغوط نفسیّة حادّة تمکّنت منه ولم یستطع التجرّد من تأثیراتها وقت التّصریح برأیه. علی سبیل المثال إذا نظرنا إلى موقفه من الصّاحب ابن عبّاد، نجده أبرز دلیلٍ علی ذلک، وقد اعترف التّوحیدی نفسه بذلک صراحةً عندما طلب منه الوزیر ابن سعدان أن یحدّثه عن شخصیة الصّاحب، فقال متمنعاً من الجواب: «إنّی رجلٌ مظلومٌ من جَهته وعاتبٌ علیه فی معامَلتی وشدیدُ الغَیظِ لحرمانی و إن وصفتُه أربَیْتُ مُنتصِفاً وانتصفتُ منه مُسرفاً، فلو کنتُ معتدلَ الحال بین الرّضا و الغَضَب أو عاریاً منهما جُملةً، کان الوصفُ أصدقَ والصّدقُ به أخلَقَ.» (التوحیدی، 1956م: 1/53-54) فیظهر من هذه الفقرة وعی أبی حیّان التامّ بالخلفیّات التی تتحکّم فیه عند الحدیث عن الصّاحب والوعی عادةً یحرّر صاحبه من الضّغوط، ویوجّه مواقفه وجهة موضوعیة وعلمیة، لکن الذی یبدو أن ما کان بین الرّجلین من الخلفیّات، لم یکن یستطیع أبو حیان أن یتغلّب علیه. نحن نجد فی کلام أبی حیّان إحساساً قویاً بالألم الذی خلّفته صلته بالصّاحب ابن عبّاد، من ذلک عبارات: «مظلومٌ من جهته، شدیدُ الغیظ لحرمانی وأربَیتُ مُنتصِفاً...» إلا أنّ الإمتاع والمؤانسة لایعطینا صورة أدقّ عن العلاقة بینهما غیر ما وصفته به هذه العبارات. وبعودتنا إلى کتاب مثالب الوزیرین، وقفنا علی کلّ فصول القصة بین الرّجلین، وهو ما ساعدنا علی تفسیر موقف أبی حیّان من الصّاحب.فقد انتجع التوحیدی، الصّاحب بأملٍ کبیر فی أن ینتزع عنه رداء الفقر والمهانة وفی أن یتخلّص من ضنک البؤس والحرمان اللذین أضنیا حیاته وکدّاها. فلمّا وصل إلیه کلّفه الصّاحب بنسخ الکتاب؛ فانزعج وأسرّ لمن کان فی الدار: «إنّما توجّهتُ من العراق إلى هذا الباب وزاحمتُ مُنتَجعی هذا الرّبیع لأتخلّص من حِرفة الشُؤم، فإنّ الوراقة لم تکن ببغداد کاسدةً، فنمى إلیه هذا أو بعضه أو علی غیر وجهه فزاده تفکُّراً.» (الحموی، 1414ق: 5/1934؛ التوحیدی، 1993م: 203) وکلّفه مرّةً أخری أن ینسخ ثلاثین مجلّدة من رسائله بدعوی أنّها مطلوبة فی خراسان فارتاع وقال: «هذا طویلٌ ولکن لو أذن لی أخْرَجتُ منه فِقَراً کالغُرَرِ، لو رُقیَ بها مجنونٌ لأفاقَ ولو نُفِثَ علی ذی عاهَةٍ لبرأَ...» (التوحیدی، 1993م: 325-326) وقد سمع ابن عبّاد هذا الکلام فآلمه أن ینصبّ التوحیدی نفسه ناقداً وحاکماً یمیّز الحسن من الردئ فی رسائله، فقال متوعّداً: «طعَن فی رسائلی وعابها ورَغِبَ عن نَسْخِها وأزرَى بها، والله لینکرنَّ منّی ما عَرفَ و لیعرفنَّ حظَّهُ إذا انصرف.» (المصدر نفسه) وفعلاً برّ الصّاحب بقسمه فقسا علی أبی حیّان أشدّ قسوةٍ وحرمه من أجرة النسخ طیلة ثلاث سنین، فلم یعطه درهماً واحداً. (التوحیدی، 1956م: 1/14؛ الحموی، 1414ق: 15/13) هذا هو أبرز سبب جعل المؤلّف یسخط علی ابن عبّاد، وهو ضیاع أمله فی الخروج من ضنک العیش. وساءت العلاقة بین الرّجلین فی تلک المدّة حتى صارت منافسة یتواجهان فیها بالحدّة، فکان الصّاحب کلّما أهان التّوحیدی بکلمة قاسیة تلقی أخری أقسی منها، وقد أثبت معجم الأدباء روایة لأبی حیّان یقول فیها: «حضرتُ مائدةَ الصّاحب، فقَدَّمتُ مَضیرةً؛ فأمعنْتُ فیها فقال لی: یا أباحیّان إنّها تَضُرُّ بالمشایخ. فقلتُ: إن رأی الصّاحب أن یدَعَ التَطبُّبَ علی طعامه فعل. فکأنّی ألقمتُه حجراً وخجل واستحیا، ولم ینطق إلى أن فرغنا.» (الحموی، 1414ق: 15/7) وقال فی موضع آخر: «قال لی ابن عبّاد یوماً: یا أبا حیّان مَن کنّاکَ بأبی حیّانٍ؟ قلتُ: أجلُّ الناس فی زمانه وأکرمُهم فی وقته. قال: ومَن هُو ویلَکَ؟ قلتُ: أنتَ. قال: ومتى کانَ ذلک؟ قلت: حین قُلتَ یا أبَا حیّان من کنّاک أبا حیّان، فأضرَبَ عن هذا الحدیثِ، وأخذ فی غیره على کراهةٍ ظَهرتْ علیه.» (المصدر نفسه: 15/12) فالتّوحیدی قدرفض الإهانة المعنویة والمادّیة التی کان یواجهه الصّاحب بها، وذلک سرّ الفشل للعلاقة بینهما؛ هذه العلاقة التی أفرزت فی قلب المؤلّف قرحاً لایندمل. قال التّوحیدی فی کتابه "مثالب الوزیرین" واصفاً آثار ما بقی فی نفسه من صلته بابن عبّاد: «ولکنّی ابتلیتُ بِهِ، وکذلک هُو ابتُلِیَ بِه، ورمانی عن قَوسِهِ معرقاً، فأعزقت ما کان عندی على رأسِهِ مُغیظاً، وحَرَمَنی فازدریتُه، وحقّرنی فأخْزیتُهُ، وخصّنی بالخیبة التی نالت منی، فخصّصتُه بالغَیبة التی أحرقَتْهُ والبادی أظلَم والمنتصف أعْذَر.» (التوحیدی، 1993م: 58) فیظهر إذن أنّ التّوحیدی فی حدیثه عن الصّاحب ابن عبّاد فی الإمتاع والمؤانسة مازال متأثّراً بعاطفته الملتهبة غیظاً وحقداً والتی لم تشتفِ ولم تهدأ حتی بعد کتابة رسالة "مثالب الوزیرین" وهو سرّ التّباین الکبیر بین تمجید المؤرّخین وأصحاب التّراجم للصّاحب ابن عبّاد، وتهجین أبی حیّان له. ونحن لاننکر على التّوحیدی موقفه، فهو أدیب قد عبّر عما خالج ذاته من مشاعر والأدب الصّادق هو ما کانت بعض منابعه وموارده خلجات النفس فی غضبها ورضاها. وموقف أبی حیّان من ابن العمید مشابه کثیراً لموقفه من الصّاحب إذ أنّه قدصدر عن نفسٍ متألمة للحرمان الذی لاقته منه. یقول الدکتور زکریا إبراهیم: «قد یعجبُ المرءُ کیف ارتضى أبوحیّان لقلمه أن یخوضَ فی عَرض ابن العمید، وأن یمضى فی قَدحِهِ وهجائه إلى هذا الحدّ، ولکن الظّاهر أنّ خَیبةَ أمل أبی حیّان من وراء إنتجاعه لفِناء ابن العمید هی التی حَدَتْ به إلى المبالغة فی ذمّه والطّعْن فیه.» (إبراهیم، 1994م: 42) ومن المواقف الأخری التی اتّخذها أبوحیّان تحت مؤثّرات نفسیّة، معارضته لثورة العیّارین سنة 362ق. فقد صوّر أصحاب هذه الثّورة فی أحقر الصّور، ووصفهم بأوصافٍ تدلّ علی معارضته لکلّ ما أتوه من أعمال داخل المجتمع والسّبب فی ذلک أنّه قد أصابه من العیّارین شرّ کبیر، إذ انتهب بیته وقتلت جاریته، فأضحی مفلساً مُعدماً «لا یملکُ مع الشَّیطان فَجرَةً ولا مَعَ الغُراب نَقْرَةً.» (التوحیدی، 1956م: 3/162) إذن فلایمکننا أن نتوقّع من التّوحیدی إجلالاً لهذه الثّورة ولأصحابها، إلّا أن یکون قد قتل من نفسه حسّاسیّتها وانفعالاتها وأساها وشجونها، ووقف یتأمّل بعین العقل الأسباب الهیکلیة والرئیسیة التی دفعت بالعیّارین إلى ذلک الفعل ویتفهّم ما عانوه من مهانة وخصاصة، فیعذرهم ویقف إلى جانبهم وما کان أبوحیّان یعمل ذلک الفعل. فالوجدان من عناصر کیانه الرئیسة، إلا أنّه یجب أن نلاحظ أنّ التّوحیدی قدکان أکثر شدّةً وقسوةً علی الصّاحب منه على العیّارین، فکأن الإهانة المعنویة التی لاقاها من ابن عبّاد آلم فی نفسه من الإفلاس الذی ترکه العیّارون. ولیس کلّ مواقف المؤلّف فی الإمتاع والمؤانسة ولیدة الضغوط النفسیة أو الوجدانیة، فهناک مواقف کثیرة وقفها بدافع المبدأ الذی یؤمن به، نذکر منها خصوصاً موقفه من المتکلّمین وعداءه الصّریح لهم، وقد تجاوز فیه حدود المعارضة الفکریّة، لیدعو علیهم بالشرّ، وقد استنتجنا من ذلک مذهبه الدّینی فقلنا إنّه سنّیّ یقف فی وجه ما أحدثه المتکلّمون من بحوث فی الفکر الدینیّ الإسلامی، وعلى سبیل المثال نقده لابن البقّال فی قوله بتکافؤ الأدلّة بین الخیر والشرّ. (المصدر نفسه: 3/191) هذه النظرة المحافظة قدتحکّمت فی کثیر من المواقف الأخرى للمؤلّف، فمثلاً عند حدیثه عن الخلفاء فی القرن الرّابع وعن دورهم فی الحیاة السیاسیة والاجتماعیة، لم یکن من قبیل الصُّدفة، فنحن لانجده یتحدّث عنهم کثیراً حتى فی بقیّة کتبه، والسّبب فی ذلک هو أنّ خلفاء بنی العبّاس کانوا سنّیّین، بینما الوزراء والأمراء کانوا فی أکثر الأحیان شیعیّین وکأنّ التّوحیدی مازال یعتقد رغم کلّ الظّروف ورغم ما وقع للخلفاء من ضعف سیاسیّ وقلّة نفوذ فی الحیاة العامّة، بجلال الخلافة، فلم یشأ أن یمسّ الخلیفة بکلام سوء. وهو وإن لم یتحدّث عن الخلفاء فی عصره، فإنّنا نراه کثیراً ما تحدّث عن سیرة الخلفاء الرّاشدین وعن خلفاء آخرین مثل: عبدالملک بن مروان أو عمر بن عبدالعزیز خاصّة لیبرز فضائلهم السیاسیة والاجتماعیة والاقتصادیة والفکریة. ومن مواقفه المحافظة فی المیدان الفکری تفضیله لمنهج أبی سعید السیرافی فی اللّغة علی منهج أبی علی الفارسی. إنّ هذا الموقف لم یتّخذه التوحیدی وفاءً لأستاذه فقط، وانّما اتّخذه لأنّ أبا علی الفارسیّ قدأدخل عنصری القیاس والمنطق فی اللّغة. وکانت بینه وبین السّیرافی اختلافات کبیرة حول عدید من المسائل اللّغویة، وما هذه الاختلافات إلّا صورة بیّنة عن الصّراع الفکریّ بین القدیم والجدید فی المجتمع الإسلامی، وقد وقف أبو حیّان مع القدیم صراحة بمدحه علم أبی سعید وذمّه علم أبی علیّ الفارسی. یقول أحمد أمین مقارناً بین العالمین: «فی الحقّ أنّ السّیرافی کان أشبهَ بالمحافظین، یَروى ما یَسمعُ، ویَحفظُ ما یَروى على کثرة ما یَروى وما یَحفظ، فی ثقةٍ وأمانةٍ وأنّ أبا علی کان حُرّاً مبتکراً قیاسیاً فتح للناس هو و تلمیذه ابن جنّی أبواباً جدیدةً فی النّحو والتّصریفِ لم یُسبقا إلیها...» (أمین، 2006م: 1/243) وشبیه بهذا موقفه من الفلسفة والشریعة؛ فقد فضّل الشّریعة على الفلسفة، واعتبرها أکمل منها، وما ذاک إلّا لأنّ الفلسفة عنصر جدید فی الفکر العربی الإسلامی جاء عن طریق الترجمة، فلهج به العلماء، وردّدوا أفکار الفلاسفة الیونانییّن وغیرهم، وکان لدخول الفلسفة أثر کبیر فی ظهور مذاهب عقلیة عملت على تجدید الفکر الإسلامیّ، فاختلفت تلک المذاهب فی ما بینها، وترامت بالتکفیر والتفسیق، ولابدّ أن نلاحظ أنّ أبا حیّان لاینکر التفلسف ولاإعمال العقل، لکنّه ینکر أن یسوق التفلسف الإنسانَ إلى الکفر ومخالفة الشّریعة. ویتنزّل فی نفس هذا الاتّجاه موقف التّوحیدی من الأدب والحساب، فقد بینّا أنّه یرفض أن تفضل صناعة الحساب، صناعة البلاغة والإنشاء، بل هو یقرّ بالتکامل بین الصّناعتین. إنّنا نرى من خلال هذه المواقف أنّ أبا حیّان یعارض کلّ جدید یدخل المجتمع، فهل ذلک منه تحجّر وتنکّر للتطوّر؟ یجب أن نعود هنا إلى واقع المجتمع الإسلامی فی القرن الرابع الهجری لنفهم موقف أبی حیّان الخاصّ. یقول أحمد أمین واصفاً حالة المجتمع آنذاک: «أُصیب العالَمُ الاسلامیُ بانقسامٍ کبیرٍ حتى کأنّه عِقدٌ إنفَرطَ أو صَخرةٌ تفتَّتَتْ.» (أمین، 2006م: 1/1) تعبّر هذه الجملة صادق التعبیر عن حالة العالم الإسلامی آنذاک، وهی حالة من الانقسام العامّ سیاسیاً واجتماعیاً وفکریاً. ومن أبرز أسباب ذلک التشتّت الکبیر دخول عناصر جدیدة حملت معها رؤی جدیدة فی السیاسیّة والفکر والمجتمع، تغلغلت تلک العناصر بنظرتها تلک، وسیطرت على المراکز السیاسیة والفکریة، فازداد المجتمع تمزّقاً، وصار مهدّداً فی کیانه، لأنّه قدفقَدَ العدل السیاسی والتسامح الاجتماعی. وقدوعی التّوحیدی هذه المخاطر، فأبرز موقفه صراحةً، فهو خائف علی مستقبل هذا المجتمع من أن یدوم تشتّته وتمزّقه إلى غدٍ أو بعد غدٍ، وانطلاقاً من هذا الخوف والفزع وقف معارضاً لکلّ جدید یعمق التفکّک بالبلاد، فالمعارضة لیست عقیدة، بل هی موقف آنی حتى یسلم المجتمع، ویأمن علی غده من الضّیاع والدّمار، وإنّ المحافظة التی أبداها فی آرائه هی موقف دفاعیّ عمّا یمکن أن یخلّص البلاد من الموت الحضاری، لذا فقد رأیناه لایرفض الفلسفة کلّ الرفض، ولا الحساب أیضاً إلّا فی مدى معارضتهما للقیم الأصیلة بالمجتمع. ومواقف التّوحیدی لم تقتصر على إبداء المعارضة لبوادر الدّمار المترصّدة للمجتمع، بل فیها تلمیحٌ إلى وجود الإصلاح السّیاسی والاجتماعی. والنّظرة إلى الإصلاح وإلى وسائله لاتختلف من حیث الجوهر عن النّظرة إلى هذه العناصر الجدیدة المهدّدة للحضارة الإسلامیة، فرفض الجدید دفاعاً عن المجتمع وصوناً له من الدّمار والتّحطیم. وحنین أبی حیّان إلى عهدٍ مَضی کان خلاله المجتمع آمناً فی ظلال الإسلام دیناً والعدل سیاسةً والوحدة اجتماعاً. فلا صلاح لأمر المجتمع فی رأی أبی حیّان إلّا بإقامة سیاسة شرعیة، وبسیادة قیم أخلاقیة فاضلة، وبوحدة اجتماعیة متینة. فلو کان أبو حیّان معاصراً لنا لقلنا هو مفکّر سلفیّ متحجّر.لکن حسبه أن عاش بوعی المفکّر البصیر، ونظر إلى مجتمعه بعین النّاقد المنقّب عن مواطن الصّلاح والفساد. إنّنا قد لانوافق أبا حیّان فی مواقفه المحافظة، إذ أنّ المجتمع فی القرن الرابع الهجری قدتطوّر، وهو بحاجة إلى عناصر جدیدة لتستقیم الحیاة فیه، لکنّنا رغم ذلک نقدر فیه نزعته ومیله إلى العدل السیاسیّ، وإلى التّضامن الاجتماعی وإلى وجود قیم أخلاقیة فاضلة، لأنّ تلک الأمور هی أساس الکینونة الحضاریة. نستطیع إذن أن نؤکّد فی نهایة المطاف أنّ لکتاب الإمتاع والمؤانسة قیمة ذهنیة وأخرى واقعیة، فهو قدعبّر من ناحیة عن مفهوم الثقافة فی ذلک العصر، ومااتّسمت به من موسوعیة فکریّة، ویظهر ذلک فی تطرّق الکتاب إلى البحث فی مواضیع کثیرة منها ما یتعلّق بالأدب، ومنها ما یهتمّ بالفلسفة وبالدّین وبالنّفس و بالأخلاق وغیرها من المواضیع. وهذه الرّوح الموسوعیة مازالت تعبّر عن نظرة ثقافیة قدیمة، وهناک مثل سائر یقول: «الأدبُ هو الأخذُ من کلّ شیء بطَرَفٍ» (ابن خلدون، 1981م: 476؛ السیوطی، 1965م، 23) فلم تظهر بعد نزعة التخصّص التامّ وعکوف العالِم علی الاهتمام بفنّ واحد. والکتاب إلى جانب هذا الأمر نجده قدصوّر شؤون المجتمع وأحواله فی القرن الرّابع الهجری، وأبرز ما یهدّده من أخطار داخلیّة وخارجیّة، تنذر فی کلّ مظهر من مظاهرها بالدّمار الذی ینتظر الحضارة الإسلامیة، فبدت صورة الواقع غائمة، لایکاد یظهر منها بصیص نور یجدّد الأمل فی غدٍ أفضل. فهل نجد مجتمعاً أسوأ حالاً من ذلک الذی تسوده الفوضی السیاسیّة والاجتماعیّة، ویحکمه الظّلم والعسف، وتسفک فیه الدماء هدراً؟ هاتان القیمتان الذهنیة والواقعیة تعبّران عن عمق الصلة بین الکتاب و البیئة التی عاشها المؤلّف. لکن الصّورة المرسومة لتلک البیئة، یجب أن لاخدعنا فنرتاح إلیها وکأنّها الواقع ذاته، فهی صورة رسمتها عین أبی حیّان السّوداء، ونمّقها ضمیره القلق، وصاغها عقله الثّائر، فجاءت داکنة تمازجت فیها کلّ عوامل قلق المؤلّف وثورته.فالکتاب إذن هو إفراز لعوامل البیئة وبواطن الذّات. النتیجة لقد توصّل هذا المقال إلى نتائج یمکن تلخیصها فیما یلی: إنّ کتاب الإمتاع والمؤانسة، کتاب أدب ولیس کتاب تاریخ، وقد کتبه أبو حیّان التوحیدی تحت عدد کبیر من الضّغوط المادیة والأدبیة. والتّوحیدی یطیل فی إبراز التوتّر والفساد السیاسیین اللّذین سادا المجتمع آنذاک، ومن مظاهر التوتّر السّیاسی انعدام الأمن الخارجی، وقدصوّر لنا خصائص العصر کما هی من توتّر وفساد وظلم وصراعات سیاسیة. إنّ الکتاب یتفّق مع بقیة المراجع بصورة عامّة فی إبراز الخصائص العامّة فی ذلک العصر، أمّا الاختلافات الموجودة بین الإمتاع والمؤانسة وبین غیره من الکتب، فإنّما هی اختلافات جزئیة تخصّ دقّة بعض المعلومات أو وضوح بعض الصّور، ولذا فإنّنا نقرّ بوجود قیمة وثائقیة عامّة للکتاب رغم النقائص التی نری فیه. لم تکن الصّورة العامّة التی قدّمها لنا التّوحیدی عن الحیاة الاجتماعیة مخالفة للواقع السائد آنذاک، ولعلّ الصّورة عن الأحوال الاجتماعیة تبدو أصدق من الصّورة المعطاة عن الأحوال السّیاسیة. ولم تکن أفکار التوحیدی وآراءه تختلف عن أفکار عصره، فانطبعت هذه الصورة العامّة بنظرة المؤلّف، وبعقیدته، ولعلّ ذلک ما یفسّر لنا تلک الاختلافات الجزئیّة بین کتابه الإمتاع والموانسة وبین غیره من الکتب، والمواقف التی اتّخذها أبو حیّان التّوحیدی من مختلف قضایا عصره، تعبّر عموماً عن عدم رضاه بالواقع السائد فی المجتمع، وعن تربّصه بالعصر قیماً بدیلةً وحسنةً لتخلف القیم الفاسدة ومواقفه لم تقتصر علی إبداء المعارضة لبوادر الدّمار المترصّدة للمجتمع، بل فیها تلمیحٌ إلى وجود الإصلاح السّیاسی والاجتماعی. قدصوّر التّوحیدی شؤون المجتمع وأحواله فی القرن الرّابع الهجری وأبرز ما یهدّده من أخطار داخلیّة وخارجیّة، تنذر فی کلّ مظهر من مظاهرها بالدّمار الذی ینتظر الحضارة الإسلامیة، فبدت صورة الواقع غائمة، لایکاد یظهر منها بصیص نور یجدّد الأمل فی غدٍ أفضل. | ||
مراجع | ||
ابن خلدون، عبدالرحمن بن محمد. 1988م. تاریخ ابن خلدون (دیوان المبتدأ والخبر فی تاریخ العرب والبربر ومن عاصرهم من ذوی الشأن الأکبر). تحقیق خلیل شحادة. ط2. بیروت: دارالفکر. ابن خلدون، عبدالرحمن بن محمد. 1981م. مقدّمة ابن خلدون. ط4. بیروت: دارالقلم. إبراهیم، وسیم. 1994م. نظریة الأخلاق والتصوّف عند أبی حیّان التوحیدی. دمشق: دار دمشق. ابن الأثیر، عزالدین علی بن ابی الکرم الشیبانی. 1989م. الکامل فی التاریخ. تحقیق علی شیری. بیروت: دار إحیاء التراث العربی. ابن خلّکان، أحمد بن محمد بن أبی بکر. لاتا. وفیات الأعیان وأنباء أبناء الزمان. تحقیق إحسان عباس. بیروت: دارالکتب العلمیة. ابن عبد ربّه، أحمد بن محمد. لاتا. العقد الفرید. تحقیق الدکتور مفید قمیحة. بیروت: دار الکتب العلمیة. ابن العماد الحنبلی، شمس الدین محمد. لاتا. شذرات الذّهب فی أخبار من ذهب. بیروت: دار الآفاق الجدیدة. ابن کثیر، إسماعیل بن عمر. 1986م. البدایة والنهایة. بیروت: دارالفکر. ابن منظور، محمد بن مکرم. 1990م. لسان العرب. بیروت: دار صادر. أمین، أحمد. 2006م. ظهر الإسلام. القاهرة: المکتبة العصریة. أنیس، إبراهیم وآخرون. لاتا. المعجم الوسیط. إسطنبول: دارالدعوة. البیهقی، أبوالفضل. 1982م. تاریخ البیهقی. ترجمه إلى العربیة یحیى الخشاب وصادق نشأت. بیروت: دارالنهضة العربیة. التوحیدی، علی بن محمد. 1956م. الإمتاع والمؤانسة. تحقیق أحمد أمین وأحمد الزین. بیروت: مکتبة الحیاة. التوحیدی، علی بن محمد. 1953م. المقابسات. تحقیق حسن السندوبی. القاهرة: مطبعة الرحمانیة. التوحیدی، علی بن محمد. 1992م. أخلاق الوزیرین. تحقیق محمد بن تاویت الطنجی. بیروت: دار صادر. الثعالبى، أبو منصور. 1375- 1377ق. یتیمة الدهر. تحقیق محمد محیی الدین عبد الحمید. القاهرة. الحصری القیروانی، إبراهیم بن علی. زهر الآداب وثمر الألباب. شرح الدکتور زکی مبارک. ط4. بیروت: دارالجیل. الحموی، یاقوت بن عبد الله. 1414ق. معجم الأدباء. بیروت: دار الغرب الإسلامی. الزّرکلی، خیر الدین. 1992م. الأعلام (قاموس تراجم لأشهر الرجال والنساء من العرب والمستعربین). 10ج. ط10. بیروت: دارالعلم للملایین. السیوطی، جلال الدین عبدالرحمن بن أبی بکر. 1965م. بغیة الوعاة فى طبقات اللغویین والنحاة. تحقیق محمد أبو الفضل إبراهیم. القاهرة: البابى الحلبى. الصفدی، صلاح الدین. 1991م. الوافی بالوفیات. ط2. شوتغارت: دار النشر فرانز شتایر. الطبری، محمد بن جریر. لاتا. تاریخ الطبری (تاریخ الرسل والملوک). تحقیق محمد أبوالفضل إبراهیم. ط4. القاهرة: دارالمعارف. العماد الأصفهانی. 1952م. خریدة القصر. تحقیق شکرى فیصل وآخرین. تونس. کردعلی، محمد. 1939م. أمراء البیان. بغداد: مطبعة لجنة التألیف والترجمة والنشر. الکیلانی، إبراهیم. لاتا. أبو حیان التوحیدی. ط2. القاهرة: دارالمعارف. مبارک، زکّی. 2004م. النثر الفنی فی القرن الرابع الهجری. صیدا: منشورات المکتبة العصریة. متز، آدام[Metz, Adam]. لاتا. الحضارة الإسلامیة فی القرن الرابع الهجری أو عصر النهضة فی الإسلام. تعریب محمد عبدالهادی أبو ریده. ط5. بیروت: دارالکتاب العربی. محیی الدین، عبدالرزاق. 1949م. أبو حیّان التوحیدی. القاهرة: مکتبة الخانجی. المسعودی، علی بن الحسن. لاتا. مروج الذّهب و معادن الجوهر. تحقیق محمد محیی الدین عبدالحمید. 4ج. بیروت: المکتبة الإسلامیة. مسکویه، أبوعلی. 1379ش. تجارب الأمم. تحقیق أبوالقاسم إمامی. ط2. طهران: سروش. الیعقوبی، أحمد بن أبی یعقوب. 1955م. تاریخ الیعقوبی. بیروت: دارالعراق. | ||
آمار تعداد مشاهده مقاله: 1,897 تعداد دریافت فایل اصل مقاله: 736 |