تعداد نشریات | 418 |
تعداد شمارهها | 10,004 |
تعداد مقالات | 83,629 |
تعداد مشاهده مقاله | 78,548,070 |
تعداد دریافت فایل اصل مقاله | 55,629,478 |
دور الترجمة فی ازدهار العرب العلمیّ فی العصر العباسیّ؛ نظرة نقدیة | ||
إضاءات نقدیة فی الأدبین العربی و الفارسی | ||
مقاله 1، دوره 2، شماره 6، آذر 1433، صفحه 30-9 اصل مقاله (1.45 M) | ||
نوع مقاله: علمی پژوهشی | ||
نویسنده | ||
زهراء أفضلی | ||
أستاذة مساعدة بجامعة بوعلی سینا – همدان، إیران. | ||
چکیده | ||
تُعدّ الترجمةُ من أهمّ أدوات التواصل ووسائل التفاعل بین مختلف شعوب العالم وعلی مرّ العصور. إنّ الإلمامَ بالمعارف والثقافات المختلفة للشعوب لا بدّ له من الترجمة، والعلم بلغتها الأصلیة؛ فتقوم الترجمةُ بنقل مفاهیم ثقافة من الثقافات، وعلومها وتقنیاتها إلی ثقافة أخری إذ إنّها تُهیّئ الأرضیةَ لتلاقح الثقافات الملتقیة بغیرها ومِن ثَمّ نُموّها، وازدهارها وغناها. تشهد الدراساتُ للعصور التاریخیة علی أنّ الترجمةَ لعبت دورا بارزا فی نقل الثقافة الأجنبیة إلی الثقافة العربیة فی العصر العباسیّ. کما یعتقد المؤرخون أنّ الثقافةَ العربیةَ تفاعلت وتلاقحت بغیرها من الثقافات ثُمّ نَمَت وازدهرت حتّی تَمثّل أهمُّ مظاهر هذا الازدهار فی الحرکة العلمیة فی هذا العصر. فقد نَقلَ العربُ إلی لسانهم معظمَ ما کان معروفا من العلوم عند سائر الأمم المتمدّنة کالفُرس، والهند، والیونان واغتذوا بأفکارها ورضعوا من لبانها ثم لم یلبثوا أن تجاوزوها وحلّقوا فی عوالمَ جدیدةٍ. لا شک أنّ البحثَ فی هذا الازدهار یکشف للقارئ أهمیةَ الترجمة ودورَها فی تطوّر العرب العلمیّ وتقدّمهم الحضاریّ، الأمر الذی فقد جاء هذا المقال لیُرکّز علیه. | ||
کلیدواژهها | ||
الترجمة؛ الازدهار؛ الحرکة العلمیة؛ العصر العباسیّ | ||
اصل مقاله | ||
یُعتبر التواصلُ تفاعلا بین اثنین فأکثر وعملیةً لتبادل الآراء، والأفکار، والمعارف بین الأشخاص لفظیاً وغیر لفظی والمیکانیزمَ الذی تَحدُثُ وتتطوّر بواسطته العلاقاتُ الإنسانیة. إنّ التواصل من ضروریات الحیاة، فلابدّ للإنسان من الاتصال بالآخرین للبقاء واستمرار الحیاة. تدلّ الدراساتُ والبحوثُ علی دور التواصل الهامّ فی التفاعل الحضاری بین الشعوب منذ أقدم العصور، إذ إنّه یَضمَنُ تعرّفَ الشعوب بعضهم علی بعض وتفهّمَ خصوصیة کلّ مجتمع والأشیاء المشترکة بینها، کما یمهّد الطریقَ للوصول إلی أرضیة مشترکة قد تؤسّس علی قناعة بالرأی المقابل أو علی مصالح متبادلة تؤدّی إلی اتفاقها معا وتوسیع علاقاتها فی مختلف المجالات الاقتصادیة، والاجتماعیة، والثقافیة و... . تحتاج عملیةُ التواصل إلی وسائلَ وأدوات لتحقیقها فی المیدان العملی. ففی العصر الراهن تطوّرت أدواتُ التواصل وتنوّعت. فتُعدّ الترجمةُ أحدَ أهمّ أدوات التواصل ووسائل الانتقال الفکری والمعرفی بین مختلف شعوب العالم وعلی مرّ العصور. إنّ الترجمةَ فعلٌ ثقافیٌّ، ولغویٌّ، وحضاریٌّ وإنّ المترجمین رُسل التنویر بین الحضارات من قدیم الزمان حتی یومنا هذا. لم تَفقد الترجمةُ أهمیتَها أو ضرورتَها أو فاعلیتَها، فهی الوعاءُ الذی تُنقل من خلاله المعرفةُ من بلد إلی آخر ومن لغة إلی أخری. فالترجمةُ إذا هی نافذةٌ فکریة ومدخلٌ حضاریٌّ یَضمَنُ لهویتنا القومیة المزیدَ من التواصل مع الآخر فی کلّ مجالات إبداعه. (الکفری، 2008م: 18) تکتسب الترجمةُ مکانةً هامّة للأسباب التالیة: 1. الترجمةُ محرِّضٌ ثقافیٌّ یفعل فعلَ الخمیرة الحَفّازة فی التفاعلات الکیمیاویة إذ تُقدِّم اﻷرضیةَ المناسبة التی یمکن للمبدع والباحث والعالم أن یقف علیها ومِن ثَمَّ ینطلق إلی عوالمَ جدیدةٍ یُبدِع فیها ویبتکر ویخترع. 2. تُجسِّر الترجمةُ الهوةَ القائمة بین الشعوب اﻷرفع حضارةً والشعوب الأدنی حضارةً. 3. الترجمةُ هی الوسیلة اﻷساسیة للتعریف بالعلوم والتکنولوجیا ونقلها وتوطینها. 4. الترجمة عنصرٌ أساسیٌّ فی عملیة التربیة والتعلیم والبحث العلمیّ. 5. الترجمة هی اﻷداةُ التی یمکننا عن طریقها مواکبةُ الحرکة الثقافیة والفکریة فی العالم. 6. الترجمة وسیلةٌ لإغناء اللغة وتطویرها وعَصرَنتها. (المصدر نفسه) یُستنتج مما تقدّم أنّ الترجمةَ تعمل علی نقل العلوم والتکنولوجیا أو استنباتها وتوطینها وغیرها من العملیات الضروریة للاستفادة من علوم الآخر وتقنیاته فی تحقیق التنمیة الهادفة إلی ترقیة حیاة الإنسان. فإنّ ما یجدر ذکرُه فی هذا المجال أنّ المسلمین قد أدرکوا أهمیةَ الترجمة والنقل منذ وقت مُبکّر وقاموا بنقل کثیر من العلوم والمعارف والفلسفات من لغات أجنبیة إلى اللغة العربیة، فبدأ المسلمون یستقبلون هذه العلومَ والمعارف وینقحّونها أو یضیفون إلیها، ویوسّعون دائرتها حیث نشأت فی المجتمع الإسلامیّ حرکةٌ علمیة وفکریة نشطة. النقلُ إلی اللغة العربیة لاتتفق المصادرُ علی تحدید الوقت الذی حصل فیه النقلُ الأول إلی اللغة العربیة. قد جاء فی بعض المصادر ﺃنّ العربَ عرفوا شیئاً من النقل قبل الإسلام. فإنّ نصوصاً من التوراة والإنجیل کانت شائعة بینهم منذ الجاهلیة الأولی. کما نقلوا الکثیرَ من معلوماتهم ولا سیّما فی النجوم والطبّ والعقاقیر عن جیرانهم الکلدان والآشوریین والفرس. وآیةُ ذلک أنّ عدداً کبیراً من أسماء النجوم وأعلام البروج وأساطیر الفلک مأخوذٌ من أصول کلدانیة وغیرها. وکان مما یعزِّز هذا الاتصالَ وفودُ العرب علی فارس وانتقالهم بالتجارة بین شبه الجزیرة والعراق وفارس والشام ومصر، بل والقسطنطنیة فی بعض الأحیان أیضاً. کلُّ أولئک یُوحِی بوجود حرکة نقل مستمرّة بین هذه اﻷقطار وهذه الحرکة کانت شفویةً علی الأقل. (مرحبا، 1998م: 189-188) وقد ذهب بعضُ الباحثین إلی أنّ الجذورَ الأولی لحرکة الترجمة تَرجِع إلی أیام الرسول صلی الله علیه وآله وسلم الذی کان یکلف بعض الصحابة بتعلم اللغات الأخری حتی ینقلوا الکتب التی ترد علیه من أقطار غیر عربیة إلی اللغة العربیة، فقد استطاع زید بن ثابت أن یتعلم السریانیة فی أربعة عشر یوماً وصار یکتب رسائل الرسول صلی الله وآله وسلم بهذه اللغة. (أحمد، 1991م: 13) یتّفق بعضُ المؤرخین مع هذا الرأی إذ یرون أنّ الحارثَ بنَ کلدة الذی عاصرَ النبیَّ اشتغل فی نقل العلوم وأنّه درس فی جندیسابور الواقعة علی مقربة من مدینة سوسة القدیمة والتی کانت تَضمّ أشهرَ مدرسة وأکفأ مجموعة من المترجمین. (عبدالقادر محمد، لاتا: 21) إلی جانب هذه الآراء رأیٌ آخر یُشیر إلی أنّ بدءَ النقل کان فی العصر الأموی (البستانی، 1997م: 169) وأنّ خالد بن یزید بن معاویة المتوفی سنة 85ق لمّا یئس من الفوز بالخلافة بعد انتقال الخلافة من الفرع السفیانی إلی الفرع المروانی انقلب إلی العلم ودَرسَ الکیمیاءَ خاصة علی ید راهب إسکندرانی اسمُه مریانوس ثُمّ أمرَ بنقل کتب الصنعة (الکیمیاء) إلی العربیة. (الحسین، 2005م: 488) عند المقارنة بین هذه الآراء یَبدو أنّ الرأیَ الأرحجَ هو الرأیُ الأول وأنّ مما یُؤیّد هذا الاحتمالَ الدراساتُ التاریخیةُ التی تَدلُّ علی تواصل العرب مع الأجانب قبل ظهور الإسلام ولا شک أنّ ذلک التواصلَ کان یتطلب النقلَ ولو کان شفویاً وجزئیاً بالنسبة إلی العصور الأخری. رغم وجود هذا الخلاف بین المصادر علی تحدید وقت أوّل نقل إلی اللغة العربیة إلا أنها تجمع علی أنّ حرکة الترجمة إلی العربیة أخذت تنشط وتزداد قوةً فی العصر العباسی. العصر الذهبی للترجمة یَری المؤرخون أنّ العصرَ العباسیَّ أزهی عصور الحضارة العربیة، إذ جری احتکاکُ العقل العربیّ بمدنیات البلاد التی امتدّ إلیها سلطانُه وإذ بدأت حرکةُ الترجمة تحمل إلی العرب تُراثَ الأمم والشعوب. (الفاخوری،1427ﻕ: 522 ) وأخذت تتّسع وتعمّق وتأخذ مجراها البعیدَ فی العقلیة العربیة والفکر الإسلامیّ ولا سیّما فی عصر المأمون الذی اُطلِق علیه العصرُ الذهبیُّ للترجمة. (مرحبا،1998م: 209-208) لا شک أنّ هناک عواملَ وأسبابا مختلفة أدّت إلی نُمُوّ حرکة الترجمة فمنها: 1. انتقالُ الحیاة العربیة إلی الطور الجدید الذی تغیّرت فیه معظمُ مقوّماتها وأحسّ الناسُ فی عالمهم الجدید أنّهم فی مزید الحاجة إلی الثقافات الأجنبیة التی أخذت بواکیرُها تغزو عقولَهم وتستهوی نفوسَهم وأفئدتَهم منذ بدء حرکات الترجمة المنظمة. (المصدر نفسه: 208) 2. الاستقرارُ السیاسیُّ والرخاءُ الاقتصادیُّ الذی أفضی إلی ظهور طبقة وسطی خلاقة ومبدعة. (اسماعیل، 1992م: 187) إنّ الدعةَ والفراغ واستفحال العمران عواملُ مؤاتیةٌ للخلق والإبداع إذا صادفت مواهب خصبة. إنّ العربَ أمعنوا فی الحضارة واستبحروا فی العمران، والحضارة والعمران یستلزمان العلمَ، لأنّ العلمَ من توابع الازدهار ومن ضرورات حیاة الحضر. وهکذا راحوا یطلبونه فی کل أفق ویطرقون إلیه کل باب. وإذا وجدوا الأبوابَ مقفلةً بمفاتیح من اللغات الأجنبیة اجتلبوا المختصین بهذه اللغات لیطلبوا إلیهم فتحَ الأبواب الموصدة ویقتحموا معاقلَ عالم جدید. (مرحبا، 1998م: 203-202) 3. الاهتمامُ الکبیر الذی أبداه الخلفاءُ العباسیون نحوَ العلماء کان أیضاً من العوامل الهامّة فی ازدهار الترجمة. (التلیسی، 2004م: 291) تؤکّد الشواهدُ التاریخیةُ علی أنّ الخلفاء العباسیین قد فتحوا أبوابَ عاصمتهم الجدیدة بغدادَ أمام العلماء وأجزلوا لهم العطاءَ وأضفوا علیهم ضروبَ التشجیع، بصرف النظر عن مللهم وعقائدهم فنزح العلماءُ إلی بغدادَ وعملوا علی نقل وترجمة الکتب الأجنبیة. (ﺃحمد،1991م: 14) 4. "بیتُ الحکمة"، الذی أسّسه الخلیفةُ المأمونُ فی بغداد سنة 830 م وکان یجمع بین الآکادیمیة، والمکتبة ومرکز للترجمة، قد لعب دوراً هاماً فی نقل تراث الحضارات القدیمة إلی العالم العربیّ. إنّ هذه المؤسسة التی ضمّت علماءَ من المسیحین والیهود والعرب قامت علی الاهتمام «بالمعارف الأجنبیة» من العلوم المختلفة. (عبدالقادر محمد، لاتا: 139) 5. إلی جانب هذه الأسباب یجب أن نشیر إلی دور المدارس العلمیة الفکریة التی کانت تهتمّ بالعلوم المختلفة کالطبّ والفلک والفلسفة والریاضیات. (قدورة الشامی، 1997م: 245) إنّ هذه المدارسَ قد انتصبت فی الإسکندریة، وجندیسابور، وحرّان، ونصیبین، والرها وغیرها مناراتِ إشعاعٍ تنقل مع رسلها مدنیات الشرق القدیم والفکر الیونانی الذی أثقلته حقائقُ المعرفة والحیاة. (الفاخوری،1427ق: 523-522) وإنّ العربَ قد استعانوا بأساتذتها لتعلّم حضارات الأمم المجاورة فقاموا بترجمة تلک العلوم التی اکتسبوها إلی اللغة العربیة. (قدورة الشامی،1997م: 245) صفوةُ القول أنّ هذه الأسبابَ تضافرت جمیعاً لتمهّد لازدهار حرکة الترجمة أولاً وبالتالی للنهضة العلمیة التی ظهرت فی القرنین الثانی والثالث وبلغت أوجَها فی القرنین الرابع والخامس. سبقت اﻹشارةُ إلی أسباب ازدهار النقل وإقبال العرب علیه وقیامهم بنقل المعارف والعلوم الأجنبیة إلی اللغة العربیة. فإنّ ما یجدر ذکرُه فی هذا المجال أنّ للکتب المنقولة إلی العربیة عدّةَ مراجعَ أقواها ثلاثةٌ: الیونانیّ، والفارسیّ والهندیّ. من ﺃجل تقدیم صورة واضحة عن أثر النقل فی نشاط الحرکة العلمیة للعصر العباسیّ سنتحدث عن العلوم المنقولة وأهمّ مترجمیها. الکتب المنقولة یصل عددُ الکتب التی نُقلت فی ذلک العصر- کما ورد فی بعض المصادر- إلی بضع مئات، وکان أکثرُها من الیونانیه. ومنها ثمانیةُ کتب فی الفلسفة والأدب لأفلاطون وتسعةَ عشرَ کتاباً فی الفلسفة والمنطق والأدب لأرسطو وعشرةُ کتب فی الطبّ لبقراط وثمانیةٌ وﺃربعون کتاباً فی الطبّ لجالینوس وبضعةٌ وعشرون کتاباً فی الریاضیات والنجوم لإقلیدس، وأرخمیدس، وأبلونیوس، ومنالاوس، وبطلمیوس، وأبرخس، وذیوفنطس وغیرهم. وأمّا منقولات اللغات الأخری فمنها نحو عشرین کتاباً نُقلت عن الفارسیة فی التاریخ والأدب ونحو ثلاثین کتاباً من اللغة السنسکریتیة (الهندیه) وأکثرها فی الریاضیات، والطب، والنجوم والأدب. (زﻳﺩان، 1996م: 31) وأمّا أشهرُ المترجمین الذین نقلوا عن الیونانیة: فحنین بن إسحق، ووالده إسحق، ویحیی بن هدی، وابن البطریق، وقسطابن لوقا، والحجاج بن مطر، وعیسی بن یحیی، وحبیش الأعسم، واصطفان، وابن الصلت، وثابت بن قره، ومن أشهر مترجمی اللغة الفارسیة: عبدالله بن مقفع، وجبلة بن سالم، وآل نوبخت، ومحمد بن جهم البرمکی، و... ومن أبرز نقلة اللغة الهندیة: منکة الهندی وابن دهن و... (زیدان، لاتا: 178-171) تجدر الإشارةُ إلی أنّه یصعب ذکرُ جمیع أسماء الکتب وأسماء النقلة فی هذا المکان ولذلک نکتفی بذکر أعداد الکتب وأسماء بعض النقلة المشهورین. إنّ هذا العددَ الضخم للکتب المنقولة یدلّ علی أنّ الترجمةَ حَظیت بمکانة رفیعة خلال العصر العباسیّ ویَرجِع الفضلُ فی ذلک إلی الخلفاء والعلماء والنقلة مضافاً إلی الظروف السیاسیة والاقتصادیة والاجتماعیة المؤاتیة التی ساعدت علی هذا الأمر. ومما لاریب أنّ هذه الکتبَ المنقولة أصبحت السفائنَ التی نَقلت الحمولاتِ الثقافیةَ المتنوعة من اللغات الأجنبیة إلی اللغة العربیة وقد لعبت دوراً بارزاً فی إثراء ثقافة العرب ولغتهم وأحدثت النهضةَ العلمیةَ الکبری التی نحن بصددها فی هذا البحث. أثر النقل تقوم الترجمةُ بنقل مفاهیم ثقافة من الثقافات وعلومها وتقنیاتها إلی ثقافة أخری فإنها تُهیّیء الأرضیةَ لتلاقح الثقافة الملتقیة بغیرها ومن ثم نموّها وازدهارها وغناها. فإنّ ما یجدر ذکرّه فی هذا المجال أنّ الثقافةَ العربیةَ تفاعلت وتلاقحت بغیرها من الثقافات ثم نَمَت وازدهرت فی العصر العباسی. وتمثّل أهمُّ مظاهر هذا الازدهار فی الحرکة العلمیة فی هذا العصر. إنّ العربَ نقلوا إلی لسانهم معظمَ ما کان معروفاً من العلم والفلسفة والطب والنجوم والریاضیات والأدب عند سائر الأمم المتمدنة فی هذا العهد فأخذوا من کلّ أمة أحسنَ ما عندها (زیدان، لاتا: 182) واغتذوا بأفکارها ورضعوا من لبانها ثم لم یلبثوا أن تجاوزوها وحلّقوا فی عوالمَ جدیدةٍ فإنّهم ما کانوا یتدارسون الکتبَ المنقولةَ إلی لغتهم حتی سعوا إلی تحقیق مسائلها وشرحها وتلخیصها ومناقشتها والزیادة علیها. (مرحبا، 1998م: 230) ویکفی من أجل تیسیر عرض الموضوع أن نشیر إلی طائفة من نابهی الفَلَکیین مثل علیّ بن عیسی الأسطرلابی، ومحمد بن موسی الخوارزمی، والعباس بن سعید الجوهری الذین ألحقوا بمرصد المأمون الکبیر ولم یلبث هذا المرصد أن تحوّل إلی مدرسة ریاضیة کبیرة تخرّج فیها عالمٌ فَلَکیٌّ مثل بنی موسی بن شاکر. وقد أفادت هذه المدرسةُ من الأبحاث الفَلَکیة والریاضیة والجغرافیة التی سبقها إلیها الهنودُ والفرس والیونان وأضافت إلی ذلک إضافاتٍ جدیدةً باهرةً، إذ وضعت لحرکات اﻷفلاک زیجاتٍ وجداولَ أکثر دقةً مما کان لدی اﻷقدمین وأدخلت تحسیناتٍ علی خریطة بطلمیوس واستطاعت أن تقیس درجتین من درجات محیط الأرض علی أساس کرویّتها إلی مباحثَ فَلَکیّةٍ وجغرافیة وریاضیة کثیرة. (ضیف، لاتا، العصر العباسی الأول: 115) إلی جانب هولاء الفَلَکیین بإمکاننا أن نتحدث عن یوحنّا إبن ماسویه الطبیب الذی استطاع بما کان یعکف علیه من تشریح القردة أن یُضیف بعضَ النتائج الجدیدة إلی ما خَلّفه جالینوس فی علم التشریح. (المرجع نفسه: 115) فضلا عما تقدّم، هناک شروحٌ علی الکتب المنقولة کشروح محمد بن موسی الخوارزمیّ علی کتاب اقلیدس فی الهندسة وکتاب بطلمیوس فی الجغرافیة وشروح الفضل بن حاتم النیریزیّ علی أصول إقلیدس وکتاب بطلمیوس فی الفَلَک . (ضیف، العصر العباسیّ الثانی: 139-135) وشرح عمر بن الفرخان علی کتاب أربع مقالات فی صناعة احکام النجوم لبطلمیوس، (مرحبا، 1998م: 215) وشرح ابن البیطار علی کتاب دیسقوریدس فی الصیدلة. (التلیسی،2004م: 299) وشرح حنین بن إسحاق علی کتاب الفراسة لأرسطوطالیس فی إدراک حقیقة الأدیان. (الحسین، 2005م: 493) بالإضافة إلی هذه الشروح ثَمَّةَ بعضُ ذیولٍ وتعلیقات وتفاسیر للکتب المنقولة کذیل الذی جعله ابنُ جلجل علی کتاب دیسقوریدس فی العقاقیر والأدویه (زیدان، لاتا: 207) وتعلیقاتُ حنین بن إسحاق علی کتب أبقراط، (مرحبا، 1998م: 219) وأیضاً تعلیقات الکندی یعقوب بن إسحاق علی ما کان یترجم عن الیونانیة والسریانیة، (ضیف، العصرالعباسی الثانی: 139) وتفاسیر یحیی بن عدی لکتب أرسطو منها: طوبیقا، والمقالة الثامنة من السماع الطبیعی، وفصل من کتاب ما بعد الطبیعة، ومقالة الإسکندر (الافرودیسی فی الفرق بین الجنس والمادة. (الحسین، 2005م: 497) کما قام العربُ بالزیادة والشرح علی الکتب المنقولة سَعَوا إلی تلخیصها واختصارها أیضا ککتاب الأصول لأقلیدس الذی اختصره ابنُ سینا (قدورة الشامی، 1997م: 262) وکتاب جالینوس فی الأدویة المفردة الذی اختصره حنین بن إسحاق وکتاب ما بعد الطبیعة لأرسطو الذی اختصره ثابت بن قره وکتاب اقلیدس الذی اختصره إسحاقُ بن حنین، (الحسین، 2005م: 495-493) وکتاب ﺃربع مقالات فی صناعة أحکام النجوم لبطلمیوس الذی اختصره محمدٌ بن جابر بن حیان. لم یقتصر نشاطُ العرب علی الزیادة والاختصار بل امتدّ إلی میدان النقد، والتنقیح، والتصحیح، والتفنید أیضاً. وأهمُّ مَثَلٍ للنقد نقدٌ لفَلَک بطلمیوس وکتابه المجسطیّ الذی نقده الحسنُ بن هیثم وأبو ریحان البیرونیّ وغیرهما من علماء الفَلَک المسلمین. (التلیسی، 2004م: 314) فضلا عن ذلک هناک أبحاثٌ للحسن بن الهیثم فی المرایا الکریة التی انتقد فیها نظریةَ إقلیدس وبطلمیوس وکان أوّلَ مَن أعطی وصفاً دقیقاً للعین نفسها وللعدسات والرؤیا بکلتا العینین. إنّ هذه الأبحاثَ ألهمت "روجر بیکون" لیقوم بتجاربه وکذلک "کبلر" وغیره من علماء الغرب بصنع المیکروسکوب والتلسکوب. (عبد القادر محمد، لاتا: 163) یُعتبر کتابُ "الاکر" لثیودوسیوس الذی ترجمه قسطا بن لوقا البعلبکیّ خیرَ مثال لتنقیح الکتب المنقولة. إنّ ثابت بن قره نقّح هذا الکتابَ مضافاً إلی تنقیحه کتاب الأصول لاقلیدس. کذلک قسطا بن لوقا مضی علی نهجه ونقّح الترجمةَ القدیمةَ لکتاب إقلیدس. (مرحبا، 1998م: 224- 223) إلی جانب هولاء دَخَلَ آخرون هذا المیدانَ وقاموا بالتصحیح کما صَحَّحَ البتانیّ محمد بن جابر بن سنان کثیراً من أخطاء بطلمیوس فی دراسته القیمة عنه بدائرة المعارف الإسلامیة. وکذلک الکندیّ یعقوب بن إسحاق الذی أصلح وصحّح بعض ما کان یترجم عن الیونانیة والسریانیة وله تهذیباتٌ لکثیر مما ترجم. (ضیف، العصر العباسی الثانی: 139 -136) وأمّا فی مجال التفنید ینبغی أن نشیر إلی کتاب المجسطیّ لبطلمیوس الذی درسه الحسنُ بن الهیثم وفنّدَه بصورة علمیة دقیقة فی الشکوک علی بطلمیوس. (عبد القادر محمد، لاتا: 71) یُستنتج مما تقدّم أنّ هذه المؤلفاتِ المترجمةَ استرعَت انتباهَ المترجمین والعلماء وحرّضتهم علی الدراسة فیها حیث تمثّلت مظاهرُ هذه الدراسة فی الشرح، والاختصار، والنقد، والتصحیح والتفنید ثم وطّأت الطریق وأضاءت المحجةَ للخلق والإبتکار، فما کان علی العلماء إلا أن یتواصلوا الطریقَ ویساهموا فی أصول العلم وفروعه ویحیطوا بجمیع ألوان الثقافة والمعرفة. کما أوردت المصادرُ أنّ العربَ کانوا فی العلوم تلامیذَ الهنود، والفرس والیونانیین، لکنهم نجحوا نجاحاً کبیراً (الحسین، 2005م: 498) وانتقلوا من طور النقل إلی طور الخلق والإنتاج العلمیّ الأصیل بسرعة مذهلة، فقد ظهر من بینهم جهابذةُ کبارٌ وعلماءُ أعلامٌ ومفکّرون أفذاذٌ ألّفوا وابتکروا واکتشفوا حتی فاقوا أساتذتَهم اﻷجانبَ وبذلک قطعوا شوطاً بعیداً فی الطریق الطویل الذی انتهت إلیه الحضارةُ الأروبیةُ فی الوقت الحاضر. (مرحبا، 1998م: 231-230) قد تجلّی ابتکارُ العرب العلمیّ بأوضح صورة فی علوم الطب والریاضیات والفَلَک والکیمیاء والفلسفة التی أطلق علیها علومُ "اﻷوائل" نظراً لأنّها ظهرت فی العالم الإسلامیّ بعد ترجمة التراث الأجنبیّ القدیم. (إسماعیل، 1992م: 206) بالنسبة لعلم الطبّ استعان أطباءُ العرب بالکتب الطبیة "لأبقراط" و"جالینوس" وغیرهما من أطباء الیونان واطّلعوا علی طبّ الهنود بالإضافة إلی تفوّقهم فی میدان البحث والتجربة والاختبار فی الحقول الطبیة ومن تفاعل هذه العناصر وتمازجها نَضِجَ علمُ الطبّ وبَرَزَ أطباءُ کبارٌ. (زیدان، لاتا: 202- قدورة الشامی، 1997م: 249) یجمع الباحثون علی أنّ محمد بن زکریا الرازیّ (865-925م) الملقب بجالینوس العرب من أشهر أطباء العصر العباسی. إنّه وُلد فی الری بالقرب من طهران عاصمة ایران. أقدم علی تعلّم الطبّ ونبغ فیه. لقد ألّف نحو مائتی کتاب وکان نصفُ هذا العدد متعلقاً بالطبّ. من مؤلفاته المشهورة کتابُ الحاوی الذی ذاعت شهرتُه فی ﺃروبا وتُرجِم إلی اللاتینیة وطُبِعَ عدّةَ مرّات. قد وَصف المستشرقُ الطبیبُ ماکس مایرهوف بأنّه أکبرُ موسوعة فی الطبّ کتبها طبیب بمفرده وقد جَمع الرازی فی هذا الکتاب طبَّ الیونان والسریان والعرب القدماء وأضاف إلی کل ذلک خبرتَه الشخصیة وتجاربَه ولقد کَتبَ هذا الکتابَ بعد أن اکتملت معرفتُه فی الأعوام الأخیرة من حیاته. فإذا تَناول فیه مرضاً من الأمراض ذکر ما قاله عنه المؤلفون من الیونان والسریان والعرب والفرس والهنود ثم اتّبع ذلک بتجربته ورأیه وکثیراً ما تجلّی فیهما حذقُه وصدقُ إدراکه. (کفافی، 1970م: 56) بالإضافة إلی هذه الکتب للرازیّ رسائلُ أشهرها "الجُدَرِیّ والحصبة" وهی أوّلُ ما کُتب فی هذا الباب وتُعدّ مفخرةً من مفاخر التآلیف الطبیة عند العرب. (الحسین، 2005م: 505) ویُذکر مِن تفوُّق الرازیّ أنّه ﺃوّلُ مَن استخدم الماءَ الباردَ فی عِلاج الحُمِّیّات کما أنّه تکلّم عن الحَصَی فی الکُلیة والمَثانة بدقة متناهیة، (التلیسی، 2004م: 295) فضلا عن ابتکاره خیوطَ الجراحة وفتیلةَ الجرح ومراهم الزئبق واکتشافه مرضَ الجُدَریّ والحصبة واختراعه المسهلاتِ والتراکیبَ الکیمیاویةَ الطبّیةَ. (قدورة الشامی، 1997م: 251) وکان اسمُ ابن سینا (980-1037م) ألمعَ اسم بعد الرازیّ فی تاریخ الطبّ العربیّ ولقد کان الرازیّ یتفوّق علی ابن سینا فی الطبّ ولکن ابن سینا تفوَّق علیه فی الفلسفة. فقد وُلد بالقرب من بخاری ولُقِّب لشهرته بالشیخ الرئیس. (الحسین، 2005م: 506) له مؤلفاتٌ تدور علی الفلسفة، والطبّ، والهندسة، واﻹلهیات، وفقه اللغة والفنون (المصدر نفسه: 506) ومن أشهرها "القانون فی الطبّ" الذی ظلّ یُدرَس فی جامعات أروبا لعدّة قرون. قد جَمع ابنُ سینا فی هذا الکتاب تراثَ الیونانیین فی علم الطبّ وکذلک ما أضافه العربُ إلی ذلک التراث. إنّ هذا الکتابَ موسوعةٌ ضخمة تتناول الطبَّ العام ومفرداتِ اﻷدویة واﻷمراض التی تُصیب کلَّ عضو من أعضاء الجسم ثم التشخیص والدواء. (علی حسن، 1986م: 315 - کفافی، 1970م: 58) بَرَعَ ابنُ سینا فی التمییز بین شلل الدماغ الناتج عن سبب خارجیّ والشلل الدماغیّ الناتج عن أسباب داخلیة واحتقان الدماغ ومعالجته بالتبرید واکتَشف السکتةَ الدماغیة وشللَ الوجه ووصف مرض السلّ الرئوی، وعدواه، وأمراض الجُذام، والبُهاق، والبَرَص الأبیض وشخّص الکثیر من أمراض العین، والأمراض التناسلیة وعدواها وتوصّل إلی تشریح الحیوانات واکتشاف بعض أمراضها ومعرفة التهاب السحایا وأنواع الحصی (المثانة والکُلَی) واهتمّ بتحضیر الأدویة. (قدورة الشامی، 1997م: 252 -251) وأمّا العلومُ الریاضیة التی تشمل الجبرَ والحساب والهندسة فقد تقدّمت علی ید علماء العرب بعد نقل الکتب الیونانیة والهندیة. إنّ العربَ قد نقلوا کتابین یونانیین فی الجبر أحد هما لذیوفانتوس والآخر لأبرخس. وقد وجد الباحثون بعد نهضة التمدّن الحدیث أنّ ما کتبه هذان لیس من الجبر فی شیءٍ أو هی أصولٌ ضعیفةٌ لا یُعتدُّ بها وهم یعتقدون أنّ الجبرَ من موضوعات العرب. (زیدان، لاتا: 217) وأنّ محمد بن موسی الخوارزمیّ أکبر العلماء الریاضیین هو الذی اکتشف علمَ الجبر وقواعده وأعطاه اسمَه الذی شاع من بعده فی العالم کله. (ضیف، العصر العباسی الأول: 115) ومن أشهر ﻣﺆلفاته فی الجبر کتاب "الجبر والمقابلة" الذی جمع بین ما عثر علیه من الأصول الجبریة عند الیونان والهنود والفرس فاستخرج منه الجبرَ العربیَّ. (زیدان، لاتا: 217) واخترع جبراً عصریاً إذ حَوّل الأعدادَ الجبریةَ إلی عناصرَ کما أنّ الأعدادَ أصبحت خاضعة لقواعدَ ثابتةٍ تنطبق علی کل الحالات المتشابهة وهذه القاعدةُ العامّةُ هی ما یُسمّی بالدستور عند الخوارزمیّ. (قدورة الشامی، 1997م: 264) إنّ هذا الکتابَ تُرجم إلی اللاتینیة وظلّ مستخدماً فی الجامعات الأروبیة حتی القرن السادس عشر وکان یُعدّ أهمَّ الکتب الریاضیة وﺇلیه یَرجِع الفضلُ فی نقل علم الجبر إلی أروبا. (کفافی، 1970م: 60) ولم یتوقّف علمُ الجبر عند العرب علی ما قدّمه الخوارزمیُّ ولکنهم طوّروه إلی أبعد من ذلک حین حَلّوا معادلاتِ الدرجة الثالثة مما أدهشَ علماءَ الغرب ویتّضح ذلک من خلال مؤلفات البتانی وثابت بن قره وغیرهم. (التلیسی، 2004م: 309) وإلی الخوارزمیّ یُعزَی فضلُ التقدّم فی علم الحساب أیضاً. یَری الباحثون أنّه وَضعَ علمَ الحساب مفیداً من خبرة الهنود فی نظام الأرقام التی سهّلت کثیراً من المشکلات الحسابیة. (إسماعیل، 1992م: 206 – التلیسی، 2004م: 308) وکان کتابُه فی الحساب الأول من نوعه حیث الترتیب والتقریب والمادة وله أعظمُ الفضل فی تعریف العرب واللاتین من بعدهم بنظام العدد الهندیّ وظلّ علمُ الحساب لعدة قرون مقروناً باسم الغوریثمیّ نسبة إلی الخوارزمیّ. (علی حسن، 1986: 316- ضیف، العصر العباسی الأول: 115) ﺃمّا الهندسةُ فقد ازدهرت بعد ترجمة کتب أعلام الیونان مثل "اقلیدس" و"ارشمیدس". (إسماعیل، 1992م: 206) فقد کان لترجمة هذه الکتب أثرٌ کبیر فی تحریض العرب علی تألیف الکتب الهندسیة. کما ألّف ابنُ هیثم کتاباً علی نسق کتاب الأصول لاقلیدس ووضع الکندیّ إسحاق بن یعقوب ثلاثه وعشرین مصنفاً فی الهندسة. (علی حسن، 1986م: 316- قدورة الشامی، 1997م: 262) ومما أحدثه العربُ فی الهندسة أنّهم طبّقوها علی المنطق وقد فعل ذلک ابنُ الهیثم فی أوائل القرن الخامس للهجرة، فإنّه ألّف کتاباً جَمع فیه الأصولَ الهندسیة والعددیة من اقلیدس وابلونیوس ونوّع فیها الأصولَ وقسّمها وبَرهنَ علیها ببراهین نظمها من الأمور التعلیمیة والحسیة والمنطقیة. (زیدان، لاتا: 217) واشتهر من علماء العرب فی الهندسة: آلُ موسی وهم أبناء موسی بن شاکر الذین برزوا فی قیاس السطوح الکرویة والمستویة، (قدورة الشامی، 1997م: 263)، والحسن بن موسی بن شاکر اشتغل فی استخراج مسائل هندسیة لم یستخرجها ﺃحدٌ من الأولین کقسمة الزاویة إلی ثلاثة أقسام متساویة وطرح خطین بین خطین ذی توال علی نسبة (کذا). (زیدان، لاتا: 217) فضلاً عن هؤلاء العلماء یجب أن نشیر إلی البیرونیّ الذی یصفه المؤرخون بأنّه عقلیةٌ لا یکاد یُوجَد لها مثیلٌ فهو من أبرز علماء ومفکّری الإسلام الذین ظهروا فی الفترة من منتصف القرن الرابع الهجری إلی منتصف القرن الخامس الهجری. فقد عالج البیرونیُّ الأشکالَ الهندسیة المنتظمة وأوجدَ أطوالَ الأضلاع عن طریق حلّ معادلات الدرجة الثانیة والثالثة وله معادلاتٌ فی هذا الصدد توصَّل من خلالها إلی إمکانیة إیجاد مقدار الجیب بأی عدد من الأرقام العشریة. (التلیسی، 2004م: 310) وخلاصةُ القول أنّ الخوارزمیَّ والبتانیّ والبیرونیّ قد أسهموا کثیراً فی تقدّم العلوم الریاضیة بصفة خاصة لأنّهم أوّلُ مَن أدخل النظامَ العشریّ فی الأعداد الحسابیة ذلک أنّ الیونان کانوا یستعملون فی العدد الحروف الأبجدیة للعدّ من 1 حتی 999 ثم الشرطة، والشولة والنقطة للعدد فیما بعد ذلک حتی الآلآف. (التلیسی، 2004م: 310) وللعرب حظٌّ وافرٌ فی تطوّر علم النجوم أو الفَلَک وفضلٌ کبیرٌ علیه. إنّ الأسبابَ العامّة التی تتصل بمصالح المسلمین کانت کافیة لیهتمّ العربُ بعلم الفَلَک إذ یحتاجون ﺇلیه فی التقاویم وضبط محراب الصلاة ومعرفة میلاد الهلال فی الشهر القمریّ وشهر رمضان والمناسبات الدینیة کالأعیاد والوقوف بعرفة وغیرها. لذا أنّهم جمعوا فی الفَلَک بین مذاهب الیونان والهند والفرس واتّبعوا المنهجَ العلمیَّ فی مجال البحث فیه وطبّقوا الریاضیاتِ أبرعَ تطبیق واخترعوا وصمّموا الآلاتِ المعینةَ التی یحتاج إلیها الراصدُ فی جمع معلوماته ونهضوا بهذا العلم. (زیدان، لاتا: 211- التلیسی، 2004م: 313-312) وبَرز فی الفَلَک علماءُ کبارٌ منهم أحمد بن محمد بن کثیر الفرغانی الذی حدّد بدقة طولَ السنة الشمسیة ومواقع بعض النجوم (قدورة الشامی، 1997م: 260) وله کتبٌ مختلفه فی الأسطرلاب (آلة لقیاس مواقع وأبعاد النجوم وارتفاع الجبال) وکتابه "أصول الفَلَک" تُرجم کثیراً إلی اللاتینیة وترک هناک تأثیراً کبیراً حتی عصر کوبرنیقوس. (ضیف، العصر العباسی الثانی: 135) ومن نابهی الفَلَکیین البتانیُّ محمد بن جابر سنان المتوفی سنة 317 ولا یُعلم أحدٌ فی الإسلام بَلغ مبلغَه فی تصحیح إرصاد الکواکب وامتحان حرکاتها وکان له مرصدٌ فی الرقة علی نهر الفرات وله زیجٌ (کتاب فیه جداولُ حرکات الکواکب یُؤخذ منها التقویمُ) جلیلٌ ضمنه أرصاد النیرین وإصلاح الحرکات المثبة لهما فی کتاب المجسطیّ لبطلمیوس وتُرجم زیجُه إلی اللاتینیة. (المصدر نفسه: 136) یَری بعضُ الباحثین أنّ البتانیّ والفرغانیّ جعلا علمَ الفَلَک له قواعده، ومناهجه وأدواته. (إسماعیل، 1992م: 207) إلی جانبهما اشتهر الآخرون فی علم الفَلَک منهم محمد بن موسی الخوارزمیّ فضلا عن اشتهاره فی الریاضیات التی تقدّم ذکرُها. کان له علمٌ واسعٌ فی النجوم فاصطنع زیجاً جَمع فیه بین مذاهبَ الهند والفرس والروم فجعل أساسَه علی السند هند وخالفه فی التعادیل والمیل فجعل تعادیلَه علی مذهب الفُرس وجعل میلَ الشمس علی مذهب بطلمیوس واخترع فیه أبواباً حسنة فاستحسنه ﺃهلُ عصره وطاروا به فی الآفاق. (زیدان، لاتا: 211) ومن مشهوری الفَلَکیین أیضاً أبو معشر البلخیّ المتوفی سنة 272 الذی ألّف کثیراً فی الفَلَک وکان له تأثیرٌ واسع فی العرب ومسیحی العصور الوسطی وتُرجمت له کتبٌ کثیرة إلی اللغة اللاتینیة. (ضیف، العصر العباسی الثانی: 135) ومنهم أیضاً ﺃبو الوفاء البوزجانی الذی عرف إحدی المعادلات الضروریة لتقویم مواقع القمر سُمّیت بمعادلة السرعة واختلاف عروض القمر وحدود الاختلاف الثالث فی عرض القمر وکذلک البیرونیّ الذی اهتمّ بتصحیح الأطوال الأرضیة. (قدورة الشامی، 1997م: 260) وعلی نحو ما طوّر العربُ علمَ الطبّ والریاضیات والفَلَک طوّروا علمَ الکیمیاء أیضا کما تقدّم أنّ خالد بن یزید بن معاویه تخلّی عن الحکم وتفرّغَ لعلم الکیمیاء فی العصر الأموی ویَری بعضُ الباحثین أنّه ﺃوّلُ من اشتغل فی نقلها إلی العربیة، نقلها عن مدرسة اﻹسکندریة، معتمداً علی مصادر یونانیة وعنه أخذ جعفر الصادقُ المتوفی فی سنة 140 ﺇمام الشیعة الإمامیة الذی أحاطَ بأسرار کثیرة من العلوم الدینیة والدنیویة. (زیدان، لاتا: 206- إسماعیل، 1992م: 210) یُستنتج مما تقدّم أنّ علمَ الکیمیاء نُقل إلی العربیة فی العصر الأمویّ وخطی خطوات نحو التقدّم لکنّه ازدهر فی العصر العباسی عندما توصّل العلماءُ إلی معرفة الکثیر من أسرار علم الکیمیاء وتمکّنوا من تحضیر عدد کبیر من المرکبات الکیمیائیة کماء الفِضّة (الحامض النتریک)، وماء الذهب (النتروهید کلوریک)، وأکسید الزئبق، ونترات الفضة، وکبریتات الحدید، وثانی أکسید المنغنیز لصناعة الزجاج کما استطاعوا صُنعَ البارود، والصابون، والورق، والحریر، والأصباغ، ودبغ الجلود، والروائح العطریة، وموادّ التجمیل، والزیوت والشمع و... (التلیسی، 2004م: 300- قدورة الشامی، 1997م: 266) بالإضافة إلی ذلک فقد اکتشف الکیمیائیون البوتاسَ، والکحول، وحجر الجهنم (نترات الفضة)، و السلیمانی(کلورید الزئبق)، والزرنیخ، والبورق، والنطرون، وملح النشادر أو النوشادر (کلورید الأمونیوم) وغیرها من الاکتشافات. ولایزال الکثیرُ من أسمائها حتی الیوم یشهد علی أصلها العربیّ. (الحسین، 2005م: 509) وقد استعان علماءُ العرب بالکیمیاء لصناعة الأدویة الطبیة، وصناعة الفولاذ، والأقمشة، وصقل المعادن وصناعة الورق من القطن وفیما بعد انتقلت هذه الصناعة إلی الأندلس فأروبا. (قدورة الشامی، 1997م: 266) وﺃهمُّ مَن یُذکر من علماء الکیمیاء جابر بن حیّان الذی تلقّی علمَه علی ید جعفر الصادق إمام الشیعة الإمامیة الآنف الذکر. إنّ جابر اشتهر فی الکیمیاء حیث وَقفَ علی تفسیر أسباب البرودة، والیبوسة، والحرارة والرطوبة (إسماعیل، 1992م: 210) وقد عرفَ جابر حامضَ الخلیک المرکز عن طریق التقطیر الجزئی للخلّ کما عرفَ ثانی أکسید المنغنیز فی صناعة الزجاج بعد إزالة اللون اﻷخضر أو اﻷرزق منه فضلا عن معرفته تنقیةَ المعادن من الشوائب المختلطة بها وتحضیره الزرنیخَ. (خلیل النجار، 2009م: 200) تُنسب إلیه کتبٌ کثیرةٌ فی الکیمیاء تَبلغ ما یَقرب من مائة باللغتین العربیة واللاتینیة. (کفافی، 1970م: 60) إلی جانب جابر بن حیان شهدت الحضارةُ العربیة فی العصر العباسیّ علماءَ آخرین فی علم الکیمیاء منهم محمد بن زکریا الرازیّ الطبیب الذی تَقدَّم ذکرُه. إنّه قد درسَ الکیمیاءَ فی صباه ثم تحول عنها إلی علم الطبّ. (المصدر نفسه: 56) للرازی اثنا عشر مؤلفاً فی الکیمیاء ومن أهمّ ما وضعه فی هذا العلم "کتاب الأسرار" الذی تقلب علی أیدی المحررین ثم نُقل إلی اللاتینیة فأصبح مصدراً رئیسیا للکیمیاء إلی أن خلفته تآلیف جابر بن حیان. (الحسین، 2005م: 505) أمّا علمُ الفیزیاء فقد أفاد المسلمون بصدده من کتب الیونان وأضافوا إلیه إضافاتٍ صائبةً وقد توصّلوا إلی نظریات جدیدة فی هذا العلم کالوقوف علی قوانین الحرکة والسکون وقوانین الماء وأفادوا منها فی جَرّ اﻷثقال والتحکم فی میاه الآبار والینابیع. فضلا عن ذلک وضعوا قانونَ "الذبذبة" الذی وظّفوه فی صناعة المزاول والساعات کما عرفوا القِنطارَ، والرَّطلَ، والمثقال والقَبّان ووظّفوها فی الموازین. (إسماعیل، 1992م: 211) وبَرزَ فی هذا العلم بعضُ العلماء کالحسن بن الحسن بن الهیثم، وابن الخازن البصریّ والبیرونیّ. ﺃمّا البیرونیُّ فهو أشهرُ من عمل فی هذا المجال. إنّه قد استخدم قانونَ أرخمیدس أحسنَ استخدام ونجح ﻷوّل مرّة فی اکتشاف ما یُسمّی "بالثقل النوعیّ" لعدد من المعادن والأحجار الکریمة واستعمل لذلک میزاناً خاصاً سمّاه المیزانَ الطبیعیَّ. (قدورة الشامی، 1997م: 267، إسماعیل، 1992م: 211) وقد تفوّق ابنُ الهیثم فی البصریات والضوء وقد بلغت شهرتُه فی هذا المجال أوجَها، إذ توصّل إلی معرفة خصائص الأبصار والمرایا والظلال وغیرها. ویَرجِع الفضلُ إلیه فی وضع القسم الثانی من قانون الانعکاس وهو القسمُ الذی یثبت فیه أنّ زاویتی السقوط والانعکاس واقعتان فی مستوی واحد. أمّا القسمُ الأول من القانون القائل بأنّ زاویةَ السقوط تُساوِی زاویةَ الانعکاس فقد وضعه الیونانُ، کما توصّل ابنُ الهیثم إلی وضع جداولَ دقیقهٍ بعد تجارب مُضنیة لتحدید معاملات الانکسار لبعض الموادّ. (التلیسی، 2004م: 302- إسماعیل، 1992م: 211) له مؤلفاتٌ کثیرة فی هذا العلم منها کتابُ "المناظر" الذی عالجَ فیه تشریحَ العین وکیفیة الرؤیا وانکسار الضوء وانعکاسه وغیرها من البحوث التی أذهلت الأروبیین حیث أخذوا عن کتبه وبَنَوا علیها نظریاتِهم الحدیثةَ فی علم الضوء. (التلیسی، 2004م: 302) کما قیل إنّ علماءَ القرون الوسطی الغربیین کروجرباکون، وکوبرنیکوتن، وغالیلیو وغیرهم أخذوا عنه فی البصریات وأنّ کتاباتِه فی الضوء أوحَت اختراعَ النظّارات. (الحسین، 2005م: 511) باﻹضافة إلی العلوم الآنفة الذکر کذلک شَهدَ علمُ الفلسفة تقدماً بارزاً بفضل الترجمة، لقد نقلَ العربُ فلسفةَ الیونان إلی اللغة العربیة وشَرحوها ودَرَسوها وقد استطاعوا فی دراساتهم أن یوفّقوا بین الدین والفلسفة، فلم تتعارض فلسفةُ الیونان مع عقیدتهم فی التوحید بل کثیراً ما استُخدمت الفلسفةُ للدفاع عن التوحید وکان من ثمار ذلک أن قدّموا لغرب أروبا فکراً جدیداً نَجح فی أن یؤلّف بین الفکر الفلسفیّ وبین الدین. (کفافی، 1970م: 55) وقد اهتمّ فلاسفةُ العرب بفلسفة أرسطو ﺃکثر من اهتمامهم بأی فیلسوف آخر وإن جاء أفلاطون فی المرتبة الثانیة. واعتبروها مدرسةً واحدة وهذا لا یعنی أنهم لم یعرفوا سِوی هذین الفیلسوفین لا بل أنهم عرفوا معظمَ فلاسفة الیونان بما فیهم سقراط وحتی مذاهبهم الفلسفیة المختلفة، فإلی أرسطو نسبوا فنوناً کثیرة وعرفوا کثیراً من کتبه التی ترجموها إلی العربیة ویبدو أنّ تمیزه یرجع إلی المنطق السلیم الذی استخدمه وکان له عدّةُ کتب قد ترجموا بعضها وکانوا ینظرون إلیه بأنه المعلمُ الأول وسیراً علی منواله، استخدمَ فلاسفةُ العرب المنطقَ وطوّروه علی أیدیهم إلی علم بقصد استخلاص الحقائق واستخدموه فی جمیع علومهم. (التلیسی، 2004م: 305) والجدیرُ بالتنویه أنّ فلاسفةَ العرب تجاوزوا حدَّ اﻹفادة من أرسطو وأفلاطون وغیرهما إلی حدّ اﻹبداع وأنّ عملیةَ اﻹبداع هذه تمّت فی ﺇلمام وإحساس کاملین بمقتضیات المجتمع الإسلامیّ السیاسیة والفکریة. (إسماعیل، 1992م: 231) ولعلَّ أوّلَ فیلسوف عربی بالمعنی الدقیق لکلمة فیلسوف نلتقی به فی هذا العصر هو الکندیُّ یعقوب بن إسحاق وهو عربیٌّ أصیلٌ من قبیلة کنده ولذلک لُقِّب بفیلسوف العرب، (ضیف، العصر العباسی الثانی: 139- 138) وکان یُعَدّ مِن حُذّاق التراجمة وله ترجماتٌ عدیده. قد ألّفَ خمسین تألیفاً فی أکثر العلوم من بینها الفلسفة وحذا فی تآلیفه الفلسفیة حذو أرسطو. (زیدان، لاتا: 197-196- التلیسی، 2004م: 306) ویلیه أبو نصر الفارابی المتوفی سنة 339 هـ، أصله من فاراب ببلاد الترک لکنّه فارسیّ المنتسب وقد نشأ فی الشام واشتغل فیها وکان فیلسوفا کاملاً درسَ کلَّ ما دَرسه الکندیُّ فی الفلسفة والتحلیل وأنحاء التعالیم. (زیدان، لاتا: 197) قد قیل إنّه أتقنَ سبعین لغةً وتصانیفه فی الفلسفة علی نسق کتب أرسطو ومِن ثَمَّ أطلِق علیه المعلمُ الثانی حیث أنّ المعلّمَ الأولَ هو أرسطو وبفضل الفارابیّ وصلت فلسفةُ أرسطو إلی أقصی ما تصل إلیه من ازدهار وإن کان قد اهتمّ بفلسفة أفلاطون أیضاً. وبفضل شروح الفارابیّ للفلسفة الیونانیة وتحلیله لأبعادها تمکّن من تقریبها إلی الفکر الإسلامیّ ممّا لم تعرف قبل علی ید الکندیّ حتی سمّاه صاعد الأندلسیّ فیلسوف المسلمین بالحقیقة. (التلیسی، 2004م: 306). فضلاً عن الکندیّ والفارابیّ برعَ ابنُ سینا الطبیبُ فی علم الفلسفة أیضا ولا تقلّ شهرتُه فی الفلسفة عن شهرته فی الطبّ حتی إنّه عُرف بالمعلم الثالث بعد أرسطو والفارابیّ وله کتبٌ کثیرة فی فلسفة أرسطو وأفلاطون والأفلاطونیة الحدیثة- نسبة إلی أفلوطین- تشهد له بالبراعة فی صناعة الفلسفة وتطوّرها علی یدیه. ومن أشهر مؤلفاته الفلسفیة کتابُ الشفاء، وکتابُ الإشارات وتسعُ رسائل فی الحکمة وغیرها. (التلیسی، 2004م: 307) یتّضح مما ورد آنفا أنّ نقلَ العلوم الأجنبیة إلی اللغة العربیة قد تمّ فی ظِلّ الرعایة الواعیةالمستنیرة التی أسبغها الخلفاءُ علی هذه الحرکة فی العصر العباسیّ وبفضل التجاوب العظیم الذی لقیته بین علماء العرب ومفکّریهم وکان هؤلاء یمثّلون - بمجرد وجودهم – دورَ المذیب القوی للمؤثرات الأجنبیة التی تقبّلوها تمهیداً لهضمها وإبداع صور جدیدة منها. والحقُّ أنّ انتقالَ العلوم إلی بلاد العرب لَمِن أجلِّ الحوادث فی تاریخ الفکر الإنسانیّ. ففی هذا الصراع الحَضاریّ والتاریخیّ بین العرب والأمم المختلفة اکتسبت الشخصیةُ العربیةُ سماتٍ جدیدةً وقسماتٍ عدیدةً صلبةً کانت من أهمّ العوامل فی إذکاء الروح العلمیة ونشر الفکر العلمیّ علی أوسع نطاق مما أتاح للأمة العربیة أن تقوی وتستعلی بالعلم. إنّ ممّا یجدر ذکرُه فی حدیثنا عن الحرکة العلمیة، أنّ العلومَ التی أقبلَ العربُ علیها وعنوا بدراستها کثیرةٌ متنوعةٌ فهی تُصنَّف إلی علوم أصلیة وعلوم دخیلة فالعلومُ الأصلیةُ هی التی نَبتت فی جوّ الإسلام وتَرعرعت علی أیدی علماء العرب ثم جاءها اللقاحُ الخارجیّ فنَمَت وازدهرت وأمّا العلوم الدخیلة فهی تلک العلوم التی نَبَتت خارج بلاد العرب وعلی أید غیر عربیة ثمّ دخلت بلاد العرب فأخصبت فیها وارتقت وتطوّرت تطوّرَها الهائلَ العظیم بعد نقلها إلی اللغة العربیة.
النتیجة یُستنتج مما تقدّم أنّ حرکةَ نقل العلوم الأجنبیة إلی اللغة العربیة من أخطر الحرکات الفکریة التی شهدتها الأمةُ العربیة فی أزهی عصر من عصورها وأعظم عهد من عهود تطوّرها وارتفاع شأنها وأخصب مرحلة من مراحل تاریخها وأغناها بالفکر والمجد والحیاة. وممّا لا ریب فیه أنّ لهذه الحرکة نتائجَ ضخمةً نشیر إلی أهمّها فیما یلی: 1. تفاعلُ الفکر العربیّ والذوق العربیّ بأذواق وأفکار بلغت شأواً بعیداً من التقدّم والنضج، فنتج عن ذلک تَفتّحُ الأذهان، وتَفتّقُ القرائح، ویَقظةُ الوعی، وجُودةُ الفهم، وجُموحُ العقل، والإسرافُ فی التفکیر وتغیّرُ نظرة الإنسان العربی إلی نفسه وإلی محیطه مما جعله یُعیدُ النظرَ فی معنی الحیاة، والوجود والمصیر. 2. اتساعُ ثَقافة العرب بالعلوم، والمذاهب والفلسفات وإغناء تُراثهم العقلیّ بکثیر من المعانی والأفکار. 3. ظهورُ کثیر من العلماء الکبار الذین أخذوا التراثَ العلمیّ عن اﻷمم السابقة ثم بَرعوا وقاموا بالاکتشافات والاختراعات فی شَتّی المجالات العلمیة وخَلّفوا لأبنائهم وللإنسانیة تراثاً ضخماً فیه عصارة تجاربهم ونَشروه فی أروبا خلال الاحتکاک بین العرب والأجانب أثناءَ العصور الوسطی. 4. تأثّرُ اللغة العربیة بکثیر من اللغات وتأثیرُها فیها، لقد اغتنت وأغنت، وأخذت وأعطت فی حرکة دائمة مستمرة من التفاعل الفکریّ والتطوّر الحَضاریّ ونَمَت نُمُوَّها الطبیعیَّ وهضمت خلایاها القویة کل ما قَدَّم لها من ثقافات وما صُبَّ فیها من معارفَ وعلومٍ فَوَسِعتها جمیعاً واستوعبتها استیعاباً رائعاً عجیباً فاتسعت آفاقُها وانتشرت ظِلالُها وأصبحت لغةَ العلم والثقافة وأداةً طیعةً فی أیدی الباحثین والعلماء طوالَ عصور الازدهار. 5. استفادةُ العرب من المقاییس والمدارک الأجنبیة فی معالجة علومهم الشرعیة واللغویة وفی تنسیق الکتب وتبویبها وفی العنایة بالتعریف، والتنظیم، والتقسیم، والمقارنة والتسلسل فی عرض الأفکار، والآراء، والمذاهب والمعتقدات؛ وبالتالی فی صقل التفکیر، وکبح العشوائیه والارتجال فیه. والخلاصةُ لقد غَزَت الترجمةُ جوَّ الحیاة العربیة مِن أدناها إلی أقصاها وفَجَّرَت الطاقاتِ الکامنةَ والمواهبَ الخلّاقةَ. لقد کانت أداةَ التوعیة التی وَسَّعت آفاقَ الفکر العربیّ وفَتحت مجالاتِ الحوار والتفاعل بینه وبین الأفکار الأخری وهکذا انطلق العربُ لبناء حضارة عتیدة وعمران مُزدهر ونهضة فکریّة شاملة بعیدة المدی عَمَّت أبناءَ جمیع البلدان التی انبثّوا فیها وکانت علیهم خیراً وبرکة. | ||
مراجع | ||
أحمد، عبدالرزاق أحمد. 1991م. الحضارة الإسلامیة فی العصور الوسطی، مصر، قاهرة: دار الفکر العربیّ. الطبعة الأولی. إسماعیل، محمود. 1992م. تاریخ الحضارة العربیة الإسلامیة. الطبعة الثالثة. الکویت: مکتبة الفلاح. البستانیّ، بطرس. 1997م. أدباء العرب فی اﻷعصر العباسیة. دار نظیر عبود. التلیسیّ، بشیر رمضان والآخرون. 2004م. تاریخ الحضارة العربیة الإسلامیة. الطبعة الثانیة. بیروت: دار المدار الإسلامیّ. الحسین، قصیّ. 2005م. موسوعة الحضارة العربیة (العصر العباسیّ)، لبنان، بیروت: دار ومکتبة الهلال. خلیل النجار، فخریّ. 2009م. تاریخ الحضارة العربیة الإسلامیة. اردن، الطبعة الأولی. عمان: دار الصفاء. زیدان، جرجی. لاتا. تاریخ التمدن الإسلامیّ، الجزء الثالث. تعلیق حسین مؤنس. دار الهلال. زیدان، جرجی. 1996م. تاریخ آداب اللغة العربیة. الجزء الثانی. الطبعة الأولی. بیروت: دار الفکر. ضیف، شوقی. لاتا. تاریخ الأدب العربیّ (العصر العباسی الأول). الطبعة الثامنة. القاهرة: دار المعارف. ضیف، شوقی. لاتا. تاریخ الأدب العربیّ (العصر العباسی الثانی). الطبعة الثانیة. القاهرة: دار المعارف. عبد القادر محمد، ماهر. لاتا. التراث والحضارة الإسلامیة. لبنان، بیروت: دار النهضة العربیة. علیّ حسن، حسن والآخرون. 1986م. تاریخ الحضارة العربیة الإسلامیة. کویت: مکتبة الفلاح. الفاخوریّ، حنّا. 1427ق. الجامع فی تاریخ الأدب العربیّ. الطبعة الثالثة. ایران: منشورات ذوی القربی. فروخ، عمر. 1991م. من تاریخ الأدب العربیّ (العصر العباسیّ الأول). الجزء الثانی. الطبعة الخامسة. بیروت: دار العلم للملایین. القاسمیّ، علیّ: أثر الترجمة فی التفاعل الثقافیّ www.atida.org/makal.php?id=101 قدورة الشامیّ، فاطمة. 1997م. تطور تاریخ العرب السیاسیّ والحضاریّ من العصر الجاهلیّ إلی العصر الأمویّ. الطبعة الأولی. بیروت: دار النهضة العربیة. کفافیّ، محمد عبد السلام. 1970م. الحضارة العربیة طابعها ومقوّماتها العامة. لبنان، بیروت: دار النهضة العربیة. الکفریّ، مصطفی عبدالله. 2008م. جریدة الأسبوع الأدبیّ «الترجمة أحد أهمّ أدوات التواصل بین الشعوب». سوریة ، العدد 1130. www.awu-dam.org مرحبا، محمد عبد الرحمن. 1998م. المرجع فی تاریخ العلوم عند العرب. بیروت: دار العودة.
| ||
آمار تعداد مشاهده مقاله: 3,108 تعداد دریافت فایل اصل مقاله: 760 |