تعداد نشریات | 418 |
تعداد شمارهها | 9,997 |
تعداد مقالات | 83,560 |
تعداد مشاهده مقاله | 77,801,329 |
تعداد دریافت فایل اصل مقاله | 54,843,945 |
رثاء ابن الرومی بین الاتباع والابتداع (قصیدة رثاء البصرة نموذجا) | ||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
إضاءات نقدیة فی الأدبین العربی و الفارسی | ||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
مقاله 4، دوره 1، شماره 3، بهمن 1432، صفحه 89-67 اصل مقاله (177.42 K) | ||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
نوع مقاله: علمی پژوهشی | ||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
نویسنده | ||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
علی أصغر حبیبی | ||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
عضو هیئة التدریس بجامعة زابل – أستاذ مساعد. | ||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
چکیده | ||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
یعدّ الرثاء من أهم الأغراض الشعریة القدیمة وأصدقها، بل أصدق ضروب الآداب الإنسانیه علی الإطلاق وأکثرها صلة بالنفس البشریة والتصاقاً بالوجدان الإنسانی، وهو من أکثر أغراض الشعر استمراریّة وبقاءا؛ فلهذا وبسبب الصلة الوطیدة بین موضوع الرثاء والنفس البشریة، قلّما نجد شاعرا وهو لایقرض شعرا فی الرثاء، ولکن هناک بعض الشعراء قد برعوا فی قرض المراثی وهذا بسبب القدرة الذاتیة والحس الرهیف عندهم ولاننسی البواعث الخارجیة علی نفس الشاعر مثل الکوارث والمصائب الوارده علیه؛ وشاعرنا ابن الرومی أحد هؤلاء الشعراء البارعین فی قصائد الرثاء، وهو بصفته شاعر الرثاء حلت به کوارث جسام تحملها بصبر. ومن أجمل قصائده مضمونا وأسلوبا وجمالا، قصیدته "رثاء البصرة" والتی نظمها إثر الغارة الغاشمة التی واجهتها مدینة البصرة، حیث أثّرت هذه الفجیعة العظیمة تأثیرا کبیرا علی نفسیة شاعرنا وانعکست فی شعره. وقد سعی الکاتب فی هذا المقال أن یسلّط الضوء علی الجوانب المختلفة لهذه القصیدة (الموضوعیة - الأسلوبیة – المنهجیة - الفنیة و...) کنموذج شعری للشاعر تتجلّی فیه المیزات العامة لمراثیه. | ||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
کلیدواژهها | ||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الرثاء؛ ابن الرومی؛ البصرة؛ العصر العباسی | ||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
اصل مقاله | ||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الرثاء من رَثَیْت المیّتَ رَثْیاً ورِثاءً ومَرْثاةً ومَرْثِیةً؛ ورَثَّیْته مَدَحْته بعد الموت، وبَکَیْته، ورثَوْت المیّت أیضاً إِذا بکَیْته، وعدَّدت محاسنه وکذلک إِذا نظَمْت فیه شعراً؛ ویقال ما یَرْثِی فلانٌ لی أی ما یَتَوَجَّع ولا یُبالِی، وإِنِّی لأَرْثِی له مَرْثاةً ورَثْیاً ورَثَى له أَی رَقَّ له؛ وفی الحدیث أنّ أخْتَ شَدَّادِ بن أوْسٍ بَعَثَتْ إلیه عند فِطْرِه بقَدَحِ لَبَنٍ وقالت: یا رسول الله إِنما بَعَثْت به إِلیکَ مَرْثِیةً لکَ من طُول النهارِ وشِدّة الحرِّ، أی تَوَجُّعاً لکَ وإِشْفاقاً، من رَثَی له إِذا رَقّ وتوجع. (ابن منظور، لاتا: مادة رثی؛ ونفیسی، 1355ش: 3/1632)
ألوان الرثاء الرثاء أنواع متعددة، منها: 1. رثاء الأشخاص وهو یشتمل علی أقسام: أ. الرثاء الرسمی کرثاء الملوک والسلاطین والأمراء . ب. رثاء النفس وفی هذا النوع یدرک الشخص أن حیاته الدنیویة قد انقطعت وأن الناس والأقرباء سیسیرون بعد مواراة جثمانه سیرتهم الأولى. ج. رثاء الأهل وفی هذا النوع تبدو العواطف الدفّاقة الشجیّة ولاسیّما إن کان المرثیّ ابنا أو أمّا أو ... د. مراثی العلماء والأصدقاء، والعالم کالأب، والصدیق الحمیم أخ لم تلده الأم، ولهذا یتألم المرء لفقد أحدهما، ولا سیما إن کان الصدیق عالما من العلماء. 2. رثاء المدن المنکوبة: رثاء المدن لیس رثاءا محددا یرتبط بشخص وعائلة أو قبیلة، بل إنه مصیبة عظیمة تحل بالأمة ولها وقعها الألیم الممض، ولا سیما إن کانت النبکة تتعلق بالدیار المقدّسة والمحبوبة إلى القلوب مثل بیت المقدس و بغداد وبصرة ودمشق و... (ضیف، لاتا: 13 و30 و40 و47 و70 و80 ؛وطاهری، 2003م: 290-297) رثاء المدن فی الأدب العربی عرف الأدب العربی رثاء المدن غرضا أدبیا فی شعره ونثره؛ وهو لون من التعبیر یعکس طبیعة التقلبات السیاسیة التی تجتاح عصور الحکم فی مراحل مختلفة. ویُعدّ رثاء المدن من الأغراض الأدبیة المحدثة فی العصر العبّاسی، ذلک أن الجاهلی لم تکن له مدنٌ یبکی علی خرابها، فهو ینتقل فی الصحراء الواسعة من مکان إلى آخر، وإذا ألـمّ بمدن المناذرة والغساسنة فهو إلمام عابر؛ (الکفاوین, 1984م: 48) ولعل بکاء الجاهلی علی الربع الدارس والطلل الماحل هو لون من هذه العاطفة المعبّرة عن درس المکان وخرابه. وأما فی العصر العباسی فقد اعتنی شعراء هذا العصر بمثل هذا النوع من الرثاء؛ فمن النماذج علی ذلک رثاءُ الشعراء لبغداد عندما تعرضت عاصمة الخلافة العباسیة للتدمیر والخراب خلال الفتنة التی وقعت بین الشقیقین الأمین والمأمون؛ فمزقت البلاد، و نهبت بغداد، وهتکت أعراض أهلها، واقتحمت دورهم، ووجد السّفلة والأوباش، مناخًا صالحا لیعیثوا فسادا ودمارا؛ فکثر القتل والتدمیر والخراب حتی درست محاسن بغداد والتهمتها النیران، (المصدر نفسه: 67 و6) وفی هذا یقول الوراق:
ثم کان خراب البصرة علی ید الزنج سنة 257 من الهجرة؛ فأشعلوا فیها الحرائق وحوّلوها إلى أنقاض ودمار وعلی إثر هذا الدمار رثی بعض الشعراء هذه المدینة ومنهم ابن الرومی فی قصیدته المشهورة "رثاء البصرة". ومن النکبات الأخری التی انعکست فی شعر الشعراء العباسیین: نکبة بغداد الثانیة سنة 251ق، ونکبة المدینة سنة 271ق، ونکبة بغداد الثالثة علی ید البریدیین سنة 330ق، ونکبة دمشق أیام الفاطمیین سنة 411ق، و... .(حمدان, 2004م: 120و129و160و163) وأما فی الأندلس، فکان هذا الغرض من أهم الأغراض الشعریة، إذ کان مواکبا لحرکة الإیقاع السیاسی راصدا لأحداثه مستبطنًا دواخله ومقوّمًا لاتجاهاته. ومن هذه المراثی نستطیع أن نشیر إلی مرثیة بعض الشعراء لمدینة طلیطلة والتی سقطت فی أواخر القرن الخامس الهجری، فهی أول بلد إسلامی یدخله الفرنجة وکان ذلک مصابا جللا هزّ النفوس هزًا عمیقًا. ومن المدن التی أکثر الشعراء من رثائها وندبها حین استولى علیها الأسبان شاطبة، وقرطبة، واشبیلیة و... ومرثیة الشاعر ابن الأبار لمدینة بلنسیة من المراثی المشهورة فی الأندلس، ونونیة أبی البقاء الرندی تعدّ واسطة العقد فی شعر رثاء المدن وأکثر نصوصه شهرة وأشدها تعبیرا عن الواقع، (الکفاوین, 1984م: 190-191؛ وضیف, لاتا: 49) فهی ترثی الأندلس فی مجموعها مدنا وممالک:
وأما فی العصر الحدیث لقد تطوّر شعر الرثاء بشکل سریع ونحی نحو الرثاء الخالص والصادق فمن أهم هذه المراثی رثاء الشعراء لفلسطین وبیت المقدس وکذلک رثاؤهم لموطنهم کالعراق عند السیاب والبیاتی وسوریا عند أدونیس.
هویّة ابن الرومی (221 – 283ق/ 836 - 896م) هو علی بن العباس بن جریج أو جورجیس، الرومی، شاعر کبیر، من طبقة بشار والمتنبی، رومی الأصل، کان مسلماً موالیاً للعباسیین، وقد صرّح الشاعر بذلک قائلا:
وُلِدَ ابن الرومی ونشأ ببغداد وأخذ العلم عن محمد بن حبیب، وعکف علی نظم الشعر مبکراً، وقد تعرض علی مدار حیاته للکثیر من الکوارث والنکبات سلبت منه فرصة التفاؤل، فجاءت أشعاره انعکاساً لما مرّ به؛ وإذا نظرنا إلى تاریخ مآسیه نجد أنّه ورث عن والده أملاکاً کثیرة أضاع جزءا کبیرا منها بإسرافه ولهوه، وأمّا الجزء الباقی فدمّرته الکوارث حیث احترقت ضیعته، وغصبت داره، وأتی الجراد علی زرعه، وجاء الموت لیفرط عقد عائلته واحداً تلو الآخر، فبعد وفاة والده، توفیت والدته ثم أخوه الأکبر وخالته، وبعد أن تزوج توفیت زوجته وأولاده الثلاثة. مات شاعرنا المغموم فی بغداد مسموماً، قیل: دسّ له السمَّ القاسمُ بن عبید الله، وزیر المعتضد، وکان ابن الرومی قد هجاه. قال المرزبانی: لاأعلم أنه مدح أحداً من رئیس أو مرؤوس إلا وعاد إلیه فهجاه، ولذلک قلّت فائدته من قول الشعر وتحاماه الرؤساء وکان سبباً لوفاته.وقال أیضاً: وأخطأ محمد بن داود فیما رواه لمثقال (الوسطی) من أشعار ابن الرومی التی لیس فی طاقة مثقال ولا أحد من شعراء زمانه أن یقول مثلها إلا ابن الرومی.(بطرس البستانی، لاتا: 1/494؛ وفروخ، 1968م: 2/340؛ وابن خلکان، 1977م: 3/361؛ والعقاد، 1957م: 286 ـ 285؛ والمرزبانی، لاتا: 145؛ والمقدسی، 1971م: 286 ـ 285؛ والحاج حسن، 1985م: 251 ـ 238)
نظرة إلی رثاء البصرة نکبة البصرة، تذکر بسقوط الأندلس، وبانهیار بغداد تحت أقدام التتار، وبعموریة لا من حیث الأسباب والنتائج، ولکن من حیث القابلیة لموضوع ملحمی أو صدی لصراع بین الواقعیة وبین المصیر، ملاحظین أن فتنة الزنج التی أدّت إلی إلحاق الخراب والدمار بالبصرة لم تکن إلا نوعا من ألوان الثورة، ثورة أصحاب الأیدی العاملة ورفقاء العرق والنسب والجوع والحرمان والذلة والإهمال، فی وجه من تحکم وامتلأ وارتفع، فانفغرت هوة بین الفریقین جاء الزنوج لا لیسدّوها ولکن تعبیرا عن انفجار کان مکبوتا، انفجار أرعن، أعمی، لم یستطع أن یبنی أو یخطط، لأن فاقد الشیء لا یعطیه، وربما کان هؤلاء الهمج قد اکتفوا بملء البطون وستر الأجساد وهذا کان أکبر همّهم وإلا فما معنی الحیرة والتذبذب دون أن یتقرّر لمحاولتهم نهج یسار علیه. قد یکون لثورتهم مبرّر، قد یکونون مدفوعین بأید اختفت وراء الستار، و ربما کانوا عصابات لا همّ لهم إلا السلب والنهب، هذا جمیعه لا یعنینا الآن إنما یعنینا شیء واحد وهو حصیلة تلک الفاجعة وأثرها فی نفوس الناس و تثبیت ذلک الأثر فی شعر ابن الرومی؛ فقد خلّفت لنا حرکة الزنج کمّاً هائلاً من الأشعار والأخبار (حمدان، 2004م: 142-145) حیث عرض إلی نکبة البصرة کثیر من المؤرخین، کـ "ابن الطقطقی" و"ابن خلدون" و"ابن الأثیر" و"الطبری" وغیرهم... وبعد أربعة عشر عاما من المرابطة فی البصرة وواسط، تمکن العباسیّون من إفناء الزنوج وتخریب مدنهم التی بنوها، فمدح ابن الرومی"أبا أحمد الموفق ابن المتوکل" وکان یلقب بـ "الناصر" و"الموفق" بقصیدة یستعرض فیها الصورة التی سحق بها صاحب الزنج بعد أن اشتد أمره و تفاقم خطبه. (شلق،1960م: 324-325)
نثر القصیدة وحلّها[1] اکتسح الزنج البصرة فی سنة 257ق، ففتکوا بأهلها فتکا ذریعا وأظهروا من القساوة والوحشیّة ما یفوق حد الوصف . لقد صورّ ابن الرومی فی میمیته فجائع أهل البصرة بأنفسهم وأهلهم وأملاکهم وثرواتهم والعطاء الحضاری لمدینتهم التی لم تکن مدینة عادیة ولاتنحصر معاملها فی میدان دون آخر؛ وقد وقف عند ذلک کله مشیراً إلى ما أحدثته الفتنة، وانعکاس ذلک علی نفسه ووجدانه. وبحساسیته المرهفة الجیاشة الصادقة وأسلوبه التصویری الاستقصائی راح یرسم مشاهد الدمار واحداً بعد الآخر وصنوف التعذیب والتنکیل والقتل التی أتت علی سکان المدینة. (حمدان، 2004م: 152) فهو یقول: لم یعد للنوم فی عینی استقرار بعد أن ملأتها الدموع الغزیرة، بل أی نوم هذا بعد ما نزل بالبصرة ما نزل من أمور عظیمة، فلقد أصبحت تذکارات الفاجعة "تحیا" فی ضمیری علی أشلاء الراحة، وهل یملک الإنسان الذی شعت محبة الناس فی قلبه، هدوءا بعد ما حال بالبصرة؟! بل أنام بعد أن أزال الزنج جهرا حرمة مقدسات الإسلام. البصرة مدینة فی مکان ما من بقاع الأرض، ولم یعد شعبها واحدا من شعوب هذا العالم، بل أصبحت البصرة، کل مدینة وأصبح أی إنسان هلوع فیها کل إنسان فی الوجود، بل أصبحت البصرة "أنا" وأهلوها أهلی، فأنا أبکی نفسی وأهلی وأصبح الزنج عنوانا علی کل خطر داهم الإنسان منذ فجر الوجود، إنهم الموت فی أشنع أشکاله وأثقل خطاه. ثم یرجع الشاعر إلی البصرة و یقول: إن ما أصابها أمر یکاد لایتخیل ولا یظن، وإن ما رأیناه ونحن مستیقظون یکفینا أن نراه فی أحلامنا حتی یفزعنا وذلک لو کان حلما لکان أعظم فجائع الوجود، إنه إقدام الخائن اللعین علی تخریب البصرة وهو فی الوقت ذاته إقدام علی خرق حرمات الله متسمیا بالإمام إمعانا فی خداع الناس وهو أصل مخلوقات الله. وبالتالی، یبدأ ابن الرومی بالتحسّر علی أمور شتّی مناطة بالبصرة مستعملا عبارة "لهف نفسی" المتکررة کأنما یجرجر قطع روحه المستغیظة حزنا علی الوجود ویقول: أنت أیتها البصرة المنکوبة أتحسّر علیک یا أصل الخیرات، یا ینبوع المحامد، یا حامیة الإسلام، یا محط أنظار العالم، أتحسّر حسرة مثل النار المتقدة فی أعماقی، حسرة تجعلنی نادما، حسرة یطول فیها حزنی، حسرة ستبقی فی الصدور علی مرّ السنین ویا حسرتی علی العز الذی أذل. کیف لا؟ وأنت قبة الإسلام وزینة البلدان. تلک حالة البصرة وهل بعد ذلک من هناء راغد، وسعادة غامرة، فلننظر ماذا دهاها؟! بینما کان الناس فی هناءة وسعادة جاءهم هؤلاء لیستأصلوهم من الجذور ولقد دخلوا البصرة وهم لسواد بشرتهم کقطع اللیل المظلم سودا تجلببوا بالسواد، فکان لهذا اللون الحالک حق فی تمدید لون معاکس؛ أحاطوا بالمدینة من جمیع أطرافها وباغتوا القوم فلم یترکوا ولیدا أو شیخا أو غادة إلا وأوردوهم کأس الحمام، وأی فزع عظیم هذا الذی دبّ فی روح أهلها، فأبیضّت لشدته رؤوس الغلمان وکانت النار التی أشعلوها تحصدهم حصد الهشیم من کل ناحیة وصوب. هذا شارب بعض شرابه أیشرب الدم مکان المشروب، وهذا یطعم المرّ بعد الهناءة والأمان، وذلک یروم النجاة فیلقی البوار، وأخ یلقی أخاه صریعا فلا یستطیع له خلاصا، وأب یجد أعز أبنائه یتقلّب فی دمائه. لقد جاء هؤلاء الأوغاد أهل المدینة صباحا، فأذاقوهم مرارة یوم لشدته کأنه لم یترکوا قصرا إلا صیروه بلقعا، وروضة إلا آضت، وأنسا إلا استفحل وحشة وانقباضا. لقد اتخذ الزنوج من النساء خادمات لهم بعد أن کانت هذه النسوة یمتلکن الخدم و أخذت سهامهم تنال منهم. بعد ذلک یرجع إلی نفسه ویعبر عمّا یدور فی قلبه من الهمّ والحزن مشیرا إلی أننی حینما أتذکر ما فعله هؤلاء الزنوج، یشتعل صدری حقدا أی اشتعال، وتؤلمنی مرارة القهر والذلّ؛ ثم أخذ یشرح ویفصل ما جری علی البصرة من المصائب مستعینا بـ "ربّ" للدلالة علی الکثرة: ربّ بیت قد هدم علی رؤوس الأضعاف والأیتام بعد أن کان مأوی لهم،[2] رب قصر انفتحت أبوابه للطغام وکان علی الکثیرین صعب المرام، وکم من رجل غنی نهبوا ما یملک فترکوه فقیر، ورب شمل جامع أصبح شتتا. یخاطب الشاعر صاحبیه[3] ویقول: یا صاحبی مرا بالبصرة مرور المریض الذی أوشک علی الموت، (کأنه یرید أن یقول أنکما ستعانیان من المرض و الموت فور رؤیتکما لها علی هذه الحالة) واسألاها وستعدمان جوابا لها وکیف لها أن تجیب؟! أین الزحمات و الضوضاء فی أسواق صادرة واردة؟ أین قصورها ومبانیها؟ کل ذلک أصبح رمادا وترابا. هنا یدلنا الشاعر علی وجه من وجوه الحرب آنذاک فیقول: سلّط البثق وهو مقذوفات المنجنیق الملتهبة، ثم الحریق. فما الذی یبقی أمام هولهما؟ لقد تهدمت أرکان المدینة شر انهدام، لقد أقفرت تلک الدیار من الناس والحیوانات، ولا تری إلا أشلاء الأجساد ورؤوسا مهشمة ووجوها ملطخة بالدماء. لقد أذلت تلکم الرجال عنوة بعد طول عهدهم بالعزّ، وتری تلک الوجوه ذلیلة خاضعة والریاح تذر غبارها علیهم بعد عزّ، ثم یرجع الشاعر ویخاطب صدیقه قائلا: بل زورا المسجد وطوفا بساحته واسألاه وإن لم یجب عن المصلین وعمن کانوا یقضون اللیل فیه مصلین خاشعین لله وعن قاریء القرآن طوال عمره أین طلاب العلم؟ بل أین شیوخهم أصحاب العقول النیرة والعلم الغزیر؟ منهج القصیدة إذا کان شعر ابن الرومی عامّة فریدا فی منهجه الذی اختطه له، فکذلک هو فرید فی رثاء المدن التی أضفی علیها تجسیدا، یعدّ الأول من نوعه، من حیث الدقة فی الإحاطة بکل صغیر وکبیر؛ ومن أشهر مراثیه فی المدن، رثاؤه للبصرة وتصویر المذبحة التی قادها "علی بن محمد "علی رأس الزنج، فأتی علی المدینة کلها. (الحر، 1992م: 177) بلغ ابن الرومی فی قصیدته هذه أفق الحریة، ومضی منعتقا من قیود المدح والهجاء، ومن نقمته علی المنعمین و شهواته للطیبات من المطعومات والغانیات، لأنه بلغ فی مداه الفنی الخاص، یسبح فی نعمة الجمال، فلا یعلق به ذر المشانع الآثمة، فهو لکل خیر وحق وبهاء؛ إنه خلص من الواقع إلی عالم الصورة؛ یذکر ابن الرومی محارم الإسلام، ویعد ذلک الحدث بعیدا عن التصدیق حتی فی الأحلام ولکنه حدث فماذا یفعل؟ یختلف رجل الفن عن غیره إزاء الأحداث فی أنه لایشرح ویمنطق ویحاکم کما یفعل الخطباء، ولایسرد الحوادث کما یفعل المؤرخ، أو یتربص کما یفعل السیاسیون، ولا ینفر الجیوش سواء نجح أم لم ینجح کما یفعل رجل الحرب، ولایقف کالبلهاء مکتوفی الأیدی فاغری الأفواه أو یولی کما یولی الجبناء؛ بل رجل الفن الأصیل أول ما یقوم، بعد أن یفلت من ربقة الصدمة الأولی، إلی أدواته، وألواحه، ووسائله لیثبتها، وهکذا فعل ابن الرومی، أخذ یبین بأسلوب الشاعر المصور ما حل بالبصرة، بعد أن بین منزلتها فی صنع الحضارة؛ فالبصرة موضوع فکری وابن الرومی مفکر موهوب؛ فهو یأسی جزعا للمقدار المشترک بینهما من حیث إنّهما کائنان فی کائن حی واحد. (شلق، 1960م: 332 -333) لم یستطع ابن الرومی أن یتخلص من أسلوب "أبی تمام" فی قصیدة عموریة. إن منهج ابن الرومی فی قصیدته هذه یشبه أسلوب الإمام علی بن أبی طالب (ع) فی التهویل علی السامعین خطابیا وتفجیع الحادثة کل تفجیع، ثم دعوة الناس إلی أن یثأروا وینتقموا لله لا للبشر ویتدارکوا قصورهم قبل أن یتم الفوات. هذه القصیدة تحاول السیطرة والتدرج الذکی البارع واللف والدوران العقلیین للسیطرة علی الجمهور بوصف مواطن الفاجعة، وکذلک هذه القصیدة سمفونیة تضج فیها عدة أوتار؛ ومن جهة أخری هذه القصیدة تنزع إلی أسلوب الخطابة إقناعا، وتفصیلا وبراعة حیلة. فابن الرومی فی هذه القصیدة أخذ یعرض مشاعره توّا بعد أن حدّد المتهم صاحب الزنج بوصفه "باللعین" ولا نخال أن شاعرا شرقیا أو غربیا بلغ مبلغ "ابن الرومی" فی عرض الفاجعة ثم نقلها إلی القاریء. ( نفس المصدر: 326-327) فقد رثی البصرة لهفة صادقة علی جمالها المهدم وعجب من الناس کیف یرتاحون إلی مثل ذلک الانتهاک ولایثورون ولاینتقمون له، وحضّهم بلهجة فیها حمیة وشدة وفیها قوة مؤثرة وهکذا نلمس فی رثاء البصرة نفسه الحساسة فی تشاؤمها من الحیاة وأسفها علیها. (الفاخوری، 1377ش: 533) أسلوب القصیدة أسلوب ابن الرومی فی شعره (وفی هذه القصیدة خاصة) أقرب إلی أسلوب النثر، فمن تطویل القصائد من غیر کلل، ومن عنایة بالطرق المنطقیة، واستخدام الروابط العقلیة، وخروج عن السنة الشائعة بین نظام العرب فی جعل البیت وحدة مستقلة؛ وقد أبقی ابن الرومی البیت مستقلا عما سواه من حیث الأعراب، أما من حیث المعنی فهو جزء من کل لا یتم إلا فی أبیات متعددة. (نفس المصدر: 546) وقد تجلّی تأثره بالأسلوب القرآنی وصوره فی أکثر من موضع، کقوله:
الخصائص الفنیّة للقصیدة 1. التکرار والتفصیل: کما نعلم أنّ ابن الرومی رجل التفصیل والتکرار وبسبب تفصیلاته، نلاحظ أن شعره أقرب إلی أسلوب النثر وهذا الأمر یلفت نظر کل قاریء أو سامع عندما یسعترض قصیدة رثاء البصرة. نعم عندما نلقی النظر علی هذه القصیدة نشاهد أن ابن الرومی یکرر المعانی ویقوم بعملیة التفصیل، کما نری أنّه یکرّر الألفاظ و یعیدها کثیرا، مثل: "أی" و"لهف نفسی" و"أین" و"من" ومع کل لفظ مکرر، معانی مکررة فی إطار واحد. کما یقول "الأستاذ العقاد": «إن هذا الاستقصاء کان سببا من أسباب الإطالة و لکنه لم یکن کل السبب ... یوقعه الاستطراد – الاستغراق فی المعنی- تارة فی إهمال اللفظ، وتارة أخری فی الأسالیب النثریة التی ینفسح غیرها للإسهاب والإطناب والتفصیل والمراجعة والاستدراک، فینظم فی هذه الحالة وکأنه ینثر، إلا أنه لا یخلو من الشاعریة ولا یسف إلی طبقة المتن المنظوم و"الألفیات" التی لیس فیها من الشعر إلا أنها موزونة مقفاة.» (العقاد، 1957م: 316 و324) نعم، ثمة ظاهرة التکرار فی هذا الوصف؛ فالشاعر فی مبالغته وتدرجه بالمعنی، صورة بعد صورة، إنما هو یکرّر فی الآن ذاته؛ فالمبالغة إذن مبالغة تکراریة، والتدرج تدرج تکراری، یستعید المعنی ذاته، بوسعه، یفصله ویعلله ویبالغ فیه، أو کما یقول "ابن رشیق": «یقلبه ظهرا علی عقب حتی یمیته.» (الحاوی، 1987م: 187) یتکلم شاعرنا فی مستهل کلامه وفی الأبیات الخمسة الأولی عن الفاجعة بشکل عام، وعن تأثیرها علی نفسه بل علی نفس کل إنسان ذی شعور وعاطفة، ویذکر بأن انشغال عینه بالدموع وانشغال نفسه بالهموم والأحزان من هذه الکارثة جعله لاینام، کارثة تکاد لا تتخیل ولا تظن. وبهذا یأتی الشاعر باستهلال قوی من حیث عرض الحالة الذاتیة التی انغمر فی جوها،ومن ثمّ ینتقل إلی التعبیر عن تفصیلات الموضوع، مما أصاب البصرة من الهموم والحرق والعدم والحزن والهم والتفجع والهلاک، بعدما کانت علیه من العمران والخیر والعزة والسعادة و... وبالتالی، نشاهده یکرر المعانی ویفصلها، وهذا مع وصف دقیق فی تفصیل الموضوع، مصحوبا بالتحسر والتلهف علیها وعلی أهلها حسرةً کالنار المتقدة فی أعماق الشاعر، حسرةً تجعله نادما وستبقی هذه الحسرة فی الصدر علی مر السنین.
فالشاعر یأتی بـ "لهف نفسی" خمس مرات متوالیات فی القصیدة لیخلق جوا خاصا توحی به کلمة "لهف" وهی تشیر إلی الخشیة والحسرة، الخشیة من تفاقم الخطب، ومن المصیر الراعب والحسرة علی ما حصل من فواجع. إن هذا التلهف المتلهب فی زفرات شاعرنا المتأججة بنار الأسی تصور فتنة تثلم مدینة سمحاء، یرمز بها إلی الإسلام الذی ترفع شعاره، بحصانة أبناءها وحصافته؛ وبهذا التلهف قد سجل الشاعر هذه الثورة الزنجیة بنفس طویل، وإن ضن بتقدیره التاریخ، فإن علی الفن والأدب، أن یعرف له القدر. (الحر، 1992م: 187) فهناک سؤال یطرح نفسه؛ ما هو السبب الرئیسی لهذه التلهفات والحسرات للشاعر؟ فابن الرومی بنفسه یقوم بالإجابة عن السؤال فی هذه القصیدة بأجمعها، یعنی إذا نظرنا إلی أی بیت منها نجد الجواب، لأنه کلّما یتکلم عن الکارثة یقوم ببیان ما کانت علیه هذه المدینة، قبل الهجوم، من الخیرات علی أسلوب التضاد والمقابلة. فعلی سبیل المثال، نراه فی البیت التاسع إلی الحادی عشر یخاطب البصرة قائلا: "یا معدن الخیرات" و"یا قبة الإسلام" و"یا فُرضة البلدان" هذا کله یؤکد علی أنه کانت لها مکانة مرموقة بین البلدان آنذاک، لأنه لو کانت البصرة مدینة تجاریة أو ذات موقع خاص لما رأینا ابن الرومی ینخلع قلبه رعبا وحزنا لما حل بها، فهی مرکز فکری هام من مراکز العالم الإسلامی المتحضر، کثیراً ما تفوقت مدارسها علی مدارس الکوفة وبغداد وقرطبة، بل هی کانت بمثابة الینبوع استقت منه الحواضر فی العالم الإسلامی الأخری، وقیمتها أنها قبة الإسلام فکریا وأحد مصادر الثروة والغنی الهامة وثغرا بحریا فریدا وذات مقام عزیر شامخ ومرکز سیادة مرموق. (شلق، 1960م: 329) فلهذا، نری أن البصرة فی رثائه، حاضرة ممجدة السیرة، أصابتها نکبة لم یشهد قبلها العرب مثلها فی حروبهم؛ ویعمل الشاعر علی تجسید المدینة بساکنیها، فکل فعل یقع علی المواطنین، إنما یصیب المسکون والساکن معا، فالحجر والبشر، کل لایتجزأ؛ إذ إن تخریب البناء یشرّد أهله ویذهب به فلا البیت یبقی ولا من کان بداخله یظل فیه. فهذا ما رمی إلیه شاعرنا حین أکمل المأساة بقوله الذی جعله یشیر إلی المدینة من خلال أهلها ویؤکد علی هذا التفجع بتردید "کم" الخبریة ما یقرب من ثمانی مرات، وذلک لیصوّر الفاجعة بآثارها الحسیة:
وبعد ذلک توجّه نحو حرمات المسلمین وأخذ یشرح حالتهن بتفصیل معیدا کلمة "من" الاستفهامیة، لکی یحض المسلمین علی الدفاع عن شرفهم وحرمتهم:
وبالتالی، یقوم الشاعر بالمقابلة بین حالة البصرة قبل الهجوم وبعده واصفا إیاها فی کلتا حالتیها وهو یشرح بالتفصیل، التجارة الرابحة والبیوت العامرة بالسکان والنعم الکثیرة والقصور الضخمة والدور الرائعة والأبنیة الشامخة والأسواق المفروشة بالرخام والسفن الذاهبة والآیبة من البصرة وإلیها والمساجد العامرة الکثیرة المملوءة بطالبی العلم وأصحاب العقول النیرة والعلم الغزیر... کما شاهدنا أن شاعرنا استوعب بشعره أرجاء البصرة بأکملها وما ترک شیئا إلا وقد وصفه. نعم إن ابن الرومی یأتی فی قصیدته بالموضوعات الشعریة المتعددة والصور الفنیة والمسحة المتناغمة فی أسلوب القصیدة بناء وشکلا. (شلق، 1960م: 340) وقد جعل ابن الرومی المرحلة الأخیرة من قصیدته وصفا لتهدیم القصور وتحریق أرکانها التی کانت قبل تلک الهجوم الشرس علی عزة بنیان قوی، ولقد صارت تلک القصور، وهاتیک الدور تلالاً من الرکام والتراب بعد أن هدمها الزنج. یقوم الشاعر بالتفصیل واستیعاب تمام جوانب الهدم فی البصرة مشیرا إلی الأدوات الحربیة التی استفیدت فی هدم البصرة ومنها البثق وهو أدات حربیة تشبه المنجنیق ترمی منها الرصاصات الناریة، ویقول لقد تحکم الحریق والدمار بأبنیتها فتهدمت أرکانها شر انهدام. 2. المیولة إلی الوصف: مما یسترعی انتباهنا فی شعر ابن الرومی عامة وهذه القصیدة خاصة، هو میولة الشاعر إلی الوصف واهتمامه بترسیم جوانب الشیء بأکملها «لعل انطواء الشاعر علی نفسه جعله یمیل إلی الوصف أبدا وقد خالط الوصف أغراض شعره بجمیعها، فإذا هجا فإنه یصف مهجوه وإذا رثا فإنه یصف المیت والمرثی وکذلک فهو إذا تغزل فإنما یصف حبیبته. (الحاوی، 1987م: 180-181) 3. النزعة الجاهلیة و الواقعیة الحسیة: من المیزات الأخری التی تلفت النظر فی هذه القصیدة، هو انحیاز الشاعر إلی زملائه الجاهلیین فی بعض الأسالیب والمعانی؛ فهو فی البیت التاسع والثلاثین والبیت الأربعین حذا حذو الجاهلیین فی الندا، فعندما أراد أن ینقل إلی السامع صورة محسوسة تتملاها وسائل الإدراک بوضوح، طرح باب التعبیر الجاهلی بقوله "عرجا صاحبی" ثم "فاسألاها" ویقول:
فهذا أسلوب جاهلی معروف وکثیر الاستعمال ویذکرنا بقول "امرئ القیس":
وبعد ذلک، یمیل الشاعر إلی استعمال کلمة "أین" المتکررة للسؤال عن البصرة العامرة بالسکان بما فیها من القصور والدور والفلک مائلا إلی الشعراء الجاهلیین فی السؤال عن منازل الحبیبة العامرة ورسمها بین الدخول فحومل وحدوج المالکیة وخلایا السفین والأثافی و...فیقول:
ثم یتجه نحو هذه المدینة المهدمة بعد الهجوم، وهذا الأسلوب أسلوب جاهلی أیضا، فکما أن الشاعر الجاهلی یتذکر منازل الحبیبة ثم یرجع إلی الأطلال والدمن وما علیها من الهدم والفنا، فهذا ابن الرومی أیضا، یمیل إلی هذا الأسلوب فی أطار جدید وحضارة جدیدة، فإنه یبز الشعراء جمیعا بما امتاز به عن قدرة علی التصویر فهو أبدا منساق وراء ملکته الغالبة. (شلق، 1960م: 235) فهو یقول:
لایستطیع القاریء أن یتخلص من جو الفاجعة، لأن الشاعر نقلها إلیه نقلا أمینا بارعا فلا یهمّه بعد ذلک أن یوجد فی عصر ابن الرومی أو لایوجد أن یشهد نکبة البصرة أو لایشهد. انظر فی کلمة "بائنات" بالنسبة إلی الأرجل والأیدی، ذلک تجسید واضح مؤثر کأنک وأنت تجاوزت مئات السنین تری أمامک ما وصفه الشاعر، الأیدی والأرجل مفصولات بعضها عن بعض وقد انتثرت بینها قطع من الجماجم، "أفلاق هام". (شلق، 1960م: 335-336) 4. الصور القویة الإیحاء: تتلاحق أبیات ابن الرومی مصورة للمتلقی تصویرا قوی الإیحاء یعتمد علی الحساسیة الفنیة المستقلة بالإضافة إلی الاعتماد علی العقل. 5. الاهتمام بالمعنی أکثر من اللفظ: لم یکن ابن الرومی الذی شذ فی سواد شعره، لیقلد فی فنه؛ وقد امتاز عن جمیع سالفیه، بقلة اهتمامه للصیاغة اللفظیة وجمالات البدیع المموهة الذائعة فی عصره؛ فهو یهتم قبل کل شیء لإبراز الإحساس فی أدق تفاصیله وابتکار الصور والمعانی الجدیدة واستقصائها إلی أبعد غایاتها. 6. میزات ألفاظه وقلة الإتیان بالصناعات الللفظیة: ألفاظ هذه القصیدة تحتوی علی الزخم الشعری، و الشاعر یضعک توا بایحائیة ألفاظه المباشرة فی الجو الکامل الذی ارتضاه هو نفسه، غیر مستعین بک إلا بوصفک طرفا ثانیا تلقائیا لتجربة فنه. (شلق، 1960م: 351) أما لفظه من حیث هو صحیح أو خطأ، فلفظ عالم النحو مطلع علی الشواهد العربیة ولاسیما فی القرآن؛ من هنا لم یذکر "الأشیاء" إلا ممنوعة من الصرف وهی مصروفة فی قول بعض القیاسیین من النحاة لأنها جمع شیء. (الحر، 1992م: 330) إنه لم یجعل اللفظ شغلا شاغلا فی صناعته، ولم یحفل به إلا لأداء المعنی الذی یریده ومن ثم لم ینشغل باللفظ ولم یبد علی معناه أثر الجهد فیه، وبهذا سلم من لعب الجناس اللفظی والمحسنات المموهة مع أنه نشأ فی العصر الذی نشأت فیه هذه المحسنات. (نفس المصدر: 324- 325) ولاریب أن فی شعر ابن الرومی آثارا من البدیع، کالجناس و الطباق وإن فی بدیعه أحیانا بعض الإسراف؛ إلا أن بدیع ابن الرومی مصادف لامنشود، یعرض للشاعر فلایری بأسا من الأخذ به أو لایعرض فلا یسعی فی طلبه إلا نادرا لإبراز معنی دقیق. (الفاخوری،1377ش: 525) کما قلنا إنّه من بین الصناعات البدیعیة التی اعتمد علیها الشاعر صنعة الجناس والطباق ومراعاة النظیر، ومما یلفت النظر فی هذه القصیدة هو اهتمامه بالطباق قصدا لبیان حالة البصرة قبل الهجوم وبعده وزیادة حدّة التفجع وشدة الألم، فیطابق بین الحسن والسیء، والمحبوب والقبیح، فیقول فی البیت الثانی عشر:
فالتضاد هنا بین "العز" و"المستضام" وإیهام التضاد بین "جمع" و"المتفانی". وهناک العدید من الأبیات التی وظّف فیها الشاعر الطباق للتعبیر عن مشاعره تجاه هذا الحدث المؤلم وإعطاء صورة واضحة عنه؛ وقد تجلّی ذلک بوضوح فی الأبیات التالیة من هذه القصیدة: فی البیت الخامس (مستیقظ، ورؤیا، ومنام) والبیت الثامن عشر (خلف، أمام) والبیت الثانی والعشرین (أب، بنین) والبیت الرابع والثلاثین (أرخص، غلا) والبیت السابع والثلاثین (ذی نعمة، محالف الإعدام) والبیت الثامن والثلاثین (باتوا أجمع شمل، ترکوا شملهم بغیر نظام) والبیت التاسع والأربعین (الهوان، التبجیل، الذل، الإعظام) والبیت الواحد والخمسین (باکیات، ابتسام) والبیت الثالث والخمسین (اسالاه، الجواب) والبیت الخامس والخمسین (فتیان، أشیاخ). ومن المحسّنات المعنویة التی اعتمد علیها الشعر فی هذه القصیدة مراعاة النظیر؛ فجاء ذلک فی البیت الأول (مقلة، الدموع) والبیت الرابع عشر (المدلهم، اللیل،الظلام) والبیت الواحد والثلاثین (إماء، خدام) والبیت الخامس والثلاثین (بیت، مأوی، ضعاف، ایتام) والبیت الثانی والأربعین(منشئآت، فلک، بحر، أعلام) والبیت الثالث والأربعین(قصور، دور) والبیت الرابع والأربعین(رماد، تراب، تلال، رکام) والبیت السابع والأربعین (أیدی، أرجل، هام) والبیت التاسع والأربعین(هوان، ذل، تبجیل، عظام). وأما، بالنسبة إلی الصناعات البیانیة، فقد کان الاعتماد علیها قلیلا؛ ففی البیت الرابع عشر مثلا، عندما أراد الشاعر أن یصوّر لنا شدّة سواد قلوب الزنوج ووجوههم شبّههم باللیل ووصف اللیل بالمدلهم، لیبالغ فی خبثهم، فیقول:
وفی البیت السابع عشر، یقول:
وکذلک فی هذا البیت قام الشاعر بتوظیف الکنایة (حق منه تشیب رأس الغلام) لیشیر من خلال ذلک إلی شدة هذا الفزع العظیم، هذا الذی دب فی روح أهل البصرة فابیضت لشدته رؤوس الغلمان. وأما فی البیت الرابع والعشرین والذی یقول فیه:
ففی هذا البیت یعتمد علی الکنایة للتعبیر عن قتل الأطفال فی مهدهم علی ید الزنوج وهو أبشع قتل. وفضلا عن ذلک، نستطیع أن نعدّ من البیت التاسع عشر إلی البیت السادس والعشرین، کلها کنایة عن شدة المصیبة والألم والدمار. 7. وزن القصیدة: الوزن التفصیلی علی "فاعلاتن مستفعلن فاعلاتن" وهذا الوزن مناسب لقصائد الرثاء ویساعد علی تنغیم النفس الشعری فینتج عن ذلک الاتحاد بین الصورة والإیقاع فتکون القصیدة کموج یتلاحق فتؤثّر تأثیر بالغا علی المتلقی یدرک من خلاله هول المصاب کما یرید أن یصوّره الشاعر. 8. صناعة ابن الرومی الخاصة: نلاحظ فی صناعة ابن الرومی الإکثار من المشتقات کأسماء الفاعل والمفعول والزمان والمکان وصیغ التفضیل والمبالغة والصفات المشبهة وکذلک التنویع فی استخدام المصادر بحیث لم نلاحظ مثلها فی شعر غیره ونحسب أن الافراط فی استخدام المشتقات هو الوسیلة التی لا بد منها للشاعر العربی الذی یرید أن یتناول المعنی من جمیع نواحیه، ویتدرج به فی مختلف درجاته، إذ لیس فی اللغة العربیة ظروف کالظروف التی یشتقها الأفرنج من معظم الصفات والأسماء بإضافة صغیرة فی أول الکلمة أو فی آخرها فتدل علی المعنی المقصود، و تدل کذلک علی اختلاف الدرجة والقوة فی أداء ذلک المعنی، فإذا أراد الشاعر العربی أن یلتفت إلی هذه الفروق، فلا بد له من الاستعانة علی ذلک بالمشتقات والأفعال المزیدة کما کان یفعل ابن الرومی، إلا أنه کان یسرف فی جمعها معا حتی تنبو بها الأذن فی بعض الأبیات. (العقاد، 1957م: 323) ومنها فی قصیدة "رثا ء البصرة":
أما لغته، فهی سهلة طبیعیة، غنیة، دقیقة، بریئة من الابتذال وبعیدة عن الجزالة والترفع وهی من ثم أقرب إلی لغة النثر البلیغ. (الفاخوری، 1377: 546)
9. الوحدة العضویة: من العلامات البارزة فی هذه القصیدة (وهی المیزة العامة لشعره) هی طول نفسه وشدة استقصائه المعنی واسترساله، وبهذا الاسترسال خرج عن سنة النظامیین الذین جعلوا البیت وحدة النظم، وجعلوا القصیدة أبیاتا متفرقة یضمها سمط واحد، قلّما یطرد فیه المعنی إلی عدة أبیات وقلّما یتوالی فیه النسق توالیا یستعصی علی التقدیم والتأخیر والتبدیل والتحویر، فخالف ابن الرومی هذه السنة وجعل القصیدة کلا واحدا لا یتمّ إلا بإتمام المعنی الذی أراده علی النحو الذی نحاه. (الحر، 1992م: 316)
النتیجة إن ابن الرومی وإن لم یشغل نفسه طویلاً بالرثاء بل یمکن أن نقول إن شعر الرثاء عنده قلیل بالنسبة لحجم دیوانه إلا أن رثاءه صادق اللوعة عمیق التفجع، یأتی الخیال لیسعف العاطفة بأوصافه فیرسم معالم الفجیعة، ویلونها بألوان الأسی القاتمة، وتلح النزعة العقلیة فی رثائه ووجودها قد یکون مقبولاً فی شعر الحکمة والمدح والفخر، ولکنه أمر حدیث أن یتربع علی قسمات قصیدة الرثاء عند ابن ابن الرومی. فیما یلی نأتی بأهم نتائج البحث: 1. من حیث اللفظ؛ الألفاظ فی هذه القصیدة کنموذج من شعر شاعرنا واضحة لا لبس فیها ولا غموض تستجیب لمنازع عصر ابن الرومی. 2. من حیث التلاؤم بین اللفظ والمعنی؛ لقد وفّق الشاعر فی ذلک بصورة فنّیة فأصبح اللفظ فی خدمة التعبیر عن المعانی والتجارب الشعوریة والشعریة للشاعر وهذا بشکل لا یثور أحدهما (اللفظ والمعنی) علی الآخر. 3. کما نعلم؛ لقد وصلت الکتابة فی العصر العباسی الثالث إلی أوج مجدها، ففرضت علی الشعر أسالیبها التی تتوخی الوضوح والتسلسل والاعتماد علی رکائز منطقیة، لذلک نجد سهولة البینة فی شعر ابن الرومی الذی هو مظهر لذلک التأثیر. 4. من حیث الوصول إلی الغایة، تجد القصیدة من روائع الأدب العربی والأدب الإنسانی تتلاقی مع الخطوط العالیة التی تعبر عن أصفی إطلالات الإنسان من مشارفه البعیدة فی صعوده إلی الأعالی.
6. من حیث الصور المستعملة فی القصیدة؛ کل ما أورده الشاعر بشأن المدینة یغطی صورا تهویلیة مثیرة متتابعة، یزجیها بما وهب من براعة تساعده علی أن یستل الرحمة من قلوب من یعطف علی فتنة الزنوج لمطالبتهم بالحریة. | ||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
مراجع | ||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
القرآن الکریم. ابن خلکان، أبی العباس شمس الدین احمد بن محمد بن ابی بکر. 1977م. وفیات الأعیان وإنباء أبناء اهل الزمان. شرح وتحقیق: إحسان عباس. بیروت: دار الصادر. ابن الرومی، علی ابن عباس. 2002م. الدیوان. شرح الأستاذ أحمد حسن بسج. بیروت: دارالکتب العلمیة. ابن منظور، جمال الدین محمد بن مکرم الأنصاری. لاتا. لسان العرب. طبعة مصورة عن طبعة بولاق معها تصویبات وفهارس متنوعة ـ الدار المصریة للتألیف والترجمة. البستانی، فؤاد أفرام. 1379ش. المجانی الحدیثة. تهران: انتشارات ذوی القربی. البستانی، بطرس. لاتا. دائرة المعارف. بیروت: دارالمعرفة. حاج حسن، حسین. 1987م. أعلام فی العصر العباسی. المؤسسة الجامعیة للدراسات والنشر والتوزیع. الحاوی، أیلیا. 1987م. فن الوصف. بیروت: دار الکتاب اللبنانی. الحر، عبد المجید. 1992م. ابن الرومی. بیروت: دار الکتب العلمیة. حمدان، محمد. 2004م. أدب النکبة فی التراث العربی. دمشق: من منشورات اتحاد الکتاب العرب. الرومی، یاقوت. 1923م. معجم الأدباء وطبقات الشعراء. تصحیح: د.س.جرجیلوث. الهند: المطبعة الهندیة. شلق، علی. 1960م. ابن الرومی فی الصورة والوجود. دار النشر للجامعیین. ضیف، شوقی. لاتا. فنون الأدب العربی(الرثاء). القاهرة: دار المعارف. طاهری، علی. 2003م. الرثاء فی الأدب العربی. مجلة آفاق الحضارة الإسلامیة. العدد الحادی عشر. السنة السادسة. العقاد، عباس محمود. 1957م. ابن الرومی حیاته من شعره. القاهرة: مکتبة السعادة. الفاخوری، حنا. 1377ش. تاریخ الأدب العربی. تهران: مکتبة توس. فروخ، عمر. 1968م. تاریخ الأدب العربی. بیروت: دارالعلم للملایین. الکفاوین، شاهر. 1984م. الشعر العربی فی رثاء الدول والأمصار حتى نهایة سقوط الأندلس (رسالة لنیل درجة الدکتوراه فی الأدب العربی) جامعة أم القری. کلیة اللغة العربیة. مرزبانی، أبی عبدالله محمد بن عمران بن موسی. لاتا. معجم الشعراء. تحقیق: عبدالستار أحمد فراج. دمشق: منشورات مکتبة النوری. معلوف، لوئیس. 1423ق. المنجد فی اللغة. تهران: انتشارات ذوی القربى. مقدسی، أنیس. 1971م. أمراء الشعر العربی فی العصر العباسی. بیروت: دارالعلم للملایین. المقری، محمد عبد الغنی حسن التلمسانی. 1988م. نفح الطیب من غصن الأندلس الرطیب. المحقق: إحسان عباس. بیروت: دار صادر. نفیسی، علی أکبر. 1355ش. قاموس نفیسی (ناظم الأطباء). مقدمه محمد علی فروغی. تهران: مطبعة خیّام. | ||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
آمار تعداد مشاهده مقاله: 2,602 تعداد دریافت فایل اصل مقاله: 1,101 |