تعداد نشریات | 418 |
تعداد شمارهها | 9,997 |
تعداد مقالات | 83,560 |
تعداد مشاهده مقاله | 77,801,148 |
تعداد دریافت فایل اصل مقاله | 54,843,811 |
عناصر الإیقاع ودلالاتها فی "قصیدة الانتفاضة" لسمیح القاسم | |||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
إضاءات نقدیة فی الأدبین العربی و الفارسی | |||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
مقاله 4، دوره 6، شماره 23، اسفند 1437، صفحه 109-75 اصل مقاله (318.65 K) | |||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
نوع مقاله: علمی پژوهشی | |||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
نویسندگان | |||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
بهنام باقری* 1؛ علی سلیمی2 | |||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
1دانشجوی دکتری زبان و ادبیات عربی، دانشگاه رازی، کرمانشاه، ایران | |||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
2استاد گروه زبان و ادبیات عربی، دانشگاه رازی، کرمانشاه، ایران | |||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
چکیده | |||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
تعتبر الموسیقی من أهم أداة بنائیة یقوم علیها البناء الشعری وهی عنصر من أبرز العناصر التی تمیّز الشعر من سائر الفنون الأدبیة. والعنصر الإیقاعی تکمن فیه الطاقة التعبیریة والدلالیة وله أهمیة بارزة فی خلق الجو العام للقصیدة وتماسک بنیتها. ستحاول هذه الدراسة أن تتلمس البنیة الإیقاعیة وعناصرها وآثارها فی "قصیدة الانتفاضة" للشاعر سمیح القاسم وهی قصیدة تتمیز بإیقاعات موسیقیة متنوعة تجعل المتلقی یستعذبها وتنقله إلی حالة الشاعر الشعوریة. وفی هذه الدراسة ندرس تشکیل البنیة الإیقاعیة فی القصیدة من خلال رصد بعض الظواهر الإیقاعیة مثل الوزن العروضی والزحافات والعلل، القافیة وما یتعلق بها، والظواهر الإیقاعیة الأخری؛ مثل التدویر، والسطر الشعری، والتضاد، والتوازی، والتکرار، وقد اتبع البحث منهجاً وصفیاً تحلیلیاً إحصائیاً وذلک باستقراء القصیدة وتفکیک عناصرها الإیقاعیة لاستخراج قیمها الدلالیة والجمالیة. وقد تبین من خلال هذه الدراسة؛ أنّ الشاعر یحاول فی تشکیل البنیة الإیقاعیة لقصیدته، الإفادة من أصغر الجزئیات وأدقها من أجل توظیفها واستثمار مکوناتها بغیة إثراء النغمة المؤثرة المنبعثة من الإیقاعات الخارجیة والداخلیة وإثراء دلالات النص. وأن العنصر الإیقاعی بکافة أشکاله له دور واضح فی إثراء البنیة الإیقاعیة والبنیة الدلالیة للقصیدة وتماسک بنیتها وکسر رتابتها واکتساب القصیدة درجة موسیقیة ملموسة، وأنه یؤدی دوراً دلالیاً وجمالیاً لإثارة المتلقی وإثراء القصیدة. | |||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
کلیدواژهها | |||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الإیقاع؛ الدلالة؛ سمیح القاسم؛ قصیدة الانتفاضة | |||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
اصل مقاله | |||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
تشکل الموسیقى عنصراً من أهم عناصر الشعر، وأداة من أبرز أدواته البنائیة، ولا یمکننا أن نتصوّر وجود شعر دون وجود موسیقى، والشعر یتوجه بطابعه إلی عواطف الناس وأحاسیسهم، فهو «فن من الفنون الجمیلة، مثله مثل التصویر والموسیقی والنحت. وهو فی أغلب أحواله یخاطب العاطفة، ویستثیر المشاعر والوجدان. وهو جمیل فی تحیز ألفاظه، جمیل فی ترکیب کلماته، جمیل فی توالی مقاطعه، وانسجامها بحیث تتردد ویتکرر بعضها فتسمعه الآذان موسیقی ونغماً منتظماً.» (أنیس، 1952م: 5) نستطیع أن نحکم علی عمل الأدیب والمبدع من خلال دراسة المستوی الصوتی فی النصوص التی أبدعها، وفیما إذا کان موفقاً فی توظیف الأصوات والنغم فی دعم المعانی التی یطرحها حیث «یشکل الإیقاع الصوتی جزءاً هاماً من بنیة الإیقاع العام للقصیدة، فالحروف والأصوات هی الوحدات الأساسیة لمادة الفن الشعری، ومن انتظامها داخل الکلمات والتراکیب بنسب وأبعاد متناسبة ومنسجمة مع مشاعر النفس وأحاسیسها یتشکل العمل الفنی.» (حمدان، 1997م: 151) إذن موسیقی الشعر هی من أهم وسائل الإیحاء وتسهم إسهاماً أساسیاً فی خلق الحالة النفسیة التی ترسم الصورة الشعریة. «فإذا سیطر النغم الشعری علی السامع وجدنا له انفعالاً فی صورة الحزن حیناً، والبهجة حیناً آخر والحماس أحیاناً، وصحب هذا الإنفعال النفسی هزات جسمانیة معبرة ومنتظمة نلحظها فی المنشد وسامعیه معاً.» (أنیس، 1952م: 12) على الرغم من نزعة الشعرالحدیث للتحرر من العروض ورتابة القوافی، ظل الشعر ملتصقاً بالموسیقی، وهی مازالت تؤدی دوراً مهماً فی الشعر الحدیث. «إنّ موسیقی القصیدة الجدیدة تقوم أساسا علی هذا الفرض: أن القصیدة بنیة إیقاعیة خاصة، ترتبط بحالة شعوریة معینة لشاعر بذاته، فتعکس هذه الحالة لا فی صورتها المهوشة التی کانت علیها من قبل فی نفس الشاعر، بل فی صورة جدیدة منسقة تنسیقا خاصا بها، من شأنه أن یساعد الآخرین علی الالتقاء بها وتنسیق مشاعرهم المهوشة وفقا لنسقها.» (إسماعیل، 2007م: 64) وعلی هذا الأساس، هو جزء لا یتجزأ من تجربة الشاعر. ویری عزالدین إسماعیل فی هذا الإطار: «إنّ الشعر الجدید لم یلغ الوزن والقافیة، لکنه أباح لنفسه - وهذا حق لا مماراة فیه - أن یدخل تعدیلاً جوهریاً علیهما لکی یحقق بهما الشاعر من نفسه وذبذبات مشاعره وأعصابه ما لم یکن الإطار القدیم یسعف علی تحقیقه.» (نفس المصدر: 65) إذن إنّ الموسیقى تمثل رکناً أساسیاً هاماً فی الخطاب الشعری وهیأ ولما یلفت انتباه المتلقی للعمل الشعری. وهذا البحث محاولة لرصد الظواهر الإیقاعیة وتحلیل تشکلاتها ومظاهرها الدلالیة فی قصیدة "الانتفاضة" للشاعر سمیح القاسم. ویحاول دراسة موسیقی القصیدة من بابین المختلفین، وهما: مستوی الموسیقی الخارجیة والموسیقی الداخلیة بما تسهم فی إغناء البعد الدلالی والإیقاعی لتجربة الشاعر الشعریة. ویسعی البحث هنا دراسة کافة جوانب هذه الظواهر ودورها فی تعزیز البنیة الإیقاعیة والدلالیة والکشف عن الحالة النفسیة والطاقة الشعوریة للشاعر، والبحث فی الآثار والدلالات الناجمة عن کلّ نوع. إذن، تجیء هذه الدراسة فی البنیة الإیقاعیة لتلقی الضوء على أهمیة الإیقاع فی بناء هذه القصیدة ومدى تأثیر الدلالة والتأثر بالبنیة الإیقاعیة ومن هنا تکمن أهمیة الدراسة وجدوی تسلیط الضوء علی هذه التجربة الشعریة. ولقد اعتمدت الدراسة فی هذا البحث على المنهج الوصفی التحلیلی الإحصائی للوقوف علی العناصر الإیقاعیة وتجلیاتها فی الخطاب الشعری للشاعر فی تحقیق أهدافه. وتتکون الدراسة من مقدمة، تحدثنا فیها عن أهمیة الإیقاع فی الشعر ودوره فی إثراء تجربة الشاعر الشعریة والشعوریة، ثم تحدثنا نبذة مختصرة حول "قصیدة الانتفاضة" ثم تناولنا بالتحلیل العناصر الإیقاعیة فی القصیدة وفی الأخیر جاءت النتیجة التی توصلت إلیها هذه الدراسة. أما الأسئلة التی تطرح فی هذه المقالة، فهی: 1- ما هی عناصر التشکیل الإیقاعی التی وظفها الشاعر للتعبیر عن تجربته الشعوریة فی هذه القصیدة؟ 2- کیف أثّر الإیقاع فی إثراء بنیة القصیدة الدلالیة؟ وهنا نحاول الإجابة علی هذه الأسئلة وغیرها من خلال تفکیک البنیة الإیقاعیة لــ "قصیدة الانتفاضة" ورصد عناصرها واستخراج قیمها الإیقاعیة والجمالیة. لأن التحلیل الصوتی للنصوص بما فیها من أصوات وإیقاعات یساعد کثیراً فی فهم طبیعتها، وفی الکشف عن الجوانب الجمالیة فیها، بالإضافة إلی ما فیه من کشف للانفعالات النفسیّة وللعواطف التی تحکم مبدعها. 1-1- الدراسات السابقة قامت العدید من الدراسات حول عنصر الإیقاع ودلالته فی الشعر العربی المعاصر منها؛ کتاب "القصیدة العربیة الحدیثة بین البنیة الدلالیة والبنیة الإیقاعیة" لمحمد صابر عبید، (2001م) تناول بنیة الإیقاع الشعری فی الشعر العربی الحدیث، وکشف عن علاقات التداخل بین خارج النص وداخله. وکتاب "البنیة الصوتیة فی الشعر الحدیث" لإبراهیم جابر علی، (2014م) الذی تناول البنیة الصوتیة فی لغة الشعر الحدیث وعناصر الهندسة الصوتیة فی النص. کذلک کتاب "فلسفة الإیقاع فی الشعر العربی" لعلوی الهاشمی، (2006م) الذی تناول البعد المنهجی للإیقاع وفلسفة بنیة الإیقاع فی الشعر العربی ووفقات نقدیة فی مسألة الإیقاع الشعری. وکتاب "الإیقاع فی الشعر العربی الحدیث خلیل حاوی نموذجا" لخمیس الورتانی، (2006م) تناول الکاتب فی القسم النظری مجموعة من المفاهیم الإیقاعیة التی اعتمدها فی تحلیل النص، ثم فی القسم التطبیقی تناول العناصر الإیقاعیة فی شعر خلیل حاوی. ولقد کثرت الدراسات التی تناولت شعر سمیح القاسم، منها: مقال "تحلیل الخطاب السیاسی علی المستوی الصرفی فی أشعار سمیح القاسم" لرقیة رستم بور، (1391ه.ش) الذی تناول المستوی الصرفی فی قصائد الشاعر لکشف عن فکرة الشاعر وإیدئولوجیته علی أساس الإحصائیات الصرفیة فی الأفعال المستخدمة فی أشعاره. وفی مقال آخر بعنوان "رمزیة المرأة عند سمیح القاسم" (2014م) تناولت الکاتبة تجلیات حضور المرأة ودورها فی المقاومة الفلسطینیة فی شعر الشاعر. ومقال "فکرة الموت وألوانه فی شعر سمیح القاسم" لحامد صدقی، (1436ه.ق) الذی تناول إیدئولوجیا الشاعر فی رؤیته نحو الموت ودلالاته فی التعبیر عن واقع الاحتلال. ومقال "جمالیة التکرار فی قصیدة (خطاب من سوق البطالة) لسمیح القاسم" لعلی أصغر قهرمانی مقبل، (1391ه.ش) وتناول التکرار فی شتّی مستویاته ودلالاته فی هذه القصیدة. کذلک مقال "جایگاه نمادین رنگ در ادبیات مقاومت نمونه مورد پژوهانه: سمیح قاسم: رمزیة الألوان فی أدب المقاومة؛ سمیح القاسم نموذجا" لیحیی معروف وبهنام باقری، (1391ه.ش) تناول اللون ودلالته الرمزیة فی شعر الشاعر ووصل إلی أن اللون یعدّ عنصراً مهماً من عناصر البناء الفنی فی شعره. کذلک مقال "موتیف النخلة والزیتونة فی شعر سمیح القاسم" لکبری روشنفکر وحامد پورحشمتی، (2015م) ووصلا إلی أنّ الموتیف فی شعره یحظی بأهمّیة بالغة ویمنح المتلقّی مفتاحا یفتح به الفکرة الکامنة فی نصّه. وأنّ موتیف النخلة لدیه دفقة شعوریّة یکمن وراءه الشعور القومی، أما النخلة فی شعره، فهی رمز للاستقامة الخالدة للأرض، ورمز للحیاة الجدیدة والنشاط. کما حظی شعر سمیح القاسم بدراسات جامعیة عدیدة منها: رسالة الماجستیر الموسومة بـ"التغیّر الدلالی فی شعر سمیح القاسم" لرقیة زیدان فی جامعة النجاح الوطنیة، (2001م) وقامت برصد جلّ المفردات والعبارات التی توحی بدلالات جدیدة من طریق توظیفها بغرض الإیحاء للمتلقی. ورسالة أخری تحت عنوان "سمیح القاسم، دراسة نقدیة فی قصائده المحذوفة" لباسل محمد علی بزراوی، (2008م) وتناولت هذه الدراسة مظاهر الحذف فی شعره والتغیرات التی طرأت علی الشاعر من حیث موقفه من الشعر ودوره الاجتماعی. أما أبرز هذه الدراسات بالنسبة لدراستنا فهی رسالة الماجستیر بعنوان "الإیقاع فی شعر سمیح القاسم دراسة أسلوبیة" لصالح علی صقر عابد، (2012م) وتناول الباحث فیها المجلد الأول من أعمال الشاعر، - دون التطرق إلی دراسة هذه القصیدة - وتناول الباحث فیها بدراسة القصائد العمودیة وتشکیلاتها وقصائد شعر التفعیلة والروابط الإیقاعیة کالتقدیم والتأخیر وحروف المعانی، کما تناول الإیقاع النفسی وإیقاع الصورة. لکن على الرغم من تنوع هذه الدراسات إلا أن هذه الدراسة، قُدمت فی شکل مختلف عن غیرها من الدراسات فی المجال نفسه، وهو أمر مردود إلى طبیعة المادة التی قامت علیها، والمحاور التی تناولتها هذه الدراسة، وتمتاز دراستنا هذه بأنها مرکزة لدراسة قصیدة واحدة من أعمال الشاعر ومثل هذا الترکیز سیعطی البحث عمقا أکبر، لأن تفکیک العناصر الإیقاعیة المکونة للقصیدة یؤدی إلی الکشف عن السمات الجمالیة والدلالیة التی تنسّق النص. إذن علی الرغم من کثرة الأبحاث والدراسات فی شعره، إلا إنها تؤدی غایات منفصلة ولکلَ منها منهجه الخاص، ولم تتطرق إلی دراسة عناصر الإیقاع ودلالاتها فی هذه القصیدة. 2- سمیح القاسم وقصیدة الانتفاضة "رسالة إلی غزاةٍ لا یقرأون!!" کان الشاعر سمیح القاسم واحداً من تلک الأصوات المناهضة للصهاینة التی استُهدفت بالملاحقة والحصار وبدأ نضوجه الشعری مع الانتفاضة. و«ما أن بلغ الثلاثین حتی کان قد نشر ست مجموعات شعریة حازت علی شهرة واسعة فی العالم العربی. کتب سمیح أیضاً عدداً من الرّوایات، ومن بین اهتماماته الحالیة إنشاء مسرح فلسطینی یحمل رسالة فنیّة وثقافیة عالیة کما یحمل فی الوقت نفسه رسالة سیاسیة قادرة علی التأثیر فی الرأی العام العالمی فیما یتعلّق بالقضیة الفلسطینیة.» (الجیوسی، 1997م، ج/1: 378) أما "قصیدة الانتفاضة" لسمیح القاسم رغم بساطتها، فتمثل صرخة فی بث حنینه الدائم للفلسطین الجریح. حینما نقرأ هذا النص الذی انتسجت فیه الکلمات، سنجد أن الشاعر وضعها فی تراکیب وتعبیرات تستجیب للغة التی أراد لها أن تتناسب مع تجربته الشعوریة. هذه القصیدة تعبر عن تجربة شعریة صادقة للشاعر الذی یعبر عن أحاسیسه ومشاعره الداخلیة ویجعل من الکلمات قوة فاعلة لإیقاظ حس الانتماء للأمة فی أبناء عصره. ویهدف البحث إلی تسلیط الضوء علی موسیقى هذه القصیدة التی تسهم إسهاماً فاعلاً فی خلق الجو النفسی الذی یرسم الصورة الشعریة، ویعبر عما تحمله التجربة الشعوریة. 3- الموسیقی الخارجیة إنّ علاقة الشعر بالموسیقى علاقة قدیمة تمتد إلى الجذور الأولى لنشأته، وهی الخاصیة التی طالما ارتبطت بالشعر العربی. ومن أقدم تعریفات الشّعر عند العرب أنّه «الکلام الموزون المقفى.» (قدامة بن جعفر، 1980: 64) ویقسم الباحثون الإیقاع إلی قسمین؛ إیقاع خارجی وإیقاع داخلی. إنّ الإیقاع الخارجی أو موسیقی الإطار یتمثّل فی الوزن العروضی وما یضمّه من زحافات وعلل، کما یتمثّل بالقافیة وحروف الروی وحرکاته. وإن کان للموسیقی الخارجیة أثر فی تنغیم القول الشعری فإنّ للموسیقی الداخلیة دوراً موازیاً له ویدعم موسیقاه. «إذا لم یرتکز النص الشعری علی مجال الوزن مباشرة فلا مفر له من ارتکاز علی مجال الموسیقی الداخلیة. وذلک لأنّ هذا المجال الحاضر، أکثر المجالات تعبیراً عن مجال الوزن الغائب، وکأنما هو امتداد له، وإن لم یکن هو بعینه، یحمل أصداء قوافیه الغائبة، ویرجّع شبح مقاطعه ووحداته الموسیقیة المتناثرة، وذلک بعد أن یصوغ منها نظاماً موسیقیاً جدیداً.» (الهاشمی، 2006م: 37) إذن الموسیقی الداخلیة تؤدی دوراً خطیراً ومهماً فی عمل الشعری وتأثر القاریء، و«قد تأتی الموسیقی الخارجیة فی القصیدة- بالوزن والقافیة- رتیبة، فُتشعر متلّقیها بالضیق، لولا حضور الموسیقی الداخلیة المرتبطة بالمواقف الانفعالیة المتمّخضة عن التّجربة.» (النجار، 2007م: 132) وعلی هذا الأساس سنحاول دراسة عناصر الإیقاع الخارجی والداخلی فی القصیدة: 3-1- الوزن العروضی یعدّ الوزن من أبرز العناصر الإیقاعیة فی القصیدة العربیة، وهو القالب الموسیقی للأفکار والعواطف، وهو جزء لا یتجزّأ من تجربة الشاعر. جمع الخلیل بحور الشعر العربی الخمسة عشر وأضاف لها تلمیذه الأخفش بحر المتدارک. فأصبح مجموع البحور ستّة عشر. وهی: الطویل، المدیـد، البسیط، الـوافر، الکامل، الهـزج، الرجـز، الرمل، السریع، المنسرح، الخفیف، المضارع، المقتضب، المجتث، المتقارب والمتدارک. والوزن یمثّل البنیة الأساسیة فی موسیقی الشعر الخارجیة کما أنّ «الوزن الشعری یتردّد فیه اللسان بین إسراع وإبطاء، وضغط وارتخاء، وحدة ولین. ویتردّد فیه الصوت – إن أحسنّا قراءة الشعر – بین انطلاق وانحباس، ورقة واکتظاظ، وعلو وهبوط. وهذه التموّجات الصوتیة تحکی حکایة قرینة ارتعاد الجسم وتراوح الصوت فی الأزمة العاطفیة الشدیدة.» (النویهی،1971م: 33) والقصیدة التی نحن بصدد دراستها جاءت علی وزن الرجز، وهو یتألّف من تفعیلة واحدة – مستفعلن – تتکرّر ستّ مرات. ولم یلتزم الشاعر فی السطر الواحد بعدد محدود من التفعیلات، بل جاءت متنوعة الأسطر من حیث العدد. وهذا البحر «أسهل البحور الشّعریّة نظراً إلی کثرة التغییرات المألوفة فی أجزائه، والتنوّع الذی ینتاب أعاریضه وضروبه.» ( بدیع یعقوب، 1991م: 87) ویری عبد الرضا علی؛ «لما کان الرجز من البحور المفردة التی تقوم علی تکرار جزء رتیب "مستفعلن"، من غیر أن یشعر قائله بأیّ تکلّف أو صعوبة، فإنّ هذه المیزة هیّأته لیکون واحداً من أکثر الأوزان استعمالاً فی الشعر الحرّ فی عصرنا الراهن، کما کان من أکثر الأوزان استعمالا عند المتقدّمین حتی نعتوهُ بمطیّة الشعراء.» (علی، 1997م: 60) کما أنهُ «یحتملُ جمیع الموضوعات المعاصرة، سواء أکانت غزلیّة، أم فلسفیة، أم سیاسیّة.» (نفس المصدر: 63) ولم تخرج قصیدة العربیة الحدیثة بصورة عامة عن الأوزان الشعریة، لکنها تحرر من نظام البیت الذی کان یحدد عدداً متساویاً من التفاعیل. إذا لاحظنا هذه القصیدة وجدنا أنّها جاءت فی (109) سطراً متفاوت الطول، الأمر الذی مکّن الشاعر من التعبیر عن خلجات نفسه بحرّیة، وعند قراءة القصیدة نشعر بانسیاب موسیقاها فی أسماعنا، وبإمکان من یمتلک أدنی حسّ إیقاعی أن یستعذب أنغامه ولعلّ الشاعر وجد فی هذا البحر مرونة أکثر علی نقل الأحاسیس والتجارب والمشاعر الداخلیة. أنّ تفعیلة الرجز لعبت دوراً هاماً فی بنیة القصیدة الإیقاعیة، وذلک بسبب منحها حرّیة زائدة فی التنقّل بسبب جوا زاتها وتغییراتها الکثیرة، حیث یجد الشاعر فضاءً إیقاعیاً حرّاً لبیان ما فی صدره من مشاعر الحزن والألم، والثورة والوطن. وذلک لمرونة تفعیلة هذا البحر، ولکثرة التصرف فیها، بما یجوز أن یعتریها من زحافات، فتعطی الشاعر مساحات إضافیة من التحرر داخل الإطار النغمی العام الذی تسمح به طبیعة هذه التفعیلة. وتتمیز بنیة القصیدة بإیقاع متنوع متجدد- من حیث کثرة الزحافات واستخدام التفعیلات المستحدثة- بعید عن الرتابة وتتابع النغمات المتشابه، فتنوع الصور الإیقاعیة، واختلاف السطور الشعریة قصراً وطولاً من حیث عدد التفعیلات المستعملة مکن القصیدة من أداء وظیفته من دون تکلف. ومن هذا المنطلق سنحاول أن ننظر فی "قصیدة الانتفاضة" وسنشیر إلی الصور التی تأتی علیها التفعیلات لأنّ القصیدة کلّها تحمل تجربة خاصة ومتمیّزة من حیث الإیقاع. 3-2- الزحاف والعلة تعتبر الزحافات والعلل من المؤثرات فی موسیقى القصیدة الشعریة، حیثیتفاوت تأثیرها الإیقاعی حسب کثرة الزحافات أو قلتها، ویقول عز الدین اسماعیل: «تحاشیا لرتابة الإیقاع الصارخ الذی یضیفه الوزن العروضی علی موسیقی القصیدة، أن حاول الشعراء قدیماً وحدیثاً أن یدخلوا من التعدیلات علی الوزن ما یکسر من حدة وقعه فی الأذن بما یتیح للشاعر أن ینتقل صورة موسیقیة أقرب ما تکون إلی أحاسیسه منها إلی النظام العروضی المفروض. وقد ظهر ذلک منذ وقت مبکر قبل أن یعرف الشعراء العروض فی صورته المقننة. یدل علی ذلک ظهور ما یسمیه العروضیون بالزحافات والعلل. ففی الشعر القدیم نفسه ظهرت مثل هذه الزحافات والعلل ولم یکن لها من مبرر إلّا أن یوفق الشاعر بین حرکة نفسه والإطار الخارجی.» (إسماعیل، لاتا: 71-72) نظراً لفاعلیة العملیة الإحصائیة، وقدرتها على تمییز الأسالیب فقد أصبح لزاماً إجراء عملیة إحصاء تفعیلات السالمة وغیر السالمة فی القصیدة کما یبینه الجدول التالی:
جدول (1) یبین توزیع التفعیلات السالمة وغیر السالمة فی القصیدة من خلال الإحصاء الذی أجرینا علی القصیدة قد تبین لنا أنّ هذه القصیدة تشکلت من (234) تفعیلة، منها (59) تفعیلة سالمة بنسبة (25،21%)، و (175)، تفعیلة غیر السالمة بنسبة (74،78%)، وهذا الإحصاء یبین أنّ التفاعیل غیر السالمة (الزحافات والعلل)، لیست أقل استعمالا من الشکل السالم بل تفوقه. وهذه النتیجة تُثبت لنا شیئا معاکساً لما یتصوره الکثیر من أن الشکل النظیف النقیَّ الذی یلزم أن یستعمله الشعراء هو الوزن النموذجی. والزحاف إذن «تغییر طبیعی ولیس عیباً فی الوزن، والشکل المزاحف للتفعیلة هو فی کثیر من الحالات شکل معتاد لا یمکن أن یُفضّل علیه الشکل النموذجی.» (حرکات، 1998م: 50) کما یری أحد الدارسین «رُبَّما کان الزحاف فی الذّوق - أحیاناً أو غالباً - أطیب من التفعیلة الأصلیة. لأنّ فی تعدد الزحافات تنوعاً فی الموجات الصوتیة التی یتلقاها المستمع، وعلی هذا فإن التفعیلة الأصلیة مع الأخری المزاحفة مع حُسن انتقاء الحروف والکلمات تُحدث فی نفس المستمع شعوراً جمالیاً بروعة الشعر دون أن یشعر بالاختلاف البیّن بین الزحاف والتفعیلة الأصلیة.» (المطیری، 2004م: 30) من خلال هذا التقطیع الذی مارسنا علی القصیدة تبین لنا أن الشاعر استخدم سبع تفعیلات متنوعة، واستفاد فی تنویع إیقاعه من الزحافات والعلل المتنوعة. ویتضح لنا من خلال الجدول أنّ هناک تنوعاً فی عدد التفعیلات فی القصیدة؛ فأعلاها تفعیلة "مُتَفْعِلُنْ" بنسبة 47،86%، وأقلها تفعیلتی "فَعُوْلْ" و"فَعْلُنْ"، التی شکلا معاً بتساوٍ کل منهما بنسبة 1،70%، من تفعیلات القصیدة. إذن إنَّ الموسیقی فی هذه القصیدة لا نحسها فقط من خلال إیقاعات تفعیلة «مُسْتَفْعِلُنْ»؛ حیث تأخذ هذه التفعیلة أشکالاً متنوعة، وکثیراً ما یفید سمیح القاسم من الزحافات والعلل فیحذف من التفعیلة أو یضیف حسب قوانین العروض، لکن الموسیقی تتولد من هذا التوزیع الفرید. وهذا التغییر فی التفعیلات یؤدی إلی تجنب الرتابة فی الإیقاع وإلی تنویع الموسیقی فی القصیدة. وتکملة للحدیث عن إیقاع هذه القصیدة نشیر إلى الصور التی تأتی علیها التفعیلة:
جدول (2)یبین التفعیلات المتغیرة ونوعها وتعریفها فی بحر الرجز فی القصیدة یشتمل بحر الرجز عند سمیح القاسم علی وحدة الإیقاعیة «مُسْتَفْعِلُنْ» بصورتها الأصلیة والفرعیة، یُعدُّ الزحاف أبرز التشکیلات الصوتیة فی التفعیلة، والشاعر یلجأ إلیه دون أن یشعر، لإحداث تآلفه الصوتی المتمثل فی الوزن، ویُعدُّ "الخبن" من أهم الزحافات العروضیة المسموحة ظهوراً فی القصیدة. وقد أحدث هذه الزحافات والعلل حرکة وتنامیاً فی القصیدة؛ ولهذه الزحافات والعلل دورها القضاء على الرتابة والملل المتکرر، وهذا یضفی موسیقی جمیلة علی القصیدة. ونری هذه التفعیلات جاءت فی صور متعددة من التحولات النسقیة، دون الإحساس بأی خلل فی الإیقاع؛ فالتفعیلات المستحدثة فی الرجز مثل "فَعُولُنْ"، "فَعُوْلْ" و"فَعْلُنْ"، تستخدم فی آخر السطر الشعری الذی یحتاج إلی وقف وقافیة، لأن وجودها بین التفعیلات المتحرکة یخل بالموسیقی. فیقول: تقدّمت حجارةُ المنازلْ مُتَفْعِلُنْ / مُتَفْعِلُنْ / مُتَفْعِلْ (فَعُولُنْ) کذلک قوله من "فَعُوْلْ": الموتُ...لا الرکوعْ مُسْتَفْعِلُنْ / فَعُوْلْ وقوله من "فَعْلُنْ": وراء کلَّ حجرٍ کفٌّ مُتَفْعِلُنْ / مُتَعِلُنْ / فَعْلُنْ لا شک أن لهذه التفعیلات المستحدثة أثراً فی الإیقاع الموسیقی، ونلحظ فی هذه السطور الشعریة محافظة الشاعر علی تفعیلات البدایة، أما تفعیلات النهایة تأتی خارجة عن النسق العادی لتفعیلة بحر الرجز. فکما هو ملاحظ فقد تصرف الشاعر حسب نفسه الشعری وقد تحرر من حدود التفعیلات القدیمة، وهذا المزج بین التفعیلات مزج رائع، فلا نسمع نغم نشاز تنفر منه الأذن وتأباه النفس. 3-3- السطر الشعری إنّ لشعر التفعیلة أسلوب خاصّ فی النظام العروضی، فقد جاء التشکیل الموسیقی فی هذا الشعر بالاعتماد علی التفعیلة کوحدة موسیقیة وقد تحرّر من الالتزام بعدد التفعیلات الموزّعة فی کلّ سطر. «السطر الشعری ترکیبة موسیقیة للکلام، لا ترتبط بالشکل المحدّد للبیت الشعری، ولا بأیّ شکل خارجی ثابت، وإنّما تتّخذ هذه الترکیبة دائماً الشکل الذی یرتاح له الشاعر، ویتصوّر أنّ الآخرین من الممکن أن یرتاحوا له عن طریق تکرار الوحدة الموسیقیة – التفعیلة – التی هی أساس النظام الصوتی الذی یقوم بتکرار الشعر.» (إسماعیل،2007م: 64) إنّ عدد التفعیلات فی الشعر الحر مختلف من سطر إلى آخر بحسب الحالة الشعوریة والهندسة الإیقاعیة. «فالصورة الموسیقیة فی تدفّقاتها الانفعالیة مرتبطة بمدى الحرکات النفسیة التی تمرّ بها الذات المبدعة، ومن ثمّ یکون انتهاء الجملة الشعریة خاضعاً لانفعالات الشاعر والذی لا یمکن لأحد أن یحدّده سواه، وذلک وفقاً لنوع التدفّقات والتموّجات الموسیقیة التی تموج بها نفسه فی حالته الشعوریة.» (فیدوح، 1998م: 468) وممّا تجدر الإشارة إلیه فی هذا المقام أنّ هناک تنوّعاً فی عدد التفعیلات فی "قصیدة الانتفاضة"، فقد جاء التشکیل الإیقاعی فی هذه القصیدة بحسب الدفقة الشعوریة، ولم یلتزم سمیح القاسم بعدد محدّد من التفعیلات داخل السطر الشعری، بل أفاد الشاعر من الطاقة الناتجة من تنوع عدد التفعیلات، فی جعل القصیدة تنبض حرکة. لأنّ تنوع عددها وفرّ للشاعر إمکانیات أوسع فی التعبیر عن أفکاره ومشاعره وأعطت للقصیدة إیقاعاً موسیقیاً بعیداً عن الرتابة. ویتیح السطر الشعری للشاعر حریة اختیار عدد التفعیلات تبعاً لرؤیته الشعریة، ودفقاته الشعوریة. وهذا یساعد الشاعر علی «خلق إمکانیات إیقاعیة للسطر الشعری، کما أن البنیة الموسیقیة لکل سطر وإن کان لها استقلالها الخاص، قد صارت جزءاً من تنویع موسیقی یشمل القصیدة کلها.» (إسماعیل، 2007م: 108) وللتأکد من ذلک، نقدم فیما یلی تنوعاً فی عدد التفعیلات فی القصیدة وبیان مدی إسهام الشاعر فی إحداث تشکیلات صوتیة جدیدة بما یتناسب والجو النفسی الذی یسیطر علیه عند کتابة القصیدة. فمن خلال تقطیعنا تبیّن لنا أنّ الشاعر فی هذه القصیدة نوّع فی عدد التفعیلة الإیقاعیة فی کلِّ سطرٍ شعری؛ فجاء 27 سطراً بتفعیلة واحدة، و 32 سطراً بتفعیلتین، و 25 سطراً بثلاث تفعیلات، و 8 أسطر بأربع تفعیلات بعضها مدوّرة – سنفصل فیها القول -، و 4 أسطر بخمس تفعیلات مدوّرة، وسطر مدوّر بسبع تفعیلات، وأیضا سطر مدوّر بتسع تفعیلات. ومن شواهد علی ذلک: أوَّلُکمْ آخِرُکمْ / مؤمِنُکمْ کافِرکُمْ / وداؤکمْ مُستحکِمُ / فاسترسلوا / واستبسلوا / واندفعوا / وارتفعوا / واصطدموا / وارتطموا / لآخِرِ الشوطِ الذی ظلّ لکُمْ / وآخرِ الحبلِ الذی ظلّ لکُمْ / فکلُّ شوطٍ ولهُ نهایهْ / وکلُّ حبلٍ ولهُ نهایهْ / وشمسُنا بدایةُ البدایهْ. (القاسم، 1993م: 408-409) اعتمد تنوّع أعداد التفعیلة فی السطور الشعریة، بحسب ما تتطلّب من قصر السطر الشعری أو طوله. إن عدد التفعیلات فی هذا المقطع مختلف من سطر إلى آخر بین تفعیلتین فی السطر الأول والثانی والثالث، - مُسْتَعِلُنْ، مُسْتَعِلُنْ / مُسْتَعِلُنْ، مُسْتَعِلُنْ / مُتَفْعِلُنْ، مسُتَفْعِلُنْ - وتفعیلة واحدة فی السطر الرابع حتی التاسع – وهی تفعیلة مسُتَفْعِلُنْ فی السطر الرابع والخامس وتفعیلة مُسْتَعِلُنْ فی السطر السادس حتی التاسع -، وثلاث تفعیلات فی السطر العاشر إلی الرابعة عشرة وتفعیلاته هی: مُتَفْعِلُ، مسُتَفْعِلُنْ، مُسْتَعِلُنْ / مُتَفْعِلُنْ، مسُتَفْعِلُنْ، مُسْتَعِلُنْ / مُتَفْعِلُنْ، مُسْتَعِلُنْ، مُتَفْعِلْ (فَعولُنْ) / مُتَفْعِلُنْ، مُسْتَعِلُنْ، مُتَفْعِلْ (فَعولُنْ) / مُتَفْعِلُنْ، مُتَفْعِلُنْ، مُتَفْعِلْ (فَعولُنْ). إنّ هذا التنوّع فی عدد التفعیلات مع تنوّع فی نوع التفعیلات، یوفّر عذوبة موسیقیة ترتاح لها الأذن والنفس، وسبب لجوء الشاعر إلی هذا التنوع هو رغبة فی تخفیف النص من أثقال الطول. بحیث أنّ القارئ یسهل علیه تبیین المستویات الشعریة التی کتب فیها القصیدة، لأنّ عرض نص شعری طویل قد یحدث مللا وعزوفاً لدی القارئ. والشاعر یحاول جاهداً إغناء فکرته بالدلالة علیها باللغة الشعریة؛ بحیث یتخذ الشاعر من اختیار الکلمات والأسطر الشعریة فی نشر عواطفه وتأکید فکرة محددة وتعدّ بمثابة مفتاح النص الشعری ویرفع درجة تأثیرها. لأن السطر الشعری من خلال اختیاره الدقیق یلعب دوراً بارزاً فی تعزیز الإیقاع والرؤیة؛ وایصالها بشحناتها الانفعالیة للقارئ. وتمتاز هذه السطور الشعریة بتنظیمها النسقی الذی یبدو فیه الإیقاع الشعوری العاطفی مکتنزاً بالإیحاء؛ وهنا یأتی التوازی النسقی بین السطور الشعریة فاعلاً فی تحریک الدفقة الشعوریة، وتفاجئنا هذه السطور بتفاعل کلماتها وائتلافها نسقیاً وتوازیها، فکل صورة تتوازی مع الأخری فی تکثیف حرکتها، محققة إیقاعا عاطفیاً؛ یدل علی شدة حالة الغلیان والثورة والانفعال فی نفس الشاعر علی ما آل إلیه أمر شعبه بعد أن سفک السفاحون دماءه. إنّ «التنوّع فی عدد التفعیلات یمنح القصیدة طعماً خاصّاً ویبعد القارئ عن الإحساس بالملل الذی یتأتّى من رتابة الإیقاع عند تساوی عدد التفعیلات،کما أنّه یتیح للشاعر إمکانیة واسعة للتحرک فی القصیدة، لیعبّر عن ذاکرته ویترجم حالته النفسیة من خلال الامتداد الطبیعی للدفقات الشعوریة والموجات النفسیة.» (أبو العدوس، 2007م: 257) وهذه القصیدة تموج بالحرکة المتموّجة السریعة، فقد جاءت الأسطر الشعریة متناغمة سلسة فمرة صاعدة ومرة هابطة معبّرة عن کل أحوال الشاعر النفسیة من حزن وألم ذکرى وثورة وغضب. وقد امتازت هذه القصیدة بجمالیة اختیار السطور الشعریة؛ لتکون فی موضعها المناسب، فالقصیدة لیست عشوائیة التشکیل؛ وإنما هی مهندسة منسجمة؛ منسقة فی موضعها؛ وهذه الخصیصة هی التی تجعله القادر علی إصابة الهدف الشعری من وراء اختیار السطور وعدد تفاعیل فی سیاق الذی ترد فیه. إذ یرسم الشاعر الصورة الشعریة رسماً دقیقاً، بأسلوب یموج دفقاً حیویاً وإحساساً شاعریاً لیس فقط بخلق الانسجام فی السطور الشعریة وموازاتها مع الأخری مما تزدید من إیقاع النص، بل بتکاملها مع التی تلیها، وهو ینقل إلینا الزخم العاطفی الذی یعیشه الشاعر واصطهاج عاطفی حار یؤکد إحساسه الباطنی بالجراح والمآسی التی حلت بشعبه. وذلک قوله: کلُّ سماءٍ فوقَکُمْ جهنّمٌ / وکلُّ أرضٍ تحتَکُمْ جهنّمُ / تقدَّموا / یموتُ منّا الطفلُ والشیخُ / ولا یستسلمُ / وتسقُطُ الأم على أبنائها القتلى / ولا تستسلمُ. (القاسم، 1993م: 405) کذلک قوله: تقدَّموا / بناقلاتِ جُنْدِکُمْ / وراجِماتِ حقدکُمْ / وهدﱢدوا / وشردﱢوا / ویتموا / وهدﱢموا / لنْ تکسِروا أعماقَنا / لنْ تهزموا أشواقَنا / نحنُ قضاءٌ مُبرَمُ. (القاسم، 1993م: 406) إنّ المتأمل فی هذه المقاطع لا یخفی علیه تنظیم السطور الشعریة وتنسیقها فی موضعها المناسب لها؛ الأمر الذی یجعل الإیقاع والاختیار دقیقا موازیا للحالة الشعوریة وعمق الرؤیة؛ ففی المقطع الأول جاءت القصیدة موجها الخطاب للأعداء، کأنه یبدأ المواجهة. إن الأسطر الشعریة فی المقطع الأول أکثر امتداداً، فی حین جاءت الأسطر فی المقطع الثانی بموجات صوتیة صغیرة، فسمیح القاسم یتقن جیدا ربط حرکة النفس بحرکة الأصوات الداخلیة واختیار الکلمات المناسبة، مما یولد إیقاعاً یتوازى مع حرکة النفس من جهة ویؤثر فی متلقیه من جهة أخرى؛ ففی المقطع الأول اعتمد نسقاً هندسیاً موازیاً للحالة الشعوریة التی یحسها إزاء بلده فلسطین معبرة عن عمق الجراح والمصاب النفسی والأسی الشعوری الذی یذیب الذات أسی وحزناً، لهذا غدا الترکیب الشعری والکلمات – جهنم، یموت، الطفل، الشیخ، یستسلم، تسقط، القتلی_ عمیق الرؤیة قادراً علی استقطاب ذائقة المتلقی؛ وکأن الشاعر بهذا الألق فی اختیار الکلمات والسطور الشعریة یثیرنا شعریاً فی تراکیبه الشعریة التی تعزز الإیقاع الجمالی وتثیر الشعور العاطفی. وفی المقطع الثانی نری قصر السطور الشعریة، خاصة توالی الأفعال المتماثلة صرفیاً – وهددوا، وشردوا، ویتموا، وهدموا- التی تولد ترکیبة عالیة الإیقاع تعکس إرادة التحدی، کما نری فی المقطع ذاته التوازی بین السطور - لنْ تکسِروا أعماقَنا / لنْ تهزموا أشواقَنا - مما یجعلها متناغمة شکلاً، مکتملة إیقاعاً، ودلالة، لترقی أعلی مستویات الإثارة والإبداع. هکذا جاءت الأسطر الشعریة بطولها وقصرها، لتعبر عن الموجات النفسیة الداخلیة التی تعتصر کیان الشاعر، فتظهر هذه الموجات الصوتیة؛ موجة إثر أخری فی تتابع نسقی مترابط مختلف الأطوال وعلی هذا؛ کان لامتدد الشطر وقصره أثر مهم فی توجیه الدلالة والتعبیر عن باطن الذات وإیقاعها الداخلی. کما تقول الناقدة خلود ترمانینی: «یعتمد السطر الشعری فی القصیدة الحدیثة علی التفعیلة التی تتردد وفقاً للتشکیلات الدلالیة والنفسیة والإبداعیة لدی الشاعر الذی استجاب لتطورات فنیة فرضتها التجربة الشعریة الجدیدة، فامتدت بذلک حرکة النص الإیقاعیة التی تطول أو تقصر، تسرع أو تبطئ وفقاً للسیلق الشعوری لحظة إبداع القصیدة.» (ترمانینی: 2004م: 226) إذن یبنی الشاعر القصیدة علی التشکیل الهندسی فی توزیع السطور الشعریة بتفاوت أشطرها بین الطول والقصر؛ محققاً سلاسة وارتفاعاً وانخفاضاً فی الإیقاع؛ للتعبیر عن حجم هذا الزخم الانفعالی فی التراکیب الشعریة. ویری عبد الرضا علی: «ولما کان الشعر الحرّ ذا شطر واحد لیس له طول ثابت یعتمد علی تکرار التفعیلة الصافیة، وتغییر عددها من شطر إلی شطر، فإنّ هذا الإیقاع ناسب جل شعراء حرکة الشعر الحرّ إذا لم نقل کلّهم، فمارسوا فیه علی تباین فی الأداء، مع ملاحظة إفادتهم فی الانتقال من ضرب إلی ما سواه فی القصیدة الواحدة، وهی حریّة یمنحها الشعراء لأنفسهم لقتل رتابة التکرار، لذلک فإنهم یجوّزون استخدام کلّ أضرب التشکیلات المتاحة فی شعر الشطرین فی قصائدهم الحرّة.» (علی، 1997م: 102) تطول بعض الأسطر الشعریة لتصل إلی أربع تفعیلات. من ذلک قوله: تقدَّموا / کیف اشتَهیتُم واقتلوا / قاتِلُکُم مُبَرَّأٌ / قتیلُنا مُتّهَمٌ / ولمْ یَزَلْ ربُّ الجنودِ قائماً وساهراً. (القاسم، 1993م: 408) نوّع الشاعر فی عدد التفعیلات الإیقاعیة فی کلّ سطور القصیدة هنا، فالسطر الأول مکوّن من تفعیلة واحدة، وهی تعبّر عن حرکة سریعة جداً هی حرکة التقدّم والألم والثورة. أمّا کلّ من السطر الثانی والثالث والرابع فقد اشتمل علی تفعیلتین. أمّا فی السطر الخامس فکانت أربع تفعیلات. «والتفاوت فی عدد التفعیلة داخل النصّ الواحد یشیر إلی حرکیة الانفعال الشعوری، علی حسب ما یکمن فیها من قوی تعبیریة تکشف عن خلجات النفس.» (غنیمی هلال، لاتا: 4) عدم التقیّد بعدد معیّن من التفعیلات یعطی الشاعر حرّیة فی استخدام العدد الذی یتناسب مع تجربته الشعوریة. کما ذکرنا آنفا وقد تبیّن لنا من خلال تقطیعنا علی القصیدة، أنّ الشاعر اعتمد سطوراً شعریة قصیرة فی هذه القصیدة – أغلبها تفعیلة واحدة، أو تفعیلتین، أو ثلاث تفعیلات – وأنّ لهذا الاعتماد علاقة مع بنیة القصیدة لیحدث لدى المتلقّی التأثیر المنشود، والقصیدة تموج بالحرکة المتموّجة السریعة، وهذا یتناسب مع البنیة الدلالیة للقصیدة وانفعالات الشاعر ونفسه الشعری التی یمکّن للقاریء من مشارکة الشاعر فی أنفاسه التی فیها حرکة الهیجان التی صاحبت ثورة الشعب الفلسطینی المنتفض وحالة الغلیان والغضب وشحنة التوتر والانفعال فی نفوس الشعب. 3-4- التدویر من الظواهر الإیقاعیة التی لها ارتباطها بموسیقى قدیماً وحدیثاً هی ظاهرة التدویر؛ التدویر هو ظاهرة إیقاعیة متمیزة فی الشعر العربی المعاصر، وله معنیان، الأول متعلق بالقصیدة التقلیدیة، والثانی مرتبط بالشعر الحر. وهو فی القصیدة التقلیدیة «اشتراک شطری البیت فی کلمة واحدة ویسمی البیت: المدور أو المدخل أو المدمج.» (یوسف، 1989م، ج/1: 235) إذن، یعتبر التدویر ظاهرة مألوفة فی الشعر العربی القدیم. لکن فی الشعر التفعیلی فله دلالة مختلفة عن التدویر فی إطار الشعر العمودی. فالتدویر فی الشعر الحدیث یکون «بتدویر التفعیلة فی سطرین متتالیین أو تدویر مقطع أو بعض المقاطع، أو تدویر کل مقاطع القصیدة، أی النص الشعری کاملاً بوصفه جملة طویلة واحدة.» (رمانی، لاتا: 227) إذن؛ لا یتعلّق التدویر فی الشعر العربی الحدیث، بانقسام کلمة بین شطرین وإنّما هو انقسام التفعیلة بین سطر وسطر آخر یلیه، أو بین عدة أسطر فی القصیدة. ویری عبد الجلیل یوسف فی کتابه "موسیقی الشعر العربی": «إذا تأملنا التدویر فی الشعر الحدیث أو الحر فإننا نجد الشعراء جمیعهم - إلا القلیل النادر - یعمدون إلی تقسیم التفعیلة نفسها بمعنی أن جزءاً من التفعیلة یکون فی شطر ویأتی الجزء الآخر فی الشطر الذی یلیه.» (یوسف، 1989م،ج/1: 237) للتدویر أهمیة کبیرة فی الشعر العربی المعاصر وهذا یساعد على تشکیل البنیة الموسیقیة والدلالیة وإثراء القصیدة. وتقول نازک الملائکة: «للتدویر فائدة شعریة ولیس مجرد اضطرار یلجأ إلیه الشاعر، ذلک أنه یسبغ علی البیت غنائیة ولیونة لأنه یمدّه ویطیل نغماته.»(الملائکة، 1967م: 91)، فإن قضیة التدویر «أصبحت جزءاً مهماً من بنیة القصیدة الحدیثة، وقد أسهمت بأنماطها المختلفة فی إحداث تطور کبیر فی بنیة القصیدة، ولم یقتصر على الجانب الإیقاعی الصرف، بل تعدى ذلک إلى الجانب الدلالی بکل موحیاته وظلاله.» (عبید، 2001م: 168) وقد ظهرت ظاهرة التدویر فی هذه القصیدة فی (11) سطراً بنسبة 10،09%، وهذا من نوع التدویر الجملی أو القصیر الذی یربط بین سطرین شعریین وهو أبسط أنوع التدویر؛ ویحدث بتوزیع التفعیلة بین نهایة السطر، وبدایة السطر الذی یلیه. و «یقوم التدویر الجملی على تدویر الجملة الشعریة الکاملة بحیث ینتهی التدویر بنهایة الجملة لیبدأ تدویر آخر مع بدایة الجملة الشعریة اللاحقة وینتهی بنهایتها. وبهذا تصبح القصیدة مجموعة من الجمل الشعریة المدورة، وقد لا تأتی جمیع الجمل فی القصیدة مدورة، إذ قد یدور بعضها، ولا یدور بعضها الآخر على حسب ضرورات تجربة القصیدة نفسها وحاجة ذلک إلى استخدام هذه التقنیة الفنیة.» (نفس المصدر: 169) والمتأمل فی "قصیدة الانتفاضة" لا یخفی علیه تنظیم الکلمة والسطور الشعریة وتنسیقهما فی موضعها المناسب لها، لکی تلعب دوراً بارزاً فی تعزیز رؤیة الشاعر. إنّ الأسطر جمیعها تنسجم فیما بینها فی الدلالة علی إحساس الشاعر بمأساة بلاده التی تعانی أنواع الأسی والجراح، والآلام من جراء الاحتلال الصهیونی. وهذا البحث محاولة لرصد هذه الظاهرة الإیقاعیة فی القصیدة ومن ذلک قوله: کلُّ سماءٍ فوقَکُمْ جهنّمٌ / وکلُّ أرضٍ تحتَکُمْ جهنّمُ / تقدَّموا / یموتُ منّا الطفلُ والشیخُ / ولا یستسلمُ / وتسقُطُ الأم على أبنائها القتلى / ولا تستسلمُ. (القاسم، 1993م: 405). لقد استخدم سمیح القاسم تفعیلة (مُسْتَفْعِلُنْ) ومشتقاتها (مُتَفْعِلُنْ، ومُسْتَعِلُنْ) ویلجأ إلی التدویر فی نهایة السطور (الرابع والسادس)، کما یتبین من التقطیع التالی: مُسْتَعِلُنْ، مُسْتَفْعِلُنْ، مُتَفْعِلُنْ / مُتَفْعِلُنْ، مُسْتَفْعِلُنْ، مُتَفْعِلُنْ / مُتَفْعِلُنْ / مُتَفْعِلُنْ، مُسْتَفْعِلُنْ، مُسْتَفْ / عِلُنْ، مُسْتَفْعِلُنْ / مُتَفْعِلُنْ، مُسْتَعِلُنْ، مُسْتَفْعِلُنْ، مُسْتَفْ / عِلُنْ، مُسْتَفْعِلُنْ. یظهر التدویر فی السطر الرابع حیث لا تتم فیه تفعیلة (مُسْتَفْعِلُنْ)، بل نجد جزءاً منها (مُسْتَفْ)، فی نهایة السطر الرابع، لیتم جزءها الآخر (عِلُنْ)، فی بدایة السطر الخامس، والشیء نفسه فی السطر السادس. إن التداخل فی التفعیلة بین سطرین، یعمل على انسجام النغمة الموسیقیة ضمن إیقاع القصیدة، ولینتج سطرا موسیقیا واحدا، إذن التدویر فی السطر الرابع والسادس جاء رابطاً إیقاعیاً یجمع السطرین فی سطرٍ موسیقی واحد، نتیجة اشتراک السطرین فی تفعیلة واحدة. کذلک یسهم التدویر فی تفعیل دور القارئ والنص معاً؛ للاندماج مع رؤیة الشاعر وتعزیز تجربته الشعریة؛ إذ کان بإمکانه یجمع السطر الرابع والخامس فی سطر واحد ویقول: "یموتُ منّا الطفلُ والشیخُ ولا یستسلمُ"، وکذلک یجمع السطر السادس والسابع ویقول: "وتسقُطُ الأم على أبنائها القتلى ولا تستسلمُ". دون اللجوء إلی التدویر، لکنه یلجأ إلی التدویر لیفاجئنا بالمتابعة بعدها ویأتی بکلمة واحدة - لا یستسلمُ ولا تستسلمُ" فی السطور الخامس والسابع، " لکی ترتقی إلی الإدهاش والمفاجأة الشعریة رغم معناها البسیط، وقد أوردها لأهمیتها ولزیادة لفت النظر إلیها فی سطر منفرد، لیؤکد رغم کلّ هذا الواقع المأساوی والجرائم المقترفة بحق الشعب الفلسطینی، هم لن یستسلموا؛ لأن الاحتلال یمارس العدید من الأسالیب اللاإنسانیة فی تحقق أهدافه، فهو یقتل ویطرد وینتهک حقوق الإنسان الفلسطینی. فلهذه الظاهرة أثر فی إثراء النص إذ أفادته فی توکید المعنی الذی ألّح الشاعر علی إظهاره فضلاً عن تأثیره علی الجانب الإیقاعی. لأنها «لیست ظاهرة اعتباطیة بل هی أداة تعبیریة ذات قدرة على تحقیق مرمىً نفسی ودلالی یقصده الشاعر.» (البستانی، 1998م: 156) إذن، إنّ تقنیة التدویر لا تقف عند المستوی العروضی فقط، بل لابدّ من التدقیق فی المسوّغات الدلالیة التی تقف وراء هذه الظاهرة التی تشکل عاملا فنیاً حمّل الشاعر علی تدویر السطور، لأن الشاعر المعاصر لیس ملزماً بعدد معین من التفعیلات فی السطر الواحد. لکن اختیار عدد التفعیلات تابع للحالة الشعوریة وللتجربة التی یقدمها الشاعر. وقد تصل الأسطر الشعریة المدوّرة ثلاثة أسطر، من ذلک قوله: لا خوذةُ الجندیﱢ / لا هراوةُ الشرطیﱢ / لا غازِکُم المُسیلِ للدُموعْ / غَزّةُ تُبکینا / لأنها فینا / ضراوةُ الغائبِ / فی حنینِه الدامی إلى الرجوعْ. (القاسم، 1993م: 410) إنّ التدویر بما یحقق من غایة الترابط الإیقاعی بین السطور الشعریة فی بنیة القصائد الحدیثة یسهم فی تماسکها وانسجامها. هنا، ربط الّتدویر بین ثلاثة سطور تحمل فکرة واحدة؛ وهی السطر الأول والثانی والثالث، حیث لا تتم تفعیلة "مسُتَفْعِلُنﹾ" فی نهایة السطر الأول، بل یتم جزءها الآخر فی بدایة السطر الثانی،کما نری یمتد التدویر إلی السطر الثالث، حیث نجد جزءاً من تفعیلة (مُسْتَفْ)، فی نهایة السطر الثانی، لیتم جزءها الآخر (عِلُنْ)، فی بدایة السطر الثالث، ثم ینتهی بقافیة "دموعْ" فی نهایة السطر. ثم یعود إلی التدویر فی السطر السادس حیث یتصل بالسطر السابع، ففی نهایة السطر السادس جاء جزء من التفعیلة " مُسْتَعِ" وفی بدایة السطر السابع باقیها جزء "لُنْ"، واختتم المقطع بتقفیة "رجوعْ"، إذن ظاهرة التدویر تسهم إسهاما مباشراً فی المقطع ویستغرق کامل أسطر المقطع باستثناء السطور المقفاة التی لا تدور أبداً فی المقطع، وتتوزع القافیة والتدویر علی مساحة المقطع توزعاً منتظماً، وهذا الأمر یؤدی إلی تنویع الموسیقی فی المقطع وتجنب الملل والرتابة فیه. وهکذا نجد الشاعر یدخل حرف المد إلى القافیة فی هذه الأسطر لیحفظ للمقطع بنیته الإیقاعیة الحزینة. فالإیقاع الشعری یصبح ثریا باستخدام تقنیة التدویر مع هذه التفعیلات وتعددها وتنوعها.لأن الإیقاع هو «بمثابة الروح التی تسری فی القصیدة، وتعتمد علی النشاط النفسی للشاعر. وترتبط بالتجربة الشعریة بکل ما فیها من ثراء وخصوبة.» (الصباغ، 2002م: 178) وهذا یؤدی دوراً حاسماً فی ربط السطور الشعریة ویساعد الشاعر على إفراغ انفعالاته الشعوریة، فلا یتوقف إلا بانتهائه منها، ویعمل على تماسک النسیج الشعری، ویحافظ على انسجام النغمة الموسیقیة. 3-5- القافیة تُعَدُّ القافیة من أکثر المفاهیم التصاقاً بالشعر وأکثر المصطلحات جریاناً فی خطاب الشاعریین قدیماً وحدیثاً. ویقول إبراهیم أنیس: «لیست القافیة إلاّ عدّة أصوات تتکوّن فی أواخر الأشطر أو الأبیات من القصیدة، وتکرارها هذا یکوّن جزءاً هاماً من الموسیقی الشعریة. فهی بمثابة الفواصل الموسیقیة یتوقّع السامع تردّدها، ویستمتع بمثل هذا التردّد الذی یطرق الآذان فی فترات زمنیة منتظمة، وبعدد معیّن من مقاطع ذات نظام خاصّ یسمّی بالوزن.» (أنیس، 1952م: 244) أن هیمنة القافیة فی بنیة السطر الشعری الحدیث قد تراجعت، فالشاعر الحدیث أصبح یتمتع بحریة أکبر فی بناء التراکیب، واستخدام القافیة. أما ما زالت القافیة رغم کلّ محاولات التطوّر والتجدید القدیمة والحدیثة، رکناً هاماً وله علاقة بالإیقاع الذی هو روح الشعر .وتری نازک الملائکة فی هذا الصدد: «مهما یکن من فکرة نبذة القافیة وإرسال الشعر فإنّ الشعر الحرّ بالذات یحتاج إلی القافیة احتیاجاً خاصاً. وذلک لأنّه شعر یفقد بعض المزایا الموسیقیة المتوفرة فی شعر الشطرین الشائع.» (الملائکة، 1967م: 164) إذن القافیة ضربة إیقاعیة على المستوى العروضی لا تقلّ أهمیةً عن الوزن والبنى الداخلیة.لکن یکمن الفارق الجوهری بین القافیة قدیماً وحدیثاً فی «أن القافیة فی القصیدة القدیمة کانت تحتاج من الشاعر إلی حصیلة لغویة واسعة، وکثیراً ما کان الشعراء یحصلون علی هذه القوافی قبل أن ینظموا الأبیات ذاتها، وکلنا یعرف هذا، ویعرف مدی جنایته علی التعبیر الشعری الصادق الأصیل.» (علی، 2014: 123) أما القافیة فی الشعر المعاصر فکلمة لا یبحث عنها فی قائمة من الکلمات التی تنتهی نهایة واحدة، بل هی متفاعلة مع النص الشعری؛ ویقول عزالدین إسماعیل فی هذا الصدد: «هی کلمة ما بین کل کلمات اللغة یشتد علیها السیاقان: المعنوی والموسیقی للسطر الشعری؛ لأنها هی الکلمة الوحیدة التی تصنع لذلک السطر نهایة ترتاح النفس للوقوف عندها. والقافیة فی الشعر الحدیث أصعب مراماً من القافیة فی الشعر القدیم.» (إسماعیل، 2007: 67) فالقافیة تلعب دوراً أساسیاً فی ترکیبة الإیقاع وهی «مرکز الحرکة النصّیة وبؤرة الإشعاع الإیقاعی فی القصیدة؛ وهی المرتکز الفنّی الذی یستند إلیه محور الإیقاع وشعریة الدلالة فی بثّ الحرکة الجمالیة فی التراکیب الشعریة.» (شرتح، 2011م: 203) والدارس لهذه القصیدة یجد أنّ الشاعر یهتم بالقافیة؛ فلا یخلص منها إلّا سرعان ما یعود إلیها، مما أکسبت القصیدة قوّة تماسک، وجمال الإیقاع. برزت التقفیة سمة بارزة فی هذه القصیدة، إذ بلغ عدد السطور المقفّاة (75) سطراً بما یشکل 68،80%، من عدد سطور القصیدة. إنّ الشاعر بنی قوافیه فی هذه القصیدة متبادلة منوّعة، فتتّحد القافیة فی سطرین متوالیین أو أکثر، أو غیر متوالیین. وذلک قوله: تقدَّمت حجارةُ المنازلْ / تقدَّمت بکارةُ السنابلْ / تقدم الرُّضَّعُ والعُجَّزُ والأراملْ / تقدمت أبوابُ جینینِ ونابلُسِ / أتت نوافذُ القدسِ صلاةُ / الشمسِ / والبخورِ والتوابلْ / تقدّمت تُقاتلْ!. (القاسم، 1993م: 411) قد انتهت السطور الخمسة بقافیة واحدة وروی واحد ویدخل حرف المدّ قبل حرف الروی، مما یخلق إیقاعاً متجاوباً فی القافیة بمدّ الصوت واکتساب القصیدة درجة موسیقیة ملموسة؛ ممّا تمثّله هذه الحرکة الطویلة من حمل للمشاعر الممتدّة والأحاسیس العمیقة وهذا یضفی علیها طاقة موسیقیة أکبر ویعطی مساحة واسعة للإنشاد. هو یعتمد على تعدّد وتنوّع القافیة فی القصیدة، والشکل التالی من التقفیة جاء بشکل القافیة المزدوجة وهی «القافیة التی تأتی فی کل سطرین متتالیین، وفق نظام: (أ أ، ب ب، ج ج،...) وتتماثل هذه القوافی على المستوى الصوتی والصیغة.» (تبرماسین، 2003م: 87) ومن ذلک قوله: تقدَّموا / بناقلاتِ جُنْدِکُمْ / وراجِماتِ حقدکُمْ / وهدﱢدوا / وشردﱢوا / ویتموا / وهدﱢموا / لنْ تکسِروا أعماقَنا / لنْ تهزموا أشواقَنا / نحنُ قضاءٌ مُبرَمُ. الف الف ب ب ج ج د د (القاسم، 1993م: 406) یعمد الشاعر إلى توزیع القافیة بطریقة خاصة؛ لیضع أمام القارئ مجموعة من التماثلات الموسیقیة المتتابعة وهذا التنوّع الذی لجأ إلیه الشاعر مع هذا التناغم الصوتی بین القوافی یبثّ فی الأسطر إیقاعاً جمالیاً خاصاً. والشکل التالی من التقفیة جاءت بشکل القافیة المتعانقة وهی «القافیة التی تجیء وفق نظام (أ ب ب أ).» (الغرقی، 2001م: 75) ومن ذلک قول الشاعر: لا غازِکُم المُسیلِ للدُموعْ / غَزّةُ تُبکینا / لأنها فینا / ضراوةُ الغائبِ / فی حنینهِ الدامی إلی الرجوعْ / تقدموا. (القاسم، 1993م: 410) تعانقت القافیة فی السطر الأول مع الخامس، والثانی مع الثالث موجدة إیقاعاً مفترقاً حیناً، مقترناً حیناً آخر؛ مما أکسب النصّ إیقاعیة رائعة، کما یدخل حروف المدّ إلى القافیة مما یکسب إیقاع القافیة سمة صاعدة ویدعم التصاعد الإیقاعی للقافیة. إذن، تتمیّز القافیة عنده بأنها رکن أساس من أرکان قصیدته. وقد أکثر الشاعر فی هذه القصیدة من استخدام القوافی المطلقة وهی «ماکان رویّها متحرکاً.» (أنیس، 1952م: 258) ممّا یزید القافیة جمالاً خاصاً، حیث جاءت (63) قافیة بنسبة 84%، من نوع القافیة المطلقة، وجاءت (12) قافیة بنسبة 16%، من نوع القافیة المقیّدة – مسکنة الروی - ویری إبراهیم أنیس فی کتابه "موسیقی الشعر العربی"، أنّ «قریب 90% من الشعر العربی جاء محرک الروی (القافیة المطلقة)، لأنّها أوضح فی السمع. والآذان قد ألفت أن تسمع بعد الرویّ شیئاً آخر.» (نفس المصدر: 255) إذن هذه النسبة من القافیة المطلقة فی القصیدة تصعّد النغم الموسیقی للقصیدة وتمدّه وتطیله. وإذا کانت القافیة عنصراً أساسیاً من عناصر القصیدة للکشف عن مقدرة الشاعر فی خصوبة وإحکام شعره فإن القافیة - بأنواعها المختلفة - تأتی فی القصیدة متکاملة انسیاباً إیقاعیا ولا یشعر القارئ فیها أی استکراه وصعوبة. من خلال قراءتنا المتأملة للقصیدة تبیّن لنا أنّ التلاحم والانسجام بین القافیة ومضامین القصیدة واضحة؛ ویظهر دور القافیة فی تحقیـق وظیفة إیقاعیة فی أجزاء القصیدة وتعبیر عن المعنی وإظهاره ولفت الإنتباه إلی دلالات النصّ. «إنّ جمالیة القافیة تتجلی فی مدی انسجامها مع المعنی المتحقق فی کل شطر شعری أولاً؛ وفی ملائمة السیاق النصی العام ثانیاً؛ وهذا کله یؤکد أن القافیة لا تنفصل عن المعنی؛ وأن المعنی لا ینفصل عن الإیقاع؛ وفی حال الفصل یتم سقوط النص الشعری إبداعیاً لفقدانه النسج الذی یمده بأسباب الإبداع.» (ترمانینی، 2004: 168) والقوافی فی هذه القصیدة (تقّدموا، جهنّمُ، یستسلمُ، هدﱢدوا، شردﱢوا، یتموا، هدﱢموا، کف، حتف، مُتَهمُ، مجرمُ، دموع، رجوع، رکوع، أرامل، تقاتل و...) غیر نافرة، وما جاءت عنصراً تزیینیاً قابلاً للحذف، بل القارئ المتأمّل فی هذه القصیدة یدرک أنّ هذه الکلمات تشکّل معجمه الشعری وأکثرها هیمنة علی سائر الکلمات وأشدّها تأثیراً علیها. 3-5-1- الروی یعدّ الرویّ أهمّ حروف القافیة، لأنّه الحرف الذی تبنی علیه القصیدة. هناک حروف تصلح للروی «فتکون جمیلة الجرس لذیذة النغم، سهلة المتناول وبخاصّة إذا کانت القافیة مطلقة، من ذلک الهمزة والباء والدال والراء والعین، واللام بخلاف نحو الثاء والذال والشین والضاد والغین فإنّها غریبة ثقیلة الکلمات، فکان اختیار الرویّ من مقاییس الشعر الدقیقة ولا یخالف الجمیل المألوف إلاّ سقیم الذوق أو متصنّع.» (الشایب، 1994م: 325) من خلال قراءتنا فی القصیدة نجد أنّ الشاعر حافظ علی اختیار الأحرف ذات الجرس والنغم، ونجد أنّه استخدم من حروف الهجاء ثمانیة أحرف، وکان مکثراً فی بعضها ومقلّاً فی البعض الآخر؛ بالنظر إلی حروف الروی فی القصیدة؛ فإن "المیم" تأتی فی مقدّمتها 44 مرة، بنسبة 58،66%، ثمّ تلیها اللام 8 مرّات، ثمّ العین 6مرّات، ثمّ النون 7 مرّات ثمّ الباء والیاء 3 مرّات لکلّ منهما، ثم الفاء والثاء مرّتین لکلّ منهما. ومن خلال استعراضنا لحروف الروی فی القصیدة نلحظ أنّ سمیح القاسم استعمل الحروف الشائعة فی الشعر العربی ولم یستخدم الحروف الثقیلة، مثل الضاد، الخاء، الطاء، الغین؛ ولتبیین هذا الأمر سنعتمد علی تقسیم الدکتور "إبراهیم أنیس" لحرف الروی ونسبة شیوعها فی الشعر العربی فی کتابه "موسیقی الشعر" علی النحو الآتی: «أ- حروف کثیرة الشیوع وتلک هی: الراء، اللام، المیم، النون، الباء، الدال.ب- حروف متوسطة الشیوع وتلک هی: التاء، السین، القاف، الکاف، الهمزة، العین، الحاء، الفاء، الیاء، الجیم.ج- حروف قلیلة الشیوع وتلک هی: الضاد، الطاء، الهاء. د- حروف نادرة فی مجیئها رویّاً: الذال، الثاء، الغین، الخاء، الشین، الصاد، الزای، الظاء، الواو.» (أنیس، 1952م: 246) یتّضح لنا من خلال عرض أحرف الروی فی القصیدة؛ التطابق فی تواتر حروف الروی عند سمیح القاسم مع ما خرج به إبراهیم أنیس؛ حیث جاءت نسبة حروف کثیرة الشیوع فی القصیدة بنسبة 82،66% ، من مجموع حروف الروی فی القصیدة. أمّا حروف متوسطة الشیوع، فبلغت بنسبة 14،66%، أمّا حروف قلیلة الشیوع؛ فما جاءت رویّاً فی القصیدة. أمّا الحروف النادرة الشیوع، فجاء حرف واحد وهو "الثاء" مرّتین فقط. کذلک نخرج من هذا الرصد الإحصائی لحروف الروی فی القصیدة أنّ "الحروف المجهورة" - المیم، اللام، النون، الباء، العین، الیاء - هی أکثر استخداماً کرویّ فی القصیدة، إذ یبلغ عددها 71 حرف بنسبة 94،66%، من مجموع حروف الروی للقصیدة. کما استخدم الشاعر حرفین من "الحروف المهموسة" وهی: "الفاء والثاء" کلّ منهما مرّتین بنسبة 5،33% فقط، إذن إنّ الحروف الروی فی هذه القصیدة تتمیّز بالوضوح السمعی، ممّا یؤکد اتّصاف إیقاع النهایة عنده بالقوّة الإسماعیة الواضحة؛ ممّا یتناسب مع حالته الشعوریة توظیف الأصوات المجهورة فی حمل دلالة القوّة والتحدّی. لأن الجهر حدة وارتفاع فی شدة الصوت ما یثیر التنبیه بقوة التأثیر ووقعها علی السامع. فالجهر «سمة صوتیة توحی بالقوة والرفض والتحدی، والجهر یتناغم مع ارتفاع الصوت، والهمس یتناغم مع انخفاض الصوت وهدوئه.» (أبو العدوس، 2007: 262) فتتفاعل فی هذه القصیدة کثافة الأصوات المجهورة – فی الروی- التی یتطلبها حالة النص؛ للتعبیر عن جرائم الإحتلال والمآسی التی تعانی الشعب الفلسطینی من جراء الاحتلال، ویسعی الشاعر إلى حثهم علی الجهاد والنزال وتحریر الوطن، فالنص یحتاج إلی شیء من الجهر والشدة لترغیبهم علی الجهاد والتحدی؛ إذن یأتی کثافة الأصوات المجهورة فی الروی مکثفاً الصدی الانفعالی للذات الشاعرة؛ وباعثاً شعوریاً علی الإحساس الشعوری إزاء ما یحدث فی فلسطین. فقد جاءت هذه الأصوات فی خدمة الدلالة موحیة بالتجربة الشعوریة للشاعر، وبالتالی فقد انسجم معنی التحدی والنزال فی هذه القصیدة لتنسجم هذه المعانی مع هذه الأصوات المجهورة فی حمل الدلالة التی أرادها الشاعر. 4- الموسیقی الداخلیة (الإیقاع الداخلی) وراء الموسیقی الخارجیة هناک موسیقی داخلیة تنبع من اختیار الشاعر للکلمات وتوالی الحروف وما بینهما من تلاؤم، یری عبد الرحمن الوجی فی کتابه "الإیقاع فی الشعر العربی" هی «موجة صوتیة داخلة فی صمیم البناء الإیقاعی للشعر، تسیر سیر الشاعر، وتردد صدی أنفاسه، وتلوّن رؤیته بجمال أصدائها فترسم من خلال نغمها أجمل لوحة شعریة.» (الوجی، 1989م: 80) بفضل هذه الموسیقی الداخلیة یتفوق الشعراء بعضهم علی بعض، «فإذا کانت الموسیقی الخارجیة المتمثّلة فی الوزن والقافیة هی الجانب الذی یمکن أن یشترک فی استخدامه کل الشعراء علی الرغم من خصوصیة استخدامهم له، فإنّ الموسیقی الداخلیة تبقی الطابع الخاص الذی یمیز أسلوب الشاعر عن آخر، إنها البصمة التی تطبع القصیدة بطابع الشاعر المتمیز الذی لا یمکن أن یشترک معه شاعر آخر فی صیاغته وتشکیله، وذلک من خلال استخدامه المتمیز وانتقائه لکلماته وحروفه التی تنسجم مع جوّ القصیدة.» (کتانه، 2000م: 168) إذن إنّ الموسیقی الداخلیة تؤدی دوراً فاعلاً فی تکثیف المعنی، وزیادة طاقاته التعبیریة، من خلال انسجامه مع أجواء النصوص ومعانیها. والناظر فی هذه القصیدة، یجد إیقاعات أخری غیر تلک الإیقاعات المکتسبة من الأوزان والقوافی، ما یطرب له السمع من خلال سیاقات أسهمت فی تحقیق إیقاعیتها ونغمیتها، والتعبیر من خلاله عن تجربته الشعریة. منها: 4-1- التضاد التضادّ أو الطباق یعدّ من أهم وسائل اللغة لنقل إحساس بالمعنی والفکرة والموقف. «تعمل الأضداد على متابعة النصّ، وما یتشکّل عنها من علاقات، تتحرَّک فی تواتر متجاذب وکأنّها شبکة تتابع خیوطها، وتتبادل مواقعها، وتتشابک تطریزاتها على جسد النصّ. کما تقوم الأضداد بدور حیویّ فاعل فی تأسیس الوجه الأهمّ فی البنیة الحرکیة فی النصّ.» (شرتح، 2005م: 46) وهی وسیلة من الوسائل التی ارتکزت علیها موسیقی الإیقاع الداخلی، لأنّ «لها أثر فاعل فی توجیه التماس المباشر بین لفظین متعاکسی الدلالة؛ الأمر الذی یخلق شدّاً ینعکس على الموسیقى.» (جعفر، 1998م: 318) یمکننا أن نعدَّ التضاد أحد عناصر الإیقاع الداخلی، فالتقابل الصوتی بین اللفظین المتضادین یمنح الإیقاع جمالیة مؤثرة والإفصاح عن شعور قد عاشه الشاعر فی لحظات حیاته؛ «یهتم الشاعر بالبناء التقابلی للألفاظ لأحداث الأثر الدلالی والإیقاعی، ویحاول استثماره للتعبیر عن الدفقات الشعوریة، حتی یجسدها للمتلقی فی قالب جمالی متمیز.» (علوان، 2008: 490) فهو یمنح الإیقاع جمالیة مؤثرة من خلال توارد اللفظة وضدیتها بشکل متقارب. لأنه «من البنی البدیعیة، ذات التأثیر الدلالی، عن طریق إبراز المغایرة والمخالفة، کما إنّ لها تأثیراً إیقاعیاً وخاصة عندما تدخل فی أطار من النسق الصوتی بفعل التماثل الصرفی بین طرفی التطابق.» (نفس المصدر: 590). من خلال دراستنا للقصیدة لاحظنا أنّ الطباق قد ورد کثیراً فی القصیدة وله أثر فی إحداث جرسٍ موسیقیٍّ من خلال انسجام الألفاظ وتناغمها فی ترکیب النصّ. وتلعب دوراً اساسیاً فی تفریض انفعالات الشاعر وأحاسیسه، کما کان لها دور واضح فی إضفاء نغم موسیقی جمیل للنصّ. من ذلک قوله: کیف اشتَهیتُم واقتلوا / قاتِلُکُم مُبَرَّأٌ / قتیلُنا مُتّهَمٌ / ولمْ یَزَلْ ربُّ الجنودِ قائماً وساهراً. (القاسم، 1993م: 408) فنلحظ توالی الإیقاع فی لفظتی "قاتل" و"قتیل"، و"مُبَرَّأٌ" و"مُتّهَمٌ"، منحتا إیقاعاً آخر اکتسبتاه من الطباق؛ فالتضاد بین هذه الألفاظ خلق تنغیماً إیقاعیاً متجاوباً عزز الترابط الموسیقی، وأضاف جمالیة وعذوبة فی المقطع. کذلک قوله: لا تفهموا / أوَّلُکمْ آخِرُکمْ / مؤمِنُکمْ کافِرکُمْ / وداؤکم مُستحکِمُ. (نفس المصدر: 408- 409) کذلک: تقدَّموا / حرامُکُمْ مُحلّلٌ / حلالُکُمْ مُحرّمُ. (نفس المصدر: 407) کذلک قوله: فکلُّ شوطٍ ولهُ نهایهْ / وکلُّ حبلٍ ولهُ نهایهْ / وشمسُنا بدایةُ البدایهْ. (نفس المصدر: 409) فالتضاد بین هذه الألفاظ خلق تناغماً موسیقیاً جمیلاً مما زاد جمالیة ورنة فی هذه السطور الشعریة. ویعطی نغمة متراوحة فی هذه الأسطر؛ کما أنه یقوی جانب الإیقاع من خلال التوزیع المتقابل للنغم بین عنصرین متضادین. لأن «الجمع بین الضدین فی نسق واحد یکسو الکلام جمالاً، ویزیده بهاءً، ورونقاً، فالضد یظهر حسنه الضد.» (الغنیم، 1996م: 268) هکذا، الطباق یحقق توازناً نغمیاً جمیلاً، ویؤدی دوراً أساسیاً فی تعزیز الترابط الموسیقی والإنسجام والتکامل بین سطرین متوالیین. لأن الضد حینما یجمع مع الآخر یکون قد یشحن السطر الشعری بموسیقی جمیلة وهی مؤثرة فی المعنی بحیث تقدم المعنی أکثر انسجاماً مع الأذن، وتلعب هذه الثنائیات المتضادة دوراً أساسیاً فی تفریض انفعالات الشاعر وحالته النفسیة الثائرة والمشوبة بالغضب والتحدی. 4-2- التوازی لم تتوقف عناصر الإیقاع فی هذه القصیدة عند حدود الدراسة العروضیة بل توجد فی هذه القصیدة التشکیلات الصوتیة الأخری التی تخلق أنماطا من الإیقاع الداخلی، منها التوازی الذی له دور فی تکثیف الإیقاع وجمالیته. وهو «عبارة عن تماثل أو تعادل المبانی أو المعانی.» (حسب الشیخ، 1999م: 9) وقد عرفه یاکبسون بأنه «متوالین متعاقبین أو أکثر لنفس النظام الصرفی – النحوی المصاحب بتکرارات أو اختلافات إیقاعیة وصوتیة أو معجمیة دلالیة.» (یاکبسون، 1988م: 108) بعبارة أخرى هو« تألیف لغوی یقوم على تماثل بنیوی غیر دلالی فی موضع معین من النص مرتکز على التعادل فی البنیة وترتیبها.» (أبوحمادة، 2001م: 72) یتوّلد عن أسلوب التوازی أثر موسیقی جمیل الوقع، لأنه حرکة إیقاعیة ورنین موسیقی نغمی نتیجة لتماثل قرائنه فی الصیغ الصرفیة والعروضیة وفی الحرکات والسکنات. ویری یاکبسون «إن المسألة الأساسیة للشعر تکمن فی التوازی.. وقد لا نخطئ حین نقول إن بنیة الشعر هی بنیة التوازی المستمر.» (یاکبسون، 1988م: 105-106) فقد حقق التوازی فی القصیدة نغماً موسیقیاً له تأثیر واضح على نفس المتلقی ومن تجلیاته ما جاء فی قوله: تقدَّموا / کلُّ سماءٍ فوقَکُمْ جهنّمٌ / وکلُّ أرضٍ تحتَکُمْ جهنّمُ / تقدَّموا / حرامُکُمْ مُحلّلٌ / حلالُکُمْ مُحرّمُ. (القاسم، 1993م: 407) حاول سمیح القاسم فی هذا المقطع أن یقیم بنیة التوازی فأتی بترکیبین متعادلین؛ فالتماثل بین الجملتین جاءت تماثلاً فی الترکیب، وعدد التفعیلات، وهذا یمنح الأسطر ترابطًا، وتماسکًا، وایقاعیة تشد المتلقی، وتدفعه لمتابعة الأقسام ویخلق توافقاً نغمیاً متسقاً یشیع موسیقى داخلیة فی هذه السطور الشعریة. کذلک قوله: تقدَّموا / مِنْ شارعٍ لشارعِ / مِنْ منزلٍ لمنزلٍ / مِنْ جثةٍ لجثةٍ / تقدَّموا / یصیحُ کلُّ حجرٍ مُغتَصَبٍ / تَصرخُ کلُّ ساحةٍ مِنْ غَضبٍ / یضجُّ کلُّ عَصَبٍ / الموتُ.. لا الرُکوعْ / موتٌ.. ولا رکُوعْ. (نفس المصدر: 410) هذا التکرار الترکیبی ینتج توازیاً صوتیاً، ولا یخفى على القارىء جمال الایقاع الذی ینبعث من هذا التنظیم الخاص بین هذه السطور الشعریة بواسطة تماثلات متکررة فی ترکیبها، وإیقاعها التی عملت على رفع الوظیفة الشعریة، وإکساب القصیدة وتیرة إیقاعیة منسجمة أعطته رونقاً، وجمالاً. إضافة إلى ذلک نجد کلماته سهلة لکنها تحمل طاقة إیحائیة قویة بالرغم من بساطتها مما تولد إیقاعا قویاً، یؤثر فی القارئ. إذن هذا التوازی یسهم فی تکوین الإیقاع ویعکس إصرار الشاعر علی تحقیق النصر واندماج شعور الأسی مع شعور التحدی والمقاومة، لیثری موسیقاه الأقرب لموسیقى المارش العسکری والمعبرة عن الثورة والانتفاضة. إذن إنّ وظیفة التوازی فی النص الشعری لا یمکن قسرها على المستوى الإیقاعی حسب، لان التوازی«ظاهرة موسیقیة ومعنویة فی آن واحد.» (أبوإصبع، 2009م: 410) فهو یولد نغمة موسیقیة من جهة وتعبر عن عواطف الشاعر الثائرة ونقلها للقارئ فی شکل تماثلات وإیحاءات صوتیة من جهة أخری. 4-3- التکرار قد تغیرت الأسالیب الشعریة فی العصر الحدیث بتغیّر ظروف العصر وأصبح التکرار أحد العناصر الأساسیة للقصیدة فی الشعر المعاصر. «إنّ البنیة التکراریة فی القصیدة الحدیثة أصبحت تشکل نظاماً خاصاً داخل کیان القصیدة، یقوم هذا النظام علی أسس نابعة من صمیم التجربة ومستوی عمقها وثرائها، وقدرتها علی اختیار الشکل المناسب الذی یوفر لبنیة التکرار أکبر فرصة ممکنة لتحقیق التأثیر، من خلال فعالیته التی تتجاوز حدود امکانات النحویة واللغویة الصرف، لتصبح أداة موسیقیة دلالیة فی آن معاً.» (عبید، 2001م: 187- 188) ولعل أبرز العوامل التی ساعدت على انتشاره وتوظیفه «هی الطبیعة الإنسانیة بما فیها من تناقضات وأحداث وفصول، واللغة بطبیعتها وترکیبها القائم على التکرار والتماثل وإعادة الألفاظ لاستیفاء المعنى، وطبیعة الشعر بما فیه من تفاعیل وإیقاع وأنساق وموسیقى وفواصل تحتاج إلى التکرار لتخفیف التفاعیل، والانسجام والتأثیر، ویضاف إلى ذلک الأثر النفسی؛ إذ یعد من أهم العوامل المسببة للتکرار.» (القضاة، 2009م: 266) ویأتی التکرار فی إطار تعزیز التجربة الشعریة، ویضفی ضربات إیقاعیة ممیزة، ویؤدی دوراً مهماً فی إغناء النص الشعری دلالیاً وإیقاعیاً. و«قد تکتسب الکلمات فی تکرارها سحر القافیة الإیقاعی فتصبح إیقاعیتها صورة موسیقیة عصریة تختلف عن صورتها فی شعر العصور السابقة، فیستطیع الشاعر أن یعوّض بالتکرار رنین القافیة البدائی الجادّ الذی فقدته القصیدة الحدیثة، وأن ینقذ الشعر من النثریة.» (صدقی، 2010م: 80) والتکرار یعتبر أحد المکونات الهامة فی البناء الإیقاعی لهذه القصیدة مما یثری القصیدة ویؤدی دوراً أساسیاً فی تماسکها وخلق توافق نغمی ورقة وطلاوة موسیقیة شعریة. ومن أنواع التکرار الذی لاحظنا عند سمیح القاسم فی هذه القصیدة، هی تکرار کلمة "تقدموا و تقدمت" ویکرر الشاعر الکلمة نفسها فی أکثر من موقع بطریقة تزید فی إثراء النص، سواء فی الإیقاع أو فی الدلالة، حیث کرر هذه الکلمة (24) مرة فی القصیدة، بحیث یتخذ الشاعر من المکرر نقطة الارتکاز فی نشر عواطفه وتأکید فکرة محددة وتعدّ بمثابة مفتاح القصیدة ویرفع درجة تأثیرها. ومن ذلک قوله: تقدَّموا.. / ها هو ذا تقدّم المخیمُ / تقدّم الجریحُ والذبیحُ والثاکلُ / والمُیَّتمُ / تقدَّمت حجارةُ المنازلْ / تقدَّمت بکارةُ السنابلْ / تقدّم الرُّضَّعُ والعُجَّزُ والأراملْ / تقدمت أبوابُ جینینِ ونابلُسِ / أتت نوافذُ القدسِ صلاةُ الشمسِ / والبخورِ والتوابلْ / تقدّمت تُقاتلْ! / تقدّمت تُقاتلْ!. (القاسم، 1993م: 411) یعد تکرار کلمة "تقدّم"، من السمات الأسلوبیة والمهمة التی وظفها الشاعر فی هذه القصیدة، إن تکرار هذه الکلمة تسع مرات فی هذا المقطع خلق إیقاعاً منظماً، وخلق جواً نغمیاً ممتعاً. وهذا یعزز موسیقی القصیدة الداخلیة ویعطیها طابعاً خاصاً ویتفاعل معها المتلقی ویتذوقها. أما الحرکة الإیقاعیة الناشئة عن تکرار هذه الکلمة إضافة إلی تأثیره علی الجانب الإیقاعی، فتحمل دلالات مرکزیة فی القصیدة؛ فلهذه الظاهرة أثر فی إثراء النص إذ أفادته فی توکید المعنی الذی ألّح الشاعر علی إظهاره موحیاً بالتحدی والثورة. والتکرار فی هذه القصیدة لا یقوم فقط على مجرد تکرار اللفظة، بل نری تکرار الجمل والعبارات فیها، والشاعر یحاول من خلاله إغناء فکرته، فضلاً عن تأثیره علی الجانب الإیقاعی. من ذلک قوله: "کلُّ سماءٍ فوقَکُمْ جهنّمٌ / وکلُّ أرضٍ تحتَکُمْ جهنّمُ" حیث یکرر سمیح القاسم هذه الأسطر أربع مرات، ویکررها فی بدایة القصیدة کما یختم بها القصیدة. إن تکرار هذه العبارة فی بدایة کل فقرة من فقرات هذه القصیدة خلقت إیقاعاً منتظماً، کما هذه الجملة تعتبر من مفاتیح القصیدة. فإنّ الشاعر عمد إلی تکرارها لیرکز المعنی المتصل بالقصیدة فی ذهن المتلقی کما جاء تکرار هذه العبارة منسجماً مع الجو النفسی للشاعر أثناء انفعالاته لثورته وتمرده، لأنّ للتکرار «مبعثٌ نفسی، وهو من ثم مؤشر أسلوبی یدل على أن هنالک معانی تُحوِج إلى شیء من الإشباع.» (محمد، 2010م: 49) کما نری نفس العبارة تعطی نغمة متراوحة من خلال التوزیع المتقابل للنغم: کـــلُّ سماءٍ فوقَکُمْ جهنّمٌ = # # = وکلُّ أرضٍ تحتَکُمْ جهنّمُ لقد نجح الشاعر من خلال توزیع هذا التضاد والتناسب بین الکلمات فی اضافة التوقیع النغمی علی القصیدة ویعطی النص سلاسة وخفة ورقة ویعزز موسیقی القصیدة الداخلیة. وقد یعمد الشاعر إلی استخدام نوع آخر من ألوان التکرار وهی التکرار الإشتقاقی التی تعتمد المزاوجة بین الکلمات المماثلة فی السطر الشعری. منها قوله: تقدَّموا / کیف اشتَهیتُم واقتلوا / قاتِلُکُم مُبَرَّأٌ / قتیلُنا مُتّهَمٌ. (القاسم، 1993م: 408) إنّ هذا نوع من التکرار قد أثری بنیة الإیقاع إذ یردد الشاعر نوعاً من الإیقاع الذی یتلاءم مع الدفقة الشعوریة للشاعر ویشد سمع القارئ بإیقاعه المتردد والمتماثل فی النغمة الموسیقیة. وهناک ظاهرة أخری تلفت النظر فی تشکیل الإیقاع الداخلی للقصیدة، وهی التکرار الصرفی الذی یوّفر للنص إیقاعاً موسیقیاً مؤثراً؛ منها توالی الأفعال المتماثلة کما فی قوله: وهدﱢدوا / وشردﱢوا / ویتموا / وهدﱢموا / لنْ تکسِروا أعماقَنا / لنْ تهزموا أشواقَنا / نحنُ قضاءٌ مُبرَمُ. (نفس المصدر: 406) کذلک: فاسترسلوا / واستبسلوا / واندفعوا / وارتفعوا / واصطدموا / وارتطموا. (نفس المصدر: 409) إنّ توالی الأفعال بهذه الکثافة منح النص صورة إیقاعیة خاصة حیث تتراکم فی مساحة ضیقة دون فاصل، ویضفی على القصیدة نغمة وتناسقاً إیقاعیاً، بفضل الإیقاع الصوتی المتولد عن تکرار البنیة التکراریة القائمة على توالی الأفعال. ویولد لدی المتلقی شعوراً بالتسارع والاستمراریة ویؤکد إرادة التحدی للشعب الفلسطینی المقاوم. إذن نجح سمیح القاسم فی إضفاء الإیقاع القوی علی جو القصیدة، وبذلک فإنه یعکس جانباً من الموقف النفسی والانفعالی للشاعر لتُغنی تجربته الشعوریة. وکلّ هذه العناصر الإیقاعیة شکلت إیقاعات متنوعة تجعل المستمع یعیش الحدث الشعری وتنقله إلی حالة الشاعر النفسیة وتحقق انسجام القصیدة. النتائج أوضحت الدراسة أنّ موسیقى هذه القصیدة تسهم إسهاماً فاعلاً فی خلق الجوّ النفسی الذی یرسم الصورة الشعریة، ویعبّر عمّا تحمله التجربة الشعوریة؛ إنّ قارئ هذه القصیدة لا یجد فیها هنة أو ضعفاً لقافیة، أو نشوزاً لإیقاع الداخلی أو تفعیلة خارجة عن مساقها النغمی، وجوهر الخصوبة الإیقاعیة الجمالیة یضفی علی القصیدة دفقاً شعوریاً یستثیر القارئ جمالیاً. یبنی الشاعر قصیدته علی التشکیل الهندسی فی توزیع السطور الشعریة بتفاوت أشطرها بین الطول والقصر؛ محققاً سلاسة وارتفاعاً فی الإیقاع؛ مما یجعلها ذات نسقیة عالیة حتی فی عمق الانفعال والتوتر الشعوری الغاضب إزاء الأحداث المصیریة التی تعیشها شعبه وبلده. وتصرّف الشاعر حسب نفسه الشعری وقد تحرّر من حدود التفعیلات القدیمة، وهذا المزج بین التفعیلات مزج رائع، فلا نسمع نغم نشاز تنفر منه الأذن وتأباه النفس. فقد جاء التشکیل الإیقاعی فی هذه القصیدة بحسب الدفقة الشعوریة، ولم یلتزم سمیح القاسم بعدد محدّد من التفعیلات داخل السطر الشعری، بل أفاد الشاعر من الطاقة الناتجة من التغیّرات فی جعل القصیدة تنبض حرکة. وهو حافظ علی اختیار الأحرف ذات الجرس والنغم کرویّ ممّا یتناسب مع حالته الشعوریة توظیف الأصوات المجهورة فی حمل دلالة القوة والتحدّی. والطباق قد ورد کثیراً فی القصیدة وله أثر فی إحداث جرسٍ موسیقیٍّ من خلال انسجام الألفاظ وتناغمها فی ترکیب النصّ، وتلعب دوراً اساسیاً فی تفریض انفعالات الشاعر وأحاسیسه. وقد تبیّن لنا أنّ التوازی قد حقّق فی القصیدة نغماً موسیقیاً له تأثیر واضح على نفس المتلقّی ویخلق توافقاً نغمیاً متّسقاً یشیع موسیقى داخلیة فی القصیدة. والتکرار یعتبر أحد المکوّنات الهامّة فی البناء الإیقاعی لهذه القصیدة مما یثری القصیدة ویؤدی دوراً أساسیاً فی تماسکها وخلق توافق نغمی ورقة وطلاوة موسیقیة شعریة. ونستنتج لقد بلغت هذه القصیدة مبلغاً عالیاً من التنظیم والنضج الفنی مما یجعلها متناغمة شکلاً، مکتملة إیقاعاً، ودلالة، لترقی أعلی مستویات الإثارة والإبداع. فالإیقاع جاء ملائماً مع الحالة الشعوریة لدی الشاعر الدالة علی واقع فلسطین ومعاناته، وعلی هذا یؤدی الإیقاع دوراً مهماً فی تعزیز الدلالة وإیقاعیة هذا النص الشعری. | |||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
مراجع | |||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
أبو إصبع، صالح خلیل. (2009م). الحرکة الشعریة فی فلسطین المحتلة بین عامی 1948- 1975م. الأردن: دار البرکة للتوزیع والنشر. أبوحمادة، عاطف. (2001م). «البنیة الإیقاعیة فی جداریة محمود درویش». مجلة جامعة القدس المفتوحة للأبحاث والدراسات. العدد 25. صص 90-57 أبو العدوس، یوسف. (2010م). الأسلوبیّة الرؤیة والتطبیق. ط2. الأردن: دار المسیرة للنشر. إسماعیل، عز الدین. (2007م). الشعر العربی المعاصر قضایاه وظواهره الفنیة والمعنویة. بیروت: دار العودة. ـــــــ. (لاتا). التفسیر النفسی للأدب. ط4. لامک: مکتبة غریب. أنیس، إبراهیم. (1952م). موسیقی الشعر. ط2. مصر: مکتبة الأنجلو المصریة. بدیع یعقوب، إمیل. (1991م). المعجم المفصل فی علم العروض والقافیة وفنون الشعر. ط1. بیروت: دار الکتب العلمیة. البستانی، بشرى. (1998م). «لامیة المتنبی ما لنا کُلّنا جَوٍ یا رسول؛ قراءة إیقاعیة». مجلة آداب الرافدین. العدد31. تبرماسین، عبد الرحمن. (2003م). العروض وإیقاع الشعر العربی. ط1. القاهرة: دار الفجر. ترمانینی، خلود. (2004م). الإیقاع اللغوی فی الشعر العربی الحدیث. (رسالة الدکتوراه). سوریة: جامعة حلب. جعفر، عبد الکریم راضی. (1998م). رماد الشعر دراسة فی البنیة الموضوعیة والفنیة للشعر الوجدانی الحدیث فی العراق. ط1. بغداد: دار الشؤون الثقافة العامة. الجیوسی، سلمی الخضراء. (1997م). موسوعة الأدب الفلسطینی المعاصر، ج/1، بیروت: الموسوعة العربیة للدراسات والنشر. حرکات، مصطفی. (1998م). أوزان الشعر. ط1. القاهرة: الدار الثقافیة للنشر. حسب الشیخ، عبد الواحد. (1999م). البدیع والتوازی. ط1. لامک: مکتبة ومطبعة الإشعاع الفنیة. حمدان، ابتسام أحمد. (1997م). الأسس الجمالیة للإیقاع البلاغی فی العصر العباسی. ط1. حلب: دار القلم العربی. رمانی، إبراهیم. (لاتا). الغموض فی الشعر العربی الحدیث. القاهرة: الهیئة المصریة العامة للکتاب. الشایب، أحمد. (1994م ). أصول النقد الأدبی. ط10. مصر: مکتبة النهضة المصریة. شرتح، عصام. (2011م ). موحیات الخطاب الشعری فی شعر یحیی السماوی. ط1. دمشق: دار الینابیع. ــــــ. (2005م). ظواهر أسلوبیة فی شعر بدوی الجبل. دمشق: منشورات اتحاد الکتاب العرب. الصباغ، الرمضان. (2002م). فی نقد الشعر العربی المعاصر دراسة جمالیة. ط1. الإسکندریة: دارالوفاء لدنیا الطباعة والنشر. صدقی، حامد. وصفر بیانلو. (2010م). «التکرار وتداخل دلالة الفنیة فی القصیدة الحرّة عند "السیاب"»، مجلة اللغة العربیة وآدابها، السنة السادسة، العدد 10. صص 85-63 عبید، محمد صابر. (2001م). القصیدة العربیة بین بنیة الدلالیة والبنیة الإیقاعیة. دمشق: اتحاد الکتاب العرب. علوان، محمد علی. (2008م). شعر الحداثة، دراسة فی الإیقاع، لا مک: العلم والایمان للنشر والتوزیع. علی، ابراهیم جابر. (2014م). البنیة الصوتیة فی الشعر الحدیث. ط.1. القاهرة: الهیئة المصریة العامة للکتاب علی، عبد الرضا. (1997م). موسیقی الشعر العربی قدیمه وحدیثه؛ دراسة وتطبیق فی شعر الشطرین والشعر الحر. ط1. لامک: دار الشروق. الغرقی، حسین. (2001م). حرکیة الإیقاع فی الشعر العربی المعاصر. المغرب: إفریقیا الشرق. الغنیم، إبراهیم عبدالرحمن. (1996م ). الصورة الفنیة فی الشعر العربی؛ مثالٌ ونقد. القاهرة: الشرکة العربیة للنشر والتوزیع. فیدوح، عبد القادر. (1998م). الاتجاه النفسی فی نقد الشعر العربی. ط1. الأردن: دار صفاء للنشر. القاسم، سمیح. (1993م). الأعمال الکاملة. المجلد الثالث. الکویت: دار سعاد الصباح. قدامة بن جعفر. (1980م). نقد الشعر، تعلیق: عبد المنعم خفاجی. ط.1. مصر: مکتبة الأزهریة. القضاة، محمد أحمد. (2009م). «الظواهر الأسلوبیّة فی "جداریة" محمود درویش». مجلة جامعة الشارقة للعلوم الإنسانیة والاجتماعیة. المجلد: 6. العدد الثانی. صص 291-245 کتانه، نهیل فتحی أحمد. (2000م). دراسة أسلوبیة فی شعر أبی فراس الحمدانی (رسالة ماجستیر). جامعة النجاح الوطنیة. فلسطین. نابلس. محمد، أحمد علی. (2010م). «التکرار وعلامات الأسلوب فی قصیدة "نشید الحیاة" للشابی دراسة أسلوبیة دلالیة». مجلة جامعة دمشق. المجلد: 26. العدد الأول + العدد الثانی. صص 72-35 المطیری، محمد بن فلاح. (2004م ). القواعد العروضیة وأحکام القافیة العربیة. ط1. لامک: مکتبة أهل الأثر. الملائکة، نازک. (1967م). قضایا الشعر المعاصر. ط2. لا مک: منشورات مکتبة النهضة. نجار، مصلح عبد الفتاح، وأفنان عبد الفتاح النجار. (2007م). «الإیقاعات الردیفة والإیقاعات البدیلة فی الشعر العربی، رصد لأحوال التکرار وتأصیل لعناصر الإیقاع الداخلی». مجلة جامعة دمشق. المجلد:23. العدد الأول. النویهی، محمد. (1971م). قضیة الشعر الجدید. ط2. القاهرة: مکتبة الخانجی دار الفکر. هلال، محمد غنیمی. (لاتا). النقد الأدبی الحدیث. القاهرة: دار النهضة. الوجی، عبد الرحمن. (1989م). الإیقاع فی الشعر العربی. ط1. دمشق: دار الحصاد. یاکبسون، رومان. (1988م). قضایا الشعر. ترجمة: محمد والی ومبارک حنون. ط1. الدار البیضاء: دار توبقال. یوسف، حسنی عبد الجلیل. (1989م ). موسیقی الشعر العربی. مصر: الهیئة المصریة العامة للکتاب. | |||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
آمار تعداد مشاهده مقاله: 2,114 تعداد دریافت فایل اصل مقاله: 5,460 |