تعداد نشریات | 418 |
تعداد شمارهها | 9,997 |
تعداد مقالات | 83,560 |
تعداد مشاهده مقاله | 77,801,251 |
تعداد دریافت فایل اصل مقاله | 54,843,894 |
تمثّلات الهُجنة فی روایة "ساق البامبو" لسعود السنعوسی؛ قراءة علی ضوء المبدأ الحواری | ||
إضاءات نقدیة فی الأدبین العربی و الفارسی | ||
مقاله 3، دوره 8، شماره 32، خرداد 2019، صفحه 70-53 اصل مقاله (245.35 K) | ||
نوع مقاله: علمی پژوهشی | ||
نویسندگان | ||
شهریار نیازی* 1؛ فاطمة اعرجی2 | ||
1أستاذ مشارک فی اللغة العربیة وآدابها بجامعة طهران، طهران، إیران | ||
2خریجة دکتوراه، فرع اللغة العربیة وآدابها بجامعة طهران، طهران، إیران | ||
چکیده | ||
إنّ السرد باعتباره منتوجا ثقافیا تواصلیا، هو الظاهرة الحواریة بامتیاز، والذی لا وجود له خارج نطاق الحوار والتواصل. جاءت روایة "ساق البامبو" لتتدفق فی فضاء ثقافی على درجة ملحوظة من الاتساع، لتحقق إبداعاً أدبیاً مقنعاً، بمقدوره التعبیر بجرأة عن التناقضات والتشظی لدى الشرائح المنبوذة فی المجتمعات. فهذه الروایة امتلکت القدرة على طرح التعددیات من منطلق توسیع المحدودیات. فإنها تنبّئ عن الفضاء الثقافی المتنوع وما یتولّد عنه من وعی روائی جدید، حیث تحمل هاجس التخلّص من الصوت المسیطر الواحدی بخلق کیان نصی متعدد الأبعاد والأصوات، وهو وعی یمکن إدراکه فی النهایة المفتوحة للروایة، وفی اتساع النبرات والتطلعات المختلفة فی وعی بطل الروایة الذی یعبّر عمّا فی داخله عن "التیه" ویصف نفسه کشجرة البامبو. فقد لفتت هذه الروایة انتباهنا حیث انفتحت فصولها فی المشهد الثقافی التعددی إیذانا بانفجار التناقضات التی تشکل العلامة الأهم فی مضمونها، فهی هازئة بالوحدویّة أی الشمولیّة. من هذا المنزع نهدف دراسة استطراق هذه الروایة للموضوعات المحرّمة بشکل ملحوظ، وقراءة سردها الذی وجّه سهامه نحو الأعراف والتقالید فی المجتمعات العربیة ونحو کل ما لا یجوز المساس به؛ ومن نفس المدخل نرمی إیضاح تمثلات الهُجنة فی الهویة باعتبارها منتوج ثقافی أی صُنعة ثقافیة. ذلک من خلال هذا النموذج الفنی الناجح، نؤکد علی قابلیة السرد الروائی فی إعادة قراءة القیم وقدرته علی تغییرها. فتمّت الدراسة بمنهج وصف – تحلیلی، واستناداً إلی نظریة "الحواریة"، کی تکشف عن تمثّلات الهُجنة فی الروایة. وما توصلنا إلیه عبر هذه القراءة، هو أنّ هذه الروایة جاء سردها على إیقاع محتج، غایته تدمیر التعالی الاستبدادی الذی یمارس طمس صوت الناس وتبدید أی فرصة للنمو بحریة. هذا ما لاحظناه فی هذه الروایة إذ قامت باختلاق فضاءً حواریاً، یقرّ بالتبادلیة، سواءً بدعوة القارئ فی التفاعل مع النص أو بتأسیس الهُجنة فی حبکة الروایة. فعلی العموم، وفق ما جاء به "باختین" من المعطیات النظریة، لاحظنا تحرّر هذه الروایة من جمود الأحادیة فی سبیل إعادة تفسیر وتقویم الهویة لدی الشخصیة المرکزیة للروایة. وهکذا وجدنا لها انتصاراً علی الصوت المرکزی المفرط، حیث یستخرج القارئ منها هُجنة المواقف والخیارات فی صفحاتها. | ||
کلیدواژهها | ||
الهُجنة؛ المبدأ الحواری؛ میخائیل باختین؛ الهویة؛ ثقافة الاختلاف | ||
اصل مقاله | ||
إنّ الهجنة الثقافیة ظاهرة ناتجة عن التخالط والتألیف الثقافی بین أبناء البشر، ومفادّها أن الهویة لیست کائنا طبیعیا هبط من السماء، بل الهویة تتکوّن علی مرّ العصور وعلی مشارب فکریة متعددة. وإنّ الروایة فی عصرنا الراهن قد تُبیّن أنّ العالم قام یتجه إلی المزید من التهجّن. وإلی جانب الأنظمة المعرفیة التی قائمة علی إملاء الأیدیولوجیات، یظل السرد هو الأداة التی تقدم الرؤی المتعددة بصورة غیر مباشرة. فلقد استطاع الإنسان من خلال السرد، خلق فضاءات منشودة، إذ یخلق عالماً ممیزاً متنوعا من خلالها، کیف یشاء وبما یشاء. إنّ لحظة ظهور اللغة المنطوقة عند الإنسان، تُعدّ بمنزلة الخط الحاسم الفاصل بین الطبیعة والثقافة. وإنّ ظهور هذه الوظیفة الرمزیة عند الإنسان، وبالتالی نشأة التواصل الاجتماعی بواسطة الرموز، یمثّلان بصفة عامة تلک اللحظة الحاسمة فی تاریخ البشریة. «وإنّ کلّ ممارسة کتابیة تعادل تطلع الذات للحضور، على اعتبار انّ النص -أیّ نص- هو مظهر من مظاهر تجلی الذات، ورغباتها الملحة فی أداء أدوار الفاعلیة والمغایرة بمعناها الإبداعی.» (العباس، 2009م: 5) ومن هذا المنطلق ینبغی دراسة الروایات الصادرة عن ذوات مقهورة ومبعثرة، والتی تسعى إلى الإسهام فی حرکة تاریخیة اجتماعیة، آخذة فی التشکل داخل شروط التعددیة فی العالم. ومن هنا سعت التجربة الروائیة الجدیدة بإحلال ثقافة الاختلاف. وقد تطلب الأمر الحفر العمیق فی السیاقات الثقافیة والحضاریة الکبری التی تشکلت فیها الأنساق الثقافیة والفکریة حیث أسهمت الروایة فی الأثر العمیق على فتح بنیات النصوص. أسئلة البحث من حیث أنّ الروایة ونقدها تعدّ إحدى وسائل بناء الهویة وتدعیم ثباتها أو مقاومتها وتجدیدها، وبما أنّ الهُجنة هی إحدى سمات واقعنا الیومی، نهدف من خلال هذه القراءة، دراسة تاثیر الخطاب التعددی علی تشکیل الهویة الثقافیة الدینامیة فی الروایة، وذلک من خلال رؤیة "میخائیل باختین" ونظریته التی سمّاها "المبدأ الحواری". ویتم ذلک بطرحنا السؤال التالی: ما هو تأثیر الخطاب التعددی علی تشکیل الهویة الثقافیة الدینامیة فی الروایة الجدیدة عامةً، وفی روایة "ساق البامبو" علی وجه التحدید؟ وما هو أثر هذه الرؤیة علی استخدام استراتیجیات تهجین النص الروائی وتحدّی الصوت الأحادی؟ فرضیات البحث إنّ الجماعة البشریة بحاجة إلی السرد کی تؤسس وجودها وکی تعطی لهذا الوجود هویةً. فإنّ السرد، لا یقدّم مجرد صوَر بل یحمل الدلالات الکبری. فإنّه بوسعه أن یقدّم نموذجاً فنیّاً لیکشف عن قدرته فی مواجهة الآخر وتقبّله. ولوکان السرد مُکوِّن "الحواریة"، فهو مُکوِّن مرجعیات وسیاقات متعددة وهجینة. فمن هذا المنظور أسّسنا فرضیتنا علی أنّ ظاهرة الحواریة فی السرد، هی من أهم الظواهر التی تحمل القدرة علی بناء هویة هجینة للشخصیات الروائیة، وأنها من جملة الفنون السردیة الناجحة فی اختلاق التعددیات الصوتیة وتجسید رؤیة منفتحة ومتسامحة تجاه العالم.
خلفیة البحث من الممکن أن نقول إنّ "میخائیل باختین" یعتبر من الأوائل فی مجال دراسة التعددیة والتهجین، وذلک من خلال آرائه عن التعددیة الصوتیة فی الروایات، حیث بدی رأیه عن روایات "داستایوفسکی" و"تولستوی" ومقارنتهما معاً، فقد اتخذ المظهر السردی أهمیة خاصة فی مشروعه النقدی. وما لفت انتباهنا فی الروایات العربیة الجدیدة، هو تأثیر هذه الرؤیة علی بناء "الهویة" وصیاغتها عبر السرود. ووجدنا "عبدالله إبراهیم" تطرّق فی کتابه "السرد، والاعتراف، والهویة" إلی الهویّة والتهجین وإلی استراتیجیة بناء الهویة المتحوّلة فی التجارب السردیة. یؤکد "عبدالله إبراهیم" بأنّ التهجین لا یحمل معنی سلبیاً، إنّما یقصد به الترکیب الذی یستعیر من أنواع لها شرعیة، وإعادة صوغها علی وفق قواعد تناسب الکتابة الجدیدة. وتحدّث أیضاً فی مواضع أخری لهذا الکتاب، عن الهویة والترکة الوطنیة، ومعالم الهویة المرتبکة، وعن علاقة الارتحال وصوغ الهویة. فعلی کلّ، إنّ هذا المصدر من جملة المصادر الأولیة التی نشرت بالعربیة وهی تدرس آلیات صناعة الهویة فی الروایات الجدیدة فی عالم یتراوح بین الحداثة وما بعدها. إضافةً إلی ما ذکرناه، وجدنا "صلاح فضل" فی کتابه "سردیات القرن الجدید" أتی بقراءة موجزة لروایة "ساق البامبو" خلال حوالی سبع صفحات، درس فیها التزواج بین الواقع والمتخیل فی هذه الروایة. وأیضا هناک قراءة للباحثة "سعاد العنزی" قامت جریدة "القدس العربی" بنشرها حیث تطرقت الباحثة إلی الهجنة السردیة لهذه الروایة وذلک من مدخل آلیات الترجمة، إذ تناولت مشکلة "الترجمة" للسارد الذی عاش فی الفیلیبین وهو یکتب بالعربیة. فتتحدث هذه القراءة عن النص الناتج عن عملیة الترجمة، حیث الترجمة لهذه الروایة هی الحجر الأساس لبناء الهجنة لدی السارد. الأسس النظریة للبحث أ) مرتکزات المبدأ الحواری قیل: «أنّنا نرى فی الوجه غالباً الفم»، لما فی ذلک من دلالة ضمنیة على أنّنا لانستطیع أبدا أن لا نتخاطب. فنحن غیر قادرین على أن لا نتواصل نهائیاً بحکم أن الإنسان - وفق المسلّمة الخلدونیة - کائن اجتماعی بطبعه. وعدّ الحوار ظاهرة مقترنة بوجود الإنسان ودلّت وظائفه على حالات من النقصان، ذلک أنّ صفة النسبیة هی من خصائص البشر. (الجزیری، 2012م: 9) فبناءً على هذه النسبیة، وضع باختین "المبدأ الحواری"، وتوصّل إلى أن الروایة جنس ممزوج من عناصر ومکوّنات مختلفة تراکمت عبر التاریخ وتفاعلت فیما بینها. إنّ فی السیاق الذی بدأ فیه "باختین" ینشر دراساته الأولى (المارکسیة وفلسفة اللغة، نضالات شعریة دوستویفسکی)، کان الطرف المقابل الموجّه إلیه الحوار والانتقادات، هم الشکلانیون الروس والأسلوبیون المتأثرون بألسنیة دوسوسیر. حیث کانت اللغة عند هذا الطرف الأخیر، تُقدّم على أنها بناء مستقل، له أنساقه ودلالاته وقوانینه وضوابطه المکتفیة بنفسها والتی یمکن أن تدرس دراسة علمیة دقیقة، ولکن انطلق باختین من موقع نظری مغایر لذلک الاتجاه. (باختین، 1987م: 14) اتخذ باختین من اللغة حجر الزاویة عندما یقرأ تاریخها ویعید تأویل ذلک التاریخ. فوراء نمذجة الروایة وتطورها، یقف تاریخ صراع الإنسان من أجل تحطیم مطلقیة اللغة ونزوعها الوحدوی المــَلغی للتعدّد والنسبیة. فمنذ القدیم، کانت هناک نصوص نثریة تعاکس مرکزة حیاة اللغة، وتخالف اتجاه قوى توحید الإیدیولوجیات اللفظیة، وتعمل على إیجاد کثرة لسانیة تترجم الوعی بضرورة تعدد اللغات والملفوظات وتداخل الخطابات، وتکشف عالماً أکثر اتساعا وتعقیدا لیس بإمکان لغة وحیدة أن تعکسه. وهذا الوعی التنسیبی، هو الذی تطورت بذوره نتیجةً لأحداث وتحولات تاریخیة ومعرفیة، حطّمت المرکزیة الإیدیولوجیة التى سادت فی العصور الوسطى (الکشوفات الجغرافیة والریاضیة والفلکیة، عصر النهضة، الثورة البروتستانتیة، الثورة الصناعیة، الخ). فمکانة اللغة، إذن أساسیة فی تنظیر جنس الروایة عند باختین، ولکنها لیست اللغة، النسق ذات البنیة الثابتة، وإنما اللغة هی الخطاب، المحمّلة بالقصدیة والوعی والسائرة من المطلقیة إلى النسبیة، والتى تبتعد عن دلالة المعجم لتحتضن معانی المتکلمین داخل الروایة، فتکشف لنا عن أنماط العلائق القائمة بین الشخوص، وعن القصدیة الکامنة وراء کلامهم وأفعالهم. (المصدر نفسه: 16) ما نبغیه من هذا المشروع، هو أنّ باختین جاء لیذکرنا بأنّ الروایة لا یمکن أن تستحق اسمها إذا لم تکن خلیطا من الأصوات المتعددة أو المتنافرة. فإذن نظرته إلى الروایة کانت متجهة إلى أنّ الروایة الجنس الأدبی اللامنتهی أی اللامحدّد، والذی تتعدد الأصوات فیه، بمقدوره أن یتجاوز أفق التطلعات القائمة ویخلق التعددیات الصوتیة عبر اللغة، وطبعا المقصود من الصوت هنا هو المعنى. وکما أشرنا، أنّ الإنسان کائن حواری ویعدّ الحوار فی معناه الضیق لیس إلا واحدا من أشکال التفاعل اللفظی وهو بالتأکید أهمها جمیعا، غیر أنه یمکن فهم الحوار فی معناه الواسع بأنه إصغاء بصوت مرتفع إلى الخطاب فقط، ولکن الإصغاء إلى کل تواصل لفظی أیّاً کان شکله. (باختین، 1986م: 162) وإنّ المشکلات التی یواجهها المؤلف ووعیه فی الروایة المتعددة الأصوات، أکثر عمقا وأکثر تعقیدا من تلک التی یمکن أن نجدها فی الروایة الوحیدة الصوت، فإنّ عالم أنیشتین یمتلک وحدة أعمق وأکثر تعقیدا من عالم نیوتن، أنها وحدة من نمط أعلى ذات نظام مختلف. (تودوروف، 1996م: 42) من الطبیعی أن تکون کلمة "الحدیث الذاتی" هی الکلمة الأولى التی سترد إلى الذهن بوصفها اصطلاحا مضادا لمصطلح الحوار. ولکننا رأینا باختین یستخدم مصطلحی "الحواری" و"الحواریة" بصورة موسعة إلى الدرجة التی یصیر فیها "الحدیث الذاتی" نفسه حواریاً. (م.ن: 126) فیقول باختین عبر دراسته لروایات دوستویفسکی أن کثرة الأصوات وأشکال الوعی المستقلة وغیر الممتزجة ببعضها، وتعددیة الأصوات الأصلیة للشخصیات الکاملة، کل ذلک یعتبر بحق، الخاصیة الأساسیة لروایات دوستویفسکی. لیس کثرة الشخصیات داخل العالم الموضوعی، وفی ضوء موحد عند المؤلف هو ما یجری تطویره فی أعمال دوستویفسکی، بل تعدد أشکال الوعی المتساویة الحقوق مع ما لها من عوالم، هو ما یجری الجمع بینه هنا بالضبط، فی الوقت نفسه تحافظ فیه على عدم اندماجها مع بعضها. (باختین، 1986م: 10) وقد أکّد باختین أنّ الحوار هو تبادل للکلمات وهو أکثر أشکال اللغة وأنّ الأقوال عن متحدث فرد مثل الخطبة أو المحاضرة التی یلقیها المدرس أو مونولوجات الممثل، والأفکار الباطنیة التی تنطق بصوت عال تعد مونولوجیة من خلال شکلها الخارجی، إلا أنه بالنظر إلى بنیتها السیمیائیة والأسلوبیة فإنها تعدّ حواریة. فالنص الحواری أساسا متعدد الأصوات. (الجزیری، 2012م: 37) وإنّ الخطاب الذی یکوّنه البطل حول نفسه یتکوّن من الخطابات التی یکوّنها الآخرون حوله، إنه یتکلم ویفکر من خلال الآخر ومن هنا تتداخل أصوات متناقضة وأحکام ووجهات نظر متنوعة عن فهم واحد. (جینت وآخرون، 1986م: 111) المهم هو أنّ الروایة نقطة تتقاطع فیها العدید من المرکبات الدلالیة التی ینتج عن تأولیها التعدد فی المعانی اللامحدودة. (العباس، 2009م: 8) فإنّ خطاب الروایة خطابا خلیطا متصلا بسیرورات تعدد اللغات والأصوات، وتفاعل الکلام والخطابات والنصوص، ضمن سیاق المجتمعات الحدیثة. (باختین، 1987: 7) وإنّ فی السرد أی القص، سحر وجاذبیة وسلطة بمقدوره أن یساعد الإنسان فی العثور علی مکمن الطاقة فیه، یدلّه علی أفق الآخر. فمع السرد هناک فرصة للعبور، للخروج من النطاق الضیق، للاتساع وربما للهرب. فالسرد طریقة مجدیة لمغادرة محدودیتنا ونبتکر حینها صورا لمستقبلنا. (محمد رحیم، 2014م: 7) إذن حسب رؤیة باختین أنّ «محتوى التخییل لا یخترق أشکال التعبیر فقط بل یکوّنها أیضا.» (مارتین، 1998م: 201) وإنّ القارئ ینزع أن یشکک فی الذخیرة الکلیة للافتراضات التقلیدیة التی ینبنی علیها المنظور. وحین قال باختین بأنّ روایات دوستویفسکی قیاسا بروایات تولستوی تتجهز بالحواریة یذکر بأنّ هذه الخصوصیة«شأن استیعاب القراء الذین یتجادلون دائما مع أبطال دوستویفسکی.» (باختین، 1986م: 10) إذن من هذا المنطلق دخلنا إلى ساحة المشارکة فی بناء المعانی، فتؤکد مقولة لمیخائیل باختین «أنّ الفاعل الکلامی هو الواقع الأساسی فی اللغة، والمعنى أنّ اللغة فی استخداماتها الطبیعیة تحتم التبادل، بما یعنیه ذلک تأثیرا متبادلا ومستمرا على سلوکیات کل الأفراد المنخرطین فی هذا التبادل الکلامی، فالکلام تبادل وهو أیضا تبدّل خلال التبادل.» (دوفور، 2011م: 434) من هنا یمکننا القول إن النص السردی نص تعددی، وهذا لا یعنی علی أنه النص علی معان عدة فحسب بل یعنی أنه یحقق تعدد المعنی ذاته. ولهذا یغدو أبرز قیمة للسرد أو القص، هو أنه یمنح الحریة الکبیرة للقارئ للتحاور وطریقة استجابته إلیه، إذ فی ظل الحوار تتسع دائرة التساؤل الحر وصولا إلی المعرفة من دون الاعتماد علی السلطة الفکریة المهیمنة. فقد صاغ المبدأ الحواری البعد الجمعی فی تعدد المعنى فی الروایة، فإنه توزیع لا مرکزی للمعانی. ب) الروایة الجدیدة وتحدی الصوت الأحادی یری باختین أنّ الصور البلاغیة، لا تنضمّ إلی الشبکات اللامتناهیة من الخطاب إلّا من خلال أخذ السامع أو القارئ فی الاعتبار؛ ویؤکد علی انعدام وجود استیعاب منفعل، بل یعتقد أنّ الاستیعاب لا یتمّ إلّا من خلال تجاوز الصوت الأحادی وإجراء الحوار مع الباثّ والمتلقی. (انظر: باختین، 1391: 370 و371) علی غرار ذلک، لقد شهد عصرنا الراهن استخداما لا مرکزیا للغة، أو بالأحرى رفض"التمرکز الصوتی"[1]، والذی قد تحقق فی الروایة بشکل خاص. فإنّ النقد الحدیث خصّص حیزا کبیرا للتفکیر فی نظریة الروایة وتحلیل مکوناتها. ذلک لأن الروایة بوصفها موضوعا للمعرفة وإنها تدرج فی النظام المعرفی لکونها تؤثر على معرفة علاقة الإنسان بنفسه وبالآخرین، وإنّ السرد تجسیدا تعبیریا لتجربتنا مع الحیاة وأنه شکل لفهم العالم وفهم ذواتنا. إنّ أهم مظهر من مظاهر التلفظ، أو على الأقل المظهر الأکثر إهمالا، حواریته أی ذلک البعد التناصی فیه. فبعد هبوط آدم إلى هذا العالم لم تعد هناک أشیاء بلا أسماء أو أی کلمات غیر مستعملة. إنّ کل خطاب عن قصد أو عن غیر قصد، یقیم حوارا مع الخطابات السابقة له، الخطابات التی تشترک معه فی الموضوع نفسه، کما یقیم أیضا حوارات مع الخطابات التی ستأتی. ومن هنا وجد باختین نفسه مدفوعا إلى رسم مخطط لتأویل جدید للثقافة، والنوع الأدبی الذی یفضل هذه التعددیة الصوتیة[2] فی الروایة. (تودوروف، 1996م: 16) وکما أشرنا آنفاً، أنّ استیعاب مفهوم "التعددیة الصوتیة" رهین باستیعاب المفاهیم الأساسیة الأخری فی المعجم الباختینی، منها الحواریة والهجنة، وهکذا إنّ التعددیة الصوتیة خرجت من نطاقها الفنی وتسربت إلی الفروع الفلسفیة والاجتماعیة، وخاصة إلی الدراسات الثقافیة.[3] (نامور مطلق، 1390ش: 5) فعلی العموم، إنّ التجدید فی فن السرد، بصورة عامة، بحث عن أدوات تمکّن الأدیب وتزید من قدراته علی التعبیر عن علاقة الانسان بواقعه، وکما یقال، إنّ التجدید بحث عن عالم آخر. والتجارب الروائیة العربیة الجدیدة - بالرغم من تعددها النسبی- یغلب علیها النزعات التالیة: - الرفض العنیف والتمرّد الواضح علی المألوف. - إثارة إشارات الاستفهام حول القیم السائدة. - السعی إلی التفتیت والنفی والکسر. - الاحتجاج علی أنماط السلطة بأسالیب مباشرة. هذه المؤشرات برزت وتعالی صوتها فی هذه الروایات، حیث أصبح الاعتقاد بالرفض وبالاستقامة الذاتیة قانونا لفن حاضرنا المربک. فأصبح الروائی العربی الجدید فی العقود الأخیرة، قد قرر الدخول فی سباق لا حدّ له فی ساحة تجاوز المحرّمات، کما أخذ على عاتقه مهمة تدنیس کل مظاهر الحیاة، أو القول بألّا قداسة لشخص أو رمز أو مکان أو فکرة حیث تتوالى عناوین التمرد والرفض، وتتم ترجمتها داخل خطاب تغییری إصلاحی. وکما أشرنا، من المعروف والمستقر نقدیا فی منظور ما بعد الحداثة، إنّ الفکر الواحدی أو المفرد، جری ترحیله إلی مراحل ما قبل الحداثة. وبعد أفول مفهوم الأحادیة فی مفاصل الثقافة المتعددة وسیادة الحواریة (بالمعنی الباختینی)، أصبحت النتیجة هی التعددیة. وقد تبدو الکثیر من هذه الافکار والرؤی مسبوقة بمنهجیات ما بعد البنیویة، والتی ایضا صدمت التصور الأحادی المستنبط من النصوص. بصورة عامة توجد فی الروایة متسع لکل أنواع الکتابة ولکلام الأجیال واللهجات المختلفة. واستخدم الروائی الجدید تعدد الأصوات کونه یخلق جوّا مفعما بالأصوات الحیة المتعددة. مع ذلک، قد یوجد هناک سرد وحید الصوت. وأنه «سرد یتمیز بوحدة المتکلم أو بصوت طاغ علی سائر الأصوات. وفیه تکون أقوال الکاتب وآراؤه وأحکامه، المرجع الأخیر للعالم المصوّر. فأطلق باختین هذا المصطلح مقابل "الحواریة"، أی السرد المتعدد الأصوات.» (زیتونی، 2002م: 107) وهناک من یری أنّ السرد الوحید الصوت ینطبق علی الشعر تماما لأنه أحادی الصوت، وکذلک ینطبق علی السرد الذی یوجه المتکلم الخطاب لنفسه والذی یعرف بالمنونولوج أی الحدیث الذاتی. وربما یوجد فی الخطاب الذی یوجهه المتلکم إلی سواه من دون جواب. ولکن ما یراه باختین هو أنّ بإمکان السرد أن یکون مونولوجا ولکنه متعدد الأصوات، وذلک بسبب انعدام الجزم والیقین والابتعاد عن الإلحاح علی رؤیة خاصة. والعکس أیضا ممکن، حیث یحمل نص روائی شخصیات متعددة دائما علی حوار مع بعض، لکنها تتکلم بمنطق واحد وروح واحدة هی روح الکاتب المسیطر علی النص. فإذن تعتمد "الحواریة"، وقبل کل شیء، علی إیدیولوجیة التعدد والاختلاف. وهی نزعة ترفض السائد، وتثیر الاستفهامات، وتمیل إلی التفتیت والاحتجاح ولاتقبل بسیطرة القوی الرمزیة والواقعیة، ما نجدها أکثر شیوعا فی الروایات الجدیدة، حیث نری- على نفس هذا السیاق التعددی والحواری- أصبح أبطال الروایات یواجهون الواقع المبتذل الذی یقیم العقبات فی وجوههم. وأنّ أبطال الروایة یجدون فی تلک القیود والتنظیمات اعتداءً على الحریة. ومن ثمّ یغدو الصراع مع هذا الواقع، صراعا بین البطل والمجتمع لتغییر العالم، أو على الأقل للحصول على زاویة من السماء فوق هذه الأرض.
تمثلات الهُجنة فی روایة ساق البامبو روایة "ساق البامبو" حائزة على جائزة البوکر العربیة لعام 2013م، کتبها الروائی والصحفی الکویتی الشاب "سعود السنعوسی".[4] تتناول الروایة موضوع الزواج المختلط فی المجتمع الکویتی إذ تسرد الروایة زواجا سرّیا لرجل کویتی من عمالة فلبینة نتاجه مولود بلا أب، حیث یرفض المجتمع حضور هذا الطفل من أمّ فلبینیة. فإنّ قضیة الهویة هو ما یطرحه "سعود السنعوسی" فی عمله السردی، وهو یفعل ذلک من خلال رصد حیاة شاب وُلد لأب کویتی، ینتمی لعائلة کویتیة عریقة وثریة، ومن أم فلبینیة فقیرة. فتوزعت الروایة بین هاتین الهویتین فی علاقة ملتبسة یغلب فیها الشعور بالانتماء إلى دیانتین وثقافتین مختلفتین. بطل الروایة اسمه "هوزیه میندوزا" فی الفلبین و"عیسی الراشد" فی الکویت. وهو ابن خادمة فلبینیة اسمها "جوزافین" ساقتها حیاة الفقر إلى الکویت. هناک تعمل تلک الخادمة لدى عائلة کویتیة وهی من العائلات ذات الوضع الاجتماعی المرموق. نشأت علاقة حب بین ابن العائلة"راشد" وتلک الخادمة، وفی إحدى اللیالی یقرر راشد الزواج من جوزافین بشکل سری وبموجب عقد زواج شرعی، والذی کان ثمرته بطل الروایة "عیسی". یظل عیسی متأرحجا بین فلبین والکویت إذ یتلقی الرفض العنیف من عائلة أبیه وفقدان الانتماء عند والدته فی فلبین حیث یصف نفسه هناک بساق البامبو الذی لا انتماء إلیه بمکان. وبالتالی یقرر خلق وعی یستوعب الاثنین کی یتخلص من العذاب، فأکثر ما نجد فی الروایة هو الحوار الدائب عن الدیانات وتعایش الثقافات وهی میزة قد تم تمثیلها فی شخصیة "عیسی" المتسامحة بالنسبة للانتماءات. إنّ الهویة تتبلور حین ینشأ الشعور بالانتماء إلى جماعة ما، ویتولد عنه میل الشخص إلى التماثل مع النماذج التی تقدمها تلک الجماعات. فهکذا الفرد یستبطن القیم التی تقدمها تلک النماذج إلى حد التماثل مع تلک النماذج الأصلیة المحتذى بها والتی تتجسد عادةً فی الشخصیات التی لها تقدم،کمثال یحتذى به لأعضاء تلک الجماعة. فهکذا تأخذ بنا هذه الروایة بانْ یبدو من الواجب فتح خطاب لمراجعة الثقافات التی تمّ تشکیلها، ودراسة جذورها، وإسهامها فی صناعة الحاضر. هذا ما سنواجه مصادیقه عند قراءتنا للروایة تحت مدخلین: أ) الهُجنة وغوغاویة الاختلاف نعنی بالاختلاف تناول الأشکال المختلفة فی المواقف الثقافیة المختلفة، ونعنی بالهجنة ما له أکثر من إدراک واحد بالنسبة لأی شخص معین. روایة "ساق البامبو" متعددة الأصوات بجدارة. وأول ما نلمس فیها هو إیجاد فضاء متسع للاختلاف وتقدیم قضایا ومواضع، قد یزعم المرء فیها أن هناک أکثر من منظور للإدراک. لانعرف الهجنة بأنّ شخصاً ما یزعم أن له أکثر من ذات واحدة، ولکن هناک هجنة حیث أن الهویة تتغیر باستمرار. وهذه ملاحظة أساسیة أن تمّثل الهجنة فی الروایة هو مهارة تتم علی أساس وعی بأن العالم متنوع والمعتقدات تتغیر دون أن تستقر بصورة متأصلة. یعتمد الأمر فی الروایة بشکل کبیر علی السیاق حیث لکل روایة ذخیرة من المواضع الثقافیة المختلفة، وفتح الاختلاف بین ما یعتقده المرء وما یعتقده الآخرین. فیبرز الاختلاف فی هذه الروایة من مناسبة إلی مناسبة، ومن سیاق إلی سیاق. إنها لم تکن سیرة شخصیة تنتمی إلى أبوین مختلفی الدیانة والوطن واللغة بل أنها بوح عن تعددیة عصرنا وعدم استقراره. یطرح الروائی أزمة الهویة فی مطلع الروایة حیث الروائی بدأ بقصة شخص یعانی من أزمة الهویة کنتیجة للظروف التی نشأ فیها، کما تعرضت هذه الروایة لمشکلة "البدون"، ترمی للأشخاص الذین لا تحقّ لهم الجنسیة فی مسقط رأسهم. وإنّ عیسى شاب تائه بین وطنین ولغتین ودینین، فأی حیرة تلک التی یتیه الإنسان فیها دون أن یعرف لأی جهة ینحاز، وهو یعرّف نفسه: اسمی Jose . هکذا یُکتب. ننطقه فی الفلبین، کما فی الإنکلیزیة، هوزیه. وفی العربیة یصبح، کما فی الإسبانیة، خوسیه. وفی البرتغالیة بالحروف ذاتها یکتب، ولکنه یُنطق جوزیه. أما هنا، فی الکویت، فلا شأن لکل تلک الأسماء بأسمی حیث هو... عیسی! کیف ولماذا؟ أنا لم أختر إسمی لأعرف السبب. لم تشأ أمی أن تنادینی عندما کنت هناک باسمی الذی إختاره والدی حین وُلدتُ هنا، رغم أن إسم الربّ الذی تؤمن به... کل ما أعرفه أن العالم کله قد اتفق على أن یختلف علیه! هوزیه، خوسیه، جوزیه أو عیسی... لیست مشکلتی مع الأسماء أمرا ملحا للحدیث حوله، ولا أسباب التسمیة، فمشکلتی لیست فی الأسماء، بل بما یختفی وراءها. (السنعوسی، 2012م: 17) کان یعشق عیسی الجلوس تحت الأشجار وقضاء الساعات بالتأمل حتی تنادیه أمه منزعجة وهو یتساءل نفسه: لماذا کان جلوسی تحت الشجرة یزعج أمی؟ أتراها کانت تخشی أن تنبت لی جذور تضرب فی عمق الأرض، ما یجعل عودتی إلی بلاد أبی أمرا مستحیلا؟.. ولکن حتی الجذور لا تعنی شیئا أحیانا. لو کنت مثل شجرة البامبو، لا انتماء لها، نقتطع جزءا من ساقها نغرسه بلا جذور، فی أی أرض، لا تلبث الساق طویلا حتی تنبت لها جذور جدیدة. تنمو بلا ماض، بلا ذاکرة، لا یختلف الناس حول تسمیته. کایاوان فی الفلبین، خیزران فی الکویت أو بامبو فی أماکن أخری. (المصدر نفسه: 94) وبالتالی یفکر: لو کنت شیئا.. أی شیء.. واضح المعالم.. لو.. لو.. أی تیه هذا الذی أنا فیه؟ (المصدر نفسه: 66) إنّ القوة السردیة فی روایة ساق البامبو، تکمن فی حالة عدم الانتماء وهی بوصفها استراتیجیة سردیة تنتج جهازا من أجهزة القوة الرمزیة کی تصور نوعا من الانزلاق المتواصل للاستقرار، والذی ینتهی بالاختلاف الثقافی أو تنوعه وهجنة الهویة التی أصبحت ظاهرة مرقّعة. ولکن أی نوع من الحوار ممکن أن یولد فی هذا الفضاء الحدّی؟ أیمکن لهذا الفضاء أن یکون إیجابیا کما یزعم باختین؟ إن التماثل أو التماهی[5] عنصرا أساسیا فی خلق الهویة. وإنّ التماثل یتعلق بالأوصاف الثقافیة للأشخاص الذین نحن نندمج معهم عاطفیا والتی تحدد مدى التشابه والاختلاف الشخصی والاجتماعی. من هذا المنظور، الهویة هی البناء الثقافی وذلک لأن الموارد الثقافیه والاجتماعیة هی التی تشکل المادة اللازمة لتکوین الهویة ذات طابع ثقافی. فعلى وجه الخصوص، نحن نتشارک کأفراد فی عملیة اجتماعیة شائعة والتی لا نکون بدونها أشخاصا اجتماعیین. فحسب قول "غوشیه" لا نقوم نحن والآخرون إلا بتکرار ما علّمنا إیاه أجدادنا ونکون أشدّ وفاءً لهذه العادات. ومن هذا المنظور إنّ الهویة لیست بالضرورة خیار الفرد بل من الممکن أنها تکون نتیجةً للعرف والعادات والهیمنات الثقافیة؛ یدرس "غوشیه" هذه الظاهرة فی إطار الهویة الدینیة قائلا: «إن المجتمعات المبنیة على الإیمان تقدّم أوضح مثال مُمکن لهذه التحولات، سواء فی ما یخص علاقة الشخص بانتماءاته أم فی ما یتعلق بمصیر هذه الانتماءات فی المجال العام. لقد کان اإایمان خیارا لموقف حرّ، ثم ازداد تعبیره عن الخیار الحرّ، شیئا فشیئا، بمقدار ما تعززت شرعیة وجود الفرد على حساب التدین الجماعى والتقلیدی على الطریقة القدیمة. من هنا أصبح یمیل لأن یکون أشد صلابة وأشد تسلطا ممّا کان علیه من قبل عندما کان"عقیدة الآباء" والتعبیر عمّا یؤمن به الجمیع.» (غوشیه، 2007م: 121) حین ذلک، سیکون من السهل أن یصبح النموذج الأمثل هو "اللاحوار"، کی یغدو ضرب مرتکزات الوعی العقلی على الحائط وتجاهل الخطاب ومعطیاته، والسعی إلى تطهیر الوعی من تلوث التـأویلات والتفاسیر. فإنّ وحدویة المعنى ومرکزیة الوعی الشامل، هو الذی وضع الأسس لتثقیف هذه الجماعات، کی یقع انقساما حادا بین الأنا والآخر، أی بین الذات التی تفکر بهذه الطریقة والأخرى التی تنظر إلى الأمور بطریقة أخرى. نجد مصادیق هذه الرؤیة فی ما عاشه "عیسی" متأرجحاً بین انتمائین دینیا وقومیا. بعدما یعترف راشد لأمه أنّ ما تحمله الخادمة هو ابنه، تطردها من البیت. فیخرجا معا من البیت لیسکنا شقة منفصلة. یولد عیسى ویحمله راشد إلى أمه لکنها ترفض الطفل فیتخلى راشد عن جوزافین بطلب أمه کی تعود وطفلها إلى الفلبین. وهکذا تبدأ الروایة بأول إشارة هویاتیة وبأول تلمیح إلى الهجنة، إذ یحمل بطل الروایة اسمین وانتماءین. تربى عیسى فی الفلبین وأصبح شابا قادرا على السفر، فسافر إلى الکویت التی کانت أمه تقول له أنه لابد أن یعود إلیها فی یوم ما ویعتنق دین أبیه ویسترد هویته. وحین کان عیسى بانتظار مجیء والده، وقع راشد فی الأسر أثناء مقاومة الاحتلال العراقی وعثر على جثته فی جنوب العراق. وتسرد الروایة قصة عودة عیسی إلی الکویت حیث عائلة راشد لا تتحمل تبعات هذا المولود أمام الأقربین ویمثل الروائی مواقف الصراع العائلی حول هذا الولید باللغة العربیة التی لا یعرفها، فهو یتابع الحوار ویدرک المواقف والنظرات تجاهه والنتیجة التی لیست بصالحه، وحالة الضیاع التی ظلّت مسیطرة علیه، فعاد إلى الفلبین تارکا أرض والده، ثم تزوّج إبنة خالته وأنجب طفلا سمّاه راشد على إسم والده. فهکذا عرض المؤلف ظاهرة الاختلاف لدی الأبناء المهجنین وتوزعهم الألیم بین الانتماءات. لکن المؤلف یوصل القارئ وبکفاءة بالغة إلی قبول التنوع والاختلاف من خلال عدة فقرات: شعور لایمکننی وصفه ذلک الذی ینتابنی. أحاول قدر استطاعتی أن أصب ترکیزی فی هذه الورقة التی بین یدیّ من دون جدوی. أنقل نظری بین ولدی وشاشة التلفاز. ولدی الذی توقعت أن یأتی بعینین زرقاوان وبشرة بیضاء جاء بملامح مغایرة.. بسُمرة عربیة وعینین واسعتین تشبهان عینیّ عمته خولة.. انفجر راشد الصغیر باکیا مذعورا بسبب الصراخ الذی انطلق فجأة فی غرفة الجلوس لرکلة سددها اللاعب الفلبینی ستیفان شروک إستقرت فی مرمی وصفیر فی شاشة التلفاز وغرفة الجلوس.. الابتسامات علی الوجوه من حولی.. الجمیع یصفق إلا أنا الذی کنت أشعر بأننی رکلتُ الکرة فی مرمای. (السنعوسی، 2012م: 396) وعندما یسجل منتخب الکویت هدفا جدیدا یحس عیسی أن النتیجة مُرضیة الآن ولم یرغب بمتابعة المباراة کی لا یفقد هذا التوازن فیحس بهذه النتیجة هو متعادل. فیترک المباراة ویتفرغ لمشاهدة وجه صغیره المطمئن فی نومه... لم یکن التنوع والاختلاف مادة کتاب باختین فحسب بل کان مصدرا دائما للإلهام ومن هنا تجاوزت نظریة الأدب حدودها بسبب هذه الإنجازات وما تحقق عن طریقها. ذلک لأن الوجود الانسانی نفسه هو الوجود المتغایر الخواص بصورة غیر قابلة للاختزال، وإنه ما یوجد فقط فی حالة حوار. (تودوروف، 1996م: 17) هذا ما بلوره من الناحیة النظریة "فریدریک بارث" فی عمل هام، حیت عدّ مفهوم الهویة بمثابة تجل علائقی یسمح بفهم ظاهرة الهویة فی إطار نظام العلاقات القائمة بین الجماعات الاجتماعیة التی تستخدمه من أجل تنظیم التبادلات والتفاعلات فیما بینها. مؤکدا أن المهم فی تحدید هویة معینة، لیس وضع کشف لمجموع السمات الثقافیة الممیزة لها، بل البحث فی السمات التی یستخدمها أعضاء المجموعة لتأکید التمیز الثقافی وآلیات عملهم للمحافظة علیه. وبعبارة أخرى، یرید القول أن اختلاف الهویة لیس نتیجة مباشرة للاختلاف الثقافى، فالثقافة الخاصة لا تنتج بحد ذاتها هویة متمیزة، لأن هذه الهویة لا یمکن أن تنشأ إلا عن الأفعال المتبادلة بین الجماعات وعن طرائق التمییز التی تستخدمها فی علاقاتها. یخلص بارث، إلى أن أفراد المجموعة لا یمکن إدراکهم على أنهم محددون بشکل نهائی من خلال انتمائهم العرقی – الثقافی ، لأنهم هم الفاعلون الذین ینسبون الدلالة إلى هذا الانتماء تبعا للحالة العلائقیة التی یجدون انفسهم فیها. وهذا یعنی أن الهویة تتشکل ویعاد تشکیلها باستمرار من خلال التبادلات الاجتماعیة. وهذا المفهوم الدینامیکی للهویة یتعارض مع المفهوم الذی یجعل منها صفة أصلیة ودائمة غیر قابلة للتطور وبالتالی، فإننا إزاء تغیر جذری فی حیث لیس مجرد "الانتماء" المفترض أنه جوهر یحددالهویة. (عماد، 2017م: 134) کما أشرنا سابقا، إنّ الهویة تأسیسا على قاعدة التصور العلائقی لها، هی بحدّ ذاتها دینامیة، یتم بناؤها فی سیرورة تتکوّن کنسق ذا معنى ودلالة عند الفرد الذی یتفاعل مع الآخرین أو مع النسق الرمزی. (المصدر نفسه:: 132) ویؤکد الذین یدعمون الموقف العلائقی الذی یجری على نطاق واسع داخل الدراسات الثقافیة، أن الهویة هی عملیة بناء من نقاط التشابه والاختلاف ولیس هناک جوهر الهویة التی یمکن اکتشافها، بدلا من ذلک، أن تکوین الهویة هی عملیة تجری باستمرار تنتج داخل ناقلات التشابه والتمییز. وهکذا الهویة لیست جوهر ولکن وصف للتحول المستمر لأنفسنا بحیث تکون على شکل فئات للهویه، تخضع لتکن موضوعا للتأجیل المستمر من خلال عملیات لا تنتهی أبدا من التکامل أو الاختلاف. (Barker, 2004: 99) تکاد لا تخلو روایة من حضور ضاغط لفکرة أو لصوت ما، ولکن جاءت هذه الروایة لتخلیص الذوات من هیمنة المقدس المزیّف والکاذب والتأکید على حقها فی الحریة من خلال اصرار الروایة على طرح الأخریة أو الغیریة بما هو جوهر المبدأ الحواری والتبشیر بجدوى هذا المبدأ فی المجتمعات. وذلک على اعتبار«إنّ کل کلمة فی الروایة هی حواریة بطبعها حسب التصور الباختینی، فیما یعنی الإقرار بمعنى التنوع والتعدد، مقابل الإدانة الصریحة للواحدی، بما هو المعادل للنسق الشمولی القاهر والمعطل لفعل التشظی والتنوع.» (العباس، 2009م: 32) قد منح الروائی بُعدا عالمیا إلى سرده من خلال حبکة متقنة البناء جعلها نامیة دینامیکیة متطورة عبر انعکاسها التعددیات. وانعکست الهجنة فی هذه الروایة عبر الفضاء المختلط والمتنافر، والذی یجب على کل فرد أن یجد فیه الفضاء للتعایش. فیشکل التسامح الفضیلة المثلى فی هذه الروایة والتی یجب أن یتحلّى بها الشخصیات فی العَلَن. وإنّ غوغائیة التنوّع فی هذه الروایة سوّغ الانفتاح من دون الحاجة إلى الافصاح کثیرا، بل قامت الروایة بخلق جوّ حواری لتبریر موقفها. لیس بمقدور الحوار أن یستمر إلا من خلال إظهار الاحترام الواضح وقبول الانتماءات المتعددة. وإن الاعتراف بالمعتقدات وإلغاء التمییز هو حجر زاویة بناء هذه الروایة. ب) الحواریة والانتماء الدینی نجد فی الروایة تسخیرا ملفت الانتباه للموروث الدینی بصحب ثقافة عمیقة تطلّ على ثقافات الشعوب الأخرى. إنّ الدین فی الفلسفة، هو کل ما یتجاوز حدود التجربة الممکنة والفکر الإنسانی. وهو تلک العلاقة الخاصة بین الناس، وما یعتقدون أنه مقدس ومتعال؛ إنه اعتقاد فی عالم علوی یوجد فی استقلال تام عن العالم السفلی المادی. لکن الثقافة ذات طبیعة مختلفة، فهی بناء مرکب، تشمل المادی والروحی والرمزی والواقعی، غیر أنّ أهم میزة تمتاز بها الثقافة المعاصرة، هی سعیها لکی تکون قریبة من الإنسان باعتبارها نتاج تفاعله مع الواقع. (عماد، 2017م: 156) فإذا زاوجنا بین الدین والثقافة، تولد ظاهرة التدین، والدافع الأساسی للتدین هو ما یخلقه على وجه الأرض وما ینشئه من الهویات. لأنه یبحث الإنسان فی حیاته عن الشرعیة کی یمتلک قیما قادرة على إعطاء معنى لحیاته وأفعاله. إذن وفق هذا المنظور، علینا أن نفصل بین الدین والتدین تبعاً لفصل الثقافة عن الطبیعة. إنّ "الطبیعة" هی المقابل لـ"الثقافة"، وإنّ کل أمر خرج عن الطبیعة ووقع فی عجلات الصیرورة فإنه أمر ثقافی. إنّ الدین وانحیاز الإنسان إلى أمر قدسی ومتعال، هو أمر طبیعی، ولکن بمجرد تقبله دیانة ما والاعتناق بأوامرها ونواهیها، وممارسة طقوسها وشعائرها، فأنه أصبح متدینا بها، ولا یظهر التدین إلا فی المجتمع على أرض الثقافة. إذن إنّ التدین هو الصورة المجسدة للدین وهو الذی قد تَشکّل على صورة الثقافة، وإنّ المتدین من هذا المنظور، هو من یکون دوماً فی عمل تواصلی فعّال مع المؤسسات الدینیة - الثقافیة. وإذا غضینا النظر عمّا ینتجه مرکّب الثقافة والدین، سیکون من العسیر فکّ العناصر المکونة لنسیج ظاهرة الهویة. قد تبدو الصلة بین الثقافة والدین شدیدة، واضحة ومتجانسة. فی عدد من المجتمعات والجماعات یصبح معها الانتماء الدینی هویة جماعیة مستقلة عن الاعتقاد الفردی، فیها یتطابق الثقافی والدینی، حینها یمثل الدین ثقافة کاملة لشعب أو أمة أو حضارة، لیس فی کونه مجموعة نصوص وتعالیم وقیم فحسب، بل بما هو کیان مجسد اجتماعیا ومبلور بالممارسة وتعالیم وقیم وأفعال، أی من حیث صیرورته نظاما من الممارسات والمؤسسات فضلا عن کونه نظاما من التصورات، وعن طریقة استیعابه وطرق التعبیر عنه من طرف المؤمنین به. (المصدر نفسه: 155) قد یکون الدین فی هذه الحالة ثقافة کاملة، فهو یعبّر عن رؤیة فی العالم، للطبیعة والوجود والإنسان. لأنه یقدم تصورا لبناء الاجتماع الإنسانی على نحو یغطی أحیانا أدق تفاصیل هذا الاجتماع إقتصادا وسیاسة، وأخلاقا، وأحوالا شخصیة. (روا، 2013م: 117) فالتدین هنا هو الإیمان المعاش أو الطریقة التی یعبّر بها المؤمن عن علاقته بالدین. إنه التجربة المعاشة وهو أیضا الطریقة التی یتموضع بها المرء کمؤمن قبال العالم الخارجی. والدین بصفته اعتقادا وممارسة یساعد الأفراد على تطویر شعور بالانتماء للجماعة ویمدهم بالدعم المعنوی أو على العکس یصبح المحرک الأساسی للثورات. (عماد، 2017م: 158) لنعد مرة أخرى إلى روایتنا والتی تحمل طابعا حواریا ملفت الانتباه. قلنا أنّ عیسى وُلد لأم وأب لا یتفقان لا على الدین، ولا علی اللغة، ولا فی الوطن ولا حتى على تسمیة طفلهما. فتُرک عیسى یتخبط فی طرق طویلة باحثا عن هویة واضحة الملامح، لم ینجح فی کشفها ولکن تالیا نجح فی خلقها وبناءها. تربّى عیسى فی الفلبین من دون أن تولّی أمه اهتماما إلى تربیته الدینیة یقینا منها بأنّ الإسلام ینتظره فی بلاد أبیه. ولکن رغم ذلک، ورغم أنّ راشد همس بنداء الصلاة فی الأذن الیمنى لابنه، فإنّ ذلک لم یمنع أمه أن تحمله إلى الکنیسة لیتم تغسیله فی الماء المقدس وفق الطقوس التعمیدیة. فکّر عیسى: هل یجعل منی التعمید مسیحیا، وهل قبلتُ بالمسیحیة دینا فی طقس حضرته فی حین کانت ذاکرتی لا تتسع لشیء بعد؟ أحببت المسیح حتی أصبحت أراه فی احلامی مبتسما.. فهل أکون مسیحیا؟!؟ ولکن، ماذا عن خلواتی التی أجد بها ذاتی، ورغبتی الدائمة فی التوحد مع الطبیعة من حولی. أترانی بوذیا من دون أن أعلم؟ وماذا عن إیمانی بوجود اله واحد لا یشارکه أحد.. صمد.. لم یلد ولم یولد؟ أمسلم أنا من دون اختیار؟ ماذا أکون؟ إنه قدری، أن أقضی عمری باحثا عن اسم ودین ووطن. (السنعوسی، 2012م: 4) یفکّر عیسى باعتناقه لألوان مختلفة للدین؛ فإن کان مسلما یذهب یوم الجمعة إلى المسجد یستمع إلى الرجل الواقف خلف المنصة، أو بوذیا من أصول صینیة یحرق البخور کل صباح أمام تمثال بوذا جلبا للرزق، ولو ولد لأبوین من قبائل الـ"ایفوغا" تحرسهم تماثیل المنطقة. بالنظر إلى ترکیب الروایة المتعدد العناصر وقدرتها على التساؤل، فإنها ملتقى خطابات متعددة متباینة. وکان میخائیل باختین رائدا فی الدعوة إلى هذا الاطار فی دراسة الروایات، والذی جعل من الروایة فی دراسته، أداة معرفیة وشکلا تعبیریا لتحولات عمیقة لدى المتلقی ورؤیته إلى العالم. نلمس الأهمیة التی یولیها باختین للغة فی الروایة من قوله التالی: «إذا لم یعرف الروائی کیف یرتقى باللغة إلى مستوى الوعی التنسیبی، وإذا لم یستمع إلى الثنائیة الصوتیة العفویة، وإلى الحوار الداخلی للکلمة الحیة المتحوّلة، فإنه لن یفهم ولن یحقق أبدا، الإمکانات والمعضلات الحقیقیة للروایة. الروایة هی الجنس الوحید الذی یوجد فی صیرورة ومایزال غیر مکتمل، فأنها تعکس بعمق وجوهریة وحساسیة أکثر، وبسرعة أکبر، تطور الواقع نفسه. لاتسعی الروایة إلى أن تتنبأ بالوقائع ولا إلى أن تخمّن مستقبل الکاتب ومستقبل القراء وتؤثر فیه، فلها مشکلاتها الجدیدة والنوعیة، والملمح الممیز لها هو إعادة التاویل والتقویم المستمرین.» (باختین، 1987م: 16) کما أشرنا إلیه «إنّ الهویات تفهم على أنها خطاب أو حوار، وإنّ الهویة یمکن أن توصف على أنها تطبیق للحوار أو الأداء الذی یسن أو ینتج، والتی تُسمّى أو تُبنى من خلال التقمص والتکرار للعادات والتقالید.» (Barker, 2004: 100) «وإنّ الهویة عبارة عن سردیات وصور تمثیلیة ننتزعها عن نفسنا وعن الآخرین. وبعبارة بسیطة إنّ الهویة تتحدث عن من نحن ومن الآخرین.» (Ibid) فمن المهم أن نعود هنا مرة أخرى إلى مبدأ الأنا/الآخر أو ما یطلقون علیه عنوان "الغیریة". من هذا المنظور، إنّ الهجنة لا تعنی التمزق ولا تعنی الإلحاد أو عدم الانحیاز، بل هی طور من أطوار العلاقة بین الأنا والآخر. وإنّ روایة"ساق البامبو" التی بین أیدینا، تقدم بجدارة رؤیة عن الهجنة وعن التعددیة من خلال الحواریة فی سردها. وهی جاءت تساهم فی توسیع افق الوعی الدینی، وفی خلق التعایشات والتوافقات، وجاءت لتقدم عبر سردها الناضج منظورات متنوعة لمفهوم الهجنة، فبذلک أصبحت هذه الروایة دعوى تکرّس منطق التعایش وتدعو القارئ إلى السِلم، فی مقابل الانغلاق والظلام. فیحاول الروائی اقتناص التعدد والتنوع ومن ثم اقتناص المبدأ الحواری الذی یصالح بین المؤتلف والمختلف من الأفکار والاتجاهات والتصورات. وإن هذا الإبداع الذی تمّ بناءه بالحوار وعلی الحوار نفسه، جاء لینتقل من بؤرة المرکز إلی أطراف الهامش. وهذا ما یدعو إلیه باختین ویؤکد بأنّ للسردیات القوة الکامنة لخلق هذا الفضاء الحواری. ذکرنا أنّ"عیسى" یعود إلى الکویت حیث یشتدّ الصراع الانتمائی عنده. لم یتقبل أفراد عائلة راشد تواجد هذا الولد الفلبینی الشکل فی بیتهم. حاول التأقلم فی وطن أبیه بعیدا عن عائلته ولکن واجه أزمة الانتماء فی کل الطرق. ومن الأسالیب الناجحة التی استخدمها الروائی فی تمثیل الحواریة، هی خلق فضاءات متنوعة لوضع الأدیان جنبا إلى جنب بصورة مستمرة. وهذا ما بلورته الروایة فی المشهد التالی حین رفضت عائلة راشد أن یبقى عیسى بینهم وجاءت خولة (أخته من غیر أم) أن تخبره بإخفاق محاولاتها لذلک: - قالت وهی تنظر إلى الأرض: "لیس الأمر سهلا.. عیسى". - واصلتُ حدیثی بانفعال: "جدّتی وعمتی عواطف تعرفان الله.. تصلیان کثیرا.. هل یرفضنی الله أیضا؟" کانت تلتزم الصمت. إقتربتُ من الباب حیث تقف. قلت: – الناس، کما یقول بوذا فی تعالیمه، سواسیة، لا فضل لأحد على أحد، إلا بالمعرفة والسیطرة على الشهوات! هزّت رأسها تقول: - لسنا بوذییین. التقطتُ سلسلة الصلیب من الدرج القریب من سریری: - وفی الکتاب المقدّس، یقول بولس الرسول، لا فرق الآن بین یهودی وغیر یهودی، بین عبد وحر، بین رجل وامراة، کلکم واحد فی المسیح یسوع... أعرف أعرف... لستم مسیحیین. اتجهتُ إلى جهاز اللابتوب المفتوح منذ اللیلة السابقة على إحدى الصفحات الألکترونیة. أدرتُ الشاشة باتجاهها: - محمد النبی، فی خطبة الوداع، یقول إن ربکم واحد وأن أباکم واحد، کلکم لآدم وآدم من تراب أکرمکم عند الله أتقاکم ولیس لعربی علی عجمی فضل إلا بالتقوی. أطبقتُ شاشة اللابتوب على لوحة المفاتیح. أردفتُ: - وأنا.. لست شریرا إلى هذا الحدّ. (السنعوسی، 2012م: 276) ظهرت شخصیة هذه الروایة بأسلوب سلمی، ذلک القدر الکافی من الاحترام للتنوع والاختلاف، وعلى هذا الأسلوب الحواری، کان لابدّ أن یسرد سبل الحواریة بعیدا عما هو من شأنه تکدیر التعایش. فإن مفهوم التعددیة الدینیة لهذه الروایة، یقوم على أساس الاعتراف بالآخر وعدم إقصائه تحت أی صورة من صور الإقصاء. وهذه العلاقة بین الهویة والآخر یجب ادراجها بالتحدید بین السیرورات التی تغذّی الهویة السردیة ایجابیا. هذه ما نجدها فی الأسطر التالیة للروایة، حین یتحدث بطل الروایة عن الدیانات وهو الذی أحبها صدقا وإیمانا فی الصفحات الماضیة والتالیة. وهی من المقاطع التی تؤکدّ لنا بجدارة بأنّ الهجنة لا تعنی عدم الانحیاز. الأدیان أعظم من معتنقیها. هذا ما خلصـتُ إلیه. البحث عن شیء ملموس لم یعد یشکل هاجسا بالنسبة لی. لا أرید أن أمثل امی التی لا تستطیع الصلاة إلا امام الصلیب. لا أرید أن اکون فردا من قبائل الـ ایفوغاو، لا أخطو خطوة إلا برعایة تماثیل الـ انیتو، تبارک عملی وترعى محاصیلی الزراعیة وتحرسنی من الأرواح الشریرة لیلا! لا أرید أن أکون مثل تشانغ أرهن علاقتی مع الله بواسطة تمثال بوذا الذی احببت. لا أرید ان استجلب البرکة من مُجسّم یصوّر جسد حصان أبیض مُجنح له رأس امراة، کما یفعل بعض المسلمین فی جنوب الفلیبین. (المصدر نفسه: 299) المبدأ الحواری فی نظریة باختین لا یعنی الحوار[6] فی الروایة، بل یعنی الحواریة فیها[7]. فمن هذا المنظور إن انقسام الولاءات داخل شخصیة واحدة أو صوت سردی واحد ینتج عن التفاعل الأصیل مع الأصوات الأخرى وإن هذه الکتلة المتزاحمة من الأصوات هی«نبض الحیاة الذی منه نشتق طرق التسمیة التی تجعلنا أفرادا وتکوّن نظرتنا إلى العالم.» (مارتین، 1998م: 200) فحسب نظریة باختین إنّ تعددیة الأصوات ممکنة تماما حتى فی روایة ذات نمط مونولوجی صرف. فإنّ ترکیب السرد نفسه، ومواقف الشخصیات فیه، یجب أن یخلق عالم الذوات[8] المتساویة الحقوق ولا عالم الموضوعات[9] والکلمة التی تقُص وتصور وتخبر، یجب أن تعالج علاقة ما جدیدة (باختین، 1986: 12)، تساعد فی إدراک هذا العالم المتعدد الأصوات بأدواتها الفنیة. وهکذا أن التاکید على ذات فاعلة واعیة کاملة الحقوق، هو الذی یعتبر مسلّمة دینیة أخلاقیة تحدد مضمون الروایة. فنجد المشهد الآتی جاء مؤکدا للحواریة: - لماذا الصلیب؟ إلتفت إلیّ الرجل والریبة فی عینیه. أجاب: - لأننی مسیحیا أشرت بنظری إلی مجسم بوذا. سألته. – ولماذا الآخر؟ إبتسم، وقد فهم مغزى السؤال. أجاب: - جلبا للرزق.. أمام معبد سینغ- غوان توقفت سیارة الأجرة. هممت بالنزول. قال السائق: - أراک تحمل حول رقبتک صلیبا.. لماذا؟ فتحت باب السیارة. ترجلت. أجبته باسما: - هذا ما اختارته لی خالتی.. أشار بسبابته نحو بوابة المعبد. بابتسامة عریضة سألنی: - سینغ-غوان... لماذا؟ بینما کان ینتظر إجابتی، أطبقت باب السیارة. أدرت له ظهری، مضیت فی السیر باتجاه بوابة المعبد. صاح الرجل: - هیا کن عادلا... لماذا؟ - توقفت عند البوابة. إستدرت مواجها سیارة الأجرة. کان لا یزال الرجل ینتظر إجابتی.. قلت: - جلبا.. لشیء لستُ أدریه ...(السنعوسی، 2012م: 180) إنّ تجدید بناء الهویات داخل عالم مصوغ من تعدد الأصوات أی عالم الروایة، هو ما أراد باختین الترکیز علیه أو على تلک الفکرة الجوهریة التی متصلة بالطابع المفتوح فی الروایة ، والذی یمیز الروایة عن بقیة الأجناس التعبیریة الأدبیة. لکن باختین یخصص تعریفاته العامة للروایة من خلال تحلیلاته التفصیلیة لمکوّنات الخطاب الروائی. ولتوضیح هذه السیرورة المعقدة، حلّل باختین التعدد اللغوی فی الروایة، طرائق استحضار خطاب الاخر، فأبرز منها، على الخصوص: اللعب الهزلی مع اللغات، الخطاب الذی یأتى على لسان "الکاتب المفترض (لا على لسان السارد الحقیقى)، والأجناس المتخلّلة المدرجة فی نص الروایة(شعر، امثال، رسائل، حکم) فهذه الأشکال تسمح بإدخال التعدد اللغوی وتنوع الملفوظات إلى الروایة، کما تجعل الآخر حاضرا بکمیة وافرة. (باختین، 1987م: 17) تنبعث متضمنات نظریة باختین واضحة فی تعریفه الروایة بأنها شکل هجین، أنها نسق مرتب فنیا لیجعل لغات مختلفة تحتک ببعضها. وإنّ التهجین هو التقاء وعیین مفصولین داخل ساحة واحدة. وتوافق النوایا المتعددة لدى شخصیة الروایة، والتقاط طرائق عرض الإیدیولوجیات، وهذا ما یجعل من الروایة مجالاً لتولید معانی جدیدة، والذی جعل من روایة ساق البامبو أن تسجّل النجاح فی الحواریّة. أصبح المبدأ الحواری مبدأ للرؤیا الفنیة الخاصة بعالم الروایة وبنائها الفنی. حیث تتولد النبرات المتناقضة وتتداخل فی کل لفظة تتوزع على عدد من الوجهات وعدد من أشکال الوعی، لا توحی ذهنیة واحدة. فروایة ساق البامبو ذات طابع حواری تقدم عددا من أشکال الوعی التی لم یصبح منها شکل واحد متفوق على الاخر.. فنجد نهایة الروایة، حیث قدّم الروائی صورة منسجمة رائعة یوحی بسیطرته على عالم المتعدد الألوان، وبأن یجعل هذه الألوان بدرجة واحدة من دون توتر. «فالهویة مرتبطة بالمکان الذی یعیش فیه الإنسان، فمن الطبیعی أن یعانی الإنسان من أزمة فی الهویة، حین یغادر بلاده لیسکن مکاناً آخراً تختلف فیه المیزات الثقافیة عن تلک التی عاشها.» (آقاجانی وملایری، 1396ش: 42) وعلى العموم، إنّ الروایة هی التجسید الأعلى للعبة التداخل النصی وهو النوع الذی یعطی تنوع الملفوظات حیزا واسعا من العمل. فوجدنا هذه الروایة، جاءت على أرض الواقع لتزحزح الرؤى والأنساق المغلقة وجاءت لتناعق هذا الوعی الجدید من خلال بنائها الحواری الناجح وخلق "أثر مفتوح" حسب تعبیر إمبرتو إکو.
النتیجة إنّ روایة "ساق البامبو" قد تحاول أن تقدم رؤیة مفتوحة وهی علی یقین بضرورة الحاجة إلی التجدید والتغییر. فجاءت لتؤکد أنه بإمکان الروایة أن تتجه نحو المستقبل حین تنظر إلی الثقافة علی أنها منظومة متحررة من القیود المهیمنة، فتحاول أن تعرض هویات حیّة، نامیة ومتغیرة، یکون أصحابها متّجهین نحو المستقبل بحریة. فالتعددیة فی روایة "ساق البامبو"، فی الحقیقة محاولة لفهم الهویات المتعددة وفهم الآخر واحترامه. فیتمّ تمثیل هذه النزعة بأنجح صورها من خلال هذه الروایة التی اُسّست على المبدأ الحواری. قد سعت التجربة الروائیة الجدیدة لنقدها بإحلال ثقافة الاختلاف. وقد تطلب الأمر، الحفر العمیق فی السیاقات الثقافیة والحضاریة الکبری التی تشکلت فیها الأنساق الثقافیة والفکریة. فقد اتخذ المظهر السردی أهمیة خاصة فی مشروعه النقدی وکان محرضاً لنا لقراءة المحاضن الثقافیة وتمرکزاتها التی تتغذی منها. وقد أسهمت الروایة فی الأثر العمیق على فتح بنیات النصوص. إذ نفهم عبر هکذا سردیات، أنّ الهُجنة عبارة عن إمکانیة التعایش والتجانس بین الأمم والشعوب، من الممکن أن تنهض الثقافات وتنمو الهویات حینما لا تکون هناک هیمنة لثقافة على أخرى، ولا تبعیة هویة لأخرى، ولا استغلال لواحد على الآخر. [1] - حسب تعبیر دریدا فی انتقاده الموجه إلى الشکلانیین والبنیویین. [2] - Polyphony [3] - cultural studeise [4] - سعود السنعوسی کاتب صحفی وروائی کویتی عضو رابطة الأدباء فی الکویت وجمعیة الصحفیین الکویتیین. کتب السنعوسی فی جریدة القبس الکویتیة ومجلات وصحف عربیة أخرى. وقد سبق ان نشر قصة البونسای والرجل العجوز التی حصلت على المرکز الاول فی مسابقة القصص القصیرة التی تجریها مجلة العربی الکویتیة بالتعاون مع بی بی سی العربیة. أصدر روایته الأولى "سجین المرایا" عام 2010 وقد فازت بجائزة لیلى العثمان لإبداع الشباب فی القصة والروایة فی دورتها الرابعة. کما أصدر روایة "فئران أمی حصة" التی تتناول موضوع الطائفیة فی الکویت وقد مُنعت الروایة لاحقا من قِبَل الجهاز الرقابی فی بلد الکاتب. وقد تُرجمَت بعض أعماله إلى الإنکلیزیة والإیطالیة والفارسیة والترکیة والصینیة والکوریة والرومانیة. [5] - Identification [6] - dialog [7] - dialogism [8] - subjects [9] - objects | ||
مراجع | ||
آقاجانی، سمیة ویدالله ملایری. (1396ش). «صورة الشرق والغرب فی قصتی "سفر أمینة العظیم" لگلی ترقی و "سجّل: أنا لست عربیة" لغادة السمان؛ دراسة مقارنة». فصلیة إضاءات نقدیة فی الأدبین العربی والفارسی. السنة السابعة. العدد الثامن والعشرون. صص 47- 31. باختین، میخائیل. (1987م). الخطاب الروائی. ترجمة محمد برادة. القاهرة: دار الفکر للدراسات والنشر والتوزیع. ـــــــ (1986م). شعریة داستایوفسکی. ترجمة جمیل نصیف التکریتی. بغداد: الدار البیضاء. ـــــــ (1391). تخیل مکالمه ای. ترجمه رؤیا پورآذر. تهران: نشر نی. تودوروف، تزفیتان. (1996م). میخائیل باختین: المبدأ الحواری. ترجمة فخری صالح. ط2. بیروت: المؤسسة العربیة للدراسات والنشر. الجزیری، الطاهر. (2012م). الحوار فی الخطاب: دراسة تداولیة سردیة فی نماذج من الروایة العربیة الجدیدة. الکویت: مکتبة آفاق. جینت، جیرار واخرون. (1986م). نظریة السرد من وجهة النظر الى التبئیر: علم السرد. ترجمة ناجی مصطفى. المغرب: دار الخطابی للطباعة والنشر. دوفور، فیلیب. (2011م). فکر اللغة الروائی. ترجمة هدى مقنّص. بیروت: مرکز دراسات الوحدة العربیة. زیتونی، لطیف. (2002م). معجم مصطلحات نقد الروایة. بیروت: مکتبة لبنان ناشرون. روا، اولیفیه. (2013م). الجهل المقدس: زمن دین بلا ثقافة. بیروت: دار الساقی. العباس، محمد. (2009م). مدینة الحیاة: جدل فی الفضاء الثقافی للروایة فی السعودیة. دمشق: دار نینوی. عماد، عبدالغنی. (2017م). الهویة والمعرفة. المجتمع والدین: علم اجتماع المعرفة الاتجاهات الجدیدة والمقاربات العربیة. بیروت: دار الطلیعة. غوشیه، مارسیل. (2007م). الدین فی الدیموقراطیة. ترجمة شفیق محسن. بیروت: مرکز دراسات الوحدة العربیة. السنعوسی، سعود. (2012م). ساق البامبو. بیروت: الدار العربیة للعلوم ناشرون. مارتین، والاس. (1998م). نظریات السرد الحدیثة. ترجمة حیاة جاسم محمد. القاهرة: المجلس الاعلى للثقافة. محمد رحیم، سعد. (2014م). سحر السرد: دراسات فی الفنون السردیة. دمشق: دار نینوی. نامور مطلق، بهمن. (1390). درآمدی بر گفتگومندی. طهران: منشورات سخن. - Barker, Chris. (2004). The sage dictionary of cultural studies. London: Sage publication.
| ||
آمار تعداد مشاهده مقاله: 603 تعداد دریافت فایل اصل مقاله: 1,960 |