تعداد نشریات | 418 |
تعداد شمارهها | 10,005 |
تعداد مقالات | 83,623 |
تعداد مشاهده مقاله | 78,416,371 |
تعداد دریافت فایل اصل مقاله | 55,444,932 |
اللغة الشعریّة فی دیوان "رسالة إلی سیف بن ذی یزن" لعبد العزیز المقالح | |||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
إضاءات نقدیة فی الأدبین العربی و الفارسی | |||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
مقاله 6، دوره 9، شماره 35، اسفند 2019، صفحه 127-158 اصل مقاله (287.39 K) | |||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
نوع مقاله: علمی پژوهشی | |||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
نویسندگان | |||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وحید میرزایی* 1؛ عبدالعلی آل بویه لنگرودی2 | |||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
1طالب مرحلة الدکتوراه فی قسم اللغة العربیة وآدابها بجامعة الإمام الخمینی الدولیة، قزوین، إیران | |||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
2أستاذ مشارک فی قسم اللغة العربیة وآدابها بجامعة الإمام الخمینی الدولیة، قزوین، إیران | |||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
چکیده | |||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
اللغة الشعریّة من المصطلحات الأدبیّة الجدیدة التی اهتمّ بها النقّاد ودارسو الأدب. فهی تدُلّ علی أنّ الشعر تعبیر لغوی عن الأحاسیس والمشاعر وتجارب الحیاة التی یعیشها الشاعر ویرسمها بریشته اللغویة الخلاّبة. وتکمن عبقریّة الشاعر فی کیفیّة توظیف اللغة، ولا یتأتی هذا إلّا من خلال علاقة المفردات والألفاظ بعضها ببعض. بناء علی هذا فلکلّ شاعر ألفاظ وکلمات مألوفة خاصةً به ترتبط بثقافته وتجربته وحساسیّته، معبّرة عن أحاسیسه وأفکاره فی ضوء صور مثیرة. یعتمد هذا البحث المنهج الوصفی-التحلیلی فی دراسة اللغة الشعریّة فی الدیوان الثالث للمقالح وهو "رسالة إلی سیف بن ذی یزن" عبر ثلاثة مستویات: المستوی الأول یشمل دراسة المعجم الشعری ولکون هذا القسم یعکس العصر الذی عاش فیه الشاعر، یُعتمد فیه علی أکثر الحقول الدلالیّة تردّداً فی خطابه، وفی المستوی الثانی تدرس الصورة الشعریّة بتقاناتها الحداثیة وعلاقتها بالبنیة اللغویة ومن ثمّ ینتقل البحث إلی دراسة الإیقاع الداخلی المتمثّلة بتکرار الحرف واللفظة وتکرار العبارة وبیان دورها فی تشکیل البنیة اللغویة للدیوان. من النتائج التی وصل إلیها البحث، أنّ الألفاظ الحزینة قد وردت کثیراً فی المعجم الشعری للشاعر، بحیث غطّت حالة الحزن النصّ، فیمکننا تسمیة دیوان المقالح "دیوان الحزن"، وهذا الدیوان وما فیه من الأحاسیس والتجارب وصوره الشعریّة لدی الشاعر یعبّر عن هموم الشعب الیمنی علی وجه الخصوص وهموم الإنسان علی وجه العموم بترکیزها علی الرموز والأساطیر الشعریّة بأسلوب أدبیّ درامیّ والحوار الذی یجری بین الشاعر وبطل قصیدته سیف بن ذی یزن والترکیز علی الإیقاع الحزین من خلال تکرار الکلمات والعبارات لإثراء اللغة الشعریّة. | |||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
کلیدواژهها | |||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
اللغة الشعریة؛ المعجم الشعری؛ الصورة الشعریة؛ الإیقاع؛ عبد العزیز المقالح | |||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
اصل مقاله | |||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
إنّ اللغة وسیلة یستخدمها الإنسان للتعبیر عما یریده. ولکنّ اللغة التی یستفید منها الأدیب فی الکشف عما یدور فی صدره من أحاسیس وخلجات تختلف اختلافاً کبیراً عن اللغة التی یستخدمها الآخرون کالعلماء والفقهاء وغیرهم. وهذا لا یعنی أنّ اللغة والألفاظ التی یستخدمها الأدیب تختلف عما یستخدمها هؤلاء. ومن ثمّ إنّ طه وادی یقول فی کتابه: "جمالیات القصیدة المعاصرة" «إنّ اللغة هی المادّة الأساسیّة المشکلة لوجودنا الثقافیّ والحضاریّ، وبالضّرورة هی الأساس أیضاً فی عملیة الإبداع الفنّیّ، لذلک فإنّ لکلّ أدیب طریقة خاصة فی استخدام الکلمة وترکیب الجملة من حیث النحو البلاغیّ. إنّ الأدیب لا یرکّب الجملة لیعبّر بها عن معنى تقریریّ مألوف. وإنّما یتعامل مع اللغة بطریقة تفجّر فیها خواص التعبیر الأدبیّ، وتجعل للعبارات والأنساق والجمل قوّة، تتعدّى الدلالة المباشرة، وتنقل الأصل إلى المجاز، لتفی بحاجة الفنّ فی التعبیر والتصویر.» (2000م: 20) وبناء علی هذا، فإذا أردنا أن ندرس أیاً من النصوص الأدبیّة الشعریّة فلا بدّ لنا أن نرکز على دراسة الجانب اللغوی للکشف عن الثراء النصّی الذی ینبع من داخله وبالطبع هذا الثراء نتیجة السیاق وتأثّر الشاعر بمجتمعه، الذی یعیش فیه. والألفاظ عند الشاعر لیست شیئاً جامداً؛ بل هی ککائن حیّ لها روح وهویّة ومیزة عاطفیّة وثقافیّة، تتولّد وتنمو وتشیب وتموت ومرة أخری تتولّد وتنمو وتکتسی ثوباً جدیداً. وللکلمات فی أیّ نصّ أدبیّ خصائص تختلف عن النصوص الأخری، وهی التی تحثّ کلّ ناقد أو أدیب علی دراسة النصوص الأدبیّة والکشف عن أبعادها الجمالیّة والشعریّة التی تمیّز نصّاً ما عن غیره من النصوص. والشاعر البارع هو الذی یستخدم أدواته فی التعبیر عن موقفه الفکری بطرق خاصة وتجعله یخلق صوراً حیّة نابعة من خیاله الفیّاض. وهی التی تمیّز أسلوبه وتعطیه میزة وخاصیة یتمتّع بها. والشاعر عبد العزیز المقالح غنیّ عن التعریف. فهو من الشعراء العرب المعاصرین وأعلام الیمن وله عدد کبیر من الدواوین والدراسات الأدبیّة والفکریّة؛ کما یُعدُّ من الأصوات الشعریّة الفذّة فی سماء الشعر والنقد والأدب وله أثر کبیر فی حداثة الشعر الیمنی شکلاً ومضموناً. ودیوانه «رسالة إلی سیف بن ذی یزن» هو الدیوان الثالث من مجموعته الشعریّة التی أصدرها عام 1986م. وسبب اختیار هذا الدیوان یرجع إلی عدّة أمور منها: أولاً: هذا الدیوان علی الرغم من أنّه یُعدُّ من دواوینه الأولی، إلّا أنّه یعبّر عن موهبة المقالح فی توظیف الشخصیّات التاریخیّة وبشکل خاص شخصیّة "سیف بن ذی یزن" ونضوج قدراته الفنیّة فی التعبیر عن رؤیته عبر هذه الشخصیّة، ثانیاً: دراسة هذا الدیوان تکشف عن قیمه الجمالیّة ومدی نجاح الشاعر فی استخدام اللغة وأبعادها الدلالیّة والإبداعیّة. ثالثاً: استناداً لقول عزالدین إسماعیل الذی یرى أنّه من الصعب إیجاد دیوان شعری بین دواوین الشعر المعاصر یماثل دیوان "سیف بن ذی یزن". رابعاً: لکلّ دیوان أو قصیدة لغة وجمالیّة تحثّ علی الدراسة والتأمّل. هذا الدیوان الذی یضمّ (ست وثلاثین) قصیدة، ملئ بکلمات الحزن والبکاء ومن أوّله إلی آخره یفیض بأحزان الشاعر وهمومه إزاء الوطن والشعب الیمنی. ویجد القارئ نفسه بقراءة هذا الدیوان أمام صورة کلیّة تتمحور حول قضیّة واحدة وهی حزن الشعب الیمنی وتشتّت آرائهم والفتن والحروب الداخلیّة التی یعیشونها. ومن هذا المنطلق سنحاول بدایة بدارسة موجزة عن المفهوم النظری للغة الشعریّة، ثمّ تطبیقها علی دیوان المقالح من خلال نماذج شعریّة، ندرس فیها جمالیّات النصّ الأدبیّ تحت ثلاثة عناوین رئیسة: المعجم الشعری والصورة الشعریة وإیقاع التکرار. أسئلة البحث نرید فی هذا المقال أن نجیب الأسئلة التالیة؛ السؤال الأوّل: کیف تمکّن الشاعر من إقامة علاقة وطیدة بین تجاربه ومشاعره وبین اللغة التی استخدمها فی شعره؟ والسؤال الثانی الذییطرح نفسه أنّه کیف استطاع الشاعر أن یبنی صوره الشعریّة عبر کلماته الحزینة وکیف تمّ استخدام الآلیات المعاصرة فی رسم تجاربه ومواقفه؟ والسؤال الثالث هو أنّه کیف تجلّت العلاقة بین الإیقاع الداخلی واللغة الشعریّة فی شعر المقالح؟ فرضیات البحث 1- من المفروض أنّ الشعر مرآة تکشف عن لغة صاحبه ومعجم الشاعر یتأثر مما یسود فی مجتمع الشاعر وما یحیط به من الأحداث والأفکار ویبدو من مقدمة دیوان الشاعر أنّ الکلمات المشعرة بالحزن والألم تشغل حیزاً کبیراً منه. 2- بما أنّ علاقة بین صور الشاعر وبین تجاربه الشعریّة علاقة وطیدة، نستطیع القول إنّ استعمال الشاعر للرموز الأسطوریّة والتاریخیّة کشخصیّة "سیف بن ذی یزن" جاء بسبب أنّ الشخصیّة تحمل من دلالات نفسیّة ومعنویّة وعکست حقیقة الواقع الیمنی اجتماعیاً وسیاسیاً وثقافیاً وفضلاً عن ذلک، إنّ عنوان الدیوان یوحی باستخدام أسلوب الحوار الذی یدور بین الشاعر والشخصیّة التاریخیّة وهذا الحوار هو المکّون الأساسی فی خلق الصور الشعریّة عند المقالح والذی أثّر فی نفس المتلقی للنهوض أمام القهر والاستبداد. 3- إحدی الوسائل التی تولد علاقة بین الإیقاع الداخلی واللغة الشعریّة هو التکرار بأنماطه المختلفة کتکرار الحرف والعبارة، فهذه الأدوات اللغویة تلعب دوراً فاعلاً فی التعبیر عن أفکار الشاعر ومواقفه ونستطیع من خلاله الکشف عن رسالة الشاعر وإلقائه إلی المتلقّی وهذه العلاقة وسیلة لإثراء دلالة العبارت والکلمات الشعریّة عبر وظیفة توکیدیة التی تحمل فی ذاتها. خلفیة البحث إنّ لغة الشعر من الموضوعات الأدبیّة الهامّة التی اهتمّ بها الدارسون والأدباء فی العصر الحدیث. وواضح أنّ شعریّة أیّ نصّ أدبیّ دون الاهتمام بلغته لیست أمراً معقولاً، بل الأساس فی النصّ الأدبیّ هو اللغة ودراستها؛ کما لیس بإمکاننا أن نستمتع بالورقة البیضاء دون أیّ لون ورسم. وشأن اللغة فی الأدب کشأن اللون فی الرسم. وقد کتب عن اللغة الشعریّة کتب ومقالات کثیرة. أمّا بالنسبة لعبد العزیز المقالح، فمن المقالات والأطروحات: مقالة تحت عنوان «قصیدة القناع فی دیوان عبد العزیز المقالح» مجلّة دراسات فی اللّغة العربیّة وآدابها، فصلیة محکّمة، 1392هـ.ش، لعلی نجفی ایوکی، وتناول الکاتب فیها الجوانب الفنیّة: الصورة، والموسیقا، واللغة وقراءة النصّ وتحلیله بغیة الوصول إلی أغراضه وجمالیّاته. ومقالة بعنوان «واکاوی کارکرد اسطورههای یونانی در اشعار عبد العزیز المقالح» مجلّة أدب عربی، العدد2، 1392هـ.ش لرسول دهقان نژاد وآزاده میرزایی تبار، وقد قام الکاتبان فی هذه المقالة بدراسة الأسطورة فی شعر الشاعر وفکّ رموزها. ومقالة «التکرار وأنماطه فی شعر عبدالعزیر المقالح» لصلاح مهدی الزبیدی ونصرالله عباس حمید المنشورة فی مجلّة دیالی، العدد 67، 2015، حیث تناول الباحثان الکشف عن ظاهرة التکرار فی قصائد المقالح العمودیّة والحرّة التی کان لها الأثر الواضح فی بعض قصائده بعداً إیقاعیّاً وجرساً موسیقیّاً أسهمت فی رفد البنیة الإیقاعیّة؛ کما وجدنا أطروحتین، الأولى: «رسم الشخصیّة فی شعر عبدالعزیز المقالح» للباحث عبد الله محمد مصلح الدحملی، جامعة ذمار سنه 2008م فی مرحلة الماجستیر، حیث إنّ هذه الدراسة قد تناولت قراءة النصّ الشعری لعبد العزیز المقالح انطلاقاً من رؤیة حاولت إثبات وجود الشخصیّة فی شعره. والثانیة: «اللغة والدلالة فی شعر المقالح أبجدیّة الروح أنموذجاً» لـ «محمد عبد الرحمن ناجی عبد الرب» سنة 2005م فی مرحلة الماجستیر، وقام الباحث فیها بدراسة معجمیّة ودلالیّة. وفیما یتعلّق بالموضوع الذی اخترناه لبحثنا فإنّنا لم نجد أیّة دراسة بهذا العنوان. هنا لابدّ أن نشیر بأنّ سبب اختیارنا هذا الموضوع للدراسة جاء لسببین؛ الأوّل أنّه یعتبر عبد العزیز المقالح من الشعراء العرب البارزین فی الشعر الحدیث وله مؤلّفات أدبیّة ونقدیّة أثارت اهتمام النقّاد والدارسین، ودوره فی التحدیث الشعری فی الیمن ریادی مما جعل أشعاره فی مرکز اهتمامهم؛ والثانی دراسة شعر عبد العزیز المقالح تفسح المجال لنا للعثور علی کیفیّة استخدام اللغة؛ لأنّ هذه اللغة بکلّ معطیاتها الفنیّة تجسّد رؤیة الشاعر الفکریّة ومواقفه الاجتماعیّة والسیاسیّة وتکشف العلاقة بین تجارب الشاعر وإبداعه الفنی ومدی توفیقه فی هذا المجال. المدخل النظری تُعدُّ اللغة الشعریّة من المصطلحات المعاصرة، حینما أکد النقّاد أنّ لغة الشعر تختلف عن الکلام العادی. ومع بدایة القرن العشرین أصبحت اللغة موضع اهتمام النقّاد والشعراء حیث اعتبروا قضیّة لغة الشعر من قضایا التجدید فی الشعر العربی المعاصر. إذن هذه النظرة إلی اللغة جعلت النقّاد والشعراء یمیّزون بین لغة الشعر والأنواع الأدبیّة الأخری. هذا ما جعل "هلال" یفرق بین لغة الشعر ولغة النثر قائلاً: «لغة الشعر لغة العاطفة ولغة النثر لغة العقل، ذلک أنّ غایة النثر نقل أفکار المتکّلم أو الکاتب، فعبارته یجب أن تشفّ فی یسر عن القصد، والجمل فیه تقریریّة وعلامات علی معانیها، ووسائل تنتهی بانتهاء الغایة منها وموضوعه حدث من الأحداث أو مسألة من المسائل المبنیّة أوّلا علی الفکر. أمّا الشعر فانّه یعتمد علی شعور الشاعر بنفسه وبما حوله شعوراً یتجاوب هو معه فیندفع إلی الکشف فنیّاً عن خبایا النفس أو الکون استجابة لهذا الشعور وفی لغة هی صور.» (1997م: 357) إلی جانب هذا الفرق بین لغة الشعر ولغة النثر، یشیر هلال أیضاً إلی الصور الایحائیّة التی تکمن فی الکلمات والعبارات التی یعید الشاعر إلیها قوّة معانیها التصویریّة التی تنبعث عن وجدان عمیق «والتعبیر عن الوجدان یستلزم ألفاظاً ذات دلالات نفسیّة وشعوریّة خاصةً، قادرة علی تصور احساس الشاعر وعلی التأثیر فی نفس القارئ أو السامع، لتحدث احساساً مماثلاً وتنقل إلیه تجربة الشاعر کاملة.» (مکی، لاتا: 76) انتقال هذه التجربة تحتاج إلی الکلمات الایحائیّة بما یزخر به من شعور أو عاطفة وعلی حدّ قول کوهن «لیس هناک شعر ما لم یکن هناک تأمّل فی اللغة وفی کل خطوة إعادة خلق لهذه اللغة.» (1990م: 184) صحیح أنّ الشاعر یخلق الکلمات، والإبداع الشعری رهین بإعادة خلق اللغة، لکن الکلمة لیست مجرد کلمة فحسب، بل الکلمة الشعریّة هی الکلمة التی ینفث فیها الشاعر من روحه ویعطیها حیویّة وجدة «ولها تاریخ، وتاریخ الکلمة، هو ما حدث من تطوّر وتلوّن لها تبعاً لاستعمالها فی عصور متعدّدة وما جری لها من انفصال عن المعنی المعجمی، إنّه توهجها عبر استعمالات متمایزة وغیر عادیة. والشاعر الفذّ هو الذی یعید تاریخ الکلمة، مضیفاً إلیها من إحساسه ومن استعماله، الذی یجعلها تبدو للوهلة الأولی؛ کما لو کانت تکشف لأوّل مرة، إنّه بذلک یمتلک الکلمة ویخدمها، لا یستخدمها.» (الصباغ، 2002م: 137) ولم یعد الشاعر المعاصر یحسّ بالکلمة علی أنّها مجرد لفظ صوتی له دلالة أو معنی، وإنّما صارت الکلمات تجسیماً حیّاً للوجود. ومن ثمّ اتّحدت اللغة والوجود فی منظور الشاعر، أو صار هذا الاتّحاد بینهما ضرورة لا بدیل لها (إسماعیل، 1966م: 180؛ الورقی، 1984م: 64) وقد ذهب إسماعیل إلی اعتبار الشعر «استکشافاً دائماً لعالم الکلمة واستکشافاً دائماً للوجود عن طریق الکلمة ومن ثمّ کان الشعر هو الوسیلة الوحیدة لغنی اللغة وغنی الحیاة علی السواء، والشعر الذی لا یحقّق هذه الغایة الحیویّة لا یمکن أن یسمّی شعراً بحق.» (1966م: 174) ویعتبر أدونیس من أکثر نقّاد الحداثة الذین أکّدوا علی وجوب التفریق بین اللغتین: الشعریّة وغیر الشعریّة ویربط الشعریّة بسیاق الکلمات والألفاظ فی النصّ ویعتقد أنّ الشاعر هو الذی یعطی الکلمات صبغتها الشعریّة والشعر یصنع کلماته خلال سیاق خاص. وطریقة الشاعر فی استخدام الکلمات هی التی تمیّز بین اللغتین: لغة الشعر ولغة النثر. وتکتسب اللغة شعریتها أو نثریتها تبعاً للسیاق ذاته. ویقول عن طبیعة اللغة و توظیفها: «إنّ النثر یستخدم النظام العادی للغة أی یستخدم الکلمة لما وضعت له أصلاً، وأمّا الشعر فیغتصب أو یفجر هذا النظام أی أنّه یحید بالکلمات عمّا وضعت له أصلاً.» (أدونیس، 1978م: 261) یقصد من کلام أدونیس أنّ الشعر لایخضع لنظام المألوف فی القواعد والدلالات؛ بل الشعر یخرق هذا النظام ویعطی الکلمات دلالاتها الجدیدة من خلال رؤیة جدیدة. بناء علی ذلک فإنّ جوهر الشعریّة وسرّها یکمنان فی اللغة، وتتجلّی قدرة الشاعر من خلال توظیف موهبته اللغویة التی أساسها حسن اختیار ألفاظه وترتیبها فی نسق وطریقة ما «فاللغة الشعریّة هی تشکیل جدید لعناصر اللغة ولیست معطی سابقاً نستعمله کما هو. إنّها نظام خاص من العلاقات تکشف عن علاقة الشاعر بالعالم من حوله. وهی تعید صیاغة العالم من جدید من خلال إحساس الشاعر ورؤیته للأشیاء. والکلمات فی الشعر لیست کلمات، بل هی علاقات بحیث لا یمکن استبدال کلمة بأخری، فکلّ کلمة مرتبطة بکلّ کلمة فی النصّ.» (علاق، 2005م: 415-416) بناء علی هذه المقدّمة القصیرة حول مفهوم اللغة الشعریّة وجوانبها البنائیّة والکشف عن أبعادها الدلالیّة والأدبیّة وکیفیة استخدامها فی هذا الدیوان، نقوم بدراسة اللغة الشعریّة عبر مکوّناتها المتمثّلة فی المعجم الشعری والصورة الشعریة والإیقاع حتی یتبیّن للمتلقّی جانباً من جوانب جمالیّات النصّ الشعری. الإطار التطبیقی: مکوّنات اللغة الشعریّة فی دیوان المقالح المعجم الشعری ربّما یتبادر إلی الذهن کلمة "المعجم الشعری"– بدایةً - لإحصاء الکلمات والألفاظ فی قصیدة ما بصرف النظر عن تحلیلها وکشف خبایا الشاعر، وعلی الرغم من ذلک لابدّ لنا ألا ننسی أنّ المعجم الشعری بکونه یعزل الکلمة عن البناء السیاقی، إلّا أنّه یعتبر بمثابة روح النصّ التی تکشف لنا مشاعر الشاعر وآماله وآلامه وتجاربه؛ کما یقول هیدجر «الدراسة الإحصائیّة تضع أیدینا علی بعض التردّدات ذات مغزی، التی تسهم فی رصد المحاور التی یدور علیها الخطاب.» (عبدو فلفل، 2013م: 46) وبهذه الألفاظ یخلق الشاعر عالمه اللغوی المتمیّز، التی تختصّ به وتحدّد الغرض من القصیدة أو المقطوعة الشعریّة. بعبارة أخری لغة الشاعر مستقاة من عصره ولذلک أغلب موضوعاته ما هی إلاّ صدی لأصوات مجتمعه ووطنه ومن هنا ترتبط لغة الشاعر بتجاربه وأفکاره وتخلق نصّاً أدبیّاً نسمیّه الشعر. بعبارة أخری المعجم الشعری یتمثّل فی «تلک المفردات النشطة التی یشکّل منها الشاعر قصائده ومقطوعاته هذه المفردات تتغلغل بقوّة فی البناء الشعری وتتمتّع بنسب تکرار عالیة فی النصّ، وهی مع ذلک تمثّل المفتاح الرئیس لعالم الشاعر ورؤیته» (جابر علی، 2010: 32) وأمّا دیوان المقالح "رسالة إلی سیف بن ذی یزن"، فهو یحتوی علی (ست وثلاثین) قصیدة أوّلها «الفاتحة» وآخرها «أغنیة قدیمة للحبّ والحرّیة». ومما یلفت النظر ویسترعی انتباه القارئ لهذا الدیوان، کثرة استخدام الشاعر المقالح لکلمة «الحزن والبکاء» إلی جانب کلمات (الموت، والغربة، والمنفی، واللیل)، التی تندرج تحت هذا الحقل المعجمی الدلالی، حیث لا یجد المتلقّی قصیدة تخلو من هذه الکلمات، التی ترسم حزن الشاعر ویأسه وألمه. ربّما لایتکشّف لقارئ الدیوان کثرة استخدام المعجم الحزین وإرخاء ستار الحزن علی أشعاره، إلّا بقراءة مقدمة هذا الدیوان الذی یقول المقالح فیها: «فی هذا الدیوان بدا لی الشعر وکأنّه صوت الحزن النابت فی ضلوع البشر، فکانت قصائده صدیً لذلک الصوت الغائر فی الأعماق، والصلاة الیومیّة التی نؤدیها فی بیوتنا فرادی وجماعات، والوجبة التی لا تنقطع ولاتتأخّر. (ومن خلال سیف بن ذی یزن – الرمز والقناع – قدّمت فی هذا الدیوان أطیافاً من حزن جیلنا، فالحزن کان طفولتنا وصبانا وشبابنا، ومایزال.) (دیوان، 1986م: 11) والحزن کعنصر بارز یهُزّ قلب الشاعر ویدغدغ أفکاره ومشاعره وینسج کلمات ذات صبغة عاطفیة نابعة من صمیم روح الشاعر. وما تبثّه لواعج النفس فی الحقیقة یُخلق ویأخذ شکلاً ودلالةً جدیدةً. فللمعجم الشعری علاقة وطیدة بتجربة الشاعر ورؤیته الخاصّة للحیاة. إذن نستطیع القول إنّ لغة المقالح هی لغة التجربة. وبالنظر لشعر المقالح قمنا بتصنیف الکلمات فی حقلین: حقل الحزن والیأس وحقل الأمل والانتصار ومشتقاتهما. تجلّی الحزن والبکاء یعتبر الحزن أحد میزات الشعر الحدیث فی القرن العشرین بل محوراً أساساً فیما یکتب الشعراء من قصائد، حیث یمکن القول إنّ لـ"ت.اس. الیوت" تأثیراً بارزاً فی شعراء العرب المعاصرین فی انتمائهم بالحزن أکثر مما قبل وبخاصة بقصیدته الشهیرة "أرض الیباب". ومن جانب آخر، فالأوضاع الاجتماعیّة والسیاسیّة المؤلمة التی شهدتها منطقة الشرق الأوسط بعد الحرب العالمیّة الأولی والثانیة والنتائج التی تمخّضت عنهما من تشتّت المدن العربیّة وتأسیس الکیان الصهیونی، غرست مادّة الحزن والبکاء فی الضمیر العربی وخاصةً الشعراء والکتّاب. والأوضاع السیاسیّة التی نشأ فیها المقالح قد أثّرت علی روحه وشخصیّته؛ لأنّ الیمن کانت تکتوی بنار الخلافات والانقلابات خاصةً بعد سنة 1962م، وفیها انقسمت الیمن إلی منطقتین: الیمن الجنوبی والیمن الشمالی، واغتراب المقالح عن الوطن ومزاولة دراسته بجامعة "عین شمس" أفاضت مشاعر الحزن لدیه. وإضافة إلی ذلک، هناک عوامل کثیرة ولدت أحزاناً ومصائب، لا یتّسعُ المجال لحصرها هنا. إذن نری الحزن یلقی بظلاله على حیاة المقالح فیجعله لا حراک به، و نستطیع هنا أن نرسم حقل الحزن وما یدلّ علیه بشکل جدول کالتالی:
کما نلاحظ من خلال هذا الجدول، أنّ هذا الحقل أو المعجم الحزین مقتبس من الحیاة الیومیة ویشغل حیزاً کبیراً من شعر المقالح، فنراه یزید علی أربعمئة مفردة. والملاحظ أنّ کلمة الحزن نفسها تصل إلی تسع وخمسین مفردة، وهذا لیس بالعدد القلیل. ویدُلّ علی غلبة التشاؤم والإغتراب علی معجم الشاعر لیعبّر عن حالته النفسیّة اتجاه القضایا الإنسانیّة وأمّته العربیّة التی تعیش فی ظلّ وطأة الاستعمار والقهر والظلم والفساد، وقد جسّد هذه المفردات فی قصیدة (الشاعر) فقال: - وبکل أحزانی،/ بما فی العین من دمع/ بما فی القلب من شوق جریح/ صارعتُ أشباح الظلام/ وقفت مقتولاً أصیح/ کان الرجال هناک فی المنفی/ وکانت قریتی مذبوحة الأحلام تنتظر المسیح/ الجوع یمضغ وجهها/ واللیل یشرب دمعها/ لا شیء فی قلب الزحام/ لا شیء غیر نجیمة خضراء تلمع فی الظلام/ والشعر والأمل الکسیح (المقالح، 1986م: 395-396) کما یبدو لنا فهذه المقطوعة الصغیرة مشبعة بمعجم الحزن أی: (الحزن والدمع والمنفی والجوع والدم والظلام والکسیح)، فنراه یعتصر حزناً، ویشارکه فی هذا الحزن قریته المذبوحة التی تنتظر الخلاص بقدوم المسیح، لأنّ رجالها قد نفوا خارجها ولم یبق من یدافع عنها، بعد أن أهلکها الجوع والعطش، حتى أنّ اللیل بسواده لا یترکها تذرف دموعها بحرّیة کی تعبّر عن الحزن الذی اعتصرها، ولا یطلّ من بین الظلام سوى نجیمة صغیرة، وهذا ما ینمّ عن تشاؤمه بالخلاص من الوضع المزدری التی حلّ بالبلاد من قتل وتدمیر وجوع وهلاک. وواضح أنّ هذا الحزن والدمع ناتجان عن شعور عام لما یحدث لوطن الشاعر فی زمنه ویکشفان لنا مدی حزنه وألمه. وهذا کلّه یعود إلی کون الشّاعر بصدد تصویر حال الشعب الیمنی المتّسم بالحزن والجوع والفشل. ولا نخطئ إذ نسمّی هذا الدیوان بـ«قصیدة الحزن»؛ لأنّ هذا الدیوان قد شکّل معجماً حزیناً اجتمعت فیه مجموعة من الألفاظ التی ارتبطت بتجارب الشاعر الحزینة، منها (المنفی، الدموع، الظلام، نبکی، الجدار، ننتظر، الغربة، جفت، الجراح، الدجی، شرید)؛ کما أنّ عنوان الدیوان وکتابة رسالة إلی شخصیّة أسطوریّة متمثّلة فی "سیف بن ذی یزن" یکشف جلیّاً عن حزن الشاعر، لأنّ الشاعر یری الوطن العربی خالٍ من زعیم یخلصه من الاستعمار والعذاب والحزن. ومن جانب آخر یتناول الدیوان هجو الزعماء العرب وعدم مبالاتهم بالشعب والأرض العربی. فالشاعر من خلال هذا الحزن ناقم علی الأوضاع الاجتماعیّة والسیاسیّة القاسیة المؤلمة التی جعلته یستخدم فی شعره ألفاظاً تعکس حزنه ویأسه، ودائماً ینادی "سیف بن ذی یزن" حتی یجیء وینجی الشعب الیمنی من هذه الظروف المظلمة، لأنّه لایزول الحزن والمهنة من أرض الیمن إلّا بمجیء "سیف بن ذی یزن" وهو مناضل وبطل عربیّ مؤمن بقضیّة وطنه وشعبه ولا یعرف الملل والضعف وبیده الانتصارات قد حقّقت والأعداء قد دمّرت وذلک فی قوله: - سفحنا عند ظل الدهر تحت قیودنا الفا/ ونصف الألف/ من أعوامنا العجفا/ وأنت مشردٌ/ وبلادنا تدعوک وا «سیفا» (السابق: 282) استخدم الشاعر کلمات: «قیودنا، أعوامنا العجفا، مشرّد» للدلالة علی الأحزان والمصائب التی أحیط بها الوطن العربی، والمعنی اللغوی لهذه الکلمات اکتسب أبعاداً دلالیّةً مکثفةً عبر السطر الخامس أی: «وبلادنا تدعوک وا «سیفا»» والشاعر یخاطب «سیف» بلسان بلاده الیمن مستنجداً به للتخلّص من القیود والتشرّد ودعوة سیف هنا تعبّر عن عمق المأساة والذلّ الذی عمّ بلاده. فکلمة «وا سیفا» یستحضر شخصیّة إمراة عربیّة أطلقت نداء "وا معتصماه" والتی استنجدت بها الخلیفة العباسی "المعتصم بأمر اللّه" الذی انتصر على جیوش الروم فی معرکة "عموریة" الشهریة؛ ومن جهة، هذه الجملة لها معانی جدیدة ترسم الدمار والجفاف فی بلد الشاعر وعدم وجود أیّ قائد وبطل عربیّ لیهزم الأعداء. وهذا التناص أدّی إلی انسجام قویّ بین فکرة النصّ الشعری ولغته إلی حدّ کبیر. فالمقالح یعلم أنّ اهتزاز رایة النجاح والحرّیة فی الیمن لن یرفرف بدون أیّ زعیم وطنی: - تعال فانّنا نأسی علیک/وجوهنا خجلی/وما عدنا بلا جند/لقد شبّ الصغار وصار کل مقمط کهلا/وخلف الغیم أمطار (السابق: 293) هنا شبّه المقالح الشعب الیمنی بالأمطار المکتنزة خلف الغیوم یکاد أن تنهمر وتخصب أرض الیمن ولکنّه یری الأمّة العربیّة خالیاً من زعیم ولهذا السبب ینادی "سیف بن ذی یزن" المناضل العربی لیقود هذا الشعب المضطهد.وإذا کان التزام الشاعر بقضایا بلاده قد منحه القدرة على توظیف الشخصیّات التراثیّة واستخدام الکلمات الصریحة والمباشرة کـ "ما عدنا بلا جند ولقد شبّ الصغار" وتشدّد التزامه وتقلّل الجمالیّات الفنیّة للقصیدة من جانب، لکنّنا من جانب آخر نراه یستخدم ألفاظاً ذات دلالات متعدّدة تحمل شحنات معنویّة وتعطیها أکثر تنسیقاً وانسجاماً بین تراکیبه اللغویة وتتکاثف صور الکآبة والحزن والغربة فی قوله: - بلادی بعیدة/وحزنی قریب/ وانفی هشیم بسجن «السعیدة»/ ووجهی غریب/ وأحزاننا دائمات الوقود/ وتنهمر العبرات (السابق: 327) فی هذه المقطع الشعری الصغیر یتجلّی مدی اتساع حزن الشاعر وغربته. وطول الابتعاد والاغتراب مما جعل الشاعر یعبّر عنه بالصوائت الطوال لتنسجم طبیعة هذه الصوائت مع طول ابتعاده واغترابه. ویمثّل التطابق الصوتی والنحوی فی هذه الشطور دوراً مهمّاً فی التحلیل اللغوی بما أنّ الشطر الأوّل عبارة عن اسم + اسم ( مبتدأ + خبر) ویلیه فی الترتیب الشطر التالی له بالطریقة نفسها. والتطابق اللغوی والمعجمی بین «بلادی/ حزنی/ انفی/ وجهی» و «بعیدة/ قریب/ هشیم/ سعیدة/غریب» یزید الصورة حزناً بالغاً ویعکس الشعور لدی الشعب الیمنی الذی یحاول الشاعر طرحها من خلال القصیدة. وعلی حدّ قول یاکبسون: «هذا التطابق أو التوازی هو المبدأ المکوّن للأثر الشعری» (یاکبسون، 1988: 66) إنّ المتلقّی لا یستطیع أن یعثر علی قصیدة واحدة فی هذا الدیوان دون أن تخلو من کلمة الحزن ومشتقاته. لعّل کثرة الحزن والیأس جعلت القارئ یعانی فی بدایة الأمر ولکن المصائب والمشاکل التی یغوص فیها الشعب الیمنی لا تسمح لشاعر حرّ کالمقالح أن یعیش فرحاً وبعیداً عن أحزان مواطنیه وکلّ ما یراه لیس إلّا حزناً وبکاءً وبالتالی لایستطیع أن یصوّر غیر ذلک. وعلی حدّ قول إسماعیل، مصدر أحزان الشاعر المعاصر یرجع إلی «المعرفة». فیقول «وقد یبدو أن تکون المعرفة مصدراً للحزن، لکن شیئاً من التأمّل فی موقف شاعرنا المعاصر یجعلنا ندرک کیف أنّ بعداً من أبعاده یرتبط بقضیّة المعرفة ارتباطاً وثیقاً. ولست أعنی هنا «نظریة المعرفة» التقلیدیة فی الفلسفة، وإنّما أعنی المعرفة بمعناها الأولی، أی الإلمام بکلّ شیء.» (1966م: 354-355) والمعرفة هی مصدر الأوجاع التی تجعل الشاعر یخاطب مدینته ویراها مصنع الأحزان وأتون الحریق: - صنعاء/ من أنت؟/ أمصنع أحزان؟/ أأتون حریق؟/ منذ شهدناک ووجهک مبتلٌّ بالدمع غریق. (المقالح، 1986م: 345) یتّضح من هذا المقطع أنّ عذاب الشاعر وحزنه ناتج عن وطنه صنعاء والحوار الذی یدور بینه وبین المدینة عبر الجمل الاسمیّة التی تدّل علی الثباث والدوام یعکس عمق الفجیعة وواقعه المأساوی. واستخدام ضمیر المخاطب (أنت) یثری أبعاد المعنی الشعری لأنّ الشاعر من خلال هذا الضمیر یتحدّث عن هموم ذاته ووطنه وفی السطر الخامس نلاحظ أیضاً ضمیر الخطاب (الکاف) بشکل متّصل، الأمر الذی یوحی بکثرة الاستبداد والاحتراق التی سیطرت علی الیمن. ویکثر هذا الحزن عبر الشخصیّات الإسطوریّة التی یعالجها الشاعر لغرض تبیان آلام الإنسان المعاصر وعذاباته؛ کما نری فی نصّ واحد شخصیّة سیزیف وشخصیّة برومیثیوس والسندباد والرخ فی قصیدة: «الرسالة الثانیة» من الدیوان. تجلّی الأمل والرجاء
مع أنّ الحزن والیأس یأخذان مساحة کبیرة من المعجم الشعری لدى المقالح إلّا أنّ هذا الحجم الکبیر لا ینفی وجود أیّ بصیص للأمل الذی یرنو إلیه الشعب الیمنی حیث یرى القارئ أنّ الدیوان یبدأ بقصیدة"الفاتحة" التی یختم آخرها بالانتصار الذی ینتظر هذا الشعب. سحب الربیع ربیعنا، حبلی بأمطار کثار/ ولنا مع الجدب العقیم محاولات واختبار/ وغداً یکون الانتصار../ وغداً یکون الانتصار. (السابق: 280) عنوان القصیدة «الفاتحة» نفسه یکشف أنّ لکلّ بدایة نهایة، ولعّل المقالح فی اختیار هذا العنوان أراد أن یمنح الدیوان وحدة موضوعیّة وعضویّة ما، والتی سنشیر إلیها فی قسم الصورة الشعریّة. فالمقالح یعد بمستقبل مشرق ونهایة ظلام وذلک عبر تشبیه رائع حیث یرى بعد سنوات شداد قاحلة أنّ سحاب ثقیلة وممطرة قد بدت تلوح فی سماء بلده وهذه السحاب ما هی إلّا جماهیر استعدّوا للانتفاضة ومجرّد أن أمطرت السحب على سهول الیمن وغیرها من البلدان العربیة سینتهی الجدب، وکلمة الغد ملیئة بالأمل والتطوّر الذی یرخی علی الأحزان والإنکسارات سدولَه ویخضر الوطن العربی وخاصةً وطن الشاعر الیمنی وینتهی الانتظار وینقطع صوت البکاء والدمع. والغریب أنّ السنوات الماضیة أظهرت صدق ما وعد به المقالح فاندلعت ثورات شعبیّة عربیّة مسماة بالربیع العربی من تونس مروراً بمصر وموطن الشاعر "الیمن السعید". ولکن هذه الکلمة أی (الغد) فی قصیدة «الرسالة الرابعة» توحی إلی التیه والمستبقل الضریر التی لا یدری الشاعر إلی أین یرسل رسالته لأنّ عنوان «سیف» اللامکان وتاریخه اللازمان وسفره إلی بلاد الروم والفارس لم ینتج إلّا احتقاراً وذلّاً: - إلی أین أکتب یا سیف؟/ أین غداً ستکون؟/ أ تحیا طلیقاً؟/ أم احتجزتک البحار؟ وألقت علیک السجون شباک الحصار! (السابق: 304) ومن جانب آخر أیضاً نلاحظ القصیدة الأخیرة للدیوان (أغنیة قدیمة للحبّ والحرّیة) تبدأ بالیأس والبکاء والظلام ولکنّها تنتهی بالانتظار المنهی لهذه الآلام والأحزان ونهایة متفائلة بالثورة والنصر، حیث یمکن القول إنّ صورة الأمل فی هذه القصیدة الأخیرة من الدیوان تغلب علی أحزان الشاعر وتزیل آلامه وأوجاعه کلّها. ستنجلی الغمرة یا موطنی ویسمح الفجر غواشی الظلم ویضحک الحقل ووجه القری وشجرات البن فوق الأکم فلتنتظر یا موطنی زحفنا نحن وقوفا تحت ظل العلم (السابق: 431-432) فی هذه الأبیات العمودیة یبشّر الشاعر وطنه بجلاء الغمرة وبزوغ الفجر فیه حیث اختار ألفاظ «ستنجلی/ یضحک/ شجرات البنّ/ ظلّ العلم» للتعبیر عن حقل الأمل، ونرى أنّ استخدام الأفعال المضارع التی تدّل علی الاستمرار والتجدّد زاد فى المعنی قوّة وحیویّة مشحونة بطاقات ایجابیّة وتؤکّد المعانی التی یریدها الشاعر أن یعطی الشعب الیمنی من البقاء والاستمرار فی أهدافه الوطنیّة والقومیّة وعدم اللامبالاة بمستقبلهم. وعلی الرغم من وجود الغمرة وغواشی الظلم إلّا أنّ الفجر سیذهب باللیالی کلّها ومن ناحیة الشکل اختتم المقالح هذا الدیوان بالشکل العمودی وهذا الامتزاج بین الشکلین أی: العمودی والتفعیلة «لیس زخرفةً شکلیةً، وأنّما هو تباینٌ تدعو إلیه مستویات التعبیر المختلفة التی تفصح عنها أصوات القصیدة، إذ إنّ الشاعر یستخدم الشکل العمودی لیجعله معبّراً عن صوت الشاعر ورؤیة سیف بن ذی یزن، الذی اتّخذه قناعاً فنیّاً أو معادلاً موضوعیّاً لواقعه العام وحالته الشعوریّة الخاصّة لیوضح أنّ هناک علاقة إیجابیّة بین التراث القدیم والواقع المعاش.» (وادی،2000م: 72) کما یبدو – علی الرغم من کثرة حقل الحزن ورؤیة المقالح الحزینة - قد ابتدأ الشاعر الدیوان بالأمل ویختمه بالانتصار. ذلک لأنّ المقالح یعلم جیداً أنّ هذا الحزن والظلمة والألم سینتهی یوماً مع کثرته وسیجفّ جذور الظلم والتعذیب. وعلی هذا نلاحظ أنّ الشاعر یبدأ الدیوان بالأمل ویختمه بالانتصار. وقد أراد أن یوصل إلی المخاطب أنّ الانتصار والغلبة حلیف الشعب الیمنی المضطهد ومایزال. ولن تکتب الحرّیة والنصر إلّا بدماء الشعب. من ثمّ فإنّ حقل الأمل الذی یشتمل الانتصار والغد، قلیل جداً بالمقارنة مع حقل الحزن، حیث لا تتجاوز مفردات هذا الحقل أصابع الید. الصورة الشعریة تُعدُّ الصورة الشعریّة من إحدی مکوّنات اللغة الشعریّة التی لا غنی عنها فی دارسة شعریّة اللغة. لذلک، أجمع النقّاد بأنّها من أهمّ وسائل الشاعر فی نقل تجربته الشعریّة، فالصورة الشعریّة تعبّر عن رؤیة الشاعر للواقع والحالة النفسیّة التی یعیشها فی مجتمعه. ومن المعلوم أنّ العلاقات اللغویّة تنشیء صوراً خیالیّةً خصبةً علی الرغم من خلوّه من أنماط البلاغة المعروفة. وللصورة الفنیّة مفاهیم متعدّدة، وقد تنوّعت مفاهیمها فی الحدیث، إذ یعرّفها علی البطل بأنّها «تشکیل لغوی یکوّنها خیال الفنّان من معطیات متعدّدة یقف العالم المحسوس فی مقدّمتها.» (1981م: 30) کما نلاحظ أنّ الصورة الشعریّة خلق عالم جدید ورسم عالم الواقع من منظار الأدیب بالکلمات التی تنبع من خیاله، الذی یرتکز علی محور الذات، العالم الذی خلقته أحاسیس الشاعر وأفکاره. یقوم هذا القسم بدراسة الصورة الشعریّة من خلال الرموز والأساطیر المستخدمة ودورها فی تجسید مشاعر الشاعر وأفکاره ولم یتوقّف القسم أمام التشبیه والمجاز والکنایة؛ لأنّ التوقف عند کلّ هذه الجوانب التصویریة یحتاج إلی مجال أوسع لتبیینها وتدریسها. أمّا بنیة الصورة فی شعر المقالح – فی دیوان "رسالة إلی سیف بن ذی یزن"- فترتکز علی تصویر الغربة والبعد والاغتراب عن الوطن بشکل درامیّ وقصصیّ، وللبناء الدارمیّ دورٌ فاعلٌ فی درامیّة الصورة وإثراء تجربة الشاعر والابتعاد عن الغنائیة، هذا البناء یعطی اللغة طاقات دلالیّة وإیحائیّة جدیدة، ولم ینقل إلینا هذه المشاعر والأحاسیس بطریقة مباشرة وإنّما بطریقة فنیّة غیر مباشرة. وفی رسائله الخمسة من الدیوان التی تسمّی بـ«رسائل إلی سیف بن ذی یزن» یعبّر الشاعر عن تجاربه الشعریّة وانفعالاته الذاتیّة ویرسم حالته المأساویّة ونظرته السوداویّة إلی الواقع، واعتماده علی الرموز الأسطوریّة لبیان أحزانه وآلامه وتشرّده فی زی ّدرامیّ وهذا ما یُعمِّق تجربته الشعریّة، لأنّ «اعتماد الشاعر الحدیث علی ثقافته الخاصة فی بناء صوره الشعریّة جعله یُفضّل الواقع الأسطوری علی الواقع الخارجی، هذا الواقع الغنی برموزه الانفعالیّة وأحاسیسه البکر. ولقد وجد الشاعر الحدیث فی أصوات الآخرین تأکیداً لصوته من جهة وتأکیداً لوحدة التجربة الإنسانیّة من جهة أخری، فامتلأت القصیدة الدرامیّة بالعدید من الأصوات المستحضرة من التاریخ برصیدها الانفعالی الکامن فی ارتباط الصوت بالموقف التاریخی أو الأسطوری.» (الورقی، 1984م: 126-125) حیث یستخدم الشاعر أسطورة سیزیف وهو «کان أحذق البشر کما یقول الإغریق القدامی وقد عوقب علی حذاقته بأن یعمل بلا نهایة ولاتوقف فی العالم السفلی إلی الأبدیّة. إذ حکمت علیه بأن یدحرج مرمرة إلی قمّة تلّ ثم تسقط قبل وصولها القمّة وهو رمز للبعث وکان سیزیف ملک کورنثیا وکان ملکاً بخیلاً» (کروتل، 2010م: 164): - إذا «سیزیف» لم یحفل بصخرته/ ویقذفها إلی أسفل/ فمن ذا غیره یفعل/ بحق الحب دعه یصارع المحتل/ سیفشل مرةً../ لکنه فی قادم المرات لن یفشل ((المقالح، 1986م: 289) فی هذه الأسطر الشعریّة یستخدم الشاعر أسطورة "سیزیف" علی عکس واقعه الأسطوری ویعطیه دلالات جدیدة ومختلفة للتعبیر عن أفکاره وتجاربه الشعریّة. هنا أصبح "سیزیف" کرمز أسطوری للمقاومة والأمل والجهود المضنیة أمام تحدّیات العصر. وربّما الشاعر أراد من خلال هذا التوظیف أن یبیّن أنّ المقاومة والصمود یوماً ما تنتهیان إلی الفوز والانتصار. وفی الحقیقة "سیزیف" فی هذا المقطع هو الشعب الیمنی الذی یستطیع أن یغیّر أحوال بلده وإذا لم یغیّر شیئاً صار المنفی والغربة حلیفهم إلی الأبد کصخرة "سیزیف" واستجداء العون من الأجانب ستنتهی إلی الفشل. وفی الأسطر الشعریّة التالیّة قد اختفی بصیص الأمل وتزداد غربة الشخصیّة الأسطوریّة: - أنت فی منفاک یا «سیزیف»/ لا الصیف کان مشفقا ولا الخریف/ ولا برمیثیوس قد القی علی طریقک الشتوی ومض نار. (السابق: 296) إنّ توظیف أسطورة "سیزیف" تنقل إلی المتلقّی أبعاد حزن الشاعر ومأساته تأکیداً لصوته من جهة وحثّ أمّته علی الانتفاضة والثورة من جانب آخر (تأکیداً لوحدة التجربة الإنسانیّة). استخدم الشاعر أسطورة "سیزیف" لیعبّر عن غربة الإنسان المعاصر/الشاعر/سیف الذی یحاول أن یحلّ المشاکل؛ ولکنّه یواجه الهزیمة والانکسار. وهنا تحوّل "سیزیف" إلی رمز الیأس والعذاب وحیث کان یحمل صخرة إلی أعلی الجبل وما إن وصل بها إلى قمّته حتى انفلتت من یده فیعید التسلّق کرّة أخرى دون تحقیق أهدافه. و"سیزیف" یقضی أیامه وحیداً بعیداً عن وطنه ویقوم بجرّ صخرة عظیمة دون أیّ جدوی ویطلب العون من برمیثیوس/الآخرین ولکنه ما من أحد یساعده ویخلصه من عذاباته وصراعاته. وفی الحقیقة تمّ استدعاء شخصیّة "سیزیف" لما توحی من دلالات ومعان تجسیداً لصورة الإنسان المعاصر الوحید الذی حکم علیه أصعب الأعمال واستمراریتها. و"برمیثیوس"کان «صدیقاً للبشریّة وسارق النار المقدّسة» (کروتل، 2010م: 151). استخدم المقالح هذه الأسطورة بصورة عابرة وهذه الشخصیّة کشخصیّة "سیزیف" واجهت العذابات والعقوبات صارمة و تبیّن من خلالها أنّ سیزیف/سیف فی غربته یکون وحیداً ولا یوجد أحدٌ ینیر طریقه المظلمة فی المنافی البعیدة. و"برمثیوس" المقالح أصبح متعباً ولایتحدّی الأقدار. وإنّ اللجوء إلی هذه الشخصیّات یسعف الشاعر «علی الربط بین أحلام العقل الباطن ونشاط عقل الظاهر والربط بین الماضی والحاضر، والتوحید بین التجربة الذاتیّة والتجربة الجماعیّة فضلاً عن أن سکب الأسطورة ونفاذها بنجاح داخل النصّ الشعری الحرّ تنقذ القصیدة الغنائیّة المحض وتفتح آفاقها لقبول ألوان عمیقة من القوی المتصارعة والتنویع فی أشکال التراکیب والبناء.» (عباس، 1978م: 165) والحزن الذی سیطر علی هذا الدیوان لا انتهاء له، والصور التی رسمها الشاعر کلّها صور حزینة تنبعث من أعماق روحه وتلقی بظلالها علی جمیع قصائد دیوانه هذا، والمقطع التالی یعبّر عن ذلک فیقول: - حزنی علیک/ عاد بعد رحلة الرعب المخیف «سندباد»/ سفراته السبع انتهت/ ألقی اغترابه للبحر ثم عاد/ وأنت تائه الوجه غریب الکلمات/ والرخ مات/ النجم فی عینیک فی الظلوع مات/ والنورس اختفی/ جفت میاه البحر/ یوشک الظل یموت توشک الحیاة/ ولم تزل فی النار. . فی الجلید/ مسافر بعید/ مسمر العینین مشدود الی السراب/ علی جواد الحزن تزرع الافاق (المقالح،1986م: 296-297) الحزن مستمر، والسندباد والبحر والرخ والنجم والظلّ و.. کلّها رموز تشکّل الصورة الشعریّة العامّة التی تخدم آمالاً اجتماعیّة عریضة وتکشف عن أزمة الشعب الیمنی الحزین بشکل عام والشاعر الذی یعانی من الألم والغربة والبعد عن الوطن الذی أجّج فی قلبه نار الشوق والحنین إلی ربوع الوطن، فالسندباد/ الشاعر یسافر من مکان إلی آخر باحثاً عمّا یخفّف من حدّة شوقه وغربته، والبحر غریب یعیش مع الشاعر أحزان الغربة، حتی آن طائر النورس الذی یوحی بالأمل قد اختفی، والنجم قد غاب وأفل، وهذه کلّها رموز ترسم لنا نفسیّة الشاعر الکئیبة. والصورة الدرامیّة التی سیطرت علی القصیدة تضاعف الحزن ومأساة الغربة لدی المتلقّی، وتشخیص المادّیات التی اعتمد علیها هی الطریقة الأساسیّة لتحویل المشاعر إلی الکلمات، والرموز الکثیفة مع مکوّنات بلاغیّة کالتشبیه والاستعارة تشکّل البناء الصوری وهی: النجم مات / النورس اختفی / یوشک الظل یموت / جواد الحزن تزرع الافاق إنّ توظیف مثل هذه الوسائل البلاغیّة الجدیدة یوضح لنا ثقافة المقالح الواسعة حیال الأساطیر الغربیّة والعربیّة دون شکّ، التی یجد فیها مصدراً غزیراً لشحن لغته الشعریّة، فإذا نظرنا إلی رسائله الخمسة نری علاقة وثیقة بین الأشخاص الأسطوریّة -سیزیف، وبرومیثیوس، وسندباد والرخ- وبین شخصیّة الشاعر الذی یهیم فی أوجاع الغربة. ویشبه هذا بالمنولوج الداخلی الذی یعبّر المقالح عن نفسه ویرسم غربته وحزنه المتجلّی فی سیزیف وبرومیثیوس والسندباد «فکأنّنا بهذا أمام أسلوبین للصورة الشعریّة الحدیثة الأوّل یستخدم الصور الداخلیّة النفسیّة والآخر یستخدم الصور الشعریّة وفی أحیان کثیرة یمزج الشاعر الحدیث بین أسلوبین لإیجاد أکثر من بعد وأکثر من موقف، خاصةً فی تلک القصائد التی اتجه بها إلی تحقیق بناء درامیّ فی العمل الشعری.» (الورقی، 1984م: 141-145) ویتکلّم المقالح علی لسان سیف بن ذی یزن ویبنی صورته القناعیّة وتشرّده وبعده عن وطنه قائلاً: - أنا شرید / خواطری علی سفوح قریتی شریدة / هل تعلم السفوح أن دمعتی /تکسرت علی صخورها قصیدة. (المقالح، 1986م: 322) یسعی المقالح من خلال أسلوبه الدرامی والوصفی إلی رسم شخصیّة "سیف" والحوار معه للکشف عن آلامه ومعانات الشعب الیمنی. فلذا یمکننا القول إنّ حبّه وشوقه للیمن هو الفکرة الرئیسیّة ومحور الانسجام والحرکة فی دیوانه ویستخدم الشاعر شخصیّة بن ذی یزن بغیة أن تجسّد صوراً تعبیریة مکثفة ترتکز علی خلجاته النفسیّة، مستمداً من مفردات حیاة الواقع الیمنی، التی یتیح للشاعر أن تفصح عن ما یدور فی باطنه من مشاعر ومواقف وعواطف وإیصاله للآخرین والتأثیر فی وجدان المتلقّی. وإنّ تشرّد سیف بن ذی یزن/الشاعر وبعده عن قریته والذکریات التی تجول فی ذاکرته تسلب منه الهدوء والسکینة وتسکن الحزن فی قلبه، والقریة (الوطن) التی تحترق فی نار الخلافات والاحتلال تشعل نیران قلبه وتذیبه. «وشخصیّة سیف توحی بدلالتین: حیث یصبح سیف فی الأولی رمز المخلص الذی یحمل الآلام من أجل توحید الکلمة والبحث عن حلیف. وفی الوقت نفسه أیضًا یوحی استخدامه لأسطورة سیف بأنّه یستخدمه قناعاً للغربة ودلالة ثانیة علی ما یعانیه المغترب من حنین ولوعة. هکذا یستخدم رمزاً واحداً لدلالتین علی قدر من التناقض وهما: الخلاص والغربة.» (وادی،2000: 68) وتتضاعف هذه الصورة الحزینة مع الانتظار: - کانت قریتی مذبوحة الاحلام تنتظر المسیح / الجوع یمضغ وجهها / واللیل یشرب دمعها. (المقالح، 1986م: 396) إن ّالشاعر المقالح یدین فی هذا المقطع للسیاب" وتأثّره به؛ حیث یوضح الویلات التی ألمت بالشعب الیمنی کما نری نظیر ذلک ما عاناه الشعب العراقی. فیمکن القول إنّ مثل هذه الظروف التی عاش بها الشعب العراقی لیست مقصورة علیها دون غیرها، غیر أنّ الشعوب العربیّة الأخری کانت تواجه هذه الظروف والمصائب. إذن الظروف المشترکة تتنج المعانی المشترکة ولکن الشیء الذی یفرق بین شاعر وآخر هی طریقة استخدام الکلمات والعلاقات الجدیدة فی التراکیب الشعریّة التی یضیف الشاعر إلیها الحیویّة والقوّة والتأثیر. والمقطع المذکور یرتکز علی الصورة الحسیّة التی تقوم علی التشخیص، فقد استطاع الشاعر أن یمنح «الجوع واللیل» بعداً حسیّاً وأثراً واضحاً. والجوع واللیل فی هذه الصورة الاستعاریّة التشخیصیّة یخرجان عن مفهوهما الحقیقیین لتتحوّل إلی کائن حیّ یأکل وطن الشاعر. ومن أجل التعبیر عن عمق تجاربه الذاتیّة اعتمد الشاعر علی التشخیص فی بناء صورته الشعریّة. ونجد صورة العدوّ المفترس فی الجوع واللیل، الجوع الذی یمضغ وجه قریته واللیل الذی یشرب دمعها؛ کما أنّ النصّ یحمل أبعاداً دینیّة أشار إلیها الشاعر عبر استحضار شخصیّة النبیّ "مسیح"، ویشیر المقالح إلی الفضاء الحاکم فی الیمن ویعطی لتجربته بعداً سیاسیّاً واجتماعیّاً «وإن کان الشاعر یحدّثنا عن واقعه الشعوری الذی یرتبط فی الوقت نفسه ارتباطاً شعوریّاً وثیقاً بتلک الواقعة الرمزیّة القدیمة فإنّ تعبیره حینئذ عن هذا الموقع انما یأخذ طابعاً رمزیاً لأنّه استطاع أن یربط بین واقعته الشعوریّة الخاصّة والواقعة الأسطوریّة العامّة.» (عشری زائد، 1997م: 202) وبناء على ما ذکرناه حیال حزن المقالح فی دیوانه المدروس، نرى أنّ الصورة الشعریّة عنده ما هی إلّا صورة کلیّة، للتعبیر عن خیاله الشعری وارتباطه باللغة الشعریّة التی وظّفها لخدمة غرضه فی التعبیر عن أحاسیسه الغارقة بالحزن والغربة. وهذه الصورة الشعریّة الکلیّة التی أوردها لم تقتصر علی صورة تقلیدیّة محضة ترتکز على الأسس القدیمة کالمجاز والاستعاره والکنایة والتشبیه، بل الانسجام والالتصاق بین صوره الشعریّة من جانب و رؤیة الشاعر من جانب آخر یمنحان علی شعریّة الصورة لدی المقالح بعداً حداثویّاً التی نراه یرسم لنا صورة بخیاله یعبّر فیها عن غربته وبعده عن وطنه فی جوّ یسوده الخراب والدمار والظلام التی غاص به الشاعر وشعبه، فلم یجدوا مخرجاً أو بصیص أمل یستنشقون منه فجر الحرّیة والخلاص. ویرتکز المقالح فی هذه الصورة على استدعائه للرموز التراثیّة کسیف بن ذی یزن، والسندباد، والرموز الأسطوریّة کأسطورة سیزیف وبرمیثیوس وتشخیص المادّیات. وإنّ توظیفه لهذه الرموز والأساطیر ما هو إلّا اتّحاد وعلاقة بینه وبینها للتعبیر عن حالته التی ألمت به، فلم یستطع التعبیر عنها بشکل مباشر، فکانت هذه الرموز دلالة على مشاعر وأحاسیس الشاعر التی أوجدت بدورها تلاقحاً واتصالاً بین الحاضر والماضی المضیء الذی اعتزّ به العرب إلى یومهم هذا. ونرى المقالح قد اعتمد على تقنیة القناع فی رسم صورته الشعریّة، من خلال استدعائه لشخصیّة سیف بن ذی یزن الذی طلب العون من الفرس والروم للخلاص من الأحباش ولکنّ الشاعر یعتقد أنّه «لیس صحیحاً ما أشاعه بعض المؤرخین من أنّ سیف بن ذی یزن المناضل القومی، وبطل الأسطورة المعروف، قد قام برحلتی استجداء إلی بلاد الروم ثمّ إلی بلاد فارس طلباً لعون هاتین الحکومتین ضد الغزو الحبشی. والحقیقة التی تؤکّدها وقائع التاریخ أنّ سیف بن دی یزن قد غادر الیمن فعلاً لطلب العون ولکن لیس من فارس والروم وإنّما من أبناء وطنه من المهاجرین الیمنیین الذین کانوا فی ذلک الحین قد کونوا إمارتین عربیّتین علی حدود الدولتین الکبیرین وکان ارتباطهم بهاتین الدولتین وراء رحلة سیف إلی عاصمتی «بیزنطة» و «فارس».» (المقالح، 1986م: 333-334) ویشیر إلی هذه الفرضیّة التاریخیّة فی قصیدته «من یومیات سیف بن ذی یزن فی بلاد الفرس»: - ویصرخ فی قبره «ذو یزن»/ فلست لهذا تغربت/ لست لهذا ترکت الدیار/ دیار السیوف التی شربت من عیون الزمن/ وما جئت مستجدیاً للرجال/ ولکننی جئت أطلب من صاحب التاج/ باسم الیمن/ وباسم کراهتنا للدخیل/ بأن یتحدی الزمن/ ویمنح أبطال «حیرتنا» إذناً بالرحیل (السابق: 333) علی أیّ حال توظیف الشخصیّات الأسطوریّة - خاصةً شخصیّة سیف بن ذی یزن - وتقمّصها عنده لیس بسیطاً، والقارئ لا یستطیع التمییز بین کلام الشاعر أو القناع الذی استحضره. والمقالح فی قصیدته لم یطلب المدد من أحد، بل أراد أن یهب شعبه الیمنی للدفاع عن أرضه والخلاص مما یعانیه، وهنا تبدو المفارقة بینه وبین البطل سیف بن ذی یزن. وهذا ما یدُلّ على قدرة الشاعر الشعریّة فی الربط بین خیاله ولغته التی استخدمها، والتی أحسن استخدامها نجده بین المفردات والألفاظ فی شعره. بإمکاننا أن نرسم هذه الصورة الکلّیة بشکل یوضحه الجدول التالی:
فنری المقالح قد أخذ من کلّ شخصیّة من هذه الشخصیّات صفة تعبّر عنه حاله فی غربته مع بعض الخلافات. فهو کسیف بن ذی یزن الذی یطلب مساعدة الفرس والروم للخلاص من الأحباش، بینما المقالح یطلب العون من شعبه نفسه؛ لأنّه یراهم کسیف الذی لابدّ أن یُسلّ فی وجه الطامعین والمخرّبین. ونراه یأخذ من السندباد صفة الغربة والمغامرة خارج البلاد والفرق بینهما أنّ السندباد یعود إلی بلاده بعد سفر طویل، أمّا المقالح فما یزال یتجرّع مرّ الغربة؛کما نجده یأخذ من سیزیف صفة المتعب المتلاحق فنراه لا یکلّ ولا یملّ فی رفع الصخرة والأمر کذلک عند المقالح الذی لا یعتریه التعب وحثّه لشعبه علی النهوض فی وجه الطامعین. ونراه یأخذ من برمیثیوس صفة التمرّد والتحدّی، ولکن ناره قد اختفی مکبلاً بالأغلال، بینما نار التحدّی فی قلب المقالح تضیء أمامه الذی یمضی فی الغربة ویعلم أنّ بلاده تکتوی بنار الخلافات. التکرار التکرار عنصر مهم من عناصر البناء الشعری لأنّه «إلحاح علی جهة هامّة فی العبارة یعنی بها الشاعر أکثر من عنایته بسواها، فالتکرار یسلّط الضوء علی نقطة حسّاسة فی العبارة ویکشف عن اهتمام المتکلّم بها» (الملائکة، 1989: 276). وبنیة التکرار فی الشعر هی جزء لا یتجزأ من البنیة اللغویّة والدلالیّة، وبین البنیة الصوتیّه والدلالیّه علاقة وثیقة، وهذا ما یؤکّده ت.س.الیوت بقوله: «إنّ موسیقا الشعر لیست شیئاً مستقلاً عن المعنی، والدلیل علی ذلک أنّه یتعذر علینا الحصول علی شعر عظیم خالٍ من المعنی.» (1991م: 29). بناء علی ذلک لا بدّ لنا أن لا نقصر الموسیقی علی الوزن والبحور الخلیلیّة؛ لأنّ هذا الاقتصار یقلّل کثیراً من الجمالیّات الإیقاعیّة الداخلیّة؛ کما نلاحظ إلی جانب الإیقاع العروضی، فالشعر یتضمّن نغماً موسیقیاً یحقّقه السیاق والانسجام بین الکلمات، الذی یمکن أن نطلق علیها اسم الإیقاع الداخلی. والشاعر یستخدم فی تشکیل بنیة الإیقاعات الداخلیّة طرقاً مختلفة کالتکرار الصوتی وتوالی الحرکات المتجانسة وغیر ذلک. وفی دراستنا هذه سنقوم بدراسه التکرار فی ثلاث إیقاعات: تکرار الحروف، تکرار الألفاظ وتکرار العبارة، التی تُعدّ إحدی جوانب شعریّة اللغة. تکرار الحروف یُعدُّ الانسجام الصوتی للحروف أحد أرکان الإیقاع الداخلی وتکرار الحرف «من أبسط أنواع التکرار وأقلّها أهمّیة فی الدلالة، وقد یلجأ إلیه الشاعر بدوافع شعوریّة لتعزیز الإیقاع فی محاولة منه لمحاکاة الحدث الذی یتناوله، وربما جاء للشاعر عفواً دون قصد». (خضیر، 1982: 144) وتُعدُّ ظاهرة التکرار الصوتی لبعض الحروف فی القصیدة الشعریّة من الوسائل التی تثری الإیقاع الداخلی بواسطة تردید حرف بعینه فی الشطر أو البیت أو السطر، أو مزاوجة حرفین أو أکثر وتکرار ذلک فی مقطع شعری یعکس الحالة الشعوریّة للمبدع وقدرته علی تطویع الحرف لیؤدی وظیفة التنغیم إضافة إلی المعنی. (محمد العف، 2001م: 5) ومن أهمّ الأبنیة الصوتیّة التی یستخدمها الشاعر فی تحدید معالم رؤاه وتجربته الشعریّة هی تعویله علی حروف المدّ أو الصوائت الطوال؛ لأنّ الحزن والاغتراب والموت من أهمّ الدلالات التی تحملها الصوائت الطوال لتوحی بامتدادها بأنّ البکاء والحزن والظلام ممتدّ لا نهایة لها، ومن جانب آخر فإنّ الصوائت الطوال بطبیعتها طویلة ممدودة وتلعب دوراً هاماً فی إیصال مکنونات الشاعر إلی القارئ. وفی المقطع التالی تمّ توظیف هذه الصوائت للدلالة علی معاناة البیئة الیمنیة التی تتمثّل فی الفقر والصراع والاستبداد: - ومثل خنجر یغوص فی الدماء / یسرسب الصوت الحزین فی الاعماق / یلقی سحابة من الدموع والبکاء / علط النجوم والآفاق / تستیقظ الثلوج فی الظلام والشتاء / وتنکفی غرقی بدمعها أشرعة المنام / فخففی یا أم من نواحک اللیلی من مواجید المساء / تکاد تنطفی حزنا مشاعل النجوم / تضئ کالجحیم شعلة الهموم (المقالح، 1986م: 355-356) لقد نجح الشاعر فی استغلال الدلالة الموسیقیّة لتکرار حروف المدّ (و، ا، و، ی، ا، ا، ی، ا، و، ا، و، آ، ا، و، ا، ا، ی، ی، ا، ا، أ، ی، ا، أ، ی، ا، ی، ا، ا، ی، ا، و، ی، ی، و) وجعل من التردید الصوتی إیقاعاً حزیناً یحسّه الشاعر. والحالة الاجتماعیّة والسیاسیّة التی تواجه الشاعر، دفعته إلی استخدام الصوائت الطوال التی یثری احساسه بهذا الإیقاع الصوتی الحزین ویجعل المتلقّی یشارکه حالته النفسیّة. فتکرّرت حروف المدّ 34 مرّة وأعطیت القصیدة جرساً موسیقیّاً داخلیّاً ووظیفة دلالیّة موهوبة، «لأنّ أصوات المدّ ذات دلالة ذاتیّة فی خلق النشاط الموسیقی أو تکوین المعنی» (سلوم، 1983: 51) کما نلاحظ علاقة وطیدة بین حزن الشاعر وآلامه وأوجاعه وبین الاستغلال هذه الطوائت الطوال؛ بمعنی آخر نستطیع القول أنّه کلما إشتدّ وازداد حزن الشاعر اشتدّت وازدادت المدود فی لغته. وقد أدّی التفاعل الصوتی فی القوافی (دماء، بکاء، شتاء، مساء) إلی خلق موازنة صوتیّة فی بنیة القصیدة وانسجام صوتی وحساسیّة جمالیّة فی رسم رؤیة الشاعر الفنیّة کما هو واضح فی قوله: - جئناک فی بحر من الاحزان / فی موج من الدموع / ونحن لا نبکیک / لکنا الیک نبکی قسوة الظروف / ومحنة الحروف (المقالح، 1986م: 409) کما نلاحظ فی هذا المقطع الصغیر تکرّرت أصوات المدّ 14 مرّة والعلاقة بین انهمار الدموع وامتداد حروف المدّ علاقة وثقیة، وامتداد قطرات الدموع ألجأ الشاعر إلی استعمال الحروف الطویلة لیتناسب طول الأصوات مع الحزن والتحسّر الدائمة لدی المقالح. وفالحزن کما شاهدنا فی قسم المعجم الشعری قد احتلّ مکانة کبیرة من لغة الشاعر، وهذا الحزن أیضاً یؤثر علی إیقاع مجموعته الشعریة، وهذا یدُلّ علی ذکاء الشاعر، لأنّ الشاعر الکبیر یعلم أنّ هناک علاقةً وانسجاماً بین الکلمات التی یستغلّها وبین الموسیقی الموجود فی الألفاظ، لکی ینتقل احساسه بشکل أدق إلی متلقّیه. وإذا أمعنا التامّل فی المقطع التالی سنجد أشعار الشاعر تحتوی علی المدود الکثیره وهذا ناتج عن احساسه الحزین: - وسیف / فی بادیة العراق یحتضر / أحلامه، عیناه فی الظلام تنفجر / وقدماه للدجی موثقتان / سیفه جریح / وصوته ذبیح / یبکی / یثور، / یشتکی، یصیح (السابق: 313-314) والتناغم الصوتی الذی أثاره تواتر حرف (الیاء) أدّی إلی خلق قیمة جمالیّة ودلالیّة ومتعة تنغیمیّة ترکت أثرها فی المتلقّی ومن جانب آخر کشفت عن شعریّة اللغة وعلاقتها بتجربة الشاعر واحساسه بعالمه المعیش. وتکرار صوت الیاء علاوة علی تولید الإیقاع، یترک من شعور بالبکاء والملل والألم الکسیح ویرسم جواً مغلقاً ومظلماً یعانی منه الشاعر؛ کما یعبّر عن آلام الشاعر وحالته الکئیبة لأنّ هذا الصوت تناسب التأوّه والآهات «لاتّساع مجری النّفس عند النطق بها» (عباس، 1998: 96). فقد بیّن تامر سلوم عند دراسته لشعر النابغة الذبیانی «أنّ العلاقة بین أصوات المدّ وفکرة الإحساس بالخوف والاغتراب لابدّ أن تکون عنصراً أساسیّاً هامّاً فی بحث أصوات المدّ نفسها» (سلوم: 1983: 46) تکرار الألفاظ الألفاظ والکلمات هی وسیلة التعبیر اللغوی. ألفاظ الشاعر کریشة الرسام تنقل ما یجری فی ذهنه من أحاسیس وشعور. والألفاظ قابلة للتکرار والاشتقاق والترادف ولکلّ هذه الأمور علاقة وثیقة بالموسیقی وشعریّة اللغة. «فکلّ کلمة هی قطعة من الوجود، أو وجه من وجوه التجربة الإنسانیّة، ومن ثمّ فإنّ لکلّ کلمة طعماً ومذاقاً خاصاً لیس لکلمة أخری، إنّ التلاحم بین اللغة والتجربة تجعل لکل ّکلمة کیاناً منفرداً عن کلّ ما عداه.» (إسماعیل، 1966م: 156) من ثمّ فاستغلال الشاعر لکلمة خاصّة یرتبط ارتباطاً وثیقاً بالمعنی الذی یقصده لیصل إلی الدلالة التی یریدها. «وإیقاع الکلمة الشعریّة یتحدّد بالمستوی النسقی الذی تشغله فی السیاق؛ وفقاً لهذا المستوی تتحدّد شعریتها وموقفها الفنی، وصداها الصوتی أو النغمی؛ وهکذا یمتاح الشعر من إیحاءات الکلمة ما یغنی تجربته الشعریّة، وینتقی من اللغة المفردات التی تتناغم مع موقفه الوجدانی وتموّجاته النفسیّة؛ ذلک أنّ لکلّ کلمة نغمها الخاص المتولّد عن تتابع الأصوات، والمقاطع، وما یمیّز الشاعر المبدع عن غیره الاهتداء إلی الکلمة التی یقتضیها السیاق، بحیث یقرع الأذن جرسها عند التلفظ بها؛ فتولد عند المستمع أثراً رنّاناً یتساوق مع الغرض الذی یقصده الشاعر.» (شرتح، 2018م: 58) وبما أنّ الحزن قد سیطر علی دیوان المقالح، فهذا یعنی أنّ ألفاظ الحزن ومشتقّاتها تتردّد أکثر من غیرها من الألفاظ فی مجموعته الشعریّة وتمنح القصیدة نغماً موسیقیّاً خاصاً فی النصّ الشعری کما نلاحظ فی المقطع التالی: - بکیت إذ بکیتک الوطن / بکیت أهلنا المشردین، حلمنا الغریب، ذا یزن / بکیت حاضرا یضج بالجرح / ماضیا یعج بالمحن/ بکیت فیک – یا شهید – شعبنا / بکیت امنا الیمن (المقالح، 1986م: 310) فقد کرّر الشاعر کلمة «بکیت» ست مرّات فی هذه المقطوعة الشعریّة لإثراء التجربة الشعریّة. هذا التکرار یصوّر مدی الحزن والوجع الذی یعانی منه الشاعر، ولها دور کبیر فی انعکاس تجربة الشاعر الانفعالیّة وتصویر حالته النفسیّة وإثارة احساس المتلقّی. ولها إیقاع ورنین صوتی ودلالی وقوّة تعبیریة ضخمة فی الدلالة علی الحالة الشعوریّة وهذا التکرار یدُلّ علی المصائب والمشاکل التی ملأت حیاة الشاعر وشعبه ووطنه. والشاعر یبکی والوطن یبکی والشعب یبکی، ولا ینتهی البکاء. ولم یکن هدف الشاعر من هذا التکرار إیجاد الإیقاع فحسب، بل التأثیر فی متلقّیه وبیان کثرة همومه وأوجاعه. وفی قصیدة «اعتذار» کرّر الشاعر کلمة «معذرة» فی بدایة القصیدة: - معذرة / معذرة الجبال والجنود / معذرة الصمود / معذرة المدینة التی حملتها فی القلب (السابق: 386) کرّر الشاعر هذه الکلمة ثلاث عشرة مرّة فی هذه القصیدة وهذه المعذرة أمام قبر مجهول للجندیّ المجهول وهذا التکرار إلی جانب وظیفته الإیقاعیّة للقصیدة، نراه یجعل الأبیات أکثر ترابطاً، وعنوان القصیدة کما أسماه الشاعر یوجب هذا التکرار والإصرار والتردید والمعذرة. فهذا الاعتذار یکون نوعاً من نقده اللاذع لشعبه ولنفسه الذی لقد سبّب فی إراقة دماء الشعب الیمنی. وفی المقطع الثانی من هذه القصیدة یکرّر الشاعر کلمة «کیف» أربع مرّات بصورة متتالیة، ربّما المتلقّی یظنّ أنّ الشاعر یبحث عن الإجابة ولکنّ هذا الاستفهام حوار جری بین الشاعر والجندیّ المجهول «کیف انهزمنا؟/ کیف نام الصمت فی الشفاه؟/ کیف خنقنا الآه!/کیف ارتضینا أن تموت بیننا؟؟؟/» (السابق: 388) و«تکرار هذه الکلمة یضفی علی النصّ، أجواء الحزن والأسی وتشکّل إیقاعات موسیقیّة مؤثرة فی نفس السامع وأظهرت المشاعر الخاصّة للشاعر وتخلق إیقاعاً داخلیاً متناغماً مع الحالة الشعوریّة للشاعر» (الزبیدی، 2015: 274) وکثرة الأفعال الماضیة مع دلالاتها المختنقة التی تحملها داخل النصّ الشعری، تنمّ عن استمراریة العجز والهوان والندم الذی سیطر علی وطن الشاعر وهذا بسبب عدم وجود أیّ زعیم وطنی وخیانة الحکام والسلطات المرتزقة. تکرار العبارة لا تقاس قدرة الشاعر علی التشکیل الموسیقی باختیاره للحرف أو اللفظ الذی یحمل دلالات نغمیة فحسب، بل إنّ القیمة الموسیقیّة الحقیقیّة تنبع من تآلف مجموع هذه الألفاظ فی جمل متناسقة الترکیب، متّسقة الأوزان والتقطیعات الصوتیّة وهو ما نسمّیه بموسیقی العبارة. (محمد العف،2001م: 18) والعلاقات التی تربط الکلمات بعضها ببعض وتشکل ترکیباً منسجماً هی اللغة الشعریّة. نری هذه البنیة الإیقاعیّة فی قصیدة «رسالة جوابیة» التی یستغل الشاعر تلک الظاهرة بالإضافه علی اصراره علی ایراد جهة هامّة من العبارة لإثراء البنیة الایقاعیّة: لا تنتظر.. لا تنتظر لن تمطر السماء ابطالا . . لا تنتظر فبرق الشام خلب والفارس القدیم لن یعود (المقالح، 1986م: 313) یصف الشاعر هنا حزنه وما یحسّ به من خزی وعار لقیه الشعب الیمنی ویکرّر عبارة «لا تنتظر» أربع مرّات فی بدایة المقاطع التی تدور حولها الفکرة الأساسیّة والدلالیّة. هذا التکرار فی بدایة القصیدة وبدایة کلّ مقطع قد أفاد التسلسل والتتابع والانسجام بین المقاطع الشعریّة وخلق نغماً متکرّراً. والمتلقّی لهذه الأبیات یحسّ مدی یأس الشاعر والإیقاع الذی ینبعث من التکرار معطیاً القصیدة جمالاً موسیقیاً. والشاعر من خلال هذا التکرار یفصح عن خیبة الأمل فی الانتصار واستئصال الظلم والاستبداد عبر التضحیة والفداء. وخطاب الشاعر موجّه منه إلی نفسه وأبناء شعبه؛ والمخاطب هو الشاعر وأبناء شعبه وهذه القصیدة کما واضح من عنوانه، رسالة جوابیّة أرسلها الشاعر لنفسه فی جواب رسائله الخمسة التی کان قد أرسلها إلی سیف بن ذی یزن داعیاً منه أن یأتی ویمزّق سدول الظلم والظلام الذی خیّمت فی بلد الشاعر. والحوار الذی یجری فی هذه القصیدة یکون قائماً بین المقالح وذاتها، وهذا الحوار یدّل علی ما یدور فی وطن الشاعر من الجمود والجفاف. وهذا الأسلوب قد ساعد الشاعر فی تصویر عمق المأساة والتعبیر عن الواقع المعاش والشعور بالعجز والانکسار أمام الظلم والظالمین؛ کما یردّد الشاعر فی خاتمة قصیدة «الفاتحة» العبارة التالیة: - وغداً یکون الانتصار.. / وغداً یکون الانتصار.. (السابق: 280). تکرار هذه الوحدة الصوتیّة أو السطر الشعری فی نهایة القصیدة یکشف عن الاهتمام الشاعر بها والقاء تجربته إلی القارئ ویؤدی دوراً هامّاً فی التعبیر عن خیال الشاعر وعلاقته بمفرداته اللغویة وخلق توافق نغمی لإثراء شعریّة النصّ.کما نلاحظ فی قصیدة «الرسالة الثانیة»: «حزنی علیک» ثلاث مرّات فی بدایة المقاطع الشعریّة وفی جانب هذا البنیة الإیقاعیّة نری أیضاً تکرار الجملة فی بدایة القصیدة أو فی آخره کقصائد «الیومیة الأخیرة، و، ویومیة بلا تاریخ، وسیف بن ذی یزن وحوار مع أبی الهول، والمعرّی السجین، والشاعر». «فوظیفة هذا التکرار الختامی تعدت مفهومه اللغوی البسیط، إلی بنیة القصیدة الخارجیة والداخلیة. وقد اسهمت فی الکثافة الدلالیّة التی تمرکزت فی خاتمة النصّ وفق منطق جمالی یدُلّ علی قدرة الشاعر علی الترتیب وحسن الاداء.» (وقاد، 2001م: 272) النتائج إنّ الشعر یدور فی فلک اللغة فباللغة وطریقة استخدامها یتمیّز الکلام العادی عن الشعر. والشاعر الناجح هو الذی یتقن کیفیّة استخدام اللغة وإعطاء الحیویّة والجدة لها لیتفوّق أمام غیره من الشعراء وهذا أیضاً لا یحصل إلّا عن طریق صور راقیة وخیال خصب وإیقاع رنین یعلوها ویکسوها ثوباً أنیقاً لیخلدها فی الأذهان البشریة، ونری هذا الخلود فی الشاعر الیمنی "عبد العزیز المقالح" ونجاحه فی توظیف اللغة عبر دراسة دیوانه الثالث فی ثلاثة محاور: المعجم الشعری والصورة الشعریّة والتکرار، ومن أهمّ النتائج التی خلصنا إلیها: 1- فی مجال المعجم الشعری لا یکاد یجد المتلقّی قصیدة تخلو من الکلمات التی تصوّر حزن الشاعر ویأسه وألمه. یشمل هذا المجال علی حقلین: حقل الحزن وحقل الأمل. حقل الحزن شکّل معجماً کبیراً وتبیّن أنّ تجربة المقالح مستقاة من الواقع الألیم الذی یحرق وطنه فی نار الخلافات والجهل وتبیّن أیضاً أنّ هذا الحقل هو المحرّک الرئیس لجمیع کلمات القصیدة وکثرة استخدام کلمات الحزن والموت فی بنیة دیوان الشاعر، أعطاه وحدتی اللغویة والموضوعیة معبراً عن أحاسیس الشاعر وموقفه إزاء وطنه وشعبه الذی یرزخ تحت نیر الظلم والاستبداد. وأمّا الحقل الثانی فقلیل جداً بالمقارنة مع حقل الحزن، حیث لا تتجاوز مفردات هذا الحقل أصابع الید. 2- من أهمّ ینابیع الصورة الشعریّة عند المقالح التی تغترف منها هی: تشخیص المادّیات والأساطیر المختلفة التی وظّفهما للتعبیر عن أفکاره ومشاعره وآمال شعبه؛ لأنّ الشعر عنده وسیلة من وسائل تغییر المجتمع وکلّ هذه التصاویر الشعریّة منها التاریخیّة والأسطوریّة تخدم آمالاً اجتماعیّة وثقافیّة التی تنقل حقیقة عالم الیمن. وأیضاً تُعدّ تقنیة أسلوب الحوار أو المونولوج الداخلی محوراً مهمّاً فی التصویر الشعری لترسیم أوضاع الیمن التی تتمحور علی سرد یومیّات سیف بن ذی یزن ومعاناته إزاء نجاح شعبه ووطنه. وینقل الشاعر إلینا هذه المشاعر والأحاسیس بطریقة غیر مباشرة. ویصوّر حالته المأساویّة ونظرته السوداویّة إلی الواقع. وتقمّص شخصیّة سیف بن ذی یزن وأبعاده الدلالیّة تدّل علی مدی نجاح الشاعر فی استخدامه والتحدّث عن ألم مشترک أصاب بها الشعب الیمنی أهمّها التخلّف والجهل. وتعدّدیة الصورة عند المقالح عبر رموزها المختلفة أعطاها حیویّة فی لغته الشعریّة وشاعریته والتعبیر عن واقع مجتمعه بلغة متمیّزة نابعة من عصره. 3- لاشک أنّ المعجم الشعری للشاعر یتشکّل من المفردات ذات الدلالات الحزینة، وبالتالی تُکوّن الصور الشعریة المنبثقة عنها حزینة أیضاً وبما أنّ البنیة الإیقاعیّة فی الشعر هی جزء لا یتجزأ من البنیة اللغویة والدلالیّة، فالشاعر الیمنی قام باستخدام تناغم رائع للاتصال بین أجزاء شعره کلّها، مما أعطی لمشاعره موسیقی رائعة من خلال استخدامه للمفردات والعبارات هذه. والشاعر اعتمد علی تکرار الأصوات المدود ( الف-واو-یاء) لاتساعها وامتدادها فی تکثیف الإیقاع وتلوین الموسیقی علاوة علی أبعاده الدلالیّة. وتکرار الألفاظ والعبارات أیضاً من الأنماط الصوتیّة والإیقاعیّة التی یستفید منها الشاعر بغیة إیصال المعنی وحالته النفسیّة. | |||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
مراجع | |||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
أدونیس.(1978م). زمن الشعر. (ط2). بیروت: دار العودة. إسماعیل، عزالدین. (1966م).الشعر العربی المعاصر قضایاه وظواهره الفنیة والمعنویة. ط3. بیروت: دار الفکر العربی. الصباغ، رمضان.(2002م). فی نقد الشعر العربی المعاصر دراسة جمالیة. (ط1). اسکندریة: دار الوفاء لدنیا الطباعة والنشر. البطل، علی. (1981م). الصورة فی الشعر العربی حتی آخر القرن الثالث الهجری: دراسة فی اصولها وتطورها. بیروت: دارالاندلس. إلیوت، ت.س. (1991م). فی الشعر والشعراء. (ترجمه: محمد جدید). ط1. دمشق: دار کنعان لدراسات والنشر. جابر علی، إبراهیم. (2010م). المستویات الأسلوبیة فی شعر بلند الحیدری. ط1. مصر: العلم والإیمان للنشر والتوزیع. خضیر، عمران. (1982م). لغة الشعر العراقی المعاصر. ط1. الکویت: وکالة المطبوعات. سلوم، تامر. (1983). نظریة اللغة والجمال فی النقد العربی. ط1، سوریة-اللاقیة: دار الحوار للنشر والتوزیع. شرتح، عصام، (2018م). مستویات الإثارة الشعریّة عند شعراء الحداثة المعاصرین، عمان: دار آمنة للنشر والتوزیع. علاق، فاتح. (2005م). مفهوم الشعر عند رواد الشعر العربی الحر. دمشق: منشورات اتحاد الکتاب العرب. عبدو فلفل، محمد. (2013م ). فی التشکیل اللغوی للشعر. دمشق: منشورات الهیئة العامة السوریة للکتاب وزارة الثقافة. عباس، إحسان، (1978م). إتجاهات الشعر العربی المعاصر. الکویت: دار المعرفة. عباس، حسن. (1998م). خصائص الحروف العربیة ومعانیها. دمشق: منشورات اتّحاد الکتّاب العرب. عشری زائد، علی. (1997م). استدعاء الشخصیات التراثیة فی الشعر العربی المعاصر. القاهره: دار الفکر العربی. غنیمی هلال، محمد. (1997م). النقد الأدبی الحدیث. مصر: دار نهضة للطباعة والنشر والتوزیع. کورتل، آرثر. (2010م). قاموس أساطیر العالم. (ترجمة: سهی الطریحی). دمشق: دار نینوی للدراسات والنشر والتوزیع. کوهن، جان. (1990م). بناء لغة الشعر. (ترجمه: احمد درویش). مصر: الهیئة العامة لقصور الثقافة. المقالح، عبد العزیز. (1986م). دیوان. بیروت: دارالعودة. مکی، طاهر. (لاتا). الشعر العربی المعاصر روائعه ومدخل لقراءته. مصر: دارالمعارف. الملائکة، نازک. (1989م). قضایا الشعر المعاصر. ط8 بیروت: دار العلم للمایین. وادی، طه. (2000م). جمالیات القصیدة المعاصرة. ط1. مصر: الشرکة المصریة العالمیة للنشر. وقاد، مسعود. (2001م). جمالیات التشکیل الإیقاعی فی شعر عبد الوهاب البیاتی. الجزائر. اطروحة الدکتوراه. الورقی، السعید. (1984م). لغة الشعر العربی الحدیث مقوماتها الفنیة وطاقاتها الإبداعیة. بیروت: دار النهضة. یاکبسون، رومان. (1988م). قضایا الشعریّة. ترجمة محمد والی ومبارک حنوز. دار توبقال للنشر. المقالات الزبیدی، صلاح مهدی وعباس حمید، نصرالله. (2015م). «التکرار وأنماطه فی شعر عبدالعزیر المقالح». مجلة دیالی. العدد السابع والستون. صص 281-264 محمد العف، عبدالخالق. (2001م). «تشکیل البنیة الإیقاعیّة فی الشعر الفلسطینی المقاوم». مجلّة الجامعة الإسلامیة. المجلد التاسع – العدد الثانی. صص 27-1 | |||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
آمار تعداد مشاهده مقاله: 769 تعداد دریافت فایل اصل مقاله: 1,675 |