تعداد نشریات | 418 |
تعداد شمارهها | 10,006 |
تعداد مقالات | 83,638 |
تعداد مشاهده مقاله | 78,584,171 |
تعداد دریافت فایل اصل مقاله | 55,746,660 |
دراسة الشخصیّات الدینیة المنبوذة فی شعر شاذل طاقة فی ضوء التقنیّات البیانیّة | ||
إضاءات نقدیة فی الأدبین العربی و الفارسی | ||
دوره 10، شماره 40، فروردین 2021، صفحه 9-24 اصل مقاله (225.06 K) | ||
نوع مقاله: علمی پژوهشی | ||
نویسندگان | ||
احمدرضا حیدریان شهری1؛ مریم بخشنده* 2؛ نعیمه پراندوجی3 | ||
1استاذ مشارک فی قسم اللغة العربیة و آدبها بجامعة فردوسی مشهد، مشهد ، ایران | ||
2خریجة الدکتوراه فی قسم اللغة العربیة و آدبها بجامعة فردوسی مشهد، مشهد ، ایران | ||
3استاذة مساعدة فی قسم اللغة العربیة و آدابها بجامعة کوثر بجنورد، بجنورد، ایران | ||
چکیده | ||
یعدّ شاذل طاقه مِن روّاد الشّعر العراقی المعاصر، وقد تمتّع فی شعره بالتّراث من زوایاه المختلفة، بینما يعد توظیف التراث الدینی نصیبه الأوفر قیاسا لسائر مصادر التراث. لقد افتتن الشاعر بالشّخصیات الدینیة المطرودة مثل شخصیة قابیل ویهوذا الإسخریوطی والمسیح الدجّال بوصفهم أیقونة لإراقة الدماء والظلم، مصوّراً الجرائم والدّمار لدی البشر ومتمرّداً علی کلّ ظالم غاصب فی الأرض. ورغم أنّ شاذل طاقه شاعر کبير ذو موهبة شعرية ثرية، لکنّ النقاد قلّما اهتمّوا به وبشعره، فظلّ رائداً منسيّاً ومن هنا قرّرنا أن نعرّفه ونستعرض شعره من خلال المنهج الوصفی التحلیلی عبر دراسة الشّخصیّات الدینیّة المنبوذة فی شعره، فی ضوء التقنیات البیانیّة الّتی لجأ إلیها فی توظیفها. وتشیر النتائج الحاصلة عن المقال إلی أنّ الظروف السياسيّة والاجتماعية المضطربة في العراق والعالم العربي قد أثّرت تأثيراً بالغاً علی نفسيّة الشاعر وألهبت عواطفه، وجعلته يوظّف شخصيّات دینیة فی شعره ومنها الشخصیّات الدینیّة المنبوذة. وقد اهتمّ فی استخدام هذه الشخصیّات بحفظ الانسجام بین اللفظ والمضمون والتنسیق بین التقنیات البیانیّة والمضمون الشعری اهتماماً شاملا. واستمدّ تقنیات بیانیة متنوّعة فی استحضار هذه الشّخصیات، منها الخطاب الدینی، والأسلوب القصصی، والرّمزیة. | ||
کلیدواژهها | ||
شاذل طاقة؛ الرمز؛ الخطاب الدینی؛ الأسلوب القصصی؛ الشر | ||
اصل مقاله | ||
لقد توسّل الشعراء العراقيّون ـ نظراً إلی الظروف الخاصّة بالعراق والبلدان العربية والإسلامية ـ بالموروث الحضاری فی مقاومتهم ضد الاستعمار والمستعمرین ولاسیما الموروث الدینی وفی مقدّمته القرآن الکریم، ذلک أنّه مصدر سخیّ من مصادر الإلهام الشعری عند الشّعراء، فاستلهموه شخصیاتٍ وأحداثاً وأماکن. ویمکن أن نصنّف الشخصيات الدینیة الّتی استمدّها الشعراء المعاصرون فی ثلاث مجموعات رئيسيّة: شخصيّات الأنبياء، وشخصيّات مقدّسة، وشخصيّات منبوذة. (عشریزائد، 2006م: 76) شاذل طاقة من الشّعراء الروّاد الأوائل للقصيدة الحرّة فی العراق مع بدر شاکر السياب وعبد الوهّاب البياتي ونازک الملائکة، ولکنّه بخلاف زملائه لم يحظ باهتمام يستحقّه؛ فعدّه بعض النقاد رائداً منسياً کما أشار إلیه عبدالرضا علی فی کتابه «الذی أکلت القوافی لسانه وآخرون.» (2009م: 113) واستخدم الشاعر الرمز والأسطورة في شعره واستدعی الشخصيّات التراثية کتقنيّة من تقنيات الشّعر الحديث. وإنّ للتّراث الدینی حظاً وافراً فی شعر شاذل، لأنه کان علی ثقة بأنّ للمعتقدات الدینیّة تأثیراً بالغاً فی وجدان الجماهیر وإثارة مشاعرهم، فاستخدمه ـ بمعطیاته الثرة ـ لأنّه یوحی بمعان کثیرة وعمیقة تقدر علی تجسیم التجارب الإنسانیة وبثّ روح الحیاة والأمل والمقاومة فی الأمة. وقد اختص هذا المقال بدراسة الشخصيات الدینیة المنبوذة فی شعر الشاعر، إذ استخدمها فی موضوعات سیاسیة وفی تقنیات بیانیة تتنوّع متناسبة مع المضامین، فتمّت دراسة شعر الشاعر بالنّظر إلی جانبین غیر مطروقین وهما معرفة الشخصیّات الدینیّة المنبوذة المستحضرة فی شعره، والکشف عن التقنیات البیانیة الهامة الّتی استعملها الشاعر فی توظیف هذه الشّخصیات. وتتّضح أهمیة الموضوع حینما نعرف أنّ شاذلا کان من الشخصیّات السیاسیة فی الحکومة العراقیة، إذ کان وزیراً للخارجیة العراقیّة فی الفترة الأخیرة من حیاته، فاستقی من الشّخصیات الدینیة ما یستطیع إلباسه ثوباً جدیداً وقناعاً یتناسب والواقع الّذی کان یعیشه، فی وضع لایستطیع التعبیر فیه ـ بشکل مباشرـ عمّا یدور فی محیطه من ظلم واستبداد یحسّ به ویراه بعینیه. أسئلة البحث الأسئلة الهامّة الّتي تحاول هذه الدراسة الإجابة عنها فی هذا المقال هی: 1ـ ما هی التقنیات البیانیة الهامة الّتی استعملها شاذل طاقة فی توظیف الشّخصیات الدینیة المطرودة؟ 2ـ ما هی أسباب اتّجاه الشاعر إلی استخدام هذه الشخصیات فی شعره؟ فرضیات البحث 1ـ يبدو أنّ شاذلا استعمل التقنیات البیانیة المختلفة فی توظیف الشخصیات الدینیة المنبوذة، منها الخطاب الدینی والأسلوب القصصی والرمزیّة. 2ـ ولعلّ السبب الرّئیس الّذی حدا بالشّاعر إلی استخدام الشخصيّات الدينية المطروده فی شعره هی الظروف السياسية والاجتماعية الخانقة التي مرّت بها الأمّة العربيّة. وللحصول علی إجابة مناسبة عن هذه الأسئلة أقبل الباحثان في مقدّمة موجزة علی تقديم سيرة الشّاعر القصيرة وتجربته الشّعرية ثمّ معالجة التقنیات البیانیة الهامّة الّتی استعملها الشاعر فی توظیف الشخصیات الدینیة المنبوذة عبر المنهج الوصفي التحليلي.
خلفية البحث لا نجد دراسة اهتمّت بهذا الشاعر العراقی فی إیران غیر مقالة کتبها مریم بخشنده وأحمد رضا حیدریان شهری وبهار صدیقی حول توظیف رمز أیوب (ع) فی شعره عنوانها "أيوب (ع) في شعر شاذل طاقة علی ضوء الرّمزية: دراسة قصيدتي انتصار أيوب وهموم أيوب أنموذجا" المطبوعة فی مجلة اللغة العربیة وآدابها بقم. وقد توصّل الباحثون فیها بعد معالجة کیفیة استخدام شخصیة أیوب (ع) فی أشعار شاذل طاقة، مع الترکیز علی قصيدتيه "هموم أيوب" و"انتصار أيوب" إلی أنّ هذه الشخصیّة ظهرت فی أشعاره بدلالات رمزیّة متنوّعة معبّرة عن معاناة الشاعر نفسه فی حیاته ومعاناة الشّعوب العربیة داعیاً إلی الصّبر فی المصائب والتطلّع إلی أمل النّجاح فی الحیاة. وأمّا فی خارج البلد فقد تطرّق عدد من النّقاد والأدباء العرب المعاصرین إلی شعر شاذل طاقة، ومنهم: ماجد السّامرائي في کتابه "شاذل طاقة، دراسة ومختارات"، وقد قام فیه بعرض القصائد المختارة للشاعر بعد مقدمة وجیزة عن حیاته وتجربته الشعریة. ومنهم مالک المطّلبی فی مقاله "مدخل لدراسة التجربة العروضیة فی شعرشاذل طاقة". وقد وقف فیه عند تجربة الشاعر العروضیة نظراً لأهمیّتها وغزارتها فی تجربته الشعریة، بعد إشارة موجزة إلی مراحله الشعریة. وکذلک فعل سعد الحمدانی فی مقاله "تجربة شاذل فی قابیل"، اذ عالج فیه قصیدة "قابیل فی الدملماجة" وتجربة الشاعر الصادقة فی هذه القصیدة وکیفیة استخدام رمز قابیل فیها. وعمد سعد البزّاز في مقاله "شاذل طاقة السيرة والإنجازات"، إلی البحث بشکل تفصیلی عن الحیاة الذاتیّة للشاعر وحیاته الأدبیة وآثاره. ثم کانت بشری البستاني في کتابها "في الريادة والفن، قراءة في شعر شاذل طاقة"، الذی أثبتت فیه ریادة شاذل طاقة للشعر الحرّ فی العراق، بعد تقدیم سیرة مفصّلة للشّاعر وتجربته الشعریة ومحاولاته الشّعریة الریادیّة؛ غير أنّنا لم نعثر بین الکتب والمقالات المکتوبة عن شعر شاذل طاقة علی شيء في مجال التقنیات البیانیة المستعملة فی توظیف الشخصیات الدینیة المنبوذة فی شعر الشاعر فتطرّقنا فی هذه الدراسة إلی معالجة هذه الشخصیات بشکل تفصیلی وتبیین التقنیات البیانیة المستعملة فی توظیفها. نظرة إلی حياة الشّاعر الذاتیة وتجربته الشعریة شاذل طاقه (1929ـ1974) شاعر وسياسي ودبلوماسي عراقي، من مؤسّسي مدرسة الشّعر الحرّ. ولد في مدينة الموصل عام 1929م ودرس الابتدائية والمتوسطة والثانوية في مدينته (البستانی: 2010م: 19)، ثم التحق بدار المعلمين العلیا في بغداد سنة 1947، وتخرّج منها عام 1950م حاصلا علی شهادة الليسانس فی الأدب العربي. (البزاز، 1977م: 516 و 519) «في سنة 1959 تعرّض للسّجن بسبب انتمائه إلی حزب البعث العربي الاشتراکي، ومن عام 1963 إلی آخر حياته تسنّم مناصب عدة في وزارتي الثقافة والإعلام والخارجية، فأصبح مديراً عاماً لوکالة الأنباء العراقية ثم وکيلاً لوزارة الإعلام. وبعدها عيّن سفيراً في ديوان وزارة الخارجيّة، وانتقل سفيراً للجمهوريّة العراقية لدی الاتّحاد السوفيتي، ثمّ أصبح وکيلا لوزارة الخارجية وفی النهاية وزيراً للخارجية.» (السامرائي، 1976م: 12) توفّي شاذل طاقة بتاريخ 20 تشرين الأول1974 فی المغرب العربي في مدينة الرباط آنذاک رئيساً للوفد العراقي بشکل مفاجئ، بعيداً عن متاعب المرض. (البزاز، 1977م: 9) بدأ شاذل طاقة کتابة الشعر العمودى، ومن ثم الشّعر الحرّ فى سنّ مبکّرة. ونشرت قصائده فى الصحف المحلية منذ أربعينيات القرن الماضي. ویمکن تقسیم نتاج الشاعر الشّعری إلی ثلاث مراحل هی: 1ـ الرومانسية أو التمهيدية الّتي تجسّدت فی ديوان شاعرنا الأول "المساء الأخیر" (1950م) ومجموعة قصائد غير صالحة للنشر الّتي أصدرها مع ثلاثة من زملائه (1956م). طرح شاذل فی هذه المرحلة القصیدة الحرة إلی جانب القصیدة العمودیة وغلب علی شعره الطابع الرومانسی 2ـ الواقعية أو السيابية الّتي متمثلة بديوانه الثاني "ثم مات الليل" (1963م) الّذی بدا فیه الشاعر متأثراً بزمیله السیاب تأثّراً شدیداً لغة وشکلا وبناءً. وتمیّزت هذه المرحلة بخروج الشّاعر من الذاتیة الفردیة إلی الذاتیة الاجتماعیة وانتمائه إلی قضایا وطنه وشعبه فصار شعره معبّراً عن قضایاهم ألماً وأملاً وتطلعاتٍ. 3ـ مرحلة الرمز والأسطورة الّتي يمثّلها ديوانه "الأعور الدجال والغرباء" (1969م). وهی المرحلة الأکثر نضجاً سواء فی الفکر الّذی قدّمته أم علی المستوی الفنّی الذی حقّقته عبر نصوص هذا الدیوان والّتی یتّخذ الشاعر فیها الرمز والأسطورة أسلوباً فی التعبیر عن هواجسه النفسیة وتجربته المعاصرة وهمومه القومیة والإنسانیة. (انظر: صليبي العائدي، 1980م: 23، 34 و 58؛ المطلبي،1974م: 37) الشخصیات الدینیة المنبوذة تتمثّل الشخصیات الدینیة المنبوذة فی الشخصیّات الّتی ارتکبت ذنوباً واقترفت الآثام والفسوق فاستحقّت العقاب واللّعنة علی أفعالها الشنیعة، منها شخصیّة إبلیس الذی تمرّد علی أمر الله وانحرف عن طریق الحق فطرده الله عن رحمته إلی یوم القیامة، کما نجد بینها شخصیة قابیل أوّل قاتل فی تاریخ البشریة، خالف أمر ربّه وأبیه فقتل أخاه هابیل. وأیضا شخصیة یهوذا الإسخریوطی تلمیذ المسیح الّذی وشی به عند أعدائه من أجل حفنة من المال، وهی رمز من رموز الخیانة فی الدیانة المسیحیّة. شخصیّة المسیح الدجّال أیضا من هذه الشخصیّات وهی شخصیّة مستقبلیة لها دور فی أحداث کبری سوف تقع ویتضمّن الحدیث النبوی ـ من الموروث الاسلامی ـ تحذیراً من هذه الشخصیّة. قال النّبی (ص): «مَا بُعِثَ نَبِيٌ إلا أنذَرَ أمَّتَهُ الأعورَ الکذَّابَ، ألا إنَّهُ أعوَرُ، وَإنَّ رَبَّکُم ليسَ بأعوَرَ، و بینَ عینیهِ مکتوبٌ: کافرٌ.» (البخاری، 1984م: 8/50) وقد تجلّت هذه الشخصیّات فی شعر شاذل طاقة غیر شخصیّة إبلیس، فاستخدمها بما یتناسب مع الواقع المریر الّذی کان یعیشه فی بلده ویصوّرها بألوان قاتمة تفوح منها رائحة الموت والسجن والقتل. وربّما کان السبب الرّئیس فی ظهور هذه الشخصیّات فی شعره وجود العوامل الشرّیرة فی عصره. والحقیقة أنّ هذه الشخصیّات کلّها ترمز إلی الحکّام الجائرین السّفاحین الّذین یطغون في البلاد فیعیثون فيها فسادا واستبداداً وظلماً فیجعلون معيشة شعوبهم ضنکاً بما یقومون به من أعمال وحشیّة. ویقصد شاذل من وراء استخدام هذه الشخصیّات أن یمثّل صورة الظالمین وظلمهم وأعمالهم الشرسة، وأن یعرّفهم للناس محرّضاً إیاهم علی التمرّد والثّورة علیهم.
دراسة التقنیات البیانیة المستخدمة فی توظیف الشخصیات الدینیة المنبوذة فی شعر الشاعر 1ـ غلبة الخطاب الدینی إحدی التقنیّات البیانیّة المستعملة فی شعر شاذل طاقة فی توظیف الشّخصیات الدینیّة المنبوذة هی غلبة الخطاب الدّینی. وذلک أنّ بین أدب المقاومة والدّین ارتباطاً وثیقاً؛ لأنّ الجهاد والمقاتلة متصوّران فی کلیهما. فالقتال فی الدّین للدّفاع عن الشّعائر الدّینیة، وفی الشّعر والأدب للدّفاع عن الوطن وحفظ الأرض والآداب والسنن والقیم الدّینیة والثقافیّة والاجتماعیة. ویستغلّ الشاعر الملتزم التّراث الدّینی لتبیین أهدافه وآماله وتمنیّاته، فیؤثّر هذا التعامل مع التّراث فی أسلوبه وفی المسحة التعبیریة عنده ویجعل شعره میداناً لظهور الخطاب الدینی. ولم یغفل شاذل طاقة عن هذه الطّاقة التأثیریة للتّراث الدینی، فاستخدمه کثیراً فی أشعاره لتبیین مضامین المقاومة والثبات. استلهم الشاعر قصّة ابنی آدم قابیل وهابیل فی قصیدة من خمسة مقاطع عنوانها "قابیل فی الدملماجة" ورکّز کلَّ صوره الشّعریة فی هذه القصیدة علی اسم قابیل وأخیه هابیل لتمثیل فکرة الصّراع بین الخیر والشرّ. وقد صوّر شاذل فی هذه القصیدة الّتی اعتبرها السیاب من أجود الشّعر المعاصر (طاقة، 2012م: 14)، الأحداث الدامیة المروّعة الّتی ارتکبها الشیوعیّون فی أعقاب انقلاب الشّوّاف عام 1959م فی منطقة الدملماجة بمدینة الموصل، فالتهبت مشاعر الشّعراء واضطرمت عواطفهم بهذه الکارثة الدامیة. وقد جعل شاذل شخصیة قابیل فیها رمزاً للعدو القاتل الجانی عامة وللشیوعیین العراقیین الّذین قاموا بالمذبحة خاصّة. کما اتّخذ من هابیل رمزاً للضّحیة الإنسانیة عامّة ولساکنی منطقة الدملماجة المفجوعین الّذین أحرقوا بنار هذه الحرب خاصة. یعبّر شاذل فی هذه القصیدة عن تجریته الحقیقیة الواقعیة شاهدها بعینیه. ولم یقصد سرد الأحداث بل أراد أن یؤکّد علی القیم الدینیة والمعنویة الّتی ثار الأبطال من أجلها واستشهدوا بسببها لیکونوا مثلا للّذین یرفضون الظلم والاستبداد والمذلّة وأن یدین القتلة وأعمالهم الدّامیة فی هذه الکارثة. تقنّع شاذل فی المقطع الأوّل من هذه القصیدة بقناع[1] هابیل، وأخذ یروی علی لسانه ـ وهو فی داخل قبره ـ أحداث هذه الکارثة مخبراً عن جریمة القتل الّتی ارتکبها قابیل فی حقّه ومنبئاً عن کثرة الموتی حوله، ممّا یدلّ علی ظلم القابیلیین ویکشف عن خبثهم وحقدهم علی الهابیلیین: کَفَنِی فِی البِئرِ المَهجُورَه/ ثَلجٌ قَانٍ وَوِسَادیَ مِن حَجرِ/ وَمِنَ الأغصَانِ المَقرُورَه وَعِظامُ الأموَاتِ وَبَقایَا الآثارِ/ تَاریخٌ أعَمی حَولِی یَنظُرُ مَأساتِی/. وَأخِی قَابیل .. یَمُدُّ إلَی «جَبلِ التَّوبه»/ حَبلاً مِن دَم/ یَنسَاحُ .. یَغُورُ.. إلَی قَلبِ التُّربَه (طاقة، 1977م: 209ـ211) ویستمرّ القناع فی المقطع الثانی، لیقوم الشّاعر بفضح کلّ ما ارتکبه الشیوعیّون من جرائم دامیة بحقّ ساکنی منطقة الدّملماجة، فیجسّد حقدهم وعداوتهم علی لسان هابیل، مستعیناً بأسلوب الاستفهام الاستقرائی ومستخدماً صنعة تجاهل العارف البدیعیة[2]، فهو یکرّر "من" الاستفهامیة تسع مرات، رابطاً إیاها بکلّ صور الجریمة البشعة وبکلّ وسائل التعذیب والقتل والتّدمیر، من سحل وقتل وحرق وتمزیق وتعلیق و... والّتی نفذها الشیوعیون فی شهداء الموصل. ورمی الشاعر من خلال استخدام هذه الصنعة البدیعیة إلی إدانة التیّار الشیوعی، بسبب هذه الممارسات الإجرامیة والمجازر البشعة التی قام بها ضد أهل مدینة الموصل من جهة وإلی إثارة مشاعر النّاس ودعوتهم إلی القیام ضد هذا العدو المتوحّش من جهة أخری: مَن شَکَّ الخَنجرَ فِی صَدرِی؟/ مَن دَقَّ هُنَا مِسمَاراً فِی قَبرِی فِی البِئرِ المَهجُورَه/ مَن أغرَقَ یُونسَ فِی البَحر؟/ مَن خَضَبَ أعراقَ الصَّخر؟/ مَن لَفَّ عَلَی سَاقِی حَبلاً أبتَر/ مَن أحرَقَ فِی قَاعِ البِئرِ/ مِسکاً أذفَر؟/ مَن رَشَّ عَلَی جُرحِی مِلحاً أحمَر/ مَن أشعَلَ فِی قَلبِی صُبحاً أنوَر؟ (المصدر نفسه: 212) ویشیر الشاعر فی المقطع الرابع إلی العاقبة السیئة الّتی تنتظر الظالمین والمفسدین علی الأرض، مستلهماً قصة دفن قابیل أخاه هابیل بدلالة الغراب، فیخاطب قابیل أربع مرات ویوعّده بأنه لات ساعة مندم: قَابیلُ.. یَا قَابیل.ُ. طارَ الغُراب،/ وَمَاتَ هَابیلُ.. وَجَافَّ التّراب/ . قَابیلُ.. یَا قَابیل.. مَاتَ النَّدَم/ وَلَن یَعُودَ الغُرَاب/ یَوماً یَشُقُّ التُّرَاب/ وَیَحفِرُ القَبرَ.. وَیُلقِی حِجَاب/ عَلَی ظَلامِ العَدَم!. (المصدر نفسه: 214) إنّ تناصّ[3] الشّاعر مع قوله تعالی: ﴿فَطَوَّعَت لَهُ نَفسُهُ قَتلَ أخِیهِ فَقَتلَهُ فَأصبَحَ مِنَ الخَاسِرینَ. فَبَعَثَ اللهُ غُراباً یَبحَثُ فِی الأرضِ لِیُرِیَهُ کَیفَ یُوَارِی سَوأةَ أخِیهِ﴾ (مائدة:30ـ31) هو تناص التّحویر، ذلک أنّ الشّاعر قام بتغییر النص المأخوذ عن طریق القلب فی بعض الآیة القرآنیة، فالغراب فی الآیة یجیء ویعلّم قابیل کیفیة دفن أخیه، لکن فی هذه السطور، یقول الشاعر أنّ الغراب لن یعود لیرشد الجناة إلی کیفیة التخلّص من الآثار المادیّة لجریمتهم البشعة. ویقصد الشاعر من وراء هذا الاسلوب توعّد الجناة بأن لیس لهم بدّ إلا الانتقام من الأبطال، فما ثمّة شیء یُخفِی جرائمهم کما أخفی الغراب جریمة قابیل عن طریق تلقینه کیفیة مواراة أخیه. وخطاب الشاعر قابیل صرخة إنسانیة واستنکار لجریمة القتل والظلم. ویذکّر الشاعر فی هذه السّطور القانون العام لکلّ ظالم وجبّار عنید فی الأرض بأنّ مصیره المحتوم هو العقاب والهلاک والطرد والإبعاد من رحمة الله تعالی، وأنّه لایفلح فی دنیاه ولا أخراه. یقول عزّ وجلَّ: ﴿يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَ لَهُمْ سُوءُ الدَّارِ﴾ (غافر: 52) وإنّ الظالمین سیَلقَون النّدامة یوم القیامة ولکن لیس لندامتهم فائدة. قال الله تعالی: ﴿وَلَوْ أَنَّ لِکُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ ۗ وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾ (یونس: 54) وفی قصیدة "بطاقة عید إلی الموصل" الّتی کتبها الشاعر بعد ثورة عام 1959م بقلیل یستلهم الشاعر التّراث الدینی، فیلجأ إلی شخصیّة قابیل مرّة أخری لتمثیل صورة الظالم وظلمه بما لایخرج دلالته عمّا جاء فی القصیدة السابقة. فیأتی بقصّة أوّل جریمة قتل علی وجه الأرض فی هذه القصیدة أیضا ویسقطه علی الحاضر الرّاهن لکی یؤکّد أنّ القتل لایزال باقیاً وأنّ العالم مایزال یموج بأمثال قابیل من الجناة. وهی إشارة إلی امتداد ظلم قابیل واستمراریة أفعاله من خلال وارثیه الّذین یتمثّلون فی قوی الحرب والتّدمیر: یَا إخوَتی.. یَا أهلَ وُدِّی.. یَا رِفاق/ البَذل وَالفِدَاء مَازَال قَابیلُ الجَدِید/ حَیاً یُوارِی سُوءةَ الجَرِیمَه/ وَیَشرَبُ الدَّمَ الصَّدِید وَیَزرَعُ الشّقاء.. (طاقة، 1977م: 249) وقد خاطب الشاعر فی هذه السّطور أبناء شعبه ثلاث مرّات بعبارات تحمل حمیمیّة الخطاب، وتدلّ علی الوعی القومی عنده ـ وهذه عبارات یبدأ بها کثیراً من قصائده وأحادیثه ـ ونبّههم علی العدو ودعاهم إلی الدّفاع عن الوطن والتضحیة من أجل التحریر والخلاص من براثن العدو الشّرس، فیری التضحیة والقتال الطریق الوحید للوصول إلی النّجاح والانتصار.
2ـ الأسلوب القصصی توطّدت العلاقة بین الشّعر والقصّة من قدیم الأیام، فالشّعراء یروون فی قصائدهم حکایاتٍ وقصصاً. ومع شیوع القصّة والفنون السّردیة أصبحت القصّة الشعریّة أهمّ الأسالیب الشّعریّة فی الشّعر المعاصر. وتلعب القصّة دوراً هاماً عند شاذل طاقة، فهو شاعر سیاسی ومناضل ثوری یسرد القضایا السیاسیّة بأسلوب القصّة فی کثیر من قصائده ویتحدّث عن وصایاه وعن المعارک الّتي خاضها الشعب وخصومة الأعداء وأعمالهم الإجرامیّة بهذا الأسلوب. والغالب فی القصة «أنّ الرّاوی یختار فی حکایته القصّة بین موقفین سردیین: أن یحکی الحکایة عبر شخصیّة من الشخصیّات أو عبر سارد غریب عن الحکایة، فالسّارد إمّا أن یکون غائباً عن الحکایة الّتی یحکیها، وإمّا أن یکون حاضراً باعتباره شخصیة فی الحکایة.» (Genette، 1972م: 252) وظّف شاذل فی قصیدة "الأعور الدجّال" الحکائیة شخصیة المسیح الدجّال، وهی ـ کما قلنا سابقاً ـ شخصیة مستقبلیة لها دورها فی أحداث آخر الزّمان. ویلوح من تسمیته بهذا الاسم ومن مجمل أخباره أنّ هذا الأعور الدجّال یتظاهر بالخیر والعطاء. لکنّه یستبطن فی داخله کثیراً من الشرّ، ولذلک وصف بالأعور، أی ذی عین واحدة هی ظاهره، أمّا عینه الأخری فهی مطموسة عمیاء، إشارة إلی باطنه الشرّیر، ومن هنا أیضا وصف بالدجّال، لأنّه مخادع محتال. وسوف یغری ـ اذ ظهرـ کثیراً من النّاس المخدوعین بکلامه المعسول ویغویهم بوعوده الکاذبة الزائفة. ورد فی الروایات الإسلامیة أنّه من فتن علامات السّاعة وآخر الزّمان، یظهر للتّشویش علی ظهور المسیح (ع) فی رکاب الإمام المهدی، ولذلک یُطلق علیه أیضا المسیح الدجّال. واستدعی شاذل هذه الشخصیة للتّعبیر عن شخصیّة معاصرة یری أنّها متظاهرة بالصلاح، لکنّها متلبّسة فی الواقع بالزّیف والخداع. فکان الأعور الّذی تحکی عنه الروایات قناعاً قنّع به شاذل وجه من یری أنّه خصمه السیاسی المتمرّس بالدّجل والتّضلیل. وقد اختصر الشاعر فی القصیدة المذکورة ـ وفق أسلوب القناع ـ موقف زعیم سیاسی فی العراق آنذاک، هو الضابط العسکری المعروف عبدالسلام عارف الّذی کان من أعمدة حکم حزب البعث فی تسعة شهور من سنة 1963م. ثم انسلخ من حزب البعث الّذی ینتمی إلیه شاذل، فأسقطه وانفرد هو بالسلطة متظاهراً بالکلام عن التدین. وقد أشار الشّاعر إلی هذه الحادثة فی هامش القصیدة بقوله: «کتبت هذه القصیدة فی أجواء الردة الیمینیة الّتی عاشها العراق عقب ردة تشرین وفیها إشارة إلی رموز الردة.» (طاقة، 1977م: 395) عرض طاقة حکایته الرّمزیة بأسلوب القصّة من التراث الشعبی الإسلامی (أسلوب العالم الکل) ولهذا لم یذکر اسم راویها، بل بدأها بقوله: یقولون! وبهذا حاول أن لایتحمّل هو مسئولیة انتقاد الحکم العارفی فی العراق، وما یجرّه علیه من تبعات أمنیة. حکی فی المقطع الأول ما هو المأثور من نبأ الدجّال الّذی یمنّی النّاس صغاراً وکباراً بجمیل الأمنیات وَیتظاهر بالبکاء علی جماهیر الجیاع والفقراء، لکنّ جموع الجیاع لاتلقی من وعود الدجّال إلا وهماً وسراباً: يَقُولَونَ. فِي ذَاتِ يَومٍ يَجِيءُ إلينَا/ مَسِيحٌ مُزَوَّر/ يُمَنِّي الکِبَارَ.. بِحَلوَي وَسُکَّر/ وَيَحنُو عَلَينَا/ وَيُغرِي الصِّغَارَ.. بِشِيحٍ وَعَنبَر/. وَیُومِی إلَی جَبَلٍ مِن أرُزٍّ، یَقُودُ الجِیَاع/ إلَیهِ... وَیَبکِی/ . وَشَمسُ النَّهَار/ تُحَرِّقُ أروَاحَهُم.. وَالهِضَاب/ تَلُوحُ أرزّاً.. وَحَلوَي.. وَسُکَّر/ وَشِيحاً.. وَعَنبَر/ وَمَا مِن قَرَار وَلا مِن فَرَار وَلا شيءَ غَيرَ السَّرَاب سَرابٌ.. سَرابٌ.. سَرَاب..! (المصدر نفسه: 395ـ396) وقد قصد الشاعر بهذه الحکایة الرّمزیة تشخیص العدوّ وزیفه وخداعه ووعوده الکاذبة هادفاً إلی تنویر عقول النّاس وتنبیههم علی العدوّ الخادع وبثّ روح المقاومة والقتال فیهم، فاستفاد من مفهوم المنجی فی الأدیان السماویّة لیحذّر الشعب من إغواء الأعداء والکذّابین الّذین یظهرون برداء المنجی، ویسمّی هؤلاء المتظاهرین بالإنجاء: المسیح المزوّر. وفی ختام قصیدته هذه «یتنبّأ شاذل طاقة بهزیمة المسیح الدجّال علی ید إحدی الغانیات ممّن جاء لفتنتهم حیث نجحت هی فی إغوائه ومعرفة سرّه عن طریق الخمر.» (عشری زائد، 2006: 104)، فصلب علی مرتفع من الأرض وکان لا بدَّ أن تذهب عینه المبصرة الّتی ما کانت إلا عین دجل وخداع. ویقصد من هذا الإخبار تحذیر جمیع الّذین یریدون إغواء النّاس وخداعهم وإیقاع الظّلم بهم: وَفِی الحَانَةِ الغَانِیَة/ . أبَاحَت زَقَاقُ الطِلَی سِرَّهُ/ . فَشَقَّ لهَا صَدرَهُ!/. وَکانَ انتِصارُکِ یَا غَانِیَه!/ یَقُولُون . کَانَ.. وَکَان.. وَصَارَ المُقَدَّر/ وَفِی الصُّبحِ قَامَ عَلَی الرَّابِیَه/ صَلِیبٌ تَدَلَّی عَلیهِ نَبِیٌّ مُزَوَّر/ وَقَد فُقِئَت عَینُهُ الثَّانِیَه!! (طاقة، 1977م: 398ـ400) وهکذا رسم شاذل شخصیة الأعور الدجّال المستلهمة من التّراث الاسلامی بأسلوب القصة ببساطة و وضوح فی طول القصیدة یفهمها من قرأ القصیدة بشکل کامل، لکنّ دلالتها الرمزیّة یعتمد فهمها علی معرفة الظروف السیاسیّة الخاصّة الّتی کتب فیها شاذل طاقة قصیدته هذه. 3ـ الرمزیة وهی من أکثر التقنیّات البیّانیة استعمالاً فی شعر شاذل طاقة. والرّمز فی اللّغة: الإشارة والإيماء (ابن منظور، 1988م: مادة "ر م ز ") وفی الاصطلاح الأدبی: «علامة تعتبر ممثلة لشیء آخر ودالة عليه، فتمثله وتحلّ محلّه.» (التونجی، 1999م: 488) والرّمز من الأدوات الفنیة المهمّة فی الشّعر خاصة الشّعر الوطنی؛ إذ هو أداة ناجعة ووسیلة مؤثرة فی الإفصاح عن االمعانی والمشاعر والأحاسیس الدّفینة الّتی تعجز اللّغة المباشرة الصریحة عن فهمها وإدراکها والتّعبیر عنها. وقد اتّکأ شاذل کثیراً علی مجموعة من الرّموز التراثیة کأداة للتّعبیر غیر المباشر عن مکنونات صدره والکشف عن مواقفه وتقدیم رؤاه الفکریة والدینیة والثقافیة، لکی یستطیع الاستتار وراءها والاختفاء من بطش السّلطة. «فنری في شعره رموزاً من القرآن الکريم، ورموزاً تاريخيّة وعربيّة، وحکاياتٍ شعبيّة، ورموزاً من الأماکن العربيّة ومن التّراث الديني، مثل محمد (ص) وأيوب (ع) ومريم (س) والمسيح (ع) والخضر وهابيل وقابيل ويهوذا والقدس. وأيضا تردّدت في شعره الرموز الإسلامية مثل الحسين وأبي ذر الغفاري وصلاح الدين الأيوبي، والشخصيّات العربيّة مثل المناضلة الجزائرية جميلة بوحيرد. ولکنّه خلافاً لکثير من الشّعراء العرب المعاصرين لم يستخدم الرّموز والأساطير الأجنبيّة فی شعره، وبذلک اکتسب شعره لوناً قوميّاً خاصّاً يتفرّد به.» (بخشنده و الآخرون،1440هـ: 560 ـ561) وظّف شاذل طاقة فی قصیدة "غریب الوجه فی المنفی" شخصیّة یهوذا بشکل جزئی وهی «ترمز فی کلّ شعرنا المعاصر للجریمة وللخیانة والسّقوط.» (عشری زائد، 2006: 103) کتب الشّاعر هذه القصیدة عام 1962م، وقد مارس فیها لعبة التجرید مع الذّات لیصنع من نفسه متکلّماً ومخاطباً فی آنٍ واحد؛ لذلک فهو یخاطب الآخر (الّذی هو نفسه) بذلک الخطاب، لیقول إنّه هو السّبب فی ما جری ویجری له؛ لأنه لم یصنع مصیره بیده وفرّط فیه أیّما تفریط: لم یبقَ شیءٌ فِی الدِّنانِ/ سَفحتَ خمرَک فِی کُؤُوسِ الآخَرینَ/ وَجِئتَ تبحثُ عَن ثُمالَه (طاقة، 1977م: 365) وینتقل فی المقطع الثانی لیجعل من نفسه قرین المسیح فی غربته فی بنی إسرائیل، ویعمد إلی تلک المسألة، فی تناصّ واضح، فیجعل من المسیح (ع) أیقونة غربته، مشیراً بذلک إلی الصّلیب رمز موت المسیح (ع)، لیقول إنّ هذا المسیح قد مات فی منفاه، ناعیاً بذلک غربته الّتی تحیط به من کلّ مکان، وهذا دعاه إلی أن یجعل للمسیح دیوناً رامزاً إلی فکرة المسیحیة الّتی تقول إنّ المسیح (ع) قد مات لکی یتحمّل خطایا أتباعه نیابة عنهم: «مَسِیحُکَ مَاتَ فِی المنفَی/ وَوَرَّثَنِی دُیُونَه!/ وَأنَا الغَرِیب/ مُتَشَرِّدٌ سَئِمٌ أعُبُّ مِن الصَّدِیدِ وَأثمَلُ.» (المصدر نفسه: 366) وفی المقطع الثالث یعود الشّاعر لیتکلّم بأناه الواضحة التّی تمثّل حقیقته الوجودیة، لیصل إلی قوله: إنّه عار المدینة، مبیّناً حقیقة شاخصة فی القصیدة وهی أنّ غربته تلک تعود إلیه ولا تعود إلی المسیح (ع)؛ لذلک أفصح عن ذلک بتلک الجملة؛ لأّنه لم یستطع أن یکون مسیحاً بمواصفات المسیح الّذی صار مخلّصاً لأتباعه ویعود یوماً ما.. بینما هو لایمتلک تلک الخصوصیّة .. فأصبح هو عار مدینته: «أنَا لَستُ مَن تَبغِی/ أنَا عَارُ المَدِینه..» (المصدر نفسه: 367) ویستمرّالشاعر فیشیر إلی یهوذا، وذلک تفریع علی ما سبق من أنّه لیس مسیحاً حقیقیاً؛ لأنه یخاطب نفسه مرة أخری ویرید منه أن یرحل حتّی لایقتله یهوذا وأتباعه: فَارحَل فَدَیتُکَ، قَبلَ أن یَأتِی/ یَهُوذَا وَاللُّصُوص (المصدر نفسه: 367) وقد جعل الشّاعر شخصیة یهوذا رمزاً للحاکم الجائر المستبدّ الّذی یعبث بأمن الدّولة الخارجی والدّاخلی ویتآمر علی حقوق النّاس ویسلّم البلاد للأجنبی، مذکّراً أنّ یهوذا لیس وحده من خان، وأنّ تلک الخیانة العظمی الّتی ارتکبها لیست الخیانة الوحیدة فی التاریخ. ویُلاحظ أنّ شاذلاً لم یصرح باسم هذا العدوّ الخائن، ولعلّه کان یخشی بطشه وانتقامه، فلجأ إلی استخدام رمز یهوذا، قاصداً إزالة السّتار عن وجه ذلک الخائن. وقد استعمل إلی جانب یهوذا کلمة اللصوص لیرمز بها إلی اتباعه الّذین یسرقون أموال الناس ویتاجرون بحیاتهم من أجل راحتهم هم. وقد نحا الشّاعر هذا المنحی الرّمزی لما للرّمز من تأثیر مضاعف فی القارئ وقدرة علی تعمیق الفکرة وایجاد فهم مشترک بینه وبین المتلقی.
النتیجة لعلّنا نستطیع القول ـ بعد استعراضنا لاستلهامات الشّاعر شاذل طاقه من التّراث الدینی بشکل عام ـ إنَّ شاذلا هو مثال للشّاعر الّذی حارب بنفسه وبشعره عالماً مرفوضاً؛ فإنّه بحث فی التّراث الدینی الإسلامی وغیر الإسلامی عمّا یکون ملائماً لواقعه الاجتماعی والسیاسی، فاستدعی الشخصیات الدینیة المنبوذة ورموزها وسیلةً لکشف المستبد وللتعبیر عن أعماله الوحشیة وممارساته غیر الإنسانیة ضد الشّعب المظلوم ولتنویر عقول الناس وبثّ روح الیقظة والکفاح فیهم. وظّف الشاعر هذه الشخصیات فی موضاعات سیاسیة وفی تقنیات بیانیة مختلفة، أهمّها الأسلوب القصصی، والرمزیة والخطاب الدینی. واستعمل هذه التقنیات بشکل واسع فی أشعاره، وقد نجد کلَّ هذه التقنیّات فی قصیدة واحدة کما شاهدنا فی قصیدتی"قابیل فی الدملماجة" و"الاعور الدجّال" الحکائیتین الرمزیتین. وقد اهتمّ شاذل فی استخدام هذه التقنیات برعایة التناسب بینها وبین المضامین وحفظ الانسجام بین اللّفظ والمضمون، ممّا یدلّ علی قدرة الشّاعر علی کتابة قصائد فنّیة تتجاوب والتحوّلات الحدیثة فی الشّعر المعاصر، فاستعمل تقنیة الخطاب الدینی لإثارة مشاعر الناس وحثَّهم علی مقاتلة العدو الغاصب، واستخدم الأسلوب القصصی لتصویر خصومة الأعداء وأعمالهم الإجرامیة وتنبیه النّاس علی العدوّ المخدع. وقد وظّف الرّمزیة بسبب تأثیر اللّغة الرمزیة المضاعف فی القارئ، اذ یبثّ روح التحریض علی المقاومة والکفاح، ولیتمکن من إبراز أهدافه وغایاته الّتی لایستطیع البوح بها بشکل مباشر، لوجود جوّ الاضطهاد فی بیئته. وقد استعمل شاذل رموزاً بسیطة بعیدة عن الغموض والإبهام، مراعاةً للذوق العام وفهمهم. [1] «والقناع تقنیة جدیدة فی الشعر الغنائی لخلق موقف درامی أو رمز فنّی یُضفی على صوت الشّاعر نبرة موضوعیّة من خلال شخصیّة من الشخصیّات یستعیرها الشاعر من التّراث أو من الواقع لیتحدّث من خلالها عن تجربة معاصرة بضمیر المتکلّم.» (الموسی، 2003: 210) [2] «هو سؤال المتکلّم عمّا یعلمه حقیقة، تجاهلا لنکتة، کالتوبیخ، أو المبالغة فی المدح أو الذم، أو التعجب و... .» (الهاشمی، 1380ش: 415) [3] والتناص «أن یتضمّن نصّ ما نصوصاً أو أفکاراً أخری سابقة علیه، عن طریق الاقتباس أو التّضمین أو التّلمیح أو الإشارة إلیه أو ما شابه ذلک المقروء الثقافی لدی الأدیب بحیث تندرج هذه النّصوص مع النصّ الأصلی لیتشکّل نصّ جدید متکامل.» (الزعبی، 1989م: 57) | ||
مراجع | ||
القرآن الکريم ابن منظور، محمد بن مکرم. ( 1988م). لسان العرب. بيروت: دار إحياء التراث العربي. البزاز، سعد. (1977م). «شاذل طاقه، السيرة والانجازات» ضمن المجموعة الشعرية الکاملة. بغداد: منشورات وزارة الاعلام. البخاری، محمد بن اسماعیل. (1404ق). صحیح ابی عبدالله البخاری. تحقیق وتعلیق: محمد النواوی والآخرون. مکة المکرمة: مکتبة النهضة الحدیثة. بخشنده، مریم وآخرون. (1440هـ). أیوب فی شعر شاذل طاقة علی ضوء الرمزیة، دراسة قصیدتی "انتصار أیوب" و"هموم أیوب" أنموذجا. اللغة العربیة وآدابها. السنة الرابعة. العدد 4. صص 559 ـ 577. البستاني، بشری. (2010م). في الريادة والفن، قراءة في شعر شاذل طاقة. عمان: دار مجدلاوي. التونجی، محمد. (1999م). المعجم المفصّل فی الأدب. بيروت: دار الکتب العلمية. الزعبی، أحمد. (1989م). التناص نظریا وتطبیقا. الطبعة الثانیة. عمان: مؤسسة عمریة. السامرائي، ماجد. (1976م). شاذل طاقه دراسة ومختارات. الطبعة الاولی. بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر. طاقه، شاذل. (1977م). المجموعة الشعرية الکاملة. بغداد: منشورات وزارة الاعلام. طاقه، نواف شاذل. (2012م). «شاذل طاقه في سيرة حياة.. شاعرا و انسانا». الزمان. السنة الرابعة العشرة. العدد 4143. آذار (مارس). عشري زائد، علي. (2006م). استدعاء الشخصيات التراثية في الشعر العربي المعاصر. القاهرة: دار الفکر العربي. علی، عبدالرضا. (2009م). الّذی أکلت القوافی لسانه وآخرون: شخصیات ومواقف فی الشعر والنقد والکتابة. بیروت: المؤسسة العربیة للدراسات والنشر. صليبي العائدي، کاظم. (1980م). شعر شاذل طاقة ، دراسة نقدية. رسالة ماجستير. القاهرة: کلية دار العلوم. الموسی، خلیل. (2003م)، بنیة القصیدة العربیة المعاصر. الطبعة الاولی. دمشق: منشورات اتحاد الکتاب العرب. المطلبي، مالک. (1974م). «التجربة العروضية في شعر شاذل طاقة». مجلة الف باء. بغداد. العدد 320. الهاشمي، أحمد. (1380ش). جواهر البلاغة. ترجمة محمود خرسندي و حميد مسجد سرايي. ط2. طهران: نشر فيض. Genette, Gerard. figures|||. (1972). paris: Editons du seuil.
| ||
آمار تعداد مشاهده مقاله: 548 تعداد دریافت فایل اصل مقاله: 380 |