تعداد نشریات | 418 |
تعداد شمارهها | 9,997 |
تعداد مقالات | 83,560 |
تعداد مشاهده مقاله | 77,801,198 |
تعداد دریافت فایل اصل مقاله | 54,843,855 |
انقلاب 1953 في إيران وتفكّك خطاب الاستشراق في رواية "سباق المسافات الطويلة" | ||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
إضاءات نقدیة فی الأدبین العربی و الفارسی | ||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
دوره 11، شماره 43، آذر 2021، صفحه 9-36 اصل مقاله (293.51 K) | ||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
نوع مقاله: علمی پژوهشی | ||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
نویسنده | ||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
کمال باغجری* | ||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
أستاذ مساعد في قسم اللغة العربية وآدابها بجامعة طهران، مجمّع الفارابي، قم، إيران | ||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
چکیده | ||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
تتمحور رواية سباق المسافات الطويلة لعبد الرحمن منيف حول عميل بريطاني تمّ إيفاده إلى إيران بغية إفشال مشروع تأميم صناعة النفط، وإسقاط حكومة الدكتور محمّد مصدق، والحفاظ على المصالح الاستعمارية البريطانية في إيران. تعدّ الرواية منعطفاً في الأعمال السردية لعبد الرحمن منيف، سواءً من حيث محورية شخصية المستعمِر أو في جانب محاكاة النصوص الاستشراقية. على هذا، سعت هذه الدراسة إلى تحليل دلالات وتمظهرات تفكّك الخطاب الاستشراقي في الرواية بالتركيز على تاريخ إيران في خضمّ انقلاب 19 أغسطس 1953 ضدّ حكومة الدكتور مصدّق. إنّ المادّتين التاريخ والاستشراق يشكّلان المكوّنَين النظريين لهذه الدراسة؛ ففي مادة التاريخ، رسم الكاتب صورةً جديدةً لعملية تحول الاستعمار التقليدي وظهور الاستعمار الجديد موظّفاً أحداث وشخصيات انقلاب 1953 في إيران. أما في مادّة الاستشراق، فقد قدّمت الرواية، عبر السياق التناصي ومحاكاة النصوص الاستشراقية من منظور "أنا المستعمِر" و"الآخر المستعمَر"، ملامح تفكّك أسس الاستشراق في فترة ما بعد الاستعمار حيث تبحث الشعوب الشرقية عن الهوية المستقلة مطالبة ببناء علاقة يسودها الاحترام المتقابل. | ||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
کلیدواژهها | ||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
رواية سباق المسافات الطويلة؛ عبد الرحمن منيف؛ الاستشراق؛ انقلاب 1953 في إيران | ||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
اصل مقاله | ||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
إنّ عبد الرحمن منيف دائماً ما كان يولي اهتماماً خاصاً في أعماله السردية بالحديث عن مضمونين أو موضوعين جوهريين؛ الأول، الأنظمة الشمولية والدكتاتورية العربية في الشرق الأوسط ودور سياساتها القمعية في تخلّف المجتمعات العربية سياسياً وثقافياً؛ وثانياً، علاقات الشرق الأوسط بالعالم الخارجي ولاسيّما القوى الغربية والإمبرالية. وقد تعمّق المضمونان في نسيج مؤلفات عبد الرحمن منيف تعمقاً، لدرجة لو اعتبرناهما الثيمة أو الفكرة الأصلية لرواياته، لم نتّخذ المبالغة سبيلاً. تتجلّى سمة منيف الفريدة بنوعها مقارنةً بالكُتّاب العرب الآخرين، في استمراريته في طرح أسس مفاهيمية ما بعد الكولونيالية أولاً، وتخصّصه العلمي وخبراته الفردية في القضايا ذات الصلة بالتطوّرات ما بعد الاستعمارية في المقام الثاني. فمن جهة، يحمل منيف شهادة الدكتوراه في علم اقتصاد النفط من جامعة بلغراد، ولديه إلمام تام بالتأثيرات الكبيرة لقضية اكتشاف النفط على تطوّرات الشرق الأوسط؛ ومن جهة أخرى، يحمل تجارب كثيرة في النضالات الثورية والحركات المناهضة للاستعمار. (بلقزيز وآخرون، 2013م: 976) هاتان السمتان المهمتان قد أدّتا إلى جعل روايات منيف، عند رسمها ملامح الشرق الأوسط في فترة ما بعد الاستعمارية، صوراً متعددة الجوانب تلقي الضوء على مختلف جوانب السيطرة الغربية على هذه المنطقة، وذلك على عكس الكثير من الكُتاب العرب. فإنّ تواجد المستعمر الغربي، وتأثير النفط على علاقات الشرق الأوسط بالعالم والأنظمة العميلة والقمعية العربية وولائها للمركزية الغربية و.. كلّها تشكّل جوانب لأضلاع هذا الهيكل متعدد الأوجه. يجب اعتبار رواية "سباق المسافات الطويلة" منعطفاً مهماً في روايات عبد الرحمن منيف؛ فبعد ما تطرّق في المرحلة الأولى من كتابة الروايات -التي تنطوي على رواية "الأشجار واغتيال مرزوق" (1973)، و"قصة حب مجوسية" (1974)، و"شرق المتوسط" (1975)، و"حين تركنا الجسر" (1976)، و"النهايات" (1977)- إلى انعكاس السياسات القمعية لأنظمة شمولية شرق أوسطيّة على روح ونفسية المثقف العربي، خاض فجأة بعام 1979 وبكتابة "سباق المسافات الطويلة"، تجربة التحول النوعي والمقاربة الجديدة، وجعل معالجة التأثيرات الكبيرة للتنقيب عن الذهب الأسود في الشرق الأوسط على تحولات الاستعمار في هذه المنطقة على رأس أولوياته. في هذه الرواية، أصبحت العلاقات بين الأنا والآخر منطلقاً للعالم السردي لدى منيف، إذ كان أبطال الروايات في المؤلفات السابقة (على سبيل المثال "رجب إسماعيل" في "شرق المتوسط"، و"منصور عبد السلام" في "الأشجار واغتيال مرزوق") يرون أوروبا المدينة الفاضلة، وكانوا يذهبون في الرواية إلى أن تحرّر الشرق من الأنظمة المستبدّة والسلطوية يتوقّف على تبعية النماذج الغربية. غير أنّه في "سباق المسافات الطويلة" نحن أمام حالة مقلوبة لهذه الظاهرة؛ وهذه المرة ومن منظور شخصية بريطانية، يلقي الكاتب الضوء على رؤية سلطوية وإمبرالية للحضارة الغربية تستغلّ الشعوب وتُهيمن على ثرواتها ومواردها الطبيعية اعتماداً على الأساليب القمعية مثل الاغتيالات والانقلابات العسكرية. أسئلة البحث
فرضيات البحث
خلفية البحث مع أنّ رواية "سباق المسافات الطويلة" هي الرواية الوحيدة في العالم العربي التي حوّل كاتبها تاريخ إيران وتحديداً انقلاب 19 أغسطس عام 1953 على حكومة الدكتور محمد مصدّق بحذافيره (الأحداث والشخصيات والأجواء السياسية وبنية المجتمع الإيراني و...) إلى مادة سردية، إلا أنها لم تحظ كثيراً باهتمام الباحثين والمترجمين الإيرانيين في مجال الأدب العربي. هذا وإنّ بعض المفكرين والباحثين العرب قد أولوا اهتماماً كبيراً بهذه الرواية، وقد أشاروا إلى علاقتها بالاستعمار، لكنهم وبسبب عدم الإلمام بالأجواء السياسية والاجتماعية لإيران (خاصةً في السنوات القريبة من انقلاب 19 أغسطس 1953 العسكري) قدّموا قراءة ناقصة ومؤسسة على معلوماتهم للجوانب التاريخية للرواية، وقد أشاروا بإيجاز إلى جوانبها التاريخية، اعتماداً على أقوال الكاتب ليس إلا. إنّ أهمّ الأبحاث المماثلة في هذا المجال هي:
ملخص الرواية هذه الرواية وبشكل وجيز عبارة عن قصة عميل بريطاني يدعى "بيتر ماكدونالد"، عينته حكومة بريطانيا، وبالتحديد على يد "راندلي" الذي يلعب دور الأب الروحي لبيتر، للتوجّه إلى أرض شرقية، كي ينقذ الإمبراطورية البريطانية التي تمرّ بمرحلة الإنهيار، ويقوم بإحياء دورها السابق في الشرق. إنّ أجواء القصة ترسم في المخيّلة بشكل واضح أوضاع إيران في حقبة رئاسة الدكتور محمد مصدق للوزراء، وفي خضم انقلاب 1953 العسكري، وذلك بالرغم من أن الكاتب لا يشير في القصة بشكل مباشر إلى الشخصيات أو الأمكنة التاريخية بالتحديد. فماكدونالد الذي قد ذاق مرارة الأسر في معسكرات النازية في الحرب العالمية الثانية، ثمّ عيّن موظفاً رفيع المستوى في شركة نفط بريطانيا، يسافر أولاً إلى مدينة زيوريخ وثم يتوجه إلى بيروت. وبعد المكوث في بيروت لأسبوع من الزمن والتعرّف إلى عدد من العملاء هناك (عباس وشيرين وميرزا وأشرف) يتوجّه إلى مقصده الرئيس وهو إيران. من الفصل الثاني أي منذ دخول ماكدونالد في إيران حتى الفصل الخامس (إذ يفرد له ما يقارب 300 صفحة من الرواية) ينخفض عنصر الفعل والحدث إلى أقل مستوياته. وطيلة الفصول الثلاثة يسرد الكاتب مشاهدات ومونولوج ماكدونالد الداخلي حول إيران وإلى حد ما حديثه مع العملاء الداخليين ولاسيّما شيرين. وفي الفصل الخامس (آخر ثلاثين صفحة من الرواية)، يبرز عنصر الحدث مرة أخرى، ويعرف القارئ على الفور ومرة أخرى من خلال مونولوج داخلي لماكدونالد، بأن القوات الأمريكية تمكّنت من الإطاحة بحكومة "العجوز" (الدكتور محمد مصدق) وذلك بانقلاب عسكري، وتسلّمت حكومة عسكرية مقاليدَ الأمور. على هذا، تنتهي رواية "سباق المسافات الطويلة" بإخفاق مهمة بيتر ماكدونالد وعلى مستوى أعلى، إخفاق إمبراطورية بريطانيا في الشرق وظهور قوة امبريالية حديثة العهد أي الولايات المتحدة الأمريكية. تفكّك خطاب الاستشراق في رواية "سباق المسافات الطويلة" يشير عبد الرحمن منيف في مقابلة مع فيصل درّاج، إلى الكمّ الوفير من الأحداث الواقعية التي أوردها في رواية "سباق المسافات الطويلة" وعلى وجه التحديد الانقلاب العسكري على حكم محمّد مصدّق، قائلاً أن "سباق المسافات الطويلة" هي الرواية الوحيدة، تقريباً، التي استخدم فيها هذا الكمّ الكبير من الأحداث الواقعية كما حصلت. كما يشير الكاتب في نفس المقابلة إلى المادة الاستشراقية للرواية قائلاً: نحن ننظر دائماً للغرب ونقيّمه من خلال نظرتنا الشرقية، أما كيف ينظرون هم، وكيف يقيّموننا، كيف نتصرّف بنظرهم، وما هي ردود أفعالنا... فهذه تتطلّب تقمّص الآخر، وبالتالي رؤيته لمنطقة تعنينا. (منيف، 2007م: 236و237) بقليل من إنعام النظر في ما تفوّه به منيف من عبارات وبالطبع في نص "سباق المسافات الطويلة"، يصبح بإمكاننا ملاحظة عنصرين مهمين في بنية هذه الرواية: عنصر التاريخ وعنصر الاستشراق. هذا وقد يتساءل القارئ بأنّ الاستشراق يندرج بشكل أو بآخر بصفته فصلاً لعنصر التاريخ، غير أنّ الدارس يرى بأنّ عنصر التاريخ هو الإطار الموضوعي والحقيقي للأحداث، بينما نواجه في الاستشراق قراءة مختلقة وذات اتّجاه أيديولوجي لعنصر تاريخي. فيما يلي نقدّم قراءة لرواية "سباق المسافات الطويلة" بالنظر إلى عنصرَي التاريخ والاستشراق. عنصر التاريخ: انقلاب 19 أغسطس 1953 العسكري والتحول النوعي للاستعمار كما جاء ذكره، فإنّ الكاتب لم يُشر مباشرة وبصراحة إلى زمان أو مكان أو شخصيات تاريخية ارتبط اسمها بانقلاب 19 أغسطس 1953 العسكري بشكل أو بآخر. وقد يكون هذا هو السبب في تجاهل جميع الباحثين والنقاد ممّن تناولوا هذه الرواية بالتحليل، التطرّق إلى الوصف التفصيلي في تطبيق فضاء الرواية على إيران في عهد مصدق. (انظر: إبراهيم، 2004م: 227؛ جاسم الموسوي، لاتا: 229-245؛ صالح، 2003م: 117-133؛ وحسين شريف، 2011م: 26-33) غير أنّه من الواضح إستحالة تقديم صورة واضحة المعالم لدلالات الرواية، دون استيعاب السياق التاريخي للرواية وصورة انقلاب 19 أغسطس 1953 العسكري الواضحة فيها. على هذا كلّه، قام الدارس بتوظيف المنهج التوصيفي-التحليلي بدراسة العلاقات الواضحة لفضاء الرواية مع حقبة 20 مارس 1951 حتى انقلاب 19 أغسطس 1953 العسكري، وجاءت النتيجة في الجدول أدناه:
عند تحليل السياق التاريخي للرواية وعلاقته بتفكّك الخطاب الاستشراقي، علينا أن نجيب أولاً عن السؤال الذي يدور حول سبب عدم إشارة المؤلف مباشرة إلى الأماكن أو الشخصيات، وذلك على الرغم من ذكر العديد من التفاصيل التاريخية لهذه الفترة (كما هو واضح في الجدول أعلاه). الرواية تحمل عنوان "سباق المسافات الطويلة" أي مسابقة الماراتون. فبإلقاء نظرة على الرواية، نجد أنّ السباق يجري بين عدّاءين استعماريَين وهما بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية. فالعدّاء الأول وبعد قرون من التفرّد وتحقيق الانتصارات في ساحة الاستعمار وبينما لم يسبق له أن رأى مغيب الشمس في مستعمراته، يمرّ اليوم (الخمسينات من القرن العشرين) بمرحلة الاحتضار واعتماداً منه على أساليب وتوجهات امبريالية بالية عفى عليها الزمن، وأصبح عاجزاً عن تحقيق أهدافه. أما العدّاء الثاني وهو يتمتّع بالقوة والسرعة واعتماداً منه على الأساليب الحديثة قد تقدّم على الآخرين. وعلى هذا، إنّ عبد الرحمن منيف وبغية رسم صورة لهذا التحول المفاجئ للقطب الاستعماري، قد اختار منعطفاً ولحظة مصيرية في تاريخ الشرق الأوسط: انقلاب 19 أغسطس 1953 العسكري. وكما نعلم بأن هذا الانقلاب قد ظهر في فترة كانت قد وجّهت نيران الحرب العالمية الثانية ضربات موجعة ومميتة على جسد القوى الاستعمارية الأوروبية، وجعلت هذه الدول عاجزة عن الحفاظ على مستعمراتها من جهة، ومن جهة أخرى أدّى دخول الأفكار التحرّرية الجديدة في المستعمرات إلى توسيع رقعة الحركات المناهضة للاستعمار وتقويتها في كافة أنحاء العالم، وأضحت المستعمرات القديمة تخرج من نير الاستعمار واحدة تلو الأخرى لتصبح دول مستقلة. فيمكن إطلاق حقبة موت الاستعمار المباشر المؤسس على هجوم الجيوش والاحتلال العسكري على تلك السنوات (منتصف القرن العشرين) بشكل أو بآخر. لكن هل يمكن ان يندثر الاستعمار، هذه الرغبة الجامحة للإنسان لفرض سيادته والاستغلال، بين عشية وضحاها، وينضمّ إلى أرشيف التاريخ؟ هكذا خرج من رحم الاستعمار التقليدي طفل غير شرعي يدعى الاستعمار الجديد، أمّن المصالح الاستعمارية عبر اللجوء إلى أساليب جديدة مثل جعل اقتصاديات دول العالم الثالث تعتمد على منتج واحد أو تعيين حكومات عميلة له. ففي مثل هذه الأجواء، شكّل انقلاب 19 أغسطس 1953 العسكري منعطفاً كبيراً وكشف النقاب عن التمثال الجديد للاستعمار الحديث. فهذا الانقلاب لم يحوّل الولايات المتحدة من القوة الثالثة إلى القوة الأولى في إيران (آبراهاميان، 1392ش: 515-520) فحسب، بل كان بشكل أو بآخر منطلقاً وأساساً لدخول العالم في مرحلة ما بعد الاستعمار. فهذه السمات والمكونات الفريدة بنوعها لانقلاب 19 أغسطس 1953 العسكري جعلت عبد الرحمن منيف ومن خلال تقديم سرد قابل للتأويل لهذا الحدث الجلل وكشف تبنّي الاستعمار سياسات دموية تحقيقاً لمصالحه، أن يعمّمَ عملية تحوّل الاستعمار لكافة أنحاء العالم ولاسيّما منطقة الشرق الأوسط. بعبارة أخرى، إنّ الكاتب لم ينو تقديم رواية تاريخية بحتة للقارئ من خلال تناول الشخصيات والأمكنة التاريخية وباختصار بإضفاء الطابع الموضوعي على فضاء الرواية، وإنما -وإلى جانب الاستفادة من عنصر التاريخ- قام بتأليف قصة قابلة للتأويل يمكن أن تنطبق على كلّ دول الشرق الأوسط، بشكل ما، منذ حقبة اكتشاف النفط حتى يومنا هذا. هذا ويجب التركيز على قضية أخرى ذات صلة بوظيفة انقلاب 19 أغسطس 1953 العسكري عند تقديم قراءة ما بعد الاستعمار لـ"سباق المسافات الطويلة"، وهي الدور المحوري للنفط في تحوّل الاستعمار وإعادة ترتيب القوى الامبريالية في خارطة الجغرافية السياسية العالمية. فانقلاب 19 أغسطس 1953 العسكري وبالرغم من مزاعم الإدارة الأمريكية بأنه هدف إلى مواجهة الشيوعية الدولية والحدّ من نفوذ الاتحاد السوفيتي في الشرق الأوسط، إلا انّه في حقيقة الأمر كان عبارة عن مساع للحفاظ على كارتل النفط الدولي وتحديد المتحكّم في إنتاج النفط وتوزيعه وبيعه منذ تلك الفترة. (آبراهاميان، 1389ش: 218) وعلى هذا، فإن "سباق المسافات الطويلة" تعتبر النفط أهمّ عنصر في دخول الشرق الأوسط مرحلة ما بعد الاستعمار وخروجه من مرحلة الاستعمار التقليدي. يقول لويس ميغيل كانيادا (مترجم مؤلفات منيف للاسبانية) عن صورة الغزو الأمريكي للنفط في "سباق المسافات الطويلة": «تذكّرنا هذه الرواية بأنّ النفط، المادة المحايدة في الأصل، ليس له فقط القدرة على رسم الخارطة الجيوسياسية الجديدة للمنطقة، بل وعلى تحديد حاضر ومستقبل الشرق، بل حتى تحديد نظرة الآخر للعرب.» (دراج وآخرون، 2009: 506) تبدأ رواية سباق المسافات الطويلة بهذه العبارة: «مَن يملك الشرقَ يملك العالمَ.» (منيف، 2000م: 7) لكن كما نعلم أن القوى الاستعمارية قد سعت في مختلف الحقب إلى أهداف مختلفة وراء السيطرة على الشرق. ففي المرحلة الأولى، كان هدف القوى الأوروبية من غزو بوابات الشرق يتمثل في الحصول على الموارد الطبيعية وأسواق البيع. فمثل هذه الأهداف، وفي المقام الأول، تتطلّب تواجد المستعمر المباشر في المستعمرات. لكن شيئاً فشيئاً وبعد اكتشاف الذهب الأسود وإرتفاع الثروات النفطية في الشرق الأوسط، الذي تزامن إلى حدّ ما مع توسيع رقعة الحركات المناهضة للاستعمار، قد استحال استمرار تطبيق الاستراتيجيات السابقة. ففي ظلّ هذا التحوّل النوعي، تقدّم رواية "سباق المسافات الطويلة" صورة لمساعي قوتين استعماريتين (بريطانيا والولايات المتحدة) إذ دخلتا الساحة للسيطرة على الشرق الأوسط؛ غير أنّ القضية الجوهرية هنا هي أن الحكومة البريطانية ودون إعارة الاهتمام ببداية دخول العالم مرحلة ما بعد الاستعمار، تبغي إرساء مصالحها اعتماداً على نفس السياسات الاستعمارية السابقة التي سارت عليها. أما الطرف الاستعماري الثاني الذي فطن إلى تأثير النفط السحري في السيطرة على نبض قوة العالم، يقوم ومن خلال إتّباع سياسات الاستعمار الحديث، بتعزيز مصالحها الامبريالية الشاملة في الشرق الأوسط، دون التواجد العسكري المباشر في الشرق الأوسط. تجدر الإشارة إلى أن جهل المسئولين وصنّاع القرار في لندن لسياسات البيت الأبيض في الرواية هذه إتّخذ طابعاً رمزياً أكثر من كونه يحمل حقيقة تاريخية موضوعية، إذ ينظر الكاتب إليه بصفته رمزاً لتحول الاستعمار التقليدي إلى الاستعمار الجديد. غني عن القول بأنّ الكثير من المؤرّخين والباحثين عزوا انقلاب 19 أغسطس 1953 إلى تعاون الأنظمة الإستخباراتية الأمريكية والبريطانية الوطيد. (آبراهاميان، 1389ش: 222) غير أن في رواية "سباق المسافات الطويلة" يعيش المسئولون والساسة البريطانيون في حالة من التوهّم النرجسي، ومازالوا يرون بأنه بالإمكان السيطرة على الشرق اعتماداً على استراتيجيات الحقبة الفيكتورية. على هذا الأساس، فإنّ التواجد البريطاني في الرواية وحضور عناصره الداخلية الناشطة (شيرين وميرزا وعباس وآية الله و...) الذين يرون أنّ مصالحهم لم تتحقق إلا بالإطاحة بحكومة الدكتور مصدق، واضح وبارز تماماً؛ بيد أن القوات الأمريكية وبشكل عام السياسات الأمريكية، يحيطها الغموض. بعبارة أخرى ومهما فقدت السياسات الامبريالية البالية لبريطانيا (سياسة فرّق تسد، وإثارة الأحاسيس الدينية للجماهير، و..) تأثيرها السابق، إلا أنها تعاد للقارئ في خضمّ سرد القصة بطابع سخري؛ لكن سياسات المستعمِر الجديدة تُجعل في خانة الخفاء الكامل. وفي نص "سباق المسافات الطويلة" يرى القارئ بأنّ السياسيين الأمريكيين يبرمون الصفقات الخفية مع عناصر للسياسة الداخلية الإيرانية من وراء الكواليس. ومن المدهش أنّ إستراتيجية الولايات المتحدة وسياساتها الإمبرالية تثير علامات الاستفهام حتى لعميل مخضرم مثل بيتر ماكدونالد، وتبدو له غامضة ومدهشة: «الأمريكيون يتدفّقون مثل الطيور المهاجرة... إنّهم موجودون في كل مكان... قلتُ لمبعوثي الشركة ولراندلي عشرات المرّات إنّ البرابرة أتوا، وهؤلاء يخفون في حقائبهم أشياء كثيرة، لكن لا أحد يسمع. لا أحد يتوقّف عند هذه النقطة.» (منيف، 2000م، 280 و281) ومثل ماكدونالد مثل كبار المسئولين في لندن، إذ لا يلمّون إلماماً دقيقاً بسياسات الولايات المتحدة، بل ينظرون إليها بنظرة أشخاص عديمي الخبرة والحضارة. على سبيل المثال، يقول راندلي (رئيس بيتر ومن رؤساء أجهزة مخابرات بريطانيا) في إحدى رسائله لبيتر ماكدونالد: «إنّ هؤلاء [الأمريكيون] حمقى بالمعنى الحقيقي، وأعتقد أنهم سيبقون كذلك حتى لو ملكوا جميع ثروات العالم. المسألة يا بيتر متعلقة بالحضارة، متعلقة بالذكاء.» (المصدر نفسه، 281) كما أنّ لندن تستخفّ بهم ردّاً على تحذيرات ماكدونالد: «نقدّر باهتمام المعلومات التي وردت في تقريرك الأخير حول وصول أعداد كبيرة من الأمريكيين. إن هؤلاء لا يشكلون خطراً علينا، كما ليس لديهم مطامع في المجال الذي نعمل فيه.» (المصدر نفسه: 281) وحتى ماكدونالد نفسه يعتبرهم وحوشاً ويقول: «هؤلاء الأميركيون وحوش يلبسون ثياباً غالية الثمن، لكنها ثياب فجة تفتقر إلى الحضارة، وتفضحهم بسرعة.» (المصدر نفسه: 301) لهذا وفي نهاية القصة وبعد تحقيق المشروع الأمريكي نتيجته، يعيش ماكدونالد حالة حيرة ودهشة: «تكشّفت تفاصيل لم تخطر لي على بال، لكن أغربها كان موقف الأميركيين، فقد كانوا يعملون منذ وقت طويل، دون أن نحسّ، ورغم البلاهة التي تظهر على وجوههم أو في تصرفاتهم، في أحيان كثيرة، إلا أنهم كانوا يعملون، وهم في عملهم يمتازون بشيء أساسي لا يخطئون فيه: يعرفون ماذا يريدون. أما نحن فقد ظللنا فترة طويلة نحلم، نعيش في الماضي، وظللنا بشيء لا يمكن أن نستعيده.» (المصدر نفسه: 391) إنّ إخفاق بريطانيا في هذا السباق الامبريالي بلغة رمزية يعني تفكّك الخطاب الإسشراقي المؤسّس على بنية الاستعمار التقليدي وظهور الاستعمار الحديث. فهذا الانهيار يتخذ طابعاً سخرياً في الفصل الأخير للرواية حيث تبدأ مقدمة هذا الفصل بعبارة تشرشل الشهيرة: «لم أصبح رئيس وزارء جلالة الملكة لكي أصفي الإمبراطورية البريطانية.» (المصدر نفسه: 367) لكن في نفس الفصل بالذات، تؤول سياسات بريطانيا الاستعمارية بالفشل، وتعترف بريطانيا بهزيمة امبراطوريتها الاستعمارية: «لكن بريطانيا أصبحت هرمة، صحيح أنها تتزين الآن، تتظاهر بالصبا، لكن يبدو أنّ الأميركيين سيطروا عليها، تماماً كما يسيطر شاب صغير على امرأة مسنّة، إنه يحولها إلى قرد... لقد سلّمنا لهؤلاء الخنازير وما علينا إلا أن ننتظر لنرى النهاية.» (المصدر نفسه، 373) وفي الصفحات الأخيرة من الرواية، يموت راندلي -الذي أدّى في القصة كلّها دور الأب الروحي لبيتر ماكدونالد- على حين غرّة؛ وموته يرمز إلى إنهيار الإمبراطورية البريطانية أو موت الاستعمار التقليدي: «ربّما كان يفضّل أن يغمض عينيه قبل أن يشهد الجانب الآخر من التلّ، قبل أن يشهد نهاية الإمبراطورية البريطانية.» (المصدر نفسه: 394) مادة الاستشراق: تزلزل الاستشراق في خضم أفول الإمبراطورية قد تناولنا في الأسطر السالفة وظيفة مادة التاريخ في سرد رواية "سباق المسافات الطويلة". أما المادة الأخرى التي تبرز نفسها بروزاً لافتاً في هذه الرواية وقد ترك تأثيرها في الكثير من الجوانب حتى على عنصر التاريخ، فهي الاستشراق. ذلك أنّه كما أشرنا من ذي قبل، فان الكاتب قد قدّم عنصر التاريخ في الرواية (في خضم تأميم النفط وانقلاب 19 أغسطس 1953) بأسلوب غير مباشر وقابل للتأويل، إذ يمكن أن يعمّم على الكثير من الأمكنة والأزمنة التاريخية الأخرى؛ غير أن عنصر الاستشراق يتمتّع بتجليات وتمظهرات مختلفة في "سباق المسافات الطويلة"، لدرجة لو اعتبرناها إعادة كتابة لنص كتاب "الاستشراق" لادوارد سعيد، فلم نقل قولاً جزافاً. ففي جانب حجم السرد يسيطر عنصر الاستشراق في "سباق المسافات الطويلة" على عنصر التاريخ سيطرة كاملة، وإنّ ثلاثة فصول هي اكبر حجماً من الفصول الخمسة في الكتاب (الفصل الثاني والثالث والرابع) متأثرة بهذه المادة، وكأن منيف يريد امتزاج كتاب "الاستشراق" لإدوارد سعيد ببناء سردي، ويستخرج من جوفه نوعاً فنيّاً جديداً للقارئ. فيما يلي نتناول أولاً الترابطات العميقة بين عنصر الاستشراق ورواية "سباق المسافات الطويلة" وثمّ نقوم بدراسة صورة هذه الرواية لفكيك الاستشراق في عصر ما بعد الاستعمار. ترابط "سباق المسافات الطويلة" بنصوص الاستشراق
قد كتب عبد الرحمن منيف سباق المسافات الطويلة بعام 1978م أي بعد أشهر من نشر كتاب "الاستشراق" لإدوارد سعيد، وقد نشره بعام 1979م. بعبارة أخرى، جاءت كتابة "سباق المسافات الطويلة" في فترة لقيت الصورة العارية والمثارة للجدل التي قدّمها الناقد الفلسطيني-الأمريكي لأسس الاستشراق صدى واسعاً في العالم ولاسيّما الدول العربية. هذا وفضلاً عن تاريخ كتابة الرواية، تبيّن تصريحات الكاتب نفسه، بأنه كان على معرفة تامة بخطاب الاستشراق النقدي ومساعيه لتحدي الصورة المختلقة والمنحازة للمستشرقين من الشرق، إذ يقول في هذا الصدد: «إنّنا، كعرب، مرسومون في ذاكرة الغرب من خلال الاستشراق بانحيازه وأهوائه وقراءته الوحيدة الجانب، وأيضاً بكمّ وفير من العداء وتناقض المصالح، هذا في إطار التاريخ والعلاقة بين حضارتين وثقافتين! أما الصورة الراهنة فقد أبدع النفط في رسمها وتقديمها. فنحن، كتلخيص، مجموعة من الشيوخ الأثرياء الكسالى الشبقين، والقساة القلوب، وجدنا بالصدفة ثروة هائلة تحت أقدامنا: النفظ.» (منيف، 2007م: 97)
كما أشرنا في ملخّص الرواية، فإن الجلّ الأعظم من رواية "سباق المسافات الطويلة" يتكوّن من وتيرة سردية بطيئة تفتقد إلى الأحداث. في الحقيقة، فإننا نشاهد الحيوية والنشاط النسبي للأحداث وزمن السرد في الفصل الأول والخامس من الرواية حيث يتناول الكاتب أحداث الانقلاب العسكري (ما يقارب 100 صفحة)؛ غير أنه في النسبة الباقية التي تصل إلى ثلاثة أرباع الرواية (ما يقارب 300 صفحة) جعلت مشاهدات بيتر ماكدونالد ومونولوجه الذاتي -الذي يتخذ سمة الوصف المتشائم للغاية، والمظلم لمحيطه، أي الأرض الشرقية (إيران)- جعلت وتيرة السرد يبلغ أكثر الحالات بطئاً. ولهذا ذهبتُ في مستهلّ هذه المقالة بأن سرد "سباق المسافات الطويلة" لهو سرد فريد بنوعه في آثار منيف السردية. وجدير للذكر أن سمة الفريدة بنوعها لا تدلّ على السمة التعقيدية للسرد؛ ذلك أن منيف في مؤلفاته السابقة ("الأشجار واغتيال مرزوق"، و"شرق المتوسط"، ولاسيّما "حين تركنا الجسر") واعتماداً على أسلوب تيّار الوعي، قد قدّم سرداً أكثر تعقيداً ذات جوانب متعددة؛ غير أننا في "سباق المسافات الطويلة" نواجه سرداً بسيطاً جداً ظهر بأسلوب حكايات الرحلات والاتوبيوغرافي التقليدي، إذ يقدّم الراوي مشاهداته من وجهة نظره إلى القارئ. كما ينتقل وصف فضاء إيران في هذه الرواية وبأسلوب الرحلات التقليدية، من وجهة نظر بيتر ماكدونالد إلى القارئ. هذا وهنا من الأفضل استخدام مصطلح "التبئير" (Focalization) بدلاً من مصطلح "وجهة النظر" (Point of view)؛ ذلك أنه في سرد القصة، فضلاً عن مشاهدات ماكدونالد، يتمّ نقل إدراكه وإيديولوجيته الشخصية إلى القارئ. إنّ ماكدونالد في هذه الرواية، ليس مُراقباً لما يحيط به فحسب، بل يقوم متعمداً بإحداث تغيير في وتيرة السرد، وعلى غرار نصوص الاستشراق التقليدية، يقدّم صورة إيران كما يريد. على هذا، فإن جلّ أجزاء سرد "سباق المسافات الطويلة" قدّمت بأسلوب "التبئير الداخلي" إذ إنّ استيعاب وفهم القارئ لفضاء إيران يبقى محصوراً في إطار معلومات بيتر ماكدونالد واستيعابه للأمور ولا يتجاوز هذا الحد. وهكذا، نرى بأن سرد "سباق المسافات الطويلة" ومع أنه يبدأ بضمير الغائب، إلا أن لهذا السارد حضوراً محدوداً حتى نهاية القصة؛ لكن بعد دخول ماكدونالد في إيران (من الفصل الثاني فصاعداً) يقلّ دور السارد الغائب حضوراً، وبدلاً منه تقود المشاهدات والمونولوج الذاتي لماكدونالد أو -بعبارة أجلّ- تفاسيره ورؤيته المفضّلة لإيران أحداثَ القصة. بعبارة أخرى، في "سباق المسافات الطويلة"، يقع وظيفة تطوير الحدث السردي وزمنه على عاتق الغائب، بينما السارد بضمير المتكلم (ماكدونالد) يتولّى مهمة وصف فضاء إيران. في الرسم البياني أدناه نشاهد أسلوب السرد والتبئير في رواية "سباق المسافات الطويلة": ما يثير الانتباه هو أنّه حتى في أجزاء الرواية الأولى التي يتمّ السرد من وجهة نظر السارد الغائب، فإنّ وصف فضاء الأرض الشرقية (إيران) يتمّ عبر توظيف أسلوب النقل المباشر من وجهة نظر ماكدونالد إلى القارئ: «في الأسواق المكتظة التي سبق أن مرّ بها في السيارة، بدأ يحسّ هذه المرة أن الأشياء التي يراها أكثر واقعية وبؤساً، وتتّسم بالكثير من القسوة والقذارة. قال في نفسه وهو ينظر إلى رجل عجوز يبيع السجائر في دكان صغير: "هؤلاء الشرقيون ولدوا للموت. الموت ينبع من كلّ شيء فيهم، من النظرات، من التأمّل الأبله، من الرخاوة. إنهم أموات بمعنى معين".» (المصدر نفسه: 95) تستمرّ هذه العملية حتى خروج الراوي الغائب من المشهد نهائياً، ويتفرّد بيتر ماكدونالد (الذي يحتلّ مكانة الراوي المتكلم) في عملية السرد. هذا الإحلال يتجلى تجلياً عندما يبلغ الحدث السردي إلى أدنى مستوياته، ويتحوّل وصف الأرض الشرقية إلى العنصر الرئيس للسرد. على سبيل المثال، في القسم الرابع عشر من الفصل الثاني، إذ يتطرّق إلى وصف أجواء إيران، يتمّ سرد القصة من منظور ماكدونالد بالكامل: «حال عودتي إلى بريطانيا سأبدأ بكتابة أشياء كثيرة عن هذا الشرق الغامض؛ إنني الآن أدوّن ملاحظات كثيرة...» (المصدر نفسه: 246) لكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: ما علاقة هذا الأسلوب السردي بالاستشراق؟ للإجابة يجب القول بأن المستشرقين (خاصة في عصرهم الذهبي أي القرنين السابع عشر والثامن عشر) كانوا يستخدون نفس الأسلوب السردي لتقديم صورتهم المصطنعة والمحبّذة والمنحازة ونقلها للبورجوازية الأوروبية؛ صورة تمثّل الشعوب المستعمَرة (الآسيوية والإفريقية وأمريكا اللاتينية) نموذجاً للكسل والجهل والضياع، إذ تنتظر أراضيهم المهجورة والقاحلة والمقفرة مُنقذاً يمنحهم العمران والنشاط والإنتاج. يقول إدوارد سعيد في كتابه "الاستشراق" عند الحديث عن أسلوب الكتابة لتقديم الصورة أعلاه: «الاستشراق يرى أن الشرق يقتصر وجوده على ما يُشاهَد، بل وأنّه ظلّ ثابتاً في الزمان والمكان بالنسبة للغرب. النجاح الباهر الذي حقّقه الاستشراق هو في مناهجه الوصفية والنصية [...]. فالغرب هو الفاعل، والشرق يقابله بردّ سلبي. والغرب هو المشاهِد والقاضي وهيئة المحلفين في كل قضية تتعلق بأي جانب من جوانب السلوك الشرقي.» (سعيد، 2006م: 192-193) وفقاً لرؤية سعيد هذه، يجب القول بأنه في "سباق المسافات الطويلة" يحتلّ بيتر ماكدونالد موقف المُشرِف والقاضي الذي يرافق إشرافَه وتحكيمَه الريبةُ والتشاؤمُ. فيما يلي نتناول بعض المدلولات البارزة لهذه النظرة الأحادية الجانب.
فضلاً عن أسلوب سرد "سباق المسافات الطويلة" الفريد بنوعه الذي يستحضر بوضوح الأجواء السائدة على نصوص الاستشراق، يستحضر كذلك اهتمام ماكدونالد الكبير في وصف حياة الأرض الشرقية -وصفاً دقيقاً تُعني بتفاصيل الحياة اليومية- نصوصَ الاستشراق. في الحقيقة، لو تطرقنا في الموضوع السابق (أسلوب السرد) إلى علاقة أسلوب السرد بنصوص الاستشراق، فهنا نلقي الضوء على حجم الوصف وعلاقته بالنصوص المذكورة أعلاه. فان الملاحظات الشخصية لماكدونالد ووصفه يغطي على وجه التقريب كلّ جوانب الحياة الشرقية. لهذا فإن جلّ فصول "سباق المسافات الطويلة" تشبه في الغالب موسوعة خيالية تتناول سلوكيات سكّان الشرق وممارساتهم، من أن تكون قصة حول كيفية حضور الاستعمار الحديث في الشرق الأوسط. يقول صلاح صالح في كتاب "سرد الآخر" حول هذا الحجم الكبير لوصف فضاء الأرض الشرقية: «استأثر وصف الشرق وانتقاده بعين المستعمر الأوروبي الجديد صفحات ومقاطع طويلة، أو مطولة إلى الحدّ الذي يفضح الجهد المبذول من أجل مطّها بشكل بدا مفتعلاً وخارجاً عن السياق العام للرواية، فكلما أوحت نهاية فصل ما بالانتقال إلى سواه في محطة حدثية جديدة، تتذكّر الرواية عبر ماكدونالد انتقاداً إضافياً أو أهجية أو سوءاً عامّاً.» (صالح، 2003م: 122 و123) تنطوي الملاحظات الشخصية لماكدونالد على السلوكيات الشرقية وتقاليدهم ومكانة المرأة والعمّال والمثقفين وأسلوب تناول الطعام وملابسهم. وكما تقول سحر حسين شريف، فإن «هذه النظرة الاستشراقية تشتمل على الإنسان والطبيعة وحتى الحيوانات الشرقية.» (حسين شريف، 2011: 31) في الجدول أدناه، نلقي نظرة على بعض جوانب وتجليات ملاحظات بيتر ماكدونالد لبيئة إيران بمختلف أشكالها:
تجدر الإشارة إلى أن القضايا المذكورة أعلاه تعدّ نموذجاً من نماذج كثيرة، لم نتمكن من الإتيان بها كلها في الجدول للحدّ من الإطالة؛ لأنه كما أشرنا سابقاً، فإن ملاحظات ماكدونالد ومونولوجه الذاتي، حول بيئة إيران قد أفردت لها أجزاء كبيرة من الرواية. وغني عن القول بأنه لأجل فهم أسلوبها السردي يجب الرجوع إلى النص الرئيس للرواية، على سبيل المثال يتمّ تخصيص عدة صفحات من الرواية لوصف بيتر للسكوك الشرقيين وتصرفاتهم.
يمثّل السياق التناصي للرواية، إحدى الجوانب البارزة لعلاقة "سباق المسافات الطويلة" بأسس الاستشراق. فالكاتب وإلى جانب محاكاة النصوص الاستشراقية في السرد والمضمون و...إلخ، قد أدرج في النصّ الروائي عبارات وأقوالاً للمستشرقين المشهورين والشخصيات البارزة في الإمبراطورية البريطانية في عصرها الذهبي. وإنّ لهذه المقاطع والأقوال وظيفة محورية في تفكّك خطاب الاستشراق وهي أنّها في الحقيقة تمثّل شفرات كامنة في النصّ الروائي تُحدث قفزات زمنية تُعيد القارئ إلى عصر الاستشراق الذهبي؛ ومن خلال استدعاء شخصيات تاريخية –التي لعبت دوراً مهمّاً في بناء الإمبراطورية- تتمّ موازنة بين النصّ الروائي والنصوص الاستشراقية. هذا السياق التناصي يتكوّن من قسمين مختلفين، لكنهما مترابطين مع بعض: القسم الأول هو الأقوال المذكورة في مستهلّ كلّ فصل، وهي عبارات لشخصيات بريطانية شهيرة ليست إلا، وهي شخصيات لها صلة وطيدة بأسس الإمبراطورية بشكل أو بآخر. في الجدول أدناه، نلقي نظرة على تلك العبارات:
وممّا هو جدير بالذكر والملاحظة هو أنّ العبارات أعلاه ترتبط ارتباطاً وثيقاً بكلّ فصل من الفصول الخمسة. ففي الفصل الأول، الذي يعدّ نوعاً ما منطلق السباق الاستعماري، وردت عبارة «إنّ من يملك الشرق، يملك العالم» التي تبرّر بشكل أو بآخر رحلة ماكدونالد للشرق بغية السيطرة عليه وإحياء الإمبراطورية. أما في الفصلين الثاني والثالث أي بالتزامن مع دخول ماكدونالد إيرانَ وبالتالي سيطرة الأجواء الاستشراقية على فحوى الرواية، ترد عبارات شهيرة لتوماس إدوارد لورنس (لورنس العرب) الذي كان من أنجح الشخصيات في تاريخ الإمبراطورية البريطانية وتمرير السياسات الاستعمارية في الشرق الأوسط؛ وفي الفصل الرابع، حيث يبلغ السباق الاستعماري ذروته، يذكر الكاتب عبارات تدلّ على جوهر الخطاب الاستعماري وسياسة الإمبريالية التي لا تعترف بأي صداقة عند سعيها تحقيقَ مصالحها التوسّعية. وأخيراً وفي الفصل الخامس، إذ يرسم الكاتب هزيمة بريطانيا في السباق الاستعماري وتفكّك خطاب الاستشراق، تظهر عبارة شهيرة لتشرشل في مقدمة الفصل يستبعد فيها رئيس الوزراء البريطاني المحنّك سقوطَ الإمبراطورية. غير أنّ لهذا السياق التناصي جزءاً آخر يزيد حجماً عمّا ورد في مستهلّ الفصول من أقوال، وهو كلمات وعبارات راندلي يتردّد صداها بشكل مباشر أو غير مباشر في رأس ماكدونالد كنزول الوحي السماوي: «وعاد يتذكّر كلمات راندلي...» (المصدر نفسه، 72) وراندلي الذي عمل مسئولاً رفيع المستوى للحكومة البريطانية في مستعمراتها المختلفة في كافة أنحاء العالم، يلعب اليوم دور الأب الروحي لبيتر حاملاً عالَماً من الخبرة الاستعمارية وراسماً له خارطة الطريق: «انتبه يا بيتر... هؤلاء الناس لهم صفتان: الحماقة والسرعة. إنهم حمقى لا يعرفون شيئاً، لا يعرفون كيف يفكّرون، كيف يتصرّفون، ولذلك فإن كلّ أفكارهم وتصرفاتهم تتّسم بهذا المقدار الكبير من الحماقة... يجب أن تتخيّل جزءاً كبيراً من حماقاتهم وتتحمّلها، تبتسم لها، لأنّ كلّ خطوة حمقاء تقرّب الطريدة من الصياد...» (المصدر نفسه، 33) السياق التناصي هنا يكمن في الانطباق الكامل بين خطاب راندلي وخطاب لورنس وآخرين من الشخصيات الاستعمارية البارزة التي وردت أقوالهم في مستهلّ الفصول: «لا تقل لهم شيئاً نهائياً، إنّهم عنيدون، إذا تصوّروا أنّ لنا رأياً غير رأيهم فسوف يصبحون خصوماً لنا، دعهم يظنّون أن ما يقولونه وحده الصحيح، لكننا وحدنا سنفعل ما نراه ضرورياً وصحيحاً.» (المصدر نفسه، 82) أفول الاستشراق في عصر ما بعد الاستعمار ما ذكرنا من قضايا تؤيد العلاقة الوطيدة التي تربط رواية "سباق المسافات الطويلة" بأسس الاستشراق؛ غير أنه لَمن الواضح بأن منيف لم يتحمّل عناء تأليف رواية كبيرة تضم ما يقارب 400 صفحة حتى يقدّم نسخة طبق الأصل للقرّاء، ويقول لهم، على سبيل المثال، بأن المستشرقين الغربيين كانوا يضعون الشرق محور أو موضوع دراساتهم وبحوثهم التاريخية والثقافية. فمن منظار نقد ما بعد الاستعمار، تحمل "سباق المسافات الطويلة" رسالة موت الاستشراق التقليدي أو على أقل تقدير، تحوّله النوعي في عصر ما بعد الاستعمار. فلو كان الاستشراق سابقاً يعني تحوّل الشرق إلى موضوع للدراسات الغربية أو، بعبارة أجل، نظرة "أنا" الغربي إلى "الآخر" الشرقي، ففي "سباق المسافات الطويلة" قد تغيّر طرفا المعادلة أي "أنا الغربي" و"الآخر الشرقي" ودخلت هذه الثنائية مرحلة جديدة لم يعد فيها المشاهِد الغربي -أو على أقلّ تقدير بنفس أسلوب وسياق النصوص الاستشراقية- بمقدوره إعتبار الشرقي الآخرَ (عديمَ الحضارة/همجياً/ذا البشرة السمراء و...). ببيان آخر، إنّ الكاتب يدحض الخطاب الاستشراقي بل يستهزئ بأسسه عبر تقديم صورة جديدة عنه تزخر بالمفارقة والتناقض. وبغية فهم هذه الصورة الجديدة في رواية "سباق المسافات الطويلة" نقوم بتحليل الموضوع من منظار طرفَي المعادلة: بيتر ماكدونالد (أنا الغربي) والمجتمع الإيراني (الآخر الشرقي).
إنّ بيتر ماكدونالد، هذا العميل البريطاني في إيران، شخصية متعجرفة وأنانية، دائماً ما يضع في الرواية قِيَمه المعيارية/المدنية/المتقدمة أمام قيم الشرقي غير المعيارية/البدوية/الدنيئة. وكما لاحظنا في الجدول الخاص بفحوى الرواية، فإنه يرى أن الشرقيين غارقين في الغرائز الإنسانية الدنيئة، ولا قيمة روحية ومتقدمة للإنسان الشرقي، من منظاره الضيق؛ يكيل المدح لحضارته الغربية وثقافته البريطانية ويرى أن حضارة الآخر رذيلة وغير إنسانية؛ حتى الطبيعة والحيوانات الشرقية ليست بمنأى عن نظرة بيتر الاستشراقية. لكن هذا الخطاب الاستشراقي المتعجرف يفقد مصداقيته وصوابيته بل يتّخذ طابع المفارقة والسخرية لمّا يقع إلى جانب الهدف الذي يسعى بيتر وراءه ولأجله قصد الأرض الشرقية (إيران). وبعبارة أخرى لو كان المستشرقون في عصر فيكتوريا يتظاهرون بأنهم يقصدون الشرق بهدف الاستطلاع وكشف مكامن السرّ في الشرق راغبين نقل الحضارة إلى أناس غير حضاريين، فاليوم تمّ إيفاد بيتر ماكدونالد من مركز الإمبراطورية الاستعمارية إلى أرض شرقية لكي يضمن مصالح بريطانيا الاستعمارية في الشرق، وذلك باللجوء إلى العنف ومختلف الأساليب الإرهابية (القتل والاغتيال والانقلاب و..). ففي كتابات الاستشراق، كانت الشعوب الشرقية نموذجاً للبربرية والعنف والبداوة تنبهر بالغرب انبهاراً مطلقاً وتنتظر رسالة الاستعمار المتقدمة لتخرج من النزق وتواكب الحضارة الجديدة؛ بينما في "سباق المسافات الطويلة" وعبر التمظهرات التي ذكرناها أعلاه (أسلوب السرد، وفحوى الرواية، والعلاقات التناصية) تسقط الأقنعة وينكشف زيف الخطاب الاستعماري، إذ نرى الجانب الغربي، وحفاظاً على ثرواته النفطية ومصالحه الإستراتيجية، يمارس أشرس أساليب الإبتزاز منها القتل والإغتيال والانقلاب العسكري، وذلك في بلد يتمتّع بسيادة أرضية مستقلة. وفضلاً عن هذا، فإنّ عنفه في حقبة ما بعد الاستعمار، انتقل من السطح إلى الجوف واتّخذ منحى جديداً متطوّراً مع دخول الإمبرالية الجديدة على الساحة. لكن هذه المفارقة لها وجه آخر، ألا وهو تشكيك بيتر ماكدونالد نفسه في إستمرارية عظمة الإمبراطورية وإعادة هيمنتها على الشرق. ففي خضمّ أحداث الرواية، يرى بيتر ماكدونالد بأمّ أعينه تهميش بريطانيا المتزايد في معادلات سياسية للأرض الشرقية، وكذلك تغيير نظرة المجتمع الشرقي إلى الإمبراطورية البريطانية، مستهزئاً عبر مونولوجه الداخلي أسسَ الإمبراطورية البريطانية: «يمكن أن تفكر لندن وتقرّر كما تشاء، لكن أقلّ وصف يمكن أن توصف به أفكارها وقراراتها هو أنها غبية... غبية حتى الثمالة.» (المصدر نفسه: 231) ويذمّ سياساتهم التسلّطية اللاإنسانية: «لندن لا قلب لها؛ إن الدولة ليست مجموعة أفراد، إنها كتلة صمّاء لا تعرف المشاعر أو اللحظات الإنسانية، تعرف فقط المصالح؛ والإنسان الفرد بمقدار ما يخدم هذه المصالح، فإنه موجود ومقبول.» (المصدر نفسه: 337) ويصف سياسيات لندن البالية، التي فقدت مفعولها كما كانت عليه سابقاً، بالمتخبطة. على سبيل المثال، نعرف بأن إحدى سياسات الاستعمار الكلاسيكي كانت تبجيل تقاليد وعادات سكان المستعمرات وحتى التقمّص بها في وقت الضرورة؛ لكن بيتر يرى بأن مثل هذه السياسات عفى عليها الزمن وهي الآن عديمة الفائدة فقدت فاعليتها السابقة: «يجب أن أصبح قرداً وأرقص لهؤلاء الشرقيين من أجل أن يرضوا، عند ذاك يمكن لراندلي أن يعتبرني ناجحاً... ومثل هذا التصور الأبله ينتهي إلى فاجعة.» (المصدر نفسه: 233) ويصف الساسة البريطانيين بالحمقى: «مهما قالت لندن، فإن رجالنا أغبياء، أنانيون، كسالى، مليئون بالأحلام.» (المصدر نفسه: 286) وأخيراً يوجّه ماكدونالد، بعد مشاهدة سلوكيات وتصرفات الشرقيين ومعتقداتهم عن كثب، النقدَ اللاذع لكتابات المستشرقين، ويعدّ صورتهم المرسومة عن الشرق وهمية لا تمتّ بالحقيقة بصلة: «ليس سهلاً أن تفهم الشرق أو تتعامل معه، حتى لتبدو لي الآن جميع الكتب التي قرأتها أو الأحاديث التي سمعتها عن الشرق مجرد كلمات فارغة التقطها أناس عابرون وسجّلوها بطريقة ما لكي يدللوا لأنفسهم أو لمواطنيهم أنهم زاروا الشرق وعرفوا أسرارها.» (المصدر نفسه: 247)
أما الجانب الآخر من تفكّك خطاب الاستشراق يرتبط بالطرف الثاني للمعادلة أي "الآخر الشرقي"؛ الآخر الطالب بهوية مستقلة لذاته وهو يمرّ بفترة أفول الاستعمار، داحضاً خطاب الاستشراق الضيق الذي يهمّشه ويعتبره الآخر. إن عملية التحول في عقلية الشرقيين تأخذ تجليات متعددة في "سباق المسافات الطويلة" يمكن العثور على أبرزها وأكثرها فنية في الجزء العاشر والحادي عشر من الفصل الرابع للرواية. في هذين الجزءين، تقوم لندن باستدعاء بيتر ماكدونالد وإرغامه على رحلة سياحية في الأرض الشرقية. إنه يختار منطقة ساحلية شمالي البلاد تتمتّع بأجواء طيبة ومناظر خلابّة (تنطبق تماماً على المناطق المطلّة على بحر قزوين شمالي إيران). إنها المرة الأولى التي تتسنّى لماكدونالد الفرصة طيلة سنوات تواجده في إيران كي يتسكّع في الأحياء الشعبية ويتعرّف عن كثب على معتقدات عامة الناس وأفكارهم. القضية الملفتة للنظر هي أنّ ثمة أجانب آخرين يعيشون في القرية التي يسكن فيها بيتر، وهم من أبناء دول أوروبية غير إستعمارية مثل اليونان والنرويج وبلغاريا. لقد قصد هؤلاء كلّهم أرض إيران لأهداف ونوايا حسنة، إذ يعمل البلغاريون واليونانيون في مصانع إنتاج السكّر بالقرب من القرية، والعالِم النرويجي قصد المنطقة للقيام بأبحاث حول النباتات في هذه المنقطة. في مثل هذه الأجواء وبينما يتوقّع بيتر أن يحترمه السكّان المحليون احتراماً ويخضعون أمامه ويمدحون مكانته، بصفته موفداً من الحكومة البريطانية وبصفتهم آخرين ومهمّشين، يتفاجأ من ردّة فعلهم وتعاملهم معه الذي يتّسم بالريبة والشكّ وحتى العداء: «منذ اللحظة التي وصلتُ فيها، وأينما كنتُ أذهب، كنت أقابل بنظرات التوجّس والتساؤل، ولقد خلق هذا حاجزاً بيني وبين الناس.» (المصدر نفسه: 344) لكن في المقابل، يرى بيتر بدهشة أنّ السكّان المحليين يتعاملون من منطلق حسن الضيافة واللطف والمحبة مع الأوروبيين الآخرين وقد بنوا علاقات وطيدة بهم: «كان السكان المحليون ينظرون إلى هؤلاء البلغار بنوع من المودّة الظاهرة، وكانوا لا يتردّدون في أن يستوقفوهم في الشارع ويتحدثوا إليهم. وأنا... لماذا ينظرون إليّ تلك النظرة المرتابة الخائفة؟ إنني الآن أتساءل بمرارة: أين كنا؟ وماذا فعلنا؟ ولماذا ينظر إلينا الناس هذه النظرة؟... لماذا يتعاملون مع ذلك النرويجي الذي لا أحد له، ولم يفعل من أجلهم شيئاً، بطريقة تختلف عن الطريقة التي يتعاملون بها معي؟» (المصدر نفسه: 346) وفضلاً عن السكان الأصليين، يسعى الأوروبيون المهاجرون أيضاً إلى الإبتعاد عن بيتر قدرَ الإمكان: «كان بودّي أن احتكّ بهم [البلغار] وأن أحادثهم، لكن حين عرفوا أني إنكليزي، تظاهروا تماماً أنهم لا يحسنون كلمة واحدة من الإنكليزية.» (المصدر نفسه: 345) في الحقيقة، فإن هذه الإزدواجية في التعامل مع الأوروبيين المستعمرين وغير المستعمرين تعبّر عن تفكّك مفهوم الأنا/الآخر أو التحوّل النوعي الذي يطرأ عليه في عصر ما بعد الاستعمار. فالسكان المحليون، الذين يمكن اعتبارهم بالعلاقة الجزئية كلّ شعوب الشرق، لم يعد يتحملّون سيطرة المركزية الأوروبية وتفرعنها. فانّ حضور الأوروبيين بمختلف أعراقهم وأفكارهم، لهو تأكيد على أنه في عصر ما بعد الاستعمار، لم تعد الشعوب الشرقية مهمّشين مستعمَرين كما كانوا عليه بالأمس، وإنما يطالبون ببناء علاقة يسودها الاحترام المتقابل، في البحث عن الهوية المستقلة؛ وهذا ما يستنتجه بيتر في آخر لحظات تواجده في تلك المنطقة: «في الشرفة المطلّة على البحر، في ذلك الصباح من آب، عرفت ماذا تعني بريطانيا، الآن، خاصة بالنسبة لهؤلاء الشرقيين! وتأكّدت أن كثيراً من الأحلام التي ملأت رؤوسنا، خلال عشرات السنين، تنهار وتنتهي دفعة واحدة... وأنا بيتر ماكدونالد، واحد من الحالمين الكبار، أستيقظ الآن...» (المصدر نفسه: 353) ويعمّم الوعي الجديد بالهوية على الشرق برمّته: «إنّ ما حصل في هذه الأيام يمثّل الشرق تماماً، ويعطي فكرة دقيقة عن طريقة الشرقيين في التفكير والمقاومة.» (المصدر نفسه: 392)
النتيجة إنّ رواية "سباق المسافات الطويلة" سواء في جانب محورية شخصية المستعمِر أو في جانب تماثل نصوص الاستشراق، تمثّل منعطفاً ضمن أعمال عبد الرحمن منيف السردية. إنّ الدلالات ما بعد الاستعمارية لهذه الرواية تتجلّى في عنصري التاريخ والاستشراق. في مادة التاريخ، قد اختار المؤلف انقلاب 19 أغسطس 1953 في إيران رمزاً لدخول العالم في مرحلة ما بعد الاستعمار وظهور الاستعمار الحديث. على هذا، فإن بريطانيا التي تمثّل الاستعمار التقليدي، مازالت تحاول وبأساليب استعمارية في العصر الفيكتوري، الحفاظ على مصالحها في الشرق، غير أن القوة الإمبريالية الجديدة المتمثّلة في الولايات المتحدة الأمريكية، مدركة طبيعة العلاقات في المرحلة الجديدة للعالم ولاسيّما تأثير النفط الكبير، تُعيد ترتيب الهيمنة الإمبريالية. في مادة الاستشراق، تحمل رواية "سباق المسافات الطويلة" رسالة موت الاستشراق الكلاسيكي أو، على أقلّ تقدير، تحوّله في حقبة ما بعد الاستعمار. فهذه الرواية لها علاقات وطيدة بنصوص الاستشراق يمكن ملاحظة أبرزها في أسلوب السرد ومضمون الرواية والسياق التناصي للرواية مع النصوص الاستشراقية. لكن بالرغم من تلك العلاقات فإن "سباق المسافات الطويلة" وخلافاً للنصوص الاستشراقية التقليدية التي كانت تقدّم صورة نموذجية للحضارة الغربية، فإنها ترسم الأهداف الخطيرة للإمبراطورية البريطانية في الحفاظ على مصالحها الاستعمارية في الشرق، وذلك من منظور "أنا المستعمِر" و"الآخر المستعمَر". فمن منظار "أنا المستعمِر"، تستهزئ الشخصية الرئيسية للقصة بأسس الإمبراطورية وذلك فضلاً عن فضح سياسات بريطانيا في الحفاظ على مصالحها في الشرق، وتصف استمرار سياساتها الاستعمارية التقليدية بغير المجدية والعبثية. أما من منظور "الآخر المستعمَر" فإن "سباق المسافات الطويلة" تقدّم صورة مختلفة لأسلوب مقاومة المجتمعات الشرقية بوجه المركزية الأوروبية؛ وفي هذه الرواية، يتعامل عامة الناس في الأرض الشرقية (إيران) وخلافاً لساستهم، تعاملاً مهيناً ومريباً مع مندوب من الاستعمار التقليدي. إنهم لم يعد يتحملّون سيطرة المركزية الأوروبية كما كانوا بالأمس، وإنما يطالبون ببناء علاقة مؤسسة على الاحترام المتقابل، باحثين عن هوية مستقلة.
| ||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
مراجع | ||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
آبراهاميان، يرواند. (1392ش). إيران بين دو انقلاب. ترجمة احمد گل محمدي ومحمد إبراهيم فتاحي. ط 21. طهران: نشر ني.
———. (1389ش). تاريخ إيران مدرن. ترجمة محمد ابراهيم فتاحي. ط 3. طهران: نشر ني.
إبراهيم، صالح. (2004م). أزمة الحضارة العربية في أدب عبدالرحمن منيف. ط1. بيروت: المرکز الثقافي العربي.
بلقزيز، عبدالإله وآخرون. (2013م). الثقافة العربية في القرن الشعرين. ط1. بيروت: مرکز دراسات الوحدة العربية.
بوشعير، الرشيد. (2001م). «مساءلة التاريخ في رواية سباق المسافات الطويلة لعبد الرحمن منيف». مجلة فكر ونقد. العدد 38، إبريل. صص: 144-136
جاسم الموسوي، محسن. (1988م). الرواية العربية (النشأة والتحول). ط1. القاهرة: الهيئة المصرية العامة للکتاب.
حسين شريف، سحر. (2011م). دراسات نقدية في الرواية العربية. ط1. القاهرة: دار المعرفة الجامعية.
درّاج، فيصل وآخرون. (2009م). عبدالرحمن منيف 2008. ط1. بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر.
سعيد، إدوارد. (2006م). الاستشراق. ترجمة محمد عناني. ط1. القاهرة: دار رؤية للنشر والتوزيع.
صالح، صلاح. (2003م). سرد الآخر: الأنا والآخر عبر اللغة السردية. ط1. بيروت: المرکز الثقافي العربي.
منظم، هادي؛ كبرى روشنفكر، ومحمد رجبي. (1399ش). «الآخر الشرقي من منظور الأنا الغربية في رواية سباق المسافات الطويلة لعبد الرحمن منيف». مجلة آفاق الحضارة الإسلامية. السنة 23، العدد 1، ربيع وصيف. صص 286-259
منيف، عبدالرحمن. (2000م). سباق المسافات الطويلة. ط 8. بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر.
———. (2007م). الکاتب والمنفي. ط 4. بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر.
ناظميان، رضا؛ فاطمة كاظمي. (1394ش). «تاريخ مداری در رمان های "سووشون" از سيمين دانشور و "سباق المسافات الطويلة" از عبدالرحمن منيف». نشريه ادبيات تطبيقي. پاييز وزمستان. دوره 7، شماره 13. صص 268-145
| ||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
آمار تعداد مشاهده مقاله: 644 تعداد دریافت فایل اصل مقاله: 167 |