تعداد نشریات | 418 |
تعداد شمارهها | 9,997 |
تعداد مقالات | 83,560 |
تعداد مشاهده مقاله | 77,801,346 |
تعداد دریافت فایل اصل مقاله | 54,843,960 |
دراسة أسلوبية لقصيدة "يا ست الدنيا يا بيروت" لنزار قباني | |||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
إضاءات نقدیة فی الأدبین العربی و الفارسی | |||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
دوره 12، شماره 45، خرداد 2022، صفحه 33-65 اصل مقاله (339.37 K) | |||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
نوع مقاله: علمی پژوهشی | |||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
نویسنده | |||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
مریم اکبری موسی آبادی* | |||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
أستاذة مساعدة في اللغة الفارسية وآدابها بجامعة أرومیة، أذربایجان الغربية، إیران | |||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
چکیده | |||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
لدراسة النص الأدبي مناهج نقدية متعددة کلٌّ يقارب النص من ناحية خاصة والنص هو الذي يدعو الناقد إلی اختيار المنهج لأنّ کل نص رغم إمکانية دراسته بالمناهج المختلفة إلّا أنّ مقاربته تتناسب مع منهج أکثر. الأسلوبية منهج داخلي يرکّز علی دراسة بنية النص، فالنص هو الوسيلة والهدف في نفس الوقت. ورغم وجهات النظر المتعددة في مجال الدراسة الأسلوبية إلّا أنها تصل في النهاية إلی دراسة البنية التي تتألّف من مستويات وإن وجدت فروق في تصنيف المستويات إلّا أن الأهم عبارة عن: المستوی الصوتي، والمستوی الترکيبي والمستوی الدلالي. والأسلوبية بوصفها فرعاً من اللسانيات التي تری اللغة نظاماً من الرموز والعلاقات، تری النص نظاماً بنيوياً متشکّلاً من الأجزاء التي ترتبط بعضها ببعض. في الدراسة الأسلوبية لقصيدة نزار وصلنا إلی أنّ خيارات الشاعر في مجال الصوت والترکيب والدلالة ذات إيحاء دلالي وجمالي. والشاعر تمکّن من امتلاك أسلوبه الخاص بميزاته الفريدة التي تظهر في اختيار الأصوات والبحر العروضي، ثم في اختيار الأساليب الإنشائية والحقول الدلالية، وأخيرا في تجلّي رؤيته من خلال الرموز الأساطيرية. | |||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
کلیدواژهها | |||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأسلوبية؛ نزار قباني؛ قصيدة "يا ست الدنيا يا بيروت"؛ المستوی الصوتي؛ المستوی الترکيبي؛ المستوی الدلالي؛ الرمز الأسطوري | |||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
اصل مقاله | |||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأسلوبية منهج من مناهج النقد الحديث، وهو متفرع من شجرة اللسانيات، وتُعدُّ حلقةَ وصل بين علم اللغة والدراسات النقدية، تدرس ما في النص الأدبي من الظواهر الفنية التي تميّزه عن غیره، مستعينةً بالدراسات اللغوية المعنية ببنية اللغة. فهي ذات صلة وطيدة بالبنيوية والمناهج النقدية التي ترکّز علی النص والبُنی المشکّلة له. تتفاعل الأسلوبية بمجموعة من العلوم والفنون کالصرف، والنحو، والبلاغة، وعلم النفس. فارتباطها بالبلاغة ينشأ من دراستهما الجوانب الجمالية للنص، وأما الصرف والنحو فلکونهما علمَين يدرسان بناء المفردات ووظائفها والتراكيب. ثمّ يأتي علم النفس حیث به يدرس مقاصد الشاعر لاختياره مفردات معينة، أو تراكيب بعينها. أهمية التحليل الأسلوبي يظهر في أنّه يمکّن الناقد من ممارسة العمل بالمعايير الموضوعية تجنّباً عن الأحکام المسبقة بالاستناد علی التحليل للجوانب المشکِّلة للنص. هذا المنهج يساعد الناقد علی تحلیل النص بالنص لأنه يفکك عناصر النص ويدرسها، ثمّ يجمّع هذه العناصر ويحدّد السمات الأسلوبية باستخلاص النتائج العامة من تلك الجزئيات. ترمي هذه الدراسة إلی قراءة قصيدة "يا ستّ الدنيا يا بيروت" لنزار قباني علی أساس الأسلوبية، القصيدة التي طبعت في ديوان "إلی بيروت الأنثی مع حُبّي" سنة 1978. كتب الشاعر هذه القصيدة إبان فترة الحرب الأهلية اللبنانية التي شهدها أثناء استقراره في مدينة بيروت. هذه الحرب اندلعت في منتصف سبعينيات القرن العشرين، واستمرت حتّى مطلع التسعينيات، قسّمت الناس في المدينة الواحدة سياسيًا وفكريًا، حملت معها آثارًا أليمة، ما زال لبنان يعاني من نتائجها إلى هذا اليوم. في هذه الدراسة وللوصول إلی السمات الأسلوبية لقصيدة نزار نحلّل عناصرها في المستويات الصوتية والترکيبية والدلالية. في الصوتية ندرس البحر العروضي، وخاصية الأصوات وعلاقتها بالدلالة، في الترکيبية ندرس الميزات التي تتّسم بها التراکيب من التقديم والتأخير، الأساليب الإنشائية کالاستفهام والنداء، الجمل الاسمية والفعلية و...، في الدلالية ندرس البنية الدلالية للنص خلال الحقول الدلالية والرمز؛ يتم تناول الرمز الأسطوري في هذه المقالة كأسلوب لتعميق المعنى وخلق فضاء تخيلي، كما أنه يرفع تجربة الشاعر من مستوى فردي إلى مستوى عالمي. في النهاية نحاول استخلاص الميزات الأسلوبية لبنية القصيدة وکيفية انسجام مؤلّفاتها بعضها مع بعض. أسئلة البحث
فرضيات البحث
سوابق البحث الأسلوبية من المناهج التي قد دُرست بها أعمال فنية کثيرة لأنّها منهج داخلي يدرس النص دراسة بنيوية شاملة لکل عناصر النص. کذلك قد قام کثير من الباحثين بدراسة أشعار نزار قباني الأسلوبية، من هذه الدراسات يمکن أن نذکر مقالة «السّمات الأسلوبية في قصيدة "بلقيس" لـ "نزار قباني"»، التي قام بها ذياب راشد وجمانة إبراهيم داؤد سنة 2015 م. هذه الدراسة ترکّز علی الظواهر اللغوية والأدبية ذات التردّد اللافت في القصيدة للوصول إلی السمات الأسلوبية، فوصل إلی أن السمات التي تکرّرت في مستويات الإيقاع والترکيب توحي الدلالات کاليأس والألم التي أحاط بالمجتمع. في مقالة «الإيقاع الصوتي في قصيدة "بلقيس" لنزار قبّاني» لجمال طالبي والتي طبعت سنة 2015 م الباحث قد رکّز علی مستوی واحد من الأسلوبية وهي المستوی الصوتي وقد وصل إلی أنّ الإيقاع الصوتي الذي يتجلّی في مکوّنات مثل الوزن والقافية وتکرار الأصوات والکلمات قد أثَّر في إغناء القصيدة وتکثيف الدلالة، فعلی سبيل المثال تکرار الصوائت الطوال يوحي بالمشاعر الحزينة عند الشاعر. في أطروحة جامعية «قصيدة "أنا قطار الحزن" لنزار قباني دراسة أسلوبية» التي ناقشت عنها الباحثة "رباحي جهاد" في 2016م، تُدرَس هذه القصيدة دراسة أسلوبية في المستويات الثلاثة، الايقاعية والمعجمية والترکيبية والباحثة قد اهتمّت بالعلاقة بين کل سمة أسلوبية مع الدلالة ونفسية الشاعر ورؤيتها عن الحب والمرأة. رغم الدراسات الأسلوبية الکثيرة لأعمال نزار إلّا أنّه لم تُدرس قصيدة "يا ست الدنيا يا بيروت" بالمنهج الأسلوبي بعدُ.
الأسلوب والأسلوبية للأسلوبية تحديدات کثيرة بسبب وجهات النظر المختلفة إليها. جاء في لسان العرب عن الأسلوب «ويقال للسطر من النخيل: الأسلوب. وکل طريق ممتد فهو أسلوب. قال: والأسلوب الطريق، والوجه، والمذهب.» (ابن منظور، 1988م، ج 6: مادة سلب) في اللغة الانجليزية "style" تشير إلی "مرقم الشمع" وهي أداة للکتابة علی ألواح الشمع. هذه الکلمة قد اشتقّت من الکلمة اللاتينية "stylus" التي تعني "إبرة الطبع". (ناظم، 2002م: 15) إلّا أنّه في اللاتينية القديمة الکلمة "stylus" کانت تتّسع لتعني "أسلوب الکتابة" وبشکل أعمّ "طريقة التعبير عن النفس" في الخطابة کما في الکتابة. (Nasiruddin، 2018م: 119) مصطلح الأسلوب ليس غير معروف عند القدامی، فيقول ابن خلدون في تحديد الأسلوب «المنوال الذي تنسج فيه التراکيب، أو القالب الذي يفرغ فيه، ولايُرجع إلی الکلام باعتبار إفادته کمال المعنی الذي هو وظيفة الإعراب، ولا باعتبار إفادته أصل المعنی من خواص التراکيب، الذي هو وظيفة البلاغة والبيان، ولا باعتبار الوزن کما استعمله العرب فيه الذي هو وظيفة العروض. فهذه العلوم الثلاثة خارجة عن هذه الصناعة الشعرية، وإنما ترجع إلی صورة ذهنية للتراکيب المنتظمة کلية باعتبار انطباقها علی ترکیب خاص، وتلك الصورة ينتزعها الذهن من أعيان التراکيب وأشخاصها ويصيرها في الخيال کالقالب أو المنوال.» (ابن خلدون، 1988م: 353) رغم تداخل بعض الحدود بين العلوم اللسانية القديمة کالبلاغة واللسانيات الحديثة إلّا أن الأسلوبية قد نشأت عن اللسانيات الحديثة التي کان رائدها فردينان دوسوسير (1857-1913م). تری لسانيات دوسوسير اللغة نظاماً علاقياً، أية وحدة لغوية کالصوت، أو الکلمة، أو المعنی لاتکتسب قيمتها إلّا من خلال علاقاتها بالوحدات الأخری داخل النظام اللغوي المعين. (محسب، 1998م: 45و46) لسانيات دوسوسير أحدثت تأثيراً حقيقياً في التحول عن المنهج التاريخي الذي کان قائماً علی النظرة التطورية، بينما التفکير الدوسوسيري کان ينظر إلی الحالة الآنية للغة ويعتبر وظيفة اللسانيات وصف اللغة، وضبط قواعد استعمالها في حالة معينة من حالاتها. (المصدر نفسه: 46) والمؤسس الأول للأسلوبية هو شارل بالي، تلميذ فردينان.کانت أسلوبية بالي التي تسمی بالأسلوبية الوصفية أو التعبيرية متّسقاً مع لسانيات دوسوسير في کونهما مضادا للمنهج التاريخي لأنه کان يعتقد أنّ الأسلوبية تدرس العلاقات بين أشکال الفکر والعبارة عنها بطريق استبطاني فالاعتبارات التاريخية لا محل لها. (المصدر نفسه: 51) الأسلوبية واللسانيات کلاهما يهتمّ بالثنائية التي طرحها دوسوسير وهي ثنائية اللغة والکلام. اللغة مجموعة من الرموز والعلاقات وهي واقعة اجتماعية إلّا أن الکلام هو الذي يستعمله الفرد معتمدا علی اختياره لإمکانيات اللغة وموضوع اللسانيات اللغة. بنی بالي أيضا الأسلوبية علی اللغة باعتبارها ظاهرة اجتماعية، لأن الأسلوبية عنده نظرت إلی الأسلوب کأسلوب الجماعة لا کلام الفرد. هو يعتقد أن کل تعبير فيه عنصر وجداني وعنصر فکري وعلم الأسلوب يدرس الجانبَين. (المصدر نفسه: 54- 51) فهذه الأسلوبية لاتحسب حساباً لدَور الفرد في الاستعمال اللغوي ولاتعتني بالأساليب الأدبية لأنّ النصوص الأدبية حصيلة فرد وليست جماعية، ثم إنّها قد اُنتِجت عن قصد جمالي فهو کان يدعو إلی التلقائية والعفوية. (المصدر نفسه: 72- 69) من ابتکاراته مفهوم "التعبيرية"، يعنی أن المتکلم يعبّر عن نفسه في کلماته، فالدارس يعالج الإمکانيات التعبيرية للأصوات، والکلمات، والتراکيب. آراء بالي واجهت استقبالاً، لکن حصر الأسلوبية في اللغة دون النصوص الأدبية ممّا نقده الکثيرون منهم "ماروزو" (Marouzeau). هو يقبل القيمة التعبيرية للغة إلا أنه نقل الدراسة الأسلوبية من مستوی اللغة إلی مستوی الکلام. بالإختصار الأسلوب نظام لساني يهيمن علی النص الأدبي، النظام الذي يتزامن فيه المستويات المختلفة کالصوتية والترکيبية والدلالية. والأسلوبية تصف البنی اللسانية المتميزة (البنی الأسلوبية) في النص والعلاقات بينها، البنی التي تدلّ علی القيم الفنية والجمالية للنص. (ناظم، 2002م: 30) من وجهات النظر التي تطرح في الأسلوبية هي "الانزياح". يحدّد الناقد الفرنسي، جان کوهن، الأسلوب هکذا «الأسلوب هو کل ما ليس شائعاً ولا عادياً ولا مطابقاً للمعيار العام المألوف. ويبقی مع ذلك أن الأسلوب کما مورس في الأدب، يحمل قيمة جمالية. إنّه انزياحٌ بالنسبة إلی معيار، أي أنه خطأ. ولکنه .. خطأ مقصود.» (کوهن، 1986: 15) لذلك الانزياح يحصل عليه بالمقارنة مع اللغة الشائعة أو المعيار واللغة الشعرية بحد ذاتها انزياح عن النثر. إلّا أنه ليس کل انزياح ذا قيمة أسلوبية ولاتحتاج أية قيمة أسلوبية إلی الانزياح. بالنسبة إلی تحديد المعيار وتحديد الإنزياحات فعالم اللسانيات هو الذي يحدّد الانزياحات. (ناظم، 2002م: 45) ومن المناهج التي يهتمّ بها الأسلوبيون المنهج الإحصائي الذي به نعثر علی الکلمات المفاتيح للمؤلّف. هذه الکلمات يمکن أن تعطي دلائل علی نفسية الکاتب أو علی البنية الداخلية لأعماله. بودلير يؤکّد علی هذا المنهج «قرأت في مقالة نقدية: لکي نستشف روح شاعر ما، أو علی الأقل شاغله الأهم، ينبغي أن نبحث في أعماله عن تلك الکلمة أو الکلمات التي تتردد أکثر من غيرها؛ فإن الکلمة تترجم عن الهم». (محمد عيّاد، 1985م: 120و119) إلا أن کل تکرار لايدخل في الإطار الأسلوبي کما أنه توجد کلمات تثير الانتباه دون التکرار. فالمتکرّر لايُعنی به في التحليل الأسلوبي من أجل التکرار فحسب، لأنّ المحلّل الأسلوبي ـ حسب رأي ريفاتير ـ يعنی بما يثير الانتباه ثم يتکرر، لا أن يتکرّر ثم يثير الانتباه. (ناظم، 2002م: 139) ومن وجهات النظر الهامة في الأسلوبية عملية الاختيار. هذه تعني أن الکاتب يختار من بين الإمکانات الکثيرة في اللغة خيارات خاصة. Wales)، 2011م: 55) إذن الاختيار يعني وجود تعبيرين أو أکثر لهم نفس المعنی، أساساً لايوجد تعبيران بالمعنی نفسه في اللسانيات کما يقول بلومفيلد: «إنها لفرضية موثوقة في الألسنية، أن التعبيرات إذا اختلفت شکلاً فإنها دائما تختلف معنیً أيضاً.» (هاف، 1985م: 21) الاختيار الذي يقوم به مستعمل اللغة له أسباب ذات قيمة تعبيرية ومهمة الأسلوبية الوصول إلی تلك الأسباب، ثم استجلاء الدوافع النفسية للمؤلف واکتشاف الجماليات للخاصيات الأسلوبية. (ناظم، 2002م: 58) هناك أنواع مختلفة للدراسة الأسلوبية کدراسة شاملة لکل المستويات أو دراسة مستوی واحد أو دراسة ظاهرة واحدة کالتکرار أو الانزياح. بما أن الشعر انزياح عن النثر فالأسلوبية منهج وثيق الصلة بالأدب والشعر خاصّاً، يمهّد الطريق لتحليل النص الأدبي والکشف عن المدلولات الجمالية فيه.
دراسة القصيدة في المستوی الصوتي قد أُنشِدَت القصيدة علی نمط الشعر الحرّ لأنّ السطور الشعرية ليست متساوية کالشعر العمودي. والبنية العروضية المهيمنة علی هذه القصيدة هي بنية إيقاع المتدارك، البحر الذي يقال إنه يغاير الأصول العروضية لخليل ويُنسَب إلی الأخفش. قد سُمّي بالأسامي الأخری کالمحدث والخَبَب وتسمية الخبب ترجع إلی مشابهة هذا الايقاع بجري الخيل عندما يحدث فيه الخبن فيسرع به اللسان في النطق فالبعض يسميه رکض الخيل لمحاکاته وقع حافر الفرس علی الأرض. والبعض يقولون إن هذا البحر يحاکي دقّ الناقوس. (الهاشمي، 2006م: 113) هذا الإيقاع فيه خفة وسرعة والبعض من العروضيين يعتقدون بأن هذا الوزن رغم انسجام موسیقاه وحسن وقعها علی الآذان إلا أن الشعراء قلما يعتمدون علیه وهذا يمکن بسبب کثرة المقاطع الساکنة فيه بحيث جعلته يليق بالأدب الشعبي. (يموت، 1992م: 211و212) هذا البحر يتکوّن من تفعيلة "فاعِلُنْ". قد يصيبها الخبن فتصير "فَعِلُنْ" والتشعيث فتصير "فالن". (المصدر نفسه: 212) يَبدو أنّ الشاعر اختار بحر الخبب لأنّه بسيط لايقيّد مشاعره وأحاسيسَه وکأنّه يقول حديثاً عاديّاً في الحياة اليومية، ثم بسبب التفيعلات الصغيرة التي تشتمل علی اثنين أو ثلاثة هجاءات يهيّئ جوّاً موسيقائياً للحروف حتی تصعد وتهبط بسهولة. قد راعی الشاعر بحر الخبب من البداية حتی النهاية دون أية مواشجة مع البحور الأخری. يؤدّي کونُ القصيدة أُحاديّةَ التفعيلة إلی الانسجام أو الهارموني في کل القصيدة. هذا الهارموني يُعَدُّ مِن مؤلِّفات الوحدة العضوية في القصيدة. هذه الظاهرة تطلق علی کل مرکّب من أجزاء، کلٌّ له وظيفة وبينها علاقة وطيدة. (عرفتپور وخسروی، 1392ش: 12) في تحديد هذا المصطلح يقول الدکتور غنيمي هلال «نقصد بالوحدة العضوية في القصيدة، وحدة الموضوع، ووحدة المشاعر التي يثيرها الموضوع. وما يستلزم ذلك في ترتيب الصور والأفکار ترتيباً به تتقدم القصيدة شيئاً فشيئاً حتی تنتهي إلی خاتمة يستلزمها ترتيب الأفکار والصور، علی أن تکون أجزاء القصيدة کالبنية الحية، لکل جزء وظيفته فيها. ويؤدّي بعضها إلی بعض عن طريق التسلسل في التفکير والمشاعر.» (غنيمي هلال، 1997م: 373) نجد الوحدة العضوية في قصيدة نزار، لأنّها قد تقدّمت شيئاً فشيئا بالصور والأفکار، ثم الهارموني قد ربط بين الأجزاء، کأنّه سلك يشدّ الأجزاء بعضها ببعض أو کأنه لَونٌ واحدٌ لخلفية اللوحة، والأشکال قد ظهرت علی هذه الخلفية المشترکة. فالوزن يکون عنصراً فعّالاً في قصيدة نزار بسبب بساطته ثم کونه متّسقاً مع الوحدة العضوية، بما أنّ الشاعر يريد أن يخلق جوّاً حميمياً مع بيروت التي تصوّرها مرأة قد أصيبت بمأساة فينتقي التفعيلات البسيطة المقتربة من اللغة المستعملة في الحياة اليومية. ومن المؤلّفات الأخری للبنية الصوتية التکرار والقافية. ظاهرة التکرار عندما تظهر في الصوامت والصوائت تسمّی التجانس الصوتي والتکرار لايقتصر علی التجانس الصوتي فحسب، بل يشمل علی تکرار المفردات والعبارات أيضا. يصير التکرار عنصراً أسلوبيّاً إذا استدعاه السياق أو کما تقول نازك الملائکة «اللفظ المکرّر ينبغي أن يکون وثيق الارتباط بالمعنی العام وإلّا کان لفظية متکلفة.» (الملائکة، 1967م: 231) التکرار يفيد عندما يصبح أداة في خدمة الموسيقی والدلالة لا فخّاً يتورط فيه الشاعر لسدّ ثغرات النص «التکرار، في حقيقته، إلحاح علی جهة هامة في العبارة يعنی بها الشاعر أکثر من عنايته بسواها. وهذا هو القانون الأول البسيط الذي نلمسه کامناً في کل تکرار يخطر علی البال. فالتکرار يسلط الضوء علی نقطة حسّاسة في العبارة ويکشف عن اهتمام المتکلم بها.» (الملائکة، 1967م: 242) علی أساس أن البنية الشعرية يتألّف من تکرار الوحدات الصوتية بکلّ ما يضاف إليه من الإيقاع، وتکرار الحرکات والسکنات، والفواصل الصامتة، وتماثل الصوامت، وتماثل الصوائت، والقافية، وأنواع المقاطع المفتوحة والمغلقة، والنبرة و... فاختيار الأصوات وعلاقتها بالدلالة ممّا يعنی به في الدراسات الأسلوبية، ومثل هذه الدراسات نجدها عند القدامی. يظهر ابن جني آراء جديرة بالتفکير فيها عن تقارب الحروف لتقارب المعاني بذکر الآية «أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا ٱلشَّيَٰطِينَ عَلَى ٱلْكَٰفِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا» (مریم/83) قائلاً: «أي تزعجهم وتقلقهم. فهذا في معنی تهزّهم هَزّاً، والهمزة أخت الهاء؛ فتقارَب اللفظان لتقارب المعنيين. وکأنّهم خصّوا هذا المعنی بالهمزة لأنها أقوی من الهاء، وهذا المعنی أعظم في النفوس من الهزّ؛ لأنك قد تهزّ ما لا بال له؛ کالجِذْع وساقِ الشجرة، ونحو ذلك.» (ابن جني، لاتا، ج 2: 146) فالعلاقة بين الصوت والمعنی ممّا يکشف عنه شارل بالي مؤکّدا «أنّ المادة الصوتية تکمن فيها إمکانات تعبيرية هائلة؛ فالأصوات وتوافقاتها، وألعاب النغم والإيقاع، والکثافة والاستمرار، والتکرار، والفواصل الصامتة، کل هذا يتضمن بمادته طاقة تعبيرية فذة؛ إلا أنها تظل في طور القوة والکمون مادامت الدلالة والظلال العاطفية للکلمات مناهضة لها أو غير مکترثة بها، فإذا توافقت معها انطلقت من عقالها وانتقلت إلی طور الظهور والفعالية.» (فضل، 1998م: 27) هذا القول يدلّ علی أنّ السياق هو الذي يکسب الصوت معناه وأنّ التأثيرات الإيحائية للأصوات لاتظهر إلا بمساعدة العوامل الدلالية. کما يؤکّد علی هذا رنيه وليك مشيراً إلی أنّ الصوت في ذاته لايکون له وقع جمالي فلا يمکن تحليل الصوت بمعزل عن المعنی. (وليک ووارن، 1992م: 213) تتألّف قصيدة نزار من ثمانية مقاطع، توجد العلاقة العضوية بين المقاطع بأسلاك متينة کأنها شرايين تربط بين الأعضاء أهمّها الموسيقی والدلالة. هذه الوحدة العضوية لاتنافي مع تمايز الألوان التي يتلوّن بها کل مقطع. يمکن أن نشبّه هذه القصيدة بلوحة رسم، رغم الخلفية المشترکة للصور، قد استطاع الرسّام أن يميّز بين الصور مع أنّ الصور فيها ألوان وخطوط تشبه الألوان والخطوط في الصور الأخری. في مجال تکرار الأصوات في القصيدة والعلاقة بين هذه الظاهرة والسياق الدلالي يساعدنا إحصاء للأصوات التي تکرّرت کثيرا.
فالصوامت الکثيرة التردد بالترتيب عبارة عن: النون (205)، الياء (145)، الراء (134)، التاء (130)، الميم (116)، الکاف (89)، العين (66)، القاف (53)، السين (29)، الصاد (15). من الصفات التي يذکرها علماء اللغة للحروف العربية "الهمس" و"الجهر". الصوت المهموس هو «الصوت الذي لاتتذبذب الأوتار الصوتية حال النطق به.» (بشر، 2000م: 174) فالصوت المجهور علی العکس يولَد بتذبذب الأوتار الصوتية. فالجهر هو «ارتفاع في شدة الصوت، فيکون للصوت المجهور من سمات القوة وطبيعة التأثير ما لايکون لغيره من الأصوات.» (مروان، 2006م: 8) الأصوات المهموسة، هي: ت ث ح خ س ش ص ط ف ق ك هـ والأصوات المجهورة، هي: ب ج د ذ ر ز ض ظ ع غ ل م ن واو یاء. الواو و الياء هنا يقصد بهما کالصامتين لا کالصائتين. الأصوات المجهورة والمهموسة يوفّر انتشارها في النص ظلالا من المعاني، «فإذا کانت مجهورة ازداد المقام تفخيما، لأنه يتصف بحرکة قوية يشد انتباه السامع، وإذا کانت مهموسة کان الصوت خافتا والحس مرهفا فيوجب التأمل وتوقظ حرکته الوجدان والمشاعر النبيلة لأنه غالبا ما يکون في مقام الحزن والاشتياق.» (زهار، 2013م: 6) من الصفات الأخری للأصوات الشدة أو الانفجار وهي تحدث عندما الهواء يقف أثناء النطق بها وقوفا تامّا في نقطة من نقاط النطق في الجهاز النطقي، ثمّ الهواء يخرج فجأة وبسرعة کالانفجار. من الأصوات الانفجارية في العربية: الهمزة، القاف، الکاف، التاء، الطاء، الدال، الضاد، الباء. (بشر، 2000م: 198-196) في المقابل توجد صفة الرخاوة، الأصوات الرخوة التي يسمّها علماء اللغة المحدثون "الأصوات الاحتکاکية" «فعند النطق بها لاينحبس الهواء انحباساً محکماً، وإنما يکتفي بأن يکون مجراه ضيقاً. ويترتب علی ضيق المجری أن النفس في أثناء مروره بمخرج الصوت يحدث نوعاً من الصفير أو الحفيف تختلف نسبته تبعاً لنسبة ضيق المجری.» (أنيس، لا تا: 25) الأصوات الرخوة هي: الفاء، الثاء، الذال، الظاء، الزاي، السين، الصاد، الشين، الخاء، الغين، الحاء، العين، الهاء. أکثر الأصوات رخاوة هي السين، والزاي، والصاد التي سمّاها القدماء بأصوات الصفير. (المصدر نفسه: 25) وهناك الأصوات المتوسطة التي ليست انفجارية ولااحتکاکية، يمرّ معها الهواء دون أن تحدث صفيراً أو حفيفاً إذ ليس في المجری احتباس أو احتکاك وهي الراء، والميم، واللام، والنون. (روستايی وآخرون، 2021م: 27) هذه الأصوات الأربعة (الراء، والميم، واللام، والنون) أطلق عليها "أشباه الحرکات" (vowel – like consonants) لأن حرية مرور الهواء يؤدّي إلی الوضوح السمعي (sonority) وهذه الميزة تمتاز بها الحرکات من کل أصوات اللغة. (بشر، 2000م: 202) الواو والياء بوصفهما الأصوات الصامتة کما في (وجد ــ يجد) قد حکم عليهما بأنهما من الأصوات الاحتکاکية لأن خروج الهواء أثناء النطق يحدث نوعاً خفيفاً من الاحتکاك، وقد أطلق عليهما "أنصاف حرکات" (semi - vowels) بسبب مرور هوائهما بشيء من الحرية عند النطق بهما. (المصدر نفسه: 202) بناء علی ما تقدّم بإمکاننا أن ندرس البنية الصوتية في القصيدة وهذا يتطلب أن نقرأ المقاطع واحدا تلو آخر. في المقطع الأول يبدأ الشاعر بالجملة الندائية. يا ستَّ الدنيا يا بيروت ... "يا" حرف النداء يدلّ علی علوّ المنزلة للمُنادَی. (محمد فارس، 1989م: 158) صوت الياء من الأصوات المجهورة وهذا الجهر يدلّ علی فخامة السياق وحرکة المدّ "الألف" ضاعف في الفخامة لأنها تضفي خاصية الامتداد علی الکلمة في المکان أو في الزمان. (عباس، 1998م: 97) ثم يستفيد حرف السين التي رخوة کثيرا وتوحي الاطمئنان، وإن لاينافي هذا الاستعمال مع حرف التاء الانفجاري المشدّد الذي يوحي الکبرياء لستّ الدنيا. ثمّ جرس السين الذي سمّي بحرف الصفير يوجد إيقاعاً جميلاً ومُلفتاً للانتباه في الوقت نفسه. في السطر الأول الذي يعدّ باباً يُفتَح علی القصيدة قد تکرّرت الياء أربع مرات وحرف الألف ثلاث مرات وهذه الظاهرة الموسيقائية تکفي لأن تستدعي انتباه المتلقّي وتؤکّد علی أهمية المضمون. مَنْ باعَ أساوِرَكِ المشغولةَ بالياقوتْ؟/من صادَرَ خاتمكِ السّحريَّ،/وقصَّ ضفائركِ الذهبيّهْ؟/من ذبحَ الفرحَ النائمَ في عينَيْكِ الخضرواينْ؟/من شَطَّبَ وجهَكِ بالسّكّينِ،/وألقى ماءَ النارِ على شَفَتَيْكِ الرائعتينْ؟/من سمّمَ ماءَ البحرِ، ورشَّ الحقدَ على الشُّطآنِ الورديّهْ؟ في هذا المقطع نشاهد تکرار الميم و النون، هذان الحرفان اللذان يدخلان في زمرة الحروف المجهورة والمتوسطة من حيث الرخاوة والشدة، وهذه الخاصية تساعد في ايحاء معنی الاستفهام الذي يعبّر به عن الدهشة، الدهشة الکثيرة التي اعترت الشاعر عندما يشاهد مصائب بيروت. انطباق الشفتين وانفراجهما عند النطق بهذا الحرف قد أدّی إلی تصنيفه في الحروف اللمسية التي توحي معاني اللمسيات من الرقة والليونة والتماسك والمصّ والرضاع. (المصدر نفسه: 74) والنون، هذا الصوت الرنّان، يوحي بمعانٍ منها الانبثاق والخروج من الأشياء، والأناقة والرقّة، والاهتزاز والحرکة. وقد صنّف هذا الحرف في زمرة الحروف الشعورية «لما يثيره صوته الرنّان في النفس من مشاعر الحنين والخشوع والألم الدفين.» (المصدر نفسه: 163-160) لأناقة هذا الحرف قد اتخذها العرب رمزاً للنسوة وألحقوه بالضمائر لانطباق معاني النون من الرقة والأناقة والعذوبة علی النساء. هذا الحرف يوجد المشاعر والموسيقی، لولا هذا الحرف «ما اهتدی الإنسان إلی وترٍ يئنُّ وناقوس يرنُّ، ولا إلی ناي أو کمان.» (المصدر نفسه: 169و167) الخصائص اللمسية للميم إلی جانب الخصائص التي يتّسم بها النون من الرقّة والاهتزاز تتّسق مع الفضاء الأنوثي للقصيدة. الشاعر يکرّر خمس مرات کلمة "مَنْ"، هذان الحرفان، الميم والنون، بموسیقاهما ومعناهما إضافة إلی ارتفاع الصوت حين قراءة الجمل الاستفهامية، هذه العناصر کلّها توحي الألم العميق في نفس الشاعر. النون تکرّرت في رويّ القوافي طوال القصيدة وهذا بسبب رنين هذا الحرف ومعنی الألم الذي يوحي به. مع أنّ التکرار إحدی العناصر الأسلوبية، قد نواجه في الدراسة الأسلوبية کلمات أو حروفاً لم تتکرّر کثیرا، رغم ذلك قد أثّر في بنية النص. في السطور الأولی نشاهد سيطرة الحروف المجهورة "الياء، الميم، النون" التي تشارك في بناء فضاء الدهشة والألم بمساعدة ارتفاع الصوت للجمل الاستفهامية، حتی نصل إلی: ها نحنُ أتينا .. مُعْتَذِرينَ .. ومُعْتَرِفينْ الجملة صارت خبرية، الصوت ينخفض، الکلمات تدلّ علی الندامة، الحروف التي تشارك في ايجاد فضاء التحسّر هذا "هاء، العين". مع أنّ "الهاء" لم يتکرّر إلّا أنّ تواجده في بداية السطر وامتداده بحرف المدّ "الألف" قد خلق مشهداً مليئاً بالآهات والآلام. الهاء من الحروف الشعورية الحلقية، وقدرة هذه الحروف علی التعبير عن الانفعالات النفسية تعود إلی رقّة أنسجة غشاء الحلق ثم قرب الحلق من جوف الصدر يعطي الحرف فرصة لتلقّي الانفعال النفسي. (عباس، 1998م: 171) الهاء، هذا الصوت المهموس الرخو، باهتزازاته العميقة في باطن الحلق يوحي الاضطرابات النفسية، هو من أشجی الأصوات في التعبير عن مشاعر اليأس والبؤس والهجران. (المصدر نفسه: 192) عندما يبدأ السطر بـ "ها" سرعان ما تتحوّل مشاعر الدهشة والألم إلی مشاعر الحزن والتحسّر والندامة. حرف النون لايزال يساهم في بناء هذا الجوّ المشحون بالحزن والحسرة بتکراره خمس مرّات في هذا السطر الرئيسي. القاف في الکلمتين "قبليّة، قتلنا" صوت انفجاري، البعض يعدّونه مجهوراً والبعض مهموساً. فکونه انفجارياً يعطيه معاني القوة، والقساوة، والصلابة، لذلك يتّسق استعماله مع دلالة التخلّف في کلمة "القبلية" ودلالة قساوة القلب في "قتلنا". في هذا المقطع استعمل النون والياء کحرف الرويّ وکلاهما مجهوران. لخاصية الياء يجب أن نضيف أنّ هذا الحرف يبني في الکلمة حفرة وکأنّ الکلمة تستقرّ في هذه الحفرة. يبدو أنّ هذه الخاصية في القوافي قد اشتدّت بحرف المدّ "الياء" إلی جوار الياء الصامتة. کأنّ الکلمة تسقط في حفرة ثم تصعد منها أو تستقرّ في هذه الحفرة. وهذه الحفرة تصير مستقرّا ومقرّاً للکلمة إذا کان الياء ساکنة وماقبلها متحرکة بالفتح (المصدر نفسه: 99)، فبَيْروت تَمَيَّزَت بهذه الميزة، کأنها بيتٌ يستقرّ الناس فيها. في المقطع الثاني لا يزال الشاعر يواجه مشهدَ مصائب بيروت بالدهشة، دائما يسأل بـ "مَنْ" و"ماذا"، فالحرفان "النون والميم" لا يزالان تنبعث منهما موسیقی محزنة. حرف الباء في القوافي مجهور انفجاري، يوجد انطباق الشفتين وانفراجهما صوتاً يدلّ علی الإتساع والإرتفاع والظهور. کما أنّ الهمزة في بداية الأسماء "أقلامي، أحلامي، أوراقي" يأخذ صورة البروز والحضور والعلانية. (المصدر نفسه: 95 و 101) فالشاعر رغم آلامه يواجه بيروت بلحن يتّصف بالعلوّ والعلانية، کأنّ الکلّ يجب أن يعلموا ما حلّ ببيروت، ستّ الدنيا، فلا تزال الحروف المجهورة تستعمل کثيراً. في المقطع الثالث نواجه عنصراً صوتياً يعطي لَوناً مختلفاً لهذا المقطع، لوناً يستمرّ في المقطع التالي إلّا أنّه هنا أشدّ وأوضح وهو توظيف الحرف "القاف"، هذا الحرف الانفجاري الذي يتم نطقه «برفع أقصی اللسان حتی يلتقي باللهاة ويلتصق بها فيقف الهواء، مع عدم السماح له بالمرور من الأنف. وبعد ضغط الهواء مدة من الزمن يطلق سراح مجری الهواء بأن يخفض أقصی اللسان فجأة فيندفع الهواء محدثا صوتا انفجاریا.» (بشر، 2000م: 276) القاف، هذا الصوت الذي امتدّ بالصائت "الواو"، يوحي بالأحاسيس اللمسية من الصلابة والشدة وترکيب هذه الأحاسيس مع الرقّة والليونة للميم يتّسق مع معنیً مرکّب من الشدّة والرقّة، الشاعر يدعو بيروت للقيام دعوة شديدة وهذه الدعوة الشديدة الصوت تمتزج بحزنٍ ينبعث من الأعماق، إلّا أن القاف يتقدّم علی الميم فالشدّة في هذه الظروف أکثر حيوية وضرورة. هذا الصوت يتکرّر مرّات عدّة لخلق فضاء القيام رغم المصائب للغلبة عليها، ثم الشين، صوت التفشّي، في کلمة "عشتار" يحدث انتشاراً واتساعاً لکل الأحاسيس السابقة، والراء المسبوق بالألف يوحي بالتکرار والتحرك، ففضاء الحزن والألم الحاکم في المقاطع السابقة تحوّل إلی الحرکة والحيوية والقيام بفضل الراء والقاف والشين خاصة أنّ يا النداء والألف في عشتار توافق مع عظمة الآلهة عشتار. والهمزة في القافيتين "الشعراء، الفقراء" يکمّل حيوية البنية الصوتية، الهمزة صوت شديد، لا هو بالمجهور ولا بالمهموس، «لأن فتحة المزمار معها مغلقة إغلاقاً تاما ... ولا شك أن انحباس الهواء عند المزمار انحباساً تاما ثم انفراج المزمار فجأة، عملية تحتاج إلی جهد عضلي ... مما يجعلنا نعد الهمزة أشد الأصوات.» (أنيس، لاتا: 77) الحبُّ يريدكِ.. يا أحلى الملكاتْوالربُّ يُريدكِ.. يا أحلى الملكاتْها أنتِ دفعتِ ضريبةَ حسنكِ مثلَ جميعِ الحسناواتْ في السطور الأخيرة يتکرّر الحاء مرات في الکلمات "الحبّ، أحلی، حسنك، الحَسناوات" ليؤکّد علی حلاوة الملِکَة لأنّ «صوت الحاء هو أغنی الأصوات عاطفة وأکثرها حرارة، وأقدرها علی التعبير عن خلجات القلب ورعشاته.» (عباس، 1998م: 182) المقطع الرابع يواصل البنية الصوتية لمقطعه السابق، إلّا أنه يضاف تکرار عبارة "الآن عرفنا" التي تخرج من إنشائية الجمل "قومي" وهذا الانخفاض إلی جانب ارتفاع اللحن وجهر الأصوات ينوّع البنية الصوتية ويمنعها من التورّط في الرتابة. في المقطع الخامس الترکيب المفتاحي "البَدو الرُّحَّل" يتکرّر ثلاث مرات، فتحليل ايحاءات الحروف لهذا الترکيب ممّا يساعدنا في فهم الدلالة. حرف الباء مجهور شديد، تنطبق الشفتان حين النطق به وعندما تنفرجان يخرج الهواء انفجاريا إذن الصوت انفجاري وهذه الحرکة عند النطق تؤثّر في المعاني التي توحي بها من الانبثاق والظهور، والقطع والتحطيم والمفاجأة. (المصدر نفسه: 101) وأمّا الدالّ فيعبّر عن السواد والظلام لأنّه «أصمّ أعمی مغلق علی نفسه کالهرم، لايوحي إلّا بالأحاسيس اللمسية وبخاصة ما يدلّ علی الصلابة والقساوة وکأنه من حجر الصوان.» (عباس، 1998م: 67) والواو حرف شفوي لأن الشفتان تستديران حين النطق به. (أنيس، لاتا: 45) الدالّ والواو من الحروف المجهورة، الدالّ انفجاري والواو احتکاکي. فالخصائص لهذه الحروف توحي بالغلاظة والتخلّف اللذَيْن يوصَف بهما الناسُ الذين لم يکونوا لُطَفاء مع بيروت وبالحروب الطائفية المتخلّفة أحرقوا قلب بيروت، هذه المرأة اللطيفة المثقّفة التي تليق بحبّ حقيقي بعيد عن الخداع والاستغلال والتخلّف. وأمّا الرُّحَّل فالراء الدالّة علی الحرکة والحاء الدالّة علی العاطفة والرقّة والعذوبة، واللام الدالّة علی الالتصاق والتماسك والتملك، يبدو أنّ الدلالة الصوتية للرُّحَّل ليست سلبية کما البدو إلّا أنّ الرُّحَّل بوصفها صفة للبدو لاتنتفع بدلالتها الصوتية، ثم اللام خلافاً لايحاءات الراء والحاء الدالّة علی الحرکة والعاطفة ـ والعاطفة تتّسم بغليان الأحاسيس ـ تدلّ علی الالتصاق والتملّك، فالتملّك يتنافر مع الحبّ الحقيقي؛ المحِبّ لايريد تملّك المحبوب، لأن المحِبّ يهمّه أحاسيس المحبوب فلايزعجه ويسرّه کون المحبوب مسروراً حرّاً، فهذا الحبّ البدوي الذي يريد تملّك المحبوب هو الذي يقتل الحرّية کما يقول الشاعر في المقطع الأول: فقَتلنا امرأةً .. کانَت تُدعَی "الحُريَّة" .. في المقطع السادس الحرفان النون والکاف يسيطران علی المقطع، حرف النون، هذا الصوت الرنّان المعبّر عن مشاعر الحنين والألم العميق يصبغ السطور في هذا المقطع بصبغة موسيقائية حزينة تثير الأحاسيس العميقة الأليمة في المتلقّي، خاصة أنه قد امتدّ بالألف کثیرا "أنّا، کُنّا، يُؤذينا، سِکّينا، أنّا، راودنا، عاشرنا، ضاجعنا، حَمّلنا، مَعاصينا، تَکفينا، عرفنا، فينا، أيدينا"، هذه البنية الصوتية تلائم جَوّ الندامة والاعتراف والتحسّر الذي تُخيَّم ظلالُه علی السطور. کما لاننسی دَوْرَ الکاف الذي ظهر عموماً کَضمير خطاباً لبيروت إلّا في أربعة مواضع "کُنّا، مَکان، سِکّين، تَکفينا"، الکاف صوت مهموس انفجاري، هذا الحرف في زمرة الحروف اللمسية لأن المعنی الغالب له "الاحتکاك"، يوحي بالاحتکاك وبشيء من الخشونة وإذا لفظ بصوت عالي النبرة يوحي بشيء من الضخامة والامتلاء. (عباس، 1998م: 70) بالنسبة لأربع کلمات ذات الکاف المعنی الايحائي للکاف واضح، فالاحتکاك والشدة من الصفات البارزة للکون، والمکان، والسکين، والکفاية. وأمّا الضمائر فتدلّ علی التَّماس والتواصل بين "المتکلم مع الغير" و"المخاطبة"، بيروت. هذا الاحتکاك قد اشتدّ بالکسرة، فهناك العلاقة بين الحرکات ودلالة الکلمة، «فالحرکات هي وحدات صوتية لها وظيفة معينة في الترکيب الصوتي، لأنها جزء أساسي منه، فهي ليست ظواهر تطريزية، وإنما فونيمات أساسية أو أولية (Primary Phonemes).» (ساسي هادف، 2009م: 164) إذن هناك علاقة بين الحرکة والدلالة، باختلاف الحرکة يختلف المعنی، لأن الحرکات توحي بمعانٍ يختلف بعضها عن البعض «الکسرة لقوتها (فيزیولوجيا) إذا ما قيست بالفتحة اختيرت للدلالة الأقوی، ... وکذلك اختاروا الفتح مع المصدر، فقالوا (مَفعل)، واختاروا الکسر مع اسم الآلة، والشيء المحسوس أقوی من الشيء المجرد المعنوي الذي يدرك ولکن لا يحس.» (المصدر نفسه: 165) إذن الکسرة قد ضاعفت في الشدة التي توجد في الکاف، العلاقة بين "نَحن" و"أنتِ" رغم کونها شديدة وطيدة إلّا أنّ "نحن" لم يلِقْ بها لعدم المعرفة بأهمية "أنتِ" وقيمتها، وهذه القيمة وتلك الأهمية يدلّ عليهما الکاف والکسرة، إلّا أن "نحن" أخيرا عرف بأنّ "جُذروَکِ ضاربةٌ فينا ..". إن التکرار ظاهرة تدلّ علی أنّ المکرَّر قد اعتنی به المتکلم اعتناء خاصّاً، فتکرار "قومي" مرات في کل مقطع، أو تکرار "يا ستّ الدنيا يا بيروت .."، تکرار الأصوات کـ "النون، الميم، الياء و..."، هذا التکرار يعطي الکلمة أو العبارة أو الصوت أهمية بالغة، وبالنتيجة البنية الصوتية والدلالية تتأثّران بالتکرار. رغم کل هذا الشاعر قد لايلفت الانتباه بالتکرار، فالکلمة ذات أهمية بنفسها لاتحتاج إلی التکرار. في المقطع السابع هناك کلمات "الله، الثورة، الغفران" تدخل في إطار هذه الکلمات المفتاحية التي لاتحتاج إلی التکرار. الله يبتدأ بالهمزة «وصوت الهمزة في أول اللفظة يضاهي نتوءاً في الطبيعة .. وهو يأخذ في هذا الموقع صورة البروز کمن يقف فوق مکان مرتفع، فيلفت الانتباه کهاء التنبيه. ولکن بفرق أنّ الهاء شعورية والهمزة بصرية. والصورة البصرية تتصف بالحضور والوضوح والعيانية.» (عباس، 1998م: 95) اللام مجهور متوسط الشدة، يوحي بالليونة والمرونة وهذه الايحاءات قد امتدّت بالألف، والهاء المهموس الرخو يوحي بأرقّ العواطف. إذن الله مضافاً إلی دلالته علی الخالق، واستدعاءه مُعجَماً للکلمات والدلالات والأحاسيس والأفکار، يبعث بأصواته موسيقی حلوة هادئة متلألأة في النص. کما أنّ هذه الکلمة قد جاءت في مقابل کلمات مثل "البَدو الرُّحَّل" و"روح قَبَلية"، الکلمات التي رمزٌ للتشتّت والقساوة والظلام. وفي هذا المقطع لايزال النون يظهر ظهوراً قوياً، ظهوره في القوافي في آخر الکلمات يهيّأ مکاناً ليستقرّ الصوت فالاستقرار والطمأنينة والرقة والجمال هي المعاني التي يوحي بها النون في آخر الکلام. (المصدر نفسه: 167) هنا النون جاء بعد الألف خلافا للمقطع السابق وهو جاء قبل الألف. هذا التغيير يوجد اختلافا محسوساً في الموسيقی والدلالة والأحاسيس، فالأحاسيس المحزنة شيئاً فشيئاً تتحوّل إلی الأحاسيس أکثر حيويةً وأملأ بالرجاء. الثورة، حرف الثاء يوحي بخصائص الأنوثة من الرقّة واللطف والدفء (المصدر نفسه: 65) واللافت للانتباه أنّ هذه الکلمة الأنثوية الإيحاء قد تجاورت مع "تولَد، رَحِم" المعبّرتان عن الأنوثة، والرحم هو رحم الأحزان فکل هذا يدلّ علی أنّ الثورة المدعوّة إليها لیست ثورة بالدلالة السياسية، بل ثورة نفسية عاطفية، أضف إلی ذلك أن القيام الذي يُدعَی إليه أيضا لايدلّ علی دلالة سياسية لأنّ الهدف للقيام "إکراماً للغاباتِ .. وللأنهارِ .. وللوِديان .. قومي إکراماً للإنسان ..". الغفران، الغين مجهور رخو، يوحي بالظلام والغیبوبة. الفاء مهموس رخو، محاکاة لطريقة النطق به من ضرب الأسنان الأمامية العليا علی الشفة السفلی وثم الانفراج بينهما لخروج النفس المبعثر، يوحي بالانفراج والتوسّع والانتشار برقّة. (المصدر نفسه: 172 و133) والراء يمثّل الحرکة والتکرار. هذه الصفات، الغيبوبة، والتوسّع، والحرکة والتکرار تتمثّل في تجاهل الغافر للخطايا وسعة صدره والحيوية التي تُنتَج عن المغفرة. في المقطع الأخير نحسّ بشيء من الهدوء، الميم الذي يتکرّر في "مازلت" مرات يوحي بالتماسك والرقة، وهذا المعنی يمتدّ بالألف، الزاي يوحي بالتحرك والانزلاق والاهتزاز واللام يوحي بالمرونة والالتصاق والليونة، کل شيء مستعدّ للتعبير عن الأحاسيس التي جرّبت الألم، صرخت الألم والآن هدأت وقرّرت الاستمرار رغم کل شيء، کما أنّ "مازلت" تدلّ علیه، الفعل الذي رغم ظاهره السلبي، له دلالة ايجابية فيتّسق مع الفضاء المتناقض في بيروت، "بيروت الظلم" و"بيروت العشق". والياء في وسط الکلمة ـ کما ذکرنا آنفاً ـ إذا کان ساکناً کأنه حفرة تصير مستقرة للکلمة، هذا الإيحاء يتّسق مع بيروت التي أصبحت مستقرة للدماء، والجواهر، والجوع، والشبع، والعشق، والذبح.
للصوائت النتيجة واضحة، الصائت الألف تردّد أکثر من الياء والواو ترددا غير قابل للمقارنة، هذا الصائت کما يقول ابن جني أوسع حروف المدّ وألينها. (ابن جني، 1985م: 8)
دراسة القصيدة في المستوی الترکيبي مع أنّ الاهتمام بالمستوی الترکيبي کان مع بداية التفکير البنيوي إلّا أن عبدالقاهر الجرجاني (ت.471هـ) قد أبان آراء هامة في هذا المجال کما عُرِفَ بـ "نظرية النظم" وهو يُعَرِّف النظمَ بأنّه «تعليقُ الکَلِم بعضُها ببعضٍ وجعلُ بعضِها بسبب بعض» (قبايلي، 2017م: 12) ويؤکّد في نظم الکَلِم أنّك «تقتفي في نظمها آثار المعاني وترتبها علی حسب ترتيب المعاني في النفس.» (الجرجاني، 1366ق: 40) فالنظم عنده ليس إلّا وضع الکلام علی ما يقتضيه علم النحو. (قبايلي، 2017م: 12) ففي کل لغة نتلقی المعاني بطرق خاصة وهذه الطرق تتمثّل في النظام النحوي للغة. (شاحطو، 2011م: 18) في الدراسة الأسلوبية لاننظر إلی التراکيب في الشعر کأنها ميّتة محايدة بل بوصفها تراکيب تؤدّي جزءا من معنی القصيدة وجماليتها، فإن التراکيب النحوية تتناغم مع باقي العناصر. (مفتاح، 1992م: 70) الجانب الآخر من المستوی الترکيبي يتخلص في کون الجمل إنشائية أو خبرية، الجمل الإنشائية تخلق الصور الشعرية وتنتج المعاني. في قصيدة نزار يبدأ المقطع الأول بالجملة الإنشائية، نفس الجملة المستعملة کالعنوان، هذه الجملة الندائية ابتدأت بحرف النداء "يا". النداء من أقسام الطلب الدالّ علی الاستحضار وهو إرادة الإقبال عليك. (محمد فارس، 1989م: 28) "يا" من الحروف التي ينادی بها البعيد أو في حکمه. (المصدر نفسه: 81) النداء بوصفه أسلوباً له دَورٌ جمالي في الکلام يدخل في إطار علم المعاني. في النداء قد ينزّل البعيد منزلة القريب أو بالعکس فحينئذ تستعمل أداة وفق السياق، فعندما يريد المنادِي أن يظهر علوّ المنزلة للمُنادَی بحيث کأنّه لبعد المسافة بينهما صار المنادَی بعيدَ المنال فيستخدم "يا". (المصدر نفسه: 158) الشاعر ينادي بيروت بعبارة "يا ستَّ الدنيا" فاستعمال "يا" يدلّ علی المکانة العالية للمنادَی. تُخاطَب بيروت بـ "ست"، الکلمة الواردة في اللهجات العربية الدارجة، تعني "السيدة"، و"الآنسة"، و"الجدة". تکمن فيها معنی "التکريم والتعظيم للمرأة"، اشتقّ من هذا الجذر الفعل "تستّت" يعني من يتصرف کسيّدة محترمة. (سبيرو، 1999م: 269) إذن "يا" و"ستّ" کلاهما قد اجتمعا للتعبير عن المکانة العالية لبيروت. غير مرّة تُنادَی بيروت بعبارة "ست الدنيا" وهذا التکرار يشدّد علی المکانة العالية لبيروت عند الشاعر، وإن تُنادَی بعبارات أخری حلوة رقيقة، عبارات تجذب قلب المرأة وکأني بالشاعر يعرف بالغ المعرفة بنقطة ضعف النساء اللاتي ترقّ قلوبهنّ بالکلمات الحلوة. الدلالة الأخری لأسلوب النداء هي التعبير عن الأحاسيس التي تعاني منها الشاعر کالحزن والحبّ والغضب. فالشاعر الذي يغضب لسوء سلوکات الناس وصراعهم معاً لا يعبّر عن غضبه بطريقة مألوفة، لا يقول مثلا «نحن فعلنا کذا وکذا وفِعْلَتُنا کانت کذا وکذا ..» بل يُخاطب بيروت من الأول إلی الأخير وکأنه بهذه الطريقة يعاقب الناس الذين لايليقون بالخطاب. فبيروت التي هي الأرض وهي المرأة عظيمة وکريمة يخاطبها الشاعر، يستميحها عذراً، يعترف بالخطايا نائباً عن الکلّ الذين يخجلون من الحضور أمام هذه الأرض الکريمة الغافرة للذنوب. فهذه القصيدة في الحقيقة تدخل في أدب الإعتراف فمن يليق بأن يخاطَب للإعتذار إلّا بيروت ومن يکون الأفضل من بيروت لِأن يوضع في مقام المعتَرَف إليه، فأسلوب النداء يوحي بمنتهی الندامة في ضمير النادمين، کما يوحي بمنتهی اللطافة لقلب بيروت، هذا الأسلوب ضاعف في الجوّ الرومنسي الرقيق للقصيدة. والأسلوب الإنشائي الآخر أسلوب الاستفهام. في المقطع الأول "مَنْ" تسأل عن الذين قد تصرّفوا تصرّفاً سيئاً أمام بيروت، إلّا أنّ الشاعر لايذکرهم مباشرة بطريقة خبرية، فالاستفهام مع أنّ المتکلم يعرف بالإجابة يؤثّر أکثر في المتلقّي، يثير حبّ الاستطلاع فيه، مضافاً إلی إثارة الأحاسيس المؤلمة لأنّ التصرّفات التي قام بها المسئول عنه وتأتي بعد "مَن" تصرّفات فظيعة مؤلمة. أحدٌ قد صادر الخاتم السحري للمرأة الجميلة، قصّ ضفائرها الذهبية و.... الاستفهام يوجد مکثاً لثوانٍ، المتلقي يفکّر في الموضوع للوصول إلی الإجابة، ثم التنغيم الخاص وارتفاع الصوت حين قراءة الاستفهام يضاعف في الشحنة العاطفية المؤلمة للکلام، کما يظهر مدی استغراب المتکلم وهو قد واجه المشاهد التي لايطيقها. ارتفاع الصوت هذا ينخفض في "ها نحن أتينا .. مُعتَذرين .. ومُعتَرِفين". فهذا الأسلوب قد هيّأ مجالاً للموسيقی، لارتفاع الصوت وانخفاضه وهذا الإيقاع جاء بمحاذاة المشاعر المتموّجة. التکرار الاستفهامي في استهلال الأسطر الشعرية يؤلّف شکلاً متماسکاً ويوجد العلاقة بين الأسطر، بحيث لايحتاج الشاعر إلی الإتيان بحروف العطف في بداية کل سطر للإتصال بينها لأنّ الکلمة "مَن" هي النقطة المشترکة بين الأسطر، فهذا التکرار يُنتج التماثل في البنية اللسانية والدلالية. الجمل في المقطع الأول جاءت اسمية والجمل الإسمية تدلّ علی الثبوت والاستمرار إلّا أنّ للخبر دَوراً في الدلالة للجمل أيضا. يقول الجرجاني: «وبيانه: أن موضوع الإسم علی أن يثبت به المعنی للشيء، من غير أن يقتضي تجدُّده شيئاً بعد شيء. وأما الفعل فموضوعه: علی أنه يقتضي تجددَ المعنی المثبت به شيئاً بعد شيء. فإذا قلت: زيد منطلق فقد أثبت الانطلاق فعلا له، من غير أن تجعله يتجدد، ويحدث منه شيئاً فشيئاً، بل يکون المعنی فيه کالمعنی في قولك: زيد طويل، .. وأما الفعل: فإنه يقصد فيه إلی ذلك. فإذا قلت: زيد هو ذا ينطلق فقد زعمت أن الانطلاق يقع منه جزءاً فجزءاً. وجعلته يزاوله ويزجِّيه.» ( الجرجاني، 1366ق: 134و133) فالجمل رغم کونها اسمية والمبتدا کلمة الاستفهام التي تطلب الصدارة، إلّا أن الخبر في الجمل أتت فعلية بالزمن الماضي فالشاعر يصف تصرّفات قام بها الأناس الجاهلون بالماضي، هذه التصرفات ليست تافهة قابلة للتجاهل لأنّ التراکيب الوصفية التي تعرّضت للتصرفات (الشفتان الرائعتان، العينان الخضراوان و...) تصف کُنهَ شناعتها. هذه التصرفات في الزمن الماضي کانت تتجدد إلا أنها انتهت والآن زمن الاعتذار والاعتراف. في المقطع الثاني تتکرّر الجمل الاستفهامية التي تبدأ بماذا ومَن، الشاعر لايبحث عن الإجابة بل لايزال يعبّر عن توجّعه ودهشته. کأنّ الاستفهام أقوی من الخبر للتعبير عن الإحساس. الأفعال التي تُستعمل "ماذا نتکلّم" أو "لاأفهم" تدلّ علی الزمن المضارع الذي يصف الحالة الراهنة وهي الحيرة والذهول، الشاعر لايفهم الأسباب "لاأفهم أبداً يا بيروت ...". هذا الجوّ المفعم بالأحاسيس قد اشتدّت بتکرار النداء "يا سنبلتي .. يا أقلامي .. يا أحلامي .. يا أوراقي الشعرية .." وهذه الکلمات تخلق فضاء المناجاة الرومنسية بين المتکلم والمحبوب، لأن النداء عندما يصير أسلوبياً ذا معنیً جماليٍّ لايدلّ علی النداء فحسب، بل يوحي بالحبّ والحزن والألم، فللشاعر ما هو أهمّ من الأحلام والشعر والقلم، وکلّ هذه قد تخلّصت في بيروت. في المقطع الثالث نواجه أسلوباً متغيراً بالنسبة إلی السابق. کما أن الإيقاع تغيّر تغيّراً جديراً بالعناية بفضل القاف، البنية الترکيبية أيضاً تعرّضت للتغيير بالأسلوب الإنشائي الطلبي "قومي" وتکرار هذه العبارة التي تشجّع بيروت علی القيام والحياة الجديدة التي توحي بها الجملة الندائية "يا عشتار". في هذا المقطع الجملة "أنتِ خلاصاتُ الأعمار" الجملة الإسمية الوحيدة التي بواسطة کون الخبر مفرداً تدلّ علی الثبوت والاستمرار، والجمل الإسمية کـ "الربُّ يريدُكِ .." لاتزال تدلّ علی التجدد والحدوث لأنّ الخبر فعلية. الجمل الندائية وإن تکون إنشائية وتحمل الشحنة العاطفية إلّا أنّها تکون فعلية لإتفاق البلاغيين والنحويين علی نيابة حرف النداء عن فعل "أدعو" أو "أنادي". البنية الترکيبية في المقطع الرابع تشبه کثيرا کالمقطع السابق إلّا أنّ الجمل "الآنَ عَرَفْنا ..." توجد بعض التغيير في المستوی الترکيبي. تقدّم المفعول فيه الدالّ علی الزمان في هذه الجمل الفعلية يؤکّد علی المعرفة التي تکون حصيلة الزمن الراهن، فکأنّ الخطايا السابقة کانت نتيجة عدم هذه المعرفة. في المقطع الخامس الجمل الفعلية "نعترف الآنَ .." تواصل باعتراف يشمل علی التصرّفات المستمرّة في الزمن الماضي الإستمراري "کُنّا ...." إلّا أن الشاعر يستدلّ بـ "کُنّا نجهل ما نفعل.." في اقتراف الخطايا. وهذه البنية الترکيبية تستمرّ في المقطع التالي مضافاً إلی الجمل "الآنَ عرفنا .." التي لاتزال الزمان مؤکَّدٌ عليه. في "الآنَ عرفنا .. أنَّ جُذوركِ ضاربةٌ فينا" المفعول به جملة اسمية والخبر مفرد وهذه تدلّ علی الثبوت کما أنّ الجملة الاسمية تظهر قناعات المتکلم ومعتقداته لدلالتها علی الثبوت. المقطع السابع مرکّب من البنيات الترکيبية السابقة من الجمل الإسمية مع الخبر الفعلي، والجمل الإنشائية الأمرية، والجمل الندائية. في المقطع الأخير لانجد الأفعال الماضية لأنّ ترکيب "مازِلْتُ .." الذي يتکرر مراراً يدلّ علی الزمان اللانهائي المشتمل للماضي والحال والمستقبل. والتراکيب الإضافية التي تهيمن علی المقطع الأخير کـ "يا بيروتَ الجوع الکافِرِ .. والشَّبَعِ الکافِرْ" عندما تتجاور مع الترکيب "مازِلْتُ .." توحي بالاستمرار واللانهاية. والجمال کل الجمال في تناقض هذه التراکيب الذي يضاعف في کَوْن حبّ الشاعر لبيروت حقيقياً رغم کل التناقضات المتواجدة في بيروت. في السطر الأخير "لماذا لا نَبتَدئُ الآنْ؟؟" الجملة الاستفهامية التي تبحث عن السبب لعدم الإبتداء من الآن، فعدم وجود السبب لعدم الإبتداء يؤدّي إلی ألف سبب للإبتداء لا من غدٍ أو بعدَ غدٍ، بَل من الآن، فهذه الجملة الاستفهامية لو کانت خبرية مثل "نبتدئ الآنَ" أو أمرية "تعالي نبتدأْ الآن" لما کانت توحي بالأمل الذي يوجد في کونها استفهامية. إذن في المستوی الترکيبي في هذه القصيدة التجدد يغلب علی الاستمرار لأنّ الشاعر يکشف عن الأفعال والتصرّفات التي أسفرت عن الحرب في بيروت. فيمکن أن نقول إن هذه القصيدة فيها شخصيتان رئيسيتان: بيروت والناس المذنِبون في الماضي والمعتذرون الآن، والطريقة لتقديم شخصية الناس من خلال التصرّفات وتقديم بيروت غالباً ما يتمّ من خلال التراکيب الإضافية والوصفية. علی أي حال الأفعال تغلب علی الوصف.
دراسة القصيدة في المستوی الدلالي هذا المستوی في الدراسات اللغوية يعدّ من المستويات الأساسية لأن توضيح المعنی غاية هذه الدراسات فالناس يتکلمون معاً من أجل التفاهم، إذن قد قام اللغويون بجهود کثيرة من أجل الوصول إلی منهج لدراسة الدلالة ومن هذه المناهج نظرية "الحقول الدلالية". الحقل الدلالي أو الحقل المعجمي هو مجموعة من الکلمات ترتبط دلالاتها، وتوضع عادة تحت لفظ عام يجمعها. مثلاً الأحمر، الأزرق، الأبيض توضع تحت "اللون" وعرّفه Ullmann «هو قطاع متکامل من المادة اللغوية يعبر عن مجال معين من الخبرة.» (مختار عمر، 1998: 79) ففي هذه النظرية المفردات لاتُدرَس مستقلة، لأن معنی الکلمة حصيلة علاقاتها بالکلمات الأخری داخل الحقل الدلالي. الحقول الأربعة الأهمّ التي قدّمت حتی الآن هي: 1- الموجودات 2- الأحداث 3- المجردات 4- العلاقات، والعلاقات التي تربط الکلمات بعضها ببعض في الحقل الدلالي عبارة عن: 1- الترادف 2- الإشتمال أو التضمن 3- علاقة الجزء بالکل 4- التضاد 5- التنافر (المصدر نفسه: 98 و87) في قراءة کلية للقصيدة يمکن أن نستخرج الحقول الدلالية التالية:
يمکن أن نعتبر حقول التصرفات منتمية إلی حقل أکبر أي حقل العلاقات، کما أنّ حقل المرأة والطبيعة ينتميان إلی حقل الموجودات. مع أنّ النسبة العالية لتردّد بعض الکلمات کـ "بيروت" أو "نَعترف" أو "ستّ" تؤثّر في دلالة القصيدة إلا أن الحقول الدلالية بنفسها تظهر دلالات. حقل التصرفات الخاطئة والعنيفة للإنسان أوسع من الأخری ثم حقل الطبيعة وحقل المرأة توضعان في الدرجات التالية. هذا يعنی أن الشاعر قد أکّد علی التصرفات العنيفة الإنسانية أمام بيروت التي ترمز إلی الطبيعة والمرأة والحرية والحبّ. النظرة للشاعر ليست نظرة فردية منطوية علی نفسه، لأنّ الأحداث التي يشاهدها تُزعجه، تثير فيها الأحاسيس المؤلمة، فيتألّم ويعبّر عن آلامه، يصف التصرفات العنيفة بالوضوح مستمدّاً من الألفاظ التي تکشف عن هذه التصرّفات وقد يستعمل صوراً تشدّد علی إثارة العواطف: ورأينا رأسَکِ .. / يسقُطُ تحتَ صخور الرَّوشَةِ کالعصفور
الرمز الأسطوري في المستوی الدلالي يکثّف توظيف الرمز دلالات النص کما يسبّب في استدعاء الفضاء التخييلي ويتفاعل مع التجربة الشعرية المعاصرة ويُحدث جِسراً بين الماضي والحاضر. الرمز کل إشارة أو علامة محسوسة تُذَکِّر بشيء غير حاضر. اعتبر یونغ الرمز الوسيلة الوحيدة المتيسّرة للإنسان في التعبير عن واقع انفعالي شديد التعقيد. فالعاطفة وبخاصة الدينية تُعجز العقل المنطقي عن تناولها في أبعادها وأعماقها فتتّخذ الرُّموز والميثات وسيلةً لولوج القلب البشري. في الأدب الرمز الإشارة إلی معنی غير محدّد بدقة ومختلف حسب خيال الأديب، بکلمة تدلّ علی محسوس أو غير محسوس. (عبدالنور، 1984م: 124و123) في تعريف آخر للرمز جاء «معناه الإيحاء، أي التعبير غير المباشر عن النواحي النفسية المستترة التي لاتقوی علی أدائها اللغة في دلالتها الوضعية.» (غنيمي هلال، 2008م: 315) الرمز المحوري الذي يظهر في قصيدة نزار کنقطة الذروة هو "عشتار" فبمجرّد ظهوره يتحول اللحن المأساوي إلی لحن ملحمي. نعم! لاتزال المآسي تُذکَر ولاتُنسی إلّا أنّ عشتار يظهر فيتسرّب الهواء في رئة الشعر المرُهَقَة. عشتار هي إلهة الحبّ والجنس والجمال والحرب والخصب. عند السومريين تسمّی بـ "إنانا"، في فينيقيا تسمّی بـ "إستار"، التسمية الأکاديّة "عشتار"، عند اليونان "أفروديت"، عند الرومان "فينوس"، في مناطق من الشرق الأدنی القديم "عشتاروت"، في مصر "إيزيس"، عند الفُرس "ناهيد" والأبرز من هذه الأسماء لهذه الإلهة "الأم الکبری" و"الإلهة الأم". کلمة عشتار عند البابليين والآشوريين تعني "الربّة وقوّة النسل". (زياد محمد سلمان، 2015م: 24-22) کان الإنسان القديم ينظر نظرة متعالية إلی الأرض، إلهة تحيي الأموات وهي منشأ الخير والنماء. وکانت توجد الصلة بين الأرض والمرأة لکونها مخصبة من جسدها تنشأ حياة جديدة، وهذه المرأة المخصبة مثّلها الإنسان القديم في عشتار، الأم الکبری التي أوجدت الحياة. (زياد محمد سلمان، 2015م: 22و21) في الأساطير العشتارية، عشتار هي الأم الکبری، تضع إبناً وهذا الإبن يصبح في الوقت نفسه زوجا وحبيباً لعشتار. هذا الإبن والحبيب يُطلَق عليه "دوموزي" في سومر، "تموز" في بابل، "أدونيس" في سورية، "أوزوريس" في مصر، "ديونيسيوس" عند الإغريق. (السواح، 2002م: 268) "أوزوريس" يعني "سيد القمر"، وهذا يشير إلی الخصائص القمرية لهذا الإله الإبن لأنه عاش ثمانية وعشرين عاماً فقط، اشارة إلی الدورة الشهرية لحياة القمر، (المصدر نفسه: 274) هذا الإله في الحقيقة الشق الذکري لعشتار الذي کان کامناً فيها فانفصل عنها إلّا أنه بقي جرءاً منها. فهما اثنان في واحد. إضافة إلی ذلك يتجسّد الرمز القمري لإله الإبن في الثور المقدس. (المصدر نفسه: 274و273) هذا الإله إضافة إلی أخذ الخصائص القمرية من أمه، شارکها في خصائصها کربة للإنبات ودورة الزراعة. جاء في الأساطير أن الأم الکبری ترسل ابنها أو حبيبها إلی العالم الأسفل، ثم تقضي الأيام في بکائه وعندما لايجدي البکاء تهبط إلی العالم الأسفل لاستعادته وتحريره من قبضة سيدة الموت، فتستعيده إلی الحياة إلا أن إقامته في العالم الأرضي لا يدوم، ويهبط إلی العالم الأسفل من جديد مبتدئا دورة أخری. (المصدر نفسه: 293) «فتموز، الثور القمري، قد غدا، مثل عشتار الخضراء، إلها للنبات ودورة الزراعة. فهو تموز الخضر (الأخضر)، رب الإنبات والدورة الزراعية، الإله الحي الميت، والميت الحي، الذي يهبط إلی باطن الأرض في الخريف، ويبعث من عالم الظلمات مع قدوم الربيع، ساحباً وراءه خيرات الأعماق وبرکات الرحم المظلم الذي خرج منه.» (المصدر نفسه: 277) کانت تتم في الشرق الأدنی طقوس البکاء علی تموز القتيل، روح القمح في شهر يوليو (تموز)، والإحتفال بعودة روح القمح القتيل إلی الحياة. (المصدر نفسه: 298) أسطورة عشتار وتمّوز تلفّها المأساة والمعاناة بسبب ندب عشتار الکثير علی تمّوز وقتل تموز بيد خنزير برّيّ. کان الناس يندبون موت الإله کل سنة في أعياد أدونيس، يحملون تماثيله ويشيّعونها ويلقونها في النهر، ويحتفلون ببعثه في اليوم التالي. (فريزر، 1979م: 153و152) في الشعر المعاصر الشاعر يُحمّل الأسطورة وظيفة الرمز فتصبح الأسطورة صورة مکثّفة للتعبير عن شعور أو فکرة عن طريق التجسيد الشعري، يتحدث الشاعر عن نفسه وعن وطنه من خلال نموذج أسطوري أو تاريخي يتخذه قناعاً، وهذا يؤدّي إلی إحياء التراث وکون القصيدة موضوعية بعيدة عن الترجمة عن الذات الشاعرة فالنموذج الأسطوري وراءه ذکريات حافلة بالمشاعر الإنسانية التي تُبعَث من جديد، له حياة مستقلة عن المبدع وهذا يوحي بموضوعية فکره وعمق مشاعره. (داود، 1975م: 231) إذن استعمال الأسطورة يزيد من عمق القصيدة وينقل التجربة من المستوی الشخصي إلی الإنساني. توظيف الرموز الأسطورية ايضا تحقق الإحساس بوحدة الوجود الإنساني لأن الشاعر يجد في الأساطير الماضية تعبيراً عن الحاضر، يدعو المتلقي إلی التعقل في العالم، کما أن الرموز بترکيز التعبير وتکثيف الدلالة تساعد الشاعر في الإقتصاد في لغة الشعر. (المصدر نفسه: 245) وأما بدر شاکر السياب فيری سبب إقبال الشاعر الحديث علی الأسطورة في انعدام القيم الشعرية في حياتنا الحاضرة لغلبة المادة علی الروح، لهذا يلجأ الشاعر إلی عالم آخر يحس فيه بالإرتياح ليبني عوالم يتحدی بها منطق الذهب والحديد. (عباس، 1972م: 286) في قصيدة نزار التناص مع أسطورة عشتار قد زاد في دلالة النص، لأنّ الأسطورة لون من المجاز والشاعر الذي يستعملها لايقصد حکاية الأسطورة، بل إنّه يوجد العلاقة بين التجربة القديمة والتجربة الجديدة فيستفيد من التقنيات المتوفّرة في الأسطورة من الحذف والإضافة والإستبدال ولاينقلها حرفاً بحرفٍ. ثم أن الشاعر المحترف يستعمل الأسطورة إستعمالاً وکأنّ الأسطورة لبنة من بنية النص في کل المستويات. في القصيدة النزارية قد تجاوز الرمز الأسطوري مجرّدَ الذکر إلی مستوی الإستلهام والإستحياء. عشتار ليس مجرد کلمة، روح عشتار تجري في أنسجة القصيدة کلها. بيروت هي مرأة جميلة معانية عذابات کثيرة بسبب أناس کالبدو الرُّحَّل لايدرکون الجمال ولايفهمون الحبّ. الشاعر يجسّد بيروت مرأةً بجسدها وروحها ومشاعرها الأنثوية وهذه الاستعارة تستدعي التشاکل الذي کان الإنسان القديم يقيمه بين المرأة والأرض للوجوه المشترکة بينهما من الخصب والحنوّ والحبّ والشعور بالأمن والأمومة. لذلك الإنسان المهاجر يشعر بالحنين عندما يبتعد من موطنه وهذا الشعور يشبه الشعور الذي يعيشه الإنسان بالنسبة إلی الأمّ. فبيروت هي مرأة، جميلة ومفعمة بالحيوية والحبّ والأمومة والحنان. قد تعذّبت کثیراً، سقطت إلی العالم الأسفل المعتم، فالشاعر يدعوها إلی الإنبعاث، إلی الحياة الجديدة، إلی الصعود من العتمة. مع أنّ الشاعر لايذکر الشخصيات الأخری المنتمية إلی هذه الأسطورة مباشرة إلّا أن عشتار دائماً يستدعي تمّوز، هذا الإله الإبن، الشابّ الجميل، الثور القمري الذي يوحي بالموت والحياة، فعشتار تهبط إلی العالم الأسفل لإحياء تمّوز واستعادته إلی عالم الأرض. لذلك أصبحت رمزاً للبعث والحياة الجديدة کما أن تموز يرمز إلی الخصب والحياة بعد الموت. اللافت للنظر هو أن الشاعر واعياً أو عيرَ واعٍ يستفيد في المقطع السابع "القمر": والقمرُ الأخضرُ .. عادَ أخيراً کَي يتزوّجَ من لبنان .. فهاتان الکلمتان "القمر" و"الأخضر" تستدعيان تموز الأخضر، بصفاته القمريّة، عادَ أخيرا من عالم الأموات ليتزوج من عشتار، لبنان. ثم يقول: إنّ الثورةَ تُولَد من رَحِمِ الأحزان هنا کلمة الثورة في البنية الصوتية تستدعي "الثور"، والولادة و"رحم" و"الأحزان" من مؤلِّفات تراجيديا عشتار، فهذه الکلمات وإن تکون قد جِيئَت بالصدفة ترجع إلی الصور البدائية في أعماق اللاشعور الجمعي للشاعر، للتعبير عن وحدة التجربة الإنسانية التي يعيشها الإنسان في لبنان، أو بدرجة أعلی الإنسان في العالم العربي أو في الدرجة الأخيرة الإنسان في کل العالم. فالإنسان إذا لم يعرف الحبّ والمعاملة الصحيحة مع الحبّ والمرأة والأرض يقتل الحبّ والحريّة والمرأة في وَجهَيْها المرأة والأرض. إذن عشتار ليس اسماً، کما ليس مجرّد أسطورة، عشتار هي الحبّ والأرض والمرأة والحياة وتوظيفها في القصيدة يکثّف دلالة النص کما يستدعي الفضاء التخييلي الدرامي لهذه الأسطورة، ثمّ توجد التفاعل بين التجارب الإنسانية في کل العالم لأن عشتار توجد في کل الحضارات ولاتتعلّق بحضارة دونَها، والبعد الجمالي لها لتأتّيها من اللاوعي الجمعي.
النتيجة هذه القصيدة تظهر نصاً قد نما شيئاً فشيئاً حتی في النهاية تمثّل في بنية ذات وحدة عضوية متّسقة أجزاؤها في المستويات الصوتية، والترکيبية، والدلالية. البحر قد جاء متناغماً مع المضمون لأنّ الخبب إيقاع سريع، فالبساطة المتواجدة فيه تسهّل الأمر للشاعر وکأنّه يقوم بمحادثة يومية. کون القصيدة أحاديّ التفعيلة أسفر عن الهارموني الذي بدَوره يوحّد بين المقاطع. العلاقة بين الصوت والدلالة من المؤلّفات الأسلوبية في القصيدة، هناك أصوات تتکرّر أکثر لأنّ الصفات التي تتّسم بها الأصوات ثمّ المعاني التي توحي بها تنسجم مع الدلالة. في البنية الترکيبية التواجد الأکثر للجمل الفعلية أو الجمل الاسمية بالخبر الفعلي يدلّ علی أنّ الشاعر لايريد أن يظهر قناعاته؛ هذه القصيدة تعبّر عن التصرّفات السيئة التي قام بها الإنسان الجاهل أمام بيروت التي أصبحت رمزاً للمرأة والحبّ والأرض، والآن الشاعر نائباً عن الکلّ يعترف ويعتذر. الاستعمال الکثير للأساليب الإنشائية مثل النداء والإستفهام قد خلق الجوّ المفعم بالأحاسيس کالحزن، والدهشة، والحبّ، والغضب. في المستوی الدلالي الحقول الدلالية الأکثر استعمالاً تنتمي إلی حقول التصرفات وحقول الطبيعة والمرأة وهذا يظهر رؤية الشاعر التي ليست فردية منطوية علی النفس؛ هو ينتبه بما يحدث في البيئة المحيطة به ويتألّم بحماقات الناس. رغم کل الهموم التي يعبّر عنها، لايزال يتفاؤل ويدعو بيروت إلی القيام والإنبعاث وأکثر ما يدلّ علی هذه الدلالة هو عشتار، الإلهة التي عانی کثيراً لکنّها أعادت تمّوز، إله النبات والخصب، من العالم الأسفل إلی عالم الأرض. اتّسق توظيف الرمز الأسطوري مع سياق القصيدة، لأن روح عشتار، ولا مجرد اسمها، جرت في القصيدة کلها. | |||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
مراجع | |||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الکتب
ابن جني، عثمان. (لاتا). الخصائص. الجزء الثاني. تحقيق محمد علي النجار. بيروت: دارالهدی للطباعة والنشر.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1985م). سر صناعة الإعراب. تحقيق الدکتور حسن هنداوي. ط 1. دمشق: دار القلم.
ابن خلدون، عبدالحرمان بن محمد. (1988م). مقدمة ابن خلدون. تحقيق حجر عاصي. بيروت: منشورات دار ومكتبة الهلال.
ابن منظور.(1988م). لسان العرب. بیروت: دار إحياء التراث العربي.
أنيس، ابراهيم. (لا تا). الأصوات اللغوية. القاهرة: مکتبة نهضة مصر.
بشر، کمال. (2000م). علم الأصوات. القاهرة: دار غريب للطباعة والنشر.
الجرجاني، عبدالقاهر. (1366ق). دلائل الإعجاز في علم المعاني. التعليق السيد محمد رشيد رضا. ط 3. مصر: دار المنار.
داود، أنس. (1975م). الأسطورة في الشعر العربي الحديث. القاهرة: مکتبة عين شمس.
سبيرو، سقراط. (1999م). قاموس اللهجة العامية المصرية. بيروت: مکتبة لبنان.
السواح، فراس. (2002م). لغز عشتار الألوهة المؤنثة وأصل الدين والأسطورة. ط 8. دمشق: دار علاءالدين للنشر والتوزيع.
عباس، حسن. (1998م). خصائص الحروف العربية ومعانيها. دمشق: منشورات اتحاد الکتاب العرب.
عباس، إحسان. (1972م). بدر شاکر السيّاب دراسة في حياته وشعره. ط 2. بيروت: دار الثقافة.
عبدالنور، جبّور. (1984م). المعجم الأدبي. ط3. بيروت: دار العلم للملايين.
غنيمي هلال، محمد. (2008م). الأدب المقارن. ط 9. القاهرة: نهضة مصر للطباعة والنشر.
فريزر، جيمس. (1979م). أدونيس أو تموز دراسة في الأساطير والأديان الشرقية القديمة. ترجمة جبرا إبراهيم جبرا. ط2. بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر.
فضل، صلاح. (1998م). علم الأسلوب مبادؤه واجراءاته. ط 1. القاهرة: دار الشروق.
محمد عيّاد، شکري. (1985م). اتجاهات البحث الأسلوبي. ط 1. الرياض: دار العلوم للطباعة والنشر.
محمد فارس، أحمد. (1989م). النداء في اللغة والقرآن. ط 1. بيروت: دار الفکر اللبناني.
مختار عمر، أحمد. (1998م). علم الدلالة. ط 5. القاهرة: عالم الکتب.
ناظم، حسن، (2002م). البنی الأسلوبية دراسة في "أنشودة المطر" للسيّاب. ط 1. بيروت: المرکز الثقافي العربي.
کوهن، جان. (1986م). بنية اللغة الشعرية. ترجمة محمد الولي ومحمد العمري. ط 1. المغرب: الدار البيضاء.
الهاشمي، أحمد. (2006م). ميزان الذهب في صناعة شعر العرب. التحقيق علاء الدين عطية. ط3. بيروت: مکتبة دار البيروتي.
مفتاح، محمد. (1992م). تحليل الخطاب الشعري (استراتيجية التناص). ط 3. بيروت: المرکز الثقافي العربي.
ملائکة، نازك. (1967م). قضايا الشعر المعاصر. ط 3. لامک: منشورات مکتبة النهضة.
وليك، رنيه ووارن، آوستن. (1992م). نظرية الأدب. تعريب الدکتور عادل سلامة. الرياض: دار المريخ للنشر.
هاف، کراهم. (1985م). الأسلوب والأسلوبية. ترجمة کاظم سعدالدين. بغداد: دار آفاق العربية.
يموت، غازي. (1992م). بحور الشعر العربي عروض الخليل. ط 2. بيروت: دار الفکر اللبناني.
المقالات
راشد، ذياب وإبراهيم داؤد، جمانة. (2015م). «السّمات الأسلوبية في قصيدة "بلقيس" لـ "نزار قباني"». مجلة دراسات في اللغة العربية وآدابها. العدد 20. صص 70 – 51
روستايی، علیرضا وروانشاد، علی اصغر وميمندی، وصال وبيانلو، علی. (2021م). «الأنساق الصوتية ودلالاتها في القرآن الکريم؛ سورة ابراهيم نموذجاً». مجلة الجمعية الايرانية للغة العربية وآدابها. العدد 58. صص 42-21
زهار، محمد وقسيس، الصالح. (2013م). «من وظائف الصوت وجمالية الإيقاع في النص الشعري الجزائري نماذج من قصيدة "فتاة الطهر" لسعد مردف». مجلة الممارسات اللغوية. العدد 20. صص 19-1
ساسي هادف، بوزيد. (2009م). «الدلالة الصوتية عند ابن جني من خلال کتابة الخصائص». مجلة حوليات التراث. العدد 9. صص 169 – 147
طالبي، جمال. (2015م). «الإيقاع الصوتي في قصيدة "بلقيس" لنزار قبّاني». مجلة إضاءات نقدية. السنة 5. العدد 17. صص 125 – 103.
عرفتپور، زينت وخسروی چیتگر، محمد. (1392ش). «الوحدة العضوية ودراستها في قصيدة "الطمأنينة" لميخائيل نعيمة». مجلة دراسات الأدب المعاصر. السنة 5. العدد 20. صص 32-9
محسب، محی الدين. (1998م). «الأسلوبية التعبيرية عند شارل بالي أسسها ونقدها». مجلة علوم اللغة. العدد 2. القاهرة: دار غريب.
قبايلي، حميد. (2017م). «نظرية النظم عند عبدالقاهر الجرجاني، دراسة في الأسس والمنطلقات». مجلة الأثر. جامعة عباس لغرور خنشلة (الجزائر). العدد 29. صص 20 – 11
Nasiruddin Bashiruddin, Mohammad, (2018), "Style and Stylistics: An Overview", Aayushi International Interdisciplinary Research Journal (AIIRJ), Volume 5, Issue 3.
Wales, Katie. 2011, A dictionary of stylistics, third edition, London and New York: Routledge.
الرسائل الجامعية
جهاد، رباحي. (2016م). «قصيدة "أنا قطار الحزن" لنزار قباني دراسة أسلوبية». الأطروحة لنيل شهادة الماستر. جامعة زيان عاشور الجلفة. الجزائر.
زياد محمد سلمان، نادية. (2015م). «تجليات عشتار في الشعر الجاهلي». الأطروحة لنيل درجة الماجستير. جامعة النجاح الوطنية، نابلس.
مروان، محمد سعيد عبدالرحمان. (2006م). «دراسة أسلوبية في سورة الکـهف». الأطروحة لنيل درجة الماجستير. جامعة النجاح الوطنية، نابلس.
شاحطو، علی. (2011م). «أثر المستوی الترکيبي في بناء الدلالات النصية». الأطروحة لنيل شهادة الماجستير. جامعة وهران، الجزائر. | |||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
آمار تعداد مشاهده مقاله: 2,803 تعداد دریافت فایل اصل مقاله: 613 |