تعداد نشریات | 418 |
تعداد شمارهها | 9,997 |
تعداد مقالات | 83,560 |
تعداد مشاهده مقاله | 77,800,519 |
تعداد دریافت فایل اصل مقاله | 54,843,323 |
المسرحية الشعرية العربية بين الأصالة والمعاصرة؛ "مصرع كليوباترا" نموذجا (دراسة نقدية مقارنة) | ||
إضاءات نقدیة فی الأدبین العربی و الفارسی | ||
مقاله 1، دوره 12، شماره 48، اسفند 2022، صفحه 9-33 اصل مقاله (255.32 K) | ||
نوع مقاله: علمی پژوهشی | ||
نویسنده | ||
مجید صالحبک* | ||
أستاذ مشارک في اللغة العربیة و آدابها. جامعة العلامة الطباطبائي. طهران. ایران | ||
چکیده | ||
أجمع الباحثون على أنّ أولى مراحل تأسيس المسرحية الشعريّة قد نهض بها شاعر عبقريّ فحل ألا وهو أحمد شوقي الذي اتّصل بالأدب الغربي بعامّة والأدب الفرنسي بخاصّة، فتأثّر بالمسرح الفرنسي الذي كان يطمح أن يحذو فيه حذو "كورني" و"راسين"، و"موليير" وبهذا قد أدخل هذا القصّ المسرحي وكلونٍ جديد في اللغة العربية، وقد اضطرّت تلك الرصانة والجزالة المعهودة والملتزمة في الشعر العربي شوقي، ليتّجه من بين أنواع المسرحيات الشعريّة صوب المسرحية الشعريّة التاريخية لينأى بأدبه من الألفاظ اليوميّة واللغة الحياتيّة المعاشة التي تتّسم بها المسرحية، فارتفع بأسلوب تلك المسرحيات الشعريّة التاريخيّة، ومن بين مسرحياته الشعرية التاريخية، وقع اختيارنا على مسرحیة "کلیوباترا" التي أراد منها الدفاع عمّن صورهم التاريخ في صورة ينقصها الولاء للوطن. وقد دافع في مسرحيته "مصرع كليوباترا" دفاعاً مميتاً عن كليوباترا التي رأى فيها أنّ المؤرخين الغربيين قد ظلموها أيّما ظلم فصوّروها - حسب تعبيرهم - في صورة امرأة لعوب غاشية لاهية لا تعنيها مصلحة وطنها مصر، فصوّرها شوقي ملكةً وطنيةً تنمّ عن حبّ جارف لبلدها مصر، ويعبّر عن إخلاص صادق لها. علماً بأن جميع مسرحيات شوقي الشعريّة التاريخيّة، قد تطرّق فيها إلى الحياة المصريّة عبر العصور المختلفة وإلى مواطن التحول التي كانت تطرأ عليها حينما تضعف دولتها فيكافح حكامها للحفاظ على كيانها واستقلالها. وقد كان أحمد شوقي في مسرحياته الشعرية التاريخية لم يكتف بعرض الأحداث والوقائع التاريخية وتصوير شخصياتها في إطار مسرحي دون هدف مقصود، بل كان ديدنه من عرض تلك الأحداث والشخصيات هو اختيار ما يراه ذا دلالات خاصّة، قد تكون تلك الدلالات أخلاقية، أو اجتماعيّة، أو سياسيّة، وحتى نفسيّة. ثمّ يبادر إلى بناءها فنيّاً مسرحيّاً متكاملاً مستوعباً كلّ السمات الفنيّة للمسرحيّة الناجحة وقد استطاع أن يجعل أبطاله رموزاً لمعانٍ انسانيّة ساميّة وعليه يمكننا القول أن المسرح الشعري، قد تأسّس وازدهر على يد هذا الشاعر الإحيايي أحمد شوقي. | ||
کلیدواژهها | ||
أحمد شوقي؛ راسین؛ کورني؛ شکسبیر؛ المسرحية الشعرية؛ كليوباترا | ||
اصل مقاله | ||
لقد مرَّ المسرح العربي الشعري بمراحل مختلفة، منذ نشوئه حتى أيّامنا هذه، وتبدأ المرحلة الأولى ممّا يمكن تسميته؛ المسرح العربي الشعري قبل شوقي، وتمتدّ بين 1876– 1927م؛ وكما هو معروف، فإن الشيخ خليل اليازجي، هو أوّل من كتب المسرحية الشعريّة، وكانت بعنوان "المروءة والوفاء" ، وقد جاءت في فترة كانت تشهد نوعاً من إحياء الآداب العربية، ولقد نظر اليازجي في التاريخ واقتبس منه موضوعه انسجاماً مع هذه الحركة الإحيائية. )الأحمد،1972م: 39)؛ وظهرت طبعتها الأولى سنة 1876م ومثّلت على مسرح بيروت1888م. ورأينا محمد عثمان جلال قد عرّب بعض المسرحيات الأوربيّة شعراً، وإن لم يرق إلى مستوى خليل اليازجي من حيث الديباجة وقوّة التعبير وسلامته، بل كثيراً أدخل فيه الألفاظ الدارجة، كما ترجم بعض المسرحيات زجلاً. وإنّه لما أتى أبوخليل القباني إلى مصر واهتمّ بالتاريخ العربي والإسلامي جعل لغة المسرحيات شعراً أحياناً وأحياناً أخرى نثراً مسجوعاً، يتخلّله كثير من الشعر في المواقف الحماسيّة والعاطفيّة. ونرى هذا الأسلوب الذي يختلط فيه الشعر والنثر المسجوع في مسرحية "عجائب الاقدار" لمحمود واصف؛ وتسير المسرحية المصريّة على هذا النمط يختلط فيها النثر بالشعر حتى مسرحية مصطفى كامل "فتح الأندلس" وذلك لأنّ أسلوب المقامة، ولا سيّما في الأدب كان شائعاً في ذلك الوقت، وبه ظهرت "حديث عيسى بن هشام" لمحمد المويلحي و"ليالي سطيح" لحافظ إبراهيم، وأسلوب المقامة كما هو معروف، فيه نثر مسجوع وشعر مصنوع. (الدسوقي، لاتا: 43؛صالح بک، 2002م: 91- 119) ومن المحاولات الأخرى ما ذكره الشاعر والمؤرخ المهجري جورج صيدح من أنّه حضر مسرحیة مكتوبة شعراً، أثناء دراسته في كلية عينطوره في لبنان بين عامي 1910-1911م، وكانت المسرحية من تأليف نقولا فياض وناصرالدين، وقد أشار صيدح أيضاً الى مسرحية شعرية في المهجر العربي بأميركا، ألا وهي مسرحية "جزاء المكر" للشيخ رشيد عطية (1881-1956م) وصحفي لبناني اتّخذ البرازيل مستقراً له. (الأحمد، 1972م: 41-42) أمّا مسرحيات سليمان البستاني، فيبدو أنّها، لم تسترع انتباه لويس شيخو، إذ انّه، ذكر عرضاً في كتاب الآداب العربية في القرن التاسع عشر عنوانين فقط. وقد اجتذبت قصّة المهلهل كاتبين شاعرين هما محمد عبدالمطلب، ومحمد عبدالمعطي مرعي، فصنعا منها مسرحية مدرسية، ثم لجأ المؤلّفان المذكوران مرّة جديدة الى التاريخ الجاهلي، فاختارا هذه المرّة "ملك الشعراء" امرأ القيس، وصاغاحياته مسرحية شعرية؛ (شیخو، 1910م: 42و111) ولكن أخصب المؤلفين المسرحيين في هذه الفترة التي سبقت عام 1927م، كان عبدالله البستاني (1854-1930م)، وقد كتب البستاني عدّة مسرحيات، لم يجر الاحتفاظ بها، وبقي منها "مقتل هيروموس". وتتميّز هذه الفترة من المسرح العربي الشعري بكونها تضمّ مسرحيات مأخوذة من التاريخ القديم وهي ترمي بشكل عامّ شامل، إلى إثارة وتطوير الحسّ القومي والشعور الأخلاقي. (الأحمد، 1972: 43-44) وعلى هذا الأسلوب أنشأ شوقي في أوّل حياته الأدبيّة، مسرحيّتين إحداهما "ورقة الآس" وثانيهما "داسياس" والغرض من هذا العرض السريع، هو القول بأنّ شوقي، لم يبتدع المسرحية الشعرية، وليس أول من ذلّل الشعر العربي للمسرحية. (الدسوقي، لاتا: 44) ومن نوافل القول إن هذا البحث قد اتخذ المنهج الوصفي-التحليلي طريقة للوصول إلى غايته.
أسئلة البحث 1-كيف يتجلّى موقف أحمد شوقي من الأحداث التاريخية المتعلقة بمصر والأمة العربية، بالمقارنة مع موقف أفذاذ الأدب الغربي کـ"راسین"، و"کورني"، و"شکسبیر"، والمصادر التاريخية الغربية؟ 2- ما هي القواسم المشترکة والفوارق بين الشعر التمثيلي العربي المتمثّل بأحمد شوقي وبين الفنّ المسرحي الأروبيّ؟ 3- كيف يتلاعب أحمد شوقي مع عناصر بناء المسرح الكلاسيكي والمسرح الشكسبيري، متجهاً فيه نحو الأهداف المحلية والقومية؟
فرضيات البحث 1- من الطبيعي أن يكون موقف شوقي تجاه الأحداث التاريخية المتعلّقة بتاريخ مصر والأمة العربية، موقفاً مختلفاً، يخدم مصالحه الوطنية والقومية ضارباً فيه عمّا ورد عند الأمم الأخرى والمصادر الأجنبية، وإنْ كانت حقائق تاريخية، لأنّ لكلّ شعب نظرته ونظّارته، فضلاً عمّا يُحقّ الأديب لنفسه أن يحرّف الحقائق التاريخية لعرضها في ثوب أدبي. 2- لم يكن من المعقول أن يتأثّر شوقي بالمسرح الغربي، من دون أن تكون هناك قواسم مشتركة بين اتّجاهه وبين الاتّجاه الغربي، فطبيعة التأثر تقتضي وجود مشابهات بين المؤثّر والمتأثّر، ما عدا الحالات والأغراض التي لا تخدم اتّجاهه الوطني والأدبي. 3- بما أنّ الفنّ المسرحي والشعر التمثيلي، لم يكن متجذّراً في الأدب العربي وهو دخيل على الأدب العربي المعاصر، فلذلك أدخله شوقي في الأدب المعاصر متلاعباً به، وأعطاءه طابعاً عربياً لكي يخدم أهدافه.
سوابق البحث هناك دراسات عديدة تناولت حياة شوقي الأدبية ومسرحه الشعري، غير أنّ هذه الدراسات، حسب معلوماتنا وحسب تصفّحنا في الأوراق، لم تتطرّق بصورة خاصّة إلى المقارنة بين مسرحيات شوقي ولاسيّما مسرحیة "مصرع كليوباترا" المتأثّرة بالمسرح الكلاسيكي الغربي وبين ما صدر في هذا المجال، ماعدا الدراسة التي قام بها صلاح عبدالصبور في مقاله تحت عنوانه "كليوباترا بين شكسبير وشوقي"، نشرت في مجلة الهلال عام 1976م. وأمّا الدراسات المرتبطة الأخرى فهي "دراسات في الأدب المقارن والنقد" للدكتور صبحي ناصر حسين. و"من فنون الأدب" للدكتور عبدالقادر القط، و"الأدب المقارن" لمحمد زكريا عناني؛ فقد أفدت منها جميعاً وأخذتها بنظر الاعتبار. أحمد شوقي والمسرح الشعري مهما يكن من أمر فانّ فضل شوقي، يعود إلى شعره التمثيلي في مسرحياته، فهو الذي أدخل هذا الفنّ على الشعرالعربي، وذلك، لأنّ الأدب والشعر التمثيليين، جديدان على الأدب العربي، لا تمتدّ جذورهما إلى أبعد من قرن. (جحا، 1999م: 49) فقد تطوّرت المسرحيّة الشعريّة، عند شوقي، فاتّسع أفقها، وتعدّدت مصادرها، وشملت المجال التاريخي والمجال العصري، وتأثّر مسرحه، بتلك الألوان الفرنسيّة والكلاسيكيّة للمأساة التي تدور حول الأبطال من الملوك، وتدورحول الحوادث الكبرى وقوامها الحبّ والصّراع والحرب والخيانة. (الفن المسرحي، شوکت، 1970م: 67) فلذلك يعتبر شوقي رائد المسرح الشعري في مصر، ومنشئ الشعر التمثيلي في اللغة العربية، فهو أوّل من قام بكتابة مسرحية شعرية موزونة، في لغة رصينة فصيحة، في وقت كان الجوّ خالياً إلّامن محاولات ضعيفة، وكانت فيه اللغة العاميّة تطغى على المسرح المصري، ولم تكن تمثّل عليها مسرحيات حقيقيّة، وإنّما كانت تمثّل عليها حكايات مضحكة على نحو ما هو معروف. (صالح بک، 2002م: 145) وجاء إبداع شوقي في مسرحه الشعري مواكباً للنهضة المسرحيّة في مصر، ولكن هذه النهضة وإن بدت في أولها مختلطة المعالم، لا تتبيّن فيها ملامح خاصّة للشكل ولا للمضمون، فالخلط بين المترجَم والممصّر، والمعرّب، والمؤلّف بين التاريخي، والاجتماعي والسياسيّ، والتراجيديّ والكوميديّ، وبين الكلمة الرفيعة والشعر الرصين، والكلمة الدارجة المبتذلة والعاميّة المفصحة؛ جاء شوقي حال المسرح هكذا، فأراد أن يرتقى بالكلمة وأن يجرّب هذا النوع الجديد من الأنواع الأدبيّة الذي لم يعرض على هذه الصورة في الأدب العربي، وقد كان لشوقي محاولات تجديدية كثيرة في الشعر، حاول فيها أن يقتحم مجالات، لم تعرفها العربية، كالملحمة والقصّة القصيرة. (زغلول، لاتا: 165) وعلى هذا، فان مسرح شوقي، لم يكن مجرد "حكايات مضحكة" بل كان مسرحا يتضمّن الكوميديّ والتراجيديّ، العالميّ والمحليّ، الغنائيّ والإلقائيّ؛ اتّجه شوقي كغيره من الأدباء إلى التراث يستلهمه، يمدّه في ذلك عون من إطلاعه وثقافته في الأدب الفرنسي الذي عايشه زمناً، فاتّخذ منه نموذجا يحتذيه وتأثّر بكثير من روّاده و كبار شعرائه، وفي نفس الوقت تأثّر شوقي - كما هو شأن كلّ فنّان - بالعوامل الأخرى كالظروف المحيطة، من ظروف سياسيّة واجتماعيّة و... إلخ. (صالح بک، 2002م: 146) لم يكن من اليسير على شوقي، وقد تمرّس، بالشعر الغنائي أن يبرع في الشعر المسرحي دفعة واحدة ويجمع بين الصياغة القويّة، وحسن الأداء، وبين مقتضيات الفنّ المسرحي، وهو لم يعالجه من قبل، ولذلك نرى فنّه المسرحي يتطوّر بالتدريج. كان يكثر من المقطوعات التي هي من صميم الشعر الغنائي في مسرحياته الأولى "مصرع كليوباترا" و"مجنون ليلى"، ولاسيما في مواقف الغزل والرثاء والفخر، وقد ابتدأ فنّه المسرحي في أوّل الأمر اقتباساً ثمّ سار نحو الابتكار الجديد، ومن منهج تركيبي، إلى منهج تحليلي، من منهج وصفي تتحرّك فيه الحوادث تحت تأثير الصدف، وتوصف فيه الحوادث والشخصيات وصفاً لايمثّل الحركة على المسرح، إلی منهج تحلیلي یعمد إلی أن تعبّر الشخصیات والحوادث عن نفسها عملیّاً علی المسرح. لقد كان وراء شوقي في أول الأمر ماضيه في الشعر الغنائي. ووراءه كذلك الجمهور الذي يعجب ويطرب لهذا اللون من الشعر. وقد أتاحت لشوقي دراسته في فرنسا، فرصة الاتصال بالمسرح والاطلاع على الأدب المسرحي وقد عُرِف عنه أنّه كان كثير التردّد على مسرح "الكوميدي فرانسيز" كلّما وأتته فرصة لزيارة العاصمة الفرنسيّة. (الدسوقي، لاتا: 45) ولكن شوقي بجانب هذا كلّه، قد قرأ الكثير من الأدب الفرنسي والأدب التقليدي ممثلاّ في كورني وراسين وموليير، وقد قرأ الأدب الإبداعي لدى هيجو وشكسبير(مترجما) وعلم شوقي أنّ هيجو قد تأثّر بشكسبير: هنري الرابع، وهنري الخامس، وكليوباترا، ويوليوس قيصر، والملك لير، وأخرج هيجو: ماري تيودور وكرومويل من تاريخ إنجلترا الحديث وهزناني من تاريخ الأسباني، أثناء محاكم التفتيش وغير ذلك. (حسین شوقي، 1947م: 109-110) فقد تأثّر شوقي بكلّ هذا إذ رأى أعلام الأدب الأوربيّ يتّجهون إلى التاريخ، فلجأ يستقي منه موضوعات مسرحياته ورأى النزعة القوميّة الطبيعيّة غالبة على المدرسة الفرنسيّة المعاصرة تسايرها في وجهتها؛ وإحياء التاريخ المصري فرعونياً أو عربياً أو إسلامياً كان يعدّه شوقي اتجاهاً قومياً. ورأى جمهوره لا يزال ميّالاً إلى الغناء، فأكثر من مقطوعاته الغنائيّة، فضلاً عن أنّه لم يستطع هو نفسه التخلّص من فنّه الغنائيّ الذي مارسه طول حياته في قصائده. بدأ شوقي يكتب للمسرح من عام 1927م، وظلّ هذا اللون من الكتابة أهمّ ما شغله إلى عام 1932م، وفي هذه الفترة ألفّ خمس مسرحيات شعرية جديدة، وأعاد كتابة المسرحية القديمة التي كان قد كتبها في الفترة السابقة سنة 1893م،كما كتب مسرحيّة نثريّة. (هیکل، 1983م: 302) لم يتوان أحمد شوقي عندما توفّرت المقوّمات الحضاريّة لوجود الشعر المسرحي في الأدب العربيّ، عن تمثّل أدب الأمم الأخرى وشحذ موهبته لتأليف هذا اللون من الشعر غير القائم على الصوت المنفرد للشاعر وغير المتّصل بقصيدة قائمة بذاتها، تفي بغرض من أغراض الشعر العربي القديم كالمديح أو الهجاء أو الفخر، بل في ذلك اللون التراجيديّ أو الكوميديّ الذي طوّره الإغريق والذي يحاكي الفعل ويتوزّع على شخوص. ولقد اتّجه شوقي إلى الكلاسيكيين الفرنسيين من روّاد المأساة والملهاة في القرن 17م، من أمثال كورني وراسين وموليير، يسترشد بمسرحياتهم وآرائهم، وإن انتجع غيرهم، فكما أحيا الشاعران الفرنسيان المأساة بعد تعطّلها وكتباها بالشعر، أحياها وكتبها شعراً و كما أبه موليير بالكوميديا، ألفّ شوقي ملهاة "السّت هدى" وكما احتفل كورني وراسين باختيار موضوعاتهما من التاريخ الروماني أو الإغريقي الأسطوري أو الشرقي، عني شوقي باختيار موضوعاته من التاريخ أيضاً. (کمال اسماعیل وعبد المنعم اسماعیل، 2006م: 19) ففي فنّ شوقي تجتمع آثار دراسته العربية وشعره الذي مارسه، مع آثار دراسته الغربية الفرنسيّة ، لاسيّما مسرح راسين وكورني وموليير، من اعتماد على سموّ الشعر وبساطته، مع الاستغناء عن الحركة العنيفة على المسرح، ومع الاعتماد على دراسة العيوب الإنسانية العامة، كالبُخل وظهرت آثار دراسته الغربية المباشرة وغيرالمباشرة للمسرح الانجليزي لاسيّما لمسرح شكسبير، إذ حذا حذوه في كتابة سلسلة من المسرحيات المقتبسة من التاريخ القومي (الفن المسرحي، شوکت، 1970م: 69)، فأخذ من تاريخ مصر ومن أساطير العرب، وكما انتخب راسین وکورني قطاعاً محدوداً محاكياً للحياة يتضمّن أزمة يتصارع فيها عامل نفسي كالحبّ أو الغيرة، مع مبدأ أخلاقيّ كالشرف والمجد؛ حاول شوقي أن ينهج نفس المنهج. (کمال إسماعیل وعبدالمنعم إسماعیل، 2006م: 19) وقد اختار شوقي من التاريخ ما يقوم على الشهرة، ويدور حوله عاطفة الحبّ في مجال راق، ويمزج حقائق التاريخ بموضوع غراميّ، وقد اتّسعت لوحة المسرحية لإظهار ألوان فنّية، من الصراع النفسي والحسّي، ومن المفاجأة والنقد، واتّسعت لتصوير عبرة التاريخ على لسان الأفراد، والفكاهة، تتبع من مفارقات الحوادث، وتطوّر تأليفه الفني في هذا النطاق (المصدرنفسه: 75) وقد اختار شوقي لمآسيه المجال التاريخي، كما اتّخذ لمسرحياته هدفاً أخلاقياً متأثّرا في كلّ ذلك بالكتّاب الكلاسيكيين الفرنسيين وخاصّة كورني، وفي سبيل هذه الغاية كان يسمح لنفسه أن يغيّر بعض التفصيلات التاريخية ويحوّر في بعض الأحداث، ويفسّرها تفسيرا يتلاءم مع الهدف الذي يقصد إليه. (هیکل، 1983م: 303) لقد حجب شوقي الحقائق التاريخية في مسرحياته وعدّلها وفق هدفه وخطّته، وقد قيل إنّ شوقي له حقّ في الابتكار، استناداً لملاحظات أرسطو على الشعراء اليونانيين واختراعهم شخصيات لم يذكرها التاريخ، وربّما لشيوع ذلك لدى المسرحيين الكلاسيكيين مثل راسين الذي لم ينقل شخصياته التاريخية بخصائصها وتفصيلاتها المعروفة. ولقد يخفي شوقي معالم بعض الأحداث المشكوك فيها وما استقرّ لدى الثقات من حيث إنها موضوعة، فيجري فيها خيطاً براقاً من تاريخ ثابت سياسي على سبيل التوثيق والتعيين، فيزيد الأمور مباعدة عن منال الحكم بالمغايرة، فإذا الكذب التاريخي صدق فنّي إيهامي معيش. والمثال على ذلك ما أجده من الکتب التاریخیة. (کمال إسماعیل وعبد المنعم اسماعیل، 2006م: 21) دخل شوقي إذا ميدان المسرح مزوداً بشاعريّته المرهفة، ومقدرته على صياغة الكلمة الراقية وبثّ العاطفة السامية والدعوة إلى كريم الخلق ورفيع السلوك وشارك غيره في هذا المجال للارتفاع بمعنوية الفرد المصري من خلال الرقيّ بأحاسسيه وتربية وجدانه وفكره، فكان مسرح شوقي الشعري إلى جانب قصائده التي طالعت الناس كلّ يوم بجديد من بديع اللفظ ورفيع الأحاسيس حتّى وفاته. لقد يمّم شوقي شطر التاريخ، فكتب ست مآس تتعلّق ثلاث منها بأزمات مصر في تاريخها القديم والوسيط في حقب مكفهرة عصيبة، وهو في ذلك يماثل شكسبير الذي كتب بعض مآسيه عن ملوك إنجلترا أيّام محنتها وهذه المآسي المصرية الثلاث هي، مصرع كليوباتره وقمبيز وعلي بك الكبير. ولم يترك شوقي المادة التاريخيّة تتحكّم فيه، بل كان يعدلها وفق هدفه وخطّته. يقوم مسرح شوقي في صورته العامة على النمط الغربي من أنّه يتناول في كلّ مسرحية موضوعاً يعرضه بواسطة شخصيات تتحرّك وتتحاور على خشبة المسرح ويتطوّر الموضوع إلى أن يصل إلى أزمة ثمّ ينتهي بحلّ تلك الأزمة. أمّا الروح التي يتناول بها الموضوع والأفكار والأحاسيس، والاتجاهات الأخلاقية، فضلاً عن أسلوب المعالجة الفنيّة والوسائل العقليّة والجماليّة فقدكانت شرقيّة عربیة. (زغلول، لاتا: 167) مسرحية مصرع كليوباترا لم يتح لموضوع من الموضوعات الأدبية التاريخية، كان يلقى رواجاً في الأدب، مثل ما لقيه موضوع كليوباترا خصوصاً في الآداب الغربية، ذلك لأنّ الأحداث التاريخيّة التي تتضمّنها غنيّة بمعانيها، غريبة في موضوعاتها، كما أنّ هذه الموضوعات دخلت على يد عباقرة، بذلك أصحبت تلك الموضوعات أفكاراً عامّة، اجتماعيّة وسياسيّة وفلسفيّة، إضافة إلى الإطار الأدبي الذي كان أساساً غالباً، وربّما اكتسبت طابعاً أسطورياً للتعبير عن فلسفات مختلفة أصحبت بعد ذلك منفذاً لتيارات فنيّة وفكريّة عالميّة. إضافة إلى أنّ الغرابة في موضوعها تقترب من القصص الخيالية في وقائعها. فمن مظاهر الأبهة والجمال في الأعياد والمآدب إلى سيطرة العواطف وسلطان الحبّ الجارف، تقوم المآسي التاريخية والوقائع الحربية ذات الأثر الخطير، ثمّ تنهار بها الممالك وتتحطّم عليها آمال الحبيبين. (حسین، 2012م: 63) و وراء كلّ هذه، شخصيّة فذّة قويّة هي كليوباترا التي جمعت إلى جلال مكانها وثقافتها الواسعة، وذكائها النادر صفات الأنوثة الكاملة. عاشت حياة مليئة بالمجد والمتعة واللّذة والانتصار. حتّى إذا رأت كلّ هذا يتراجع ويتهاوى، لم تتهيّب من الموت، فانهت حياتها، فكأنّما انتصرت بذلك على أعدائها بموتها، مثلما انتصرت في حياتها على الأباطرة. ولكي ندخل إلی معالم تلك الشخصيّة لابّد أن نعرض موجزاً للأحداث التاريخية التي دارت في إطارها معظم الأعمال الأدبيّة في الغرب والشرق. تدور الحوادث بعد معركة "أكتيوم" حيث نزلت جيوش أكتافيوس وقابلتها جيوش أنطونيو، ولقد امتنع المصريون عن مساعدته، انتصر في اليوم الأول، وحين جاء "المساء" أوقف أنطونيو المعركة التي كان عليه أن يستأنفها، إذ ذهب إلى كليوباترا وقضى ليلته، ولم يفكّر في أمر المعركة في اليوم التالي. فدارت عليه الدوائر، ففرّ مذعوراً ثمّ بلغه. إنّ كليوباترا قد انتحرت حزناً عليه، وكانت هذه مكيدة، فطعن أنطونيو نفسه وأدركته كليوباترا في النزع الأخير وآثرت ألّا تقع أسيرة بيد أكتافيوس فأعطاها الكاهن حيّة لدغتها فماتت. (العفیفي، 1978م: 91) وهناك روايات أخرى تختلف عن هذه الرواية حول علاقتها بأنطونيو. (دراسات أدبیة، هلال، 1953م: 84؛ ندا، 1975م: 170) الغرب وكيلوباترا في الغرب كان موضوع كليوباترا من الموضوعات التي تناولتها كتّاب المسرح منذ عهد النهضة الأوربیّة حتى القرن العشرين، لعبت كليوباترا دوراً كبيراً بجمالها وشخصيتها في الصراع الكبير الذي دار، إذ وقع هذا الجمال الأخّاذ وتلك الشخصية المهيمنة القائد الروماني أسيراً لحبّها، رغم أنّ الحبّ عاطفة فرديّة هيّنة، لكنّها تمخّضت في شخصيّة كليوباترا عن نتائج خطيرة، وطنيّة وعالميّة، فتلك الشخصية تهيّأت بمعانيها العاطفية، ونتائج أعمالها التاريخيّة للدخول إلى الآداب العالمية من أوسع الأبواب، إذ كانت تمثّل القوّة وسحر الإغراء والكبرياء وحبّ السيطرة والاعتداد بالنفس. (الأدب المقارن، هلال، 1953م: 131) وعلى صعيد الأعمال العالميّة الغربيّة، أغنت شخصيّة كليوباترا المسرح بكثير من الروايات والمسرحيات، منها: اثنتان باللغة اللاتينيّة، وخمس عشرة مسرحيّة فرنسيّة، وستّ مسرحيّات انكليزيّة، وأربع مسرحيّات إيطاليّة. (دراسات أدبیة مقارنة، هلال، 1985م:101) وأوّل مسرحيّة فرنسيّة في عصر النهضة كان موضوعها كليوباترا للشاعر"جودل" (1532- 1573م) بعنوان "كليوباترا الأسيرة" ثمّ ألّف صموئيل دانييل الانكليزي مسرحيّة كليوباترا 1594م. (حسین، 2012م: 67) وعندما تناول شكسبير في مسرحيته "أنطونيو و كليوباترا" صارت الشخصية عالميّة في الأدب، فتناولها "جون درايدن" في مأساته "كلّ شيء من أجل الحبّ" 1678م. ومن أهمّ الأدباء بعد شكسبير الذي تناول هذه الشخصية "برناردشو" في ملهاته "القيصر وكليوباترا" عام 1899م، ثمّ نشرت 1912م وغير هؤلاء كتب "إميل لودفيج" روايته "بنت النيل" وكان متأثراً بما كتبه المؤرخ "بلوتارك" غير أنّه نعتها بأسوأ نعوت. (الأدب المقارن، هلال، 1953م:311) والحقّ أنّ معظم الأدباء اعتمدوا على تاريخ بلوتارك. هذه الاستعانة على ترجمات هذا المؤرّخ، جعلت الأدباء الغربيين بشكل عامّ يتّفقون على مسائل ومواقف موحدة من كليوباترا، فهم يتّفقون على تصويرها، بأنّها المرأة اللّعوب، التي تستخدم أنوثتها وجمالها للسيطرة على قلوب رجال روما، ويرون أنّ هذه السيدة تسعى وراء اللّذات والشّهوات، وانتصرت على القوّاد الرومان بالإغراء ولا بالذكاء، بالخديعة لا بالجهد، بالمكر والحيلة لا بالحرب والصراع. (التونجي، 1995م: 97) وفي الوقت الذي عدَّوا فيه كليوباترا رمزا للعقليّة الشرقيّة، تبغي لذّة العيش ومتاعه، جعلوا أكتافيوس رمزا للعقليّة الغربيّة، بقوتّه واستقامته في السعي إلى غايته وطموحه بالجدّ والمثابرة، أمّا رأيهم في أنطونيو فكان مقسوما بين اتجاهين ففيه قوّة وفيه ضعف، وفيه تردّد بين الشرق مواطن هواه، وبين الغرب منشئه ومنبته. (دراسات أدبیة، هلال، 1985م: 83) غير أنّ معظم أدباء الغرب حرصوا أن يظهروا أنّ ما في أنطونيو من صفات الضعف، فمرجعها الشرق، فأضحى مثار سخط رجال روما وجندها، ومصدر قوّته مستمدة من وطنه الحقيقي. وهذا يفسّر لنا أنّ معظم المسرحيات الغربية التي تناولت كليوباترا، يتوافر على وحدة الزمن، ذلك أنّها تبدأ من موقعة أكتيوم لمدة تسمح لكليوباترا الوصول إلى مصر، بعد فرارها من ميدان المعركة بأسطولها ورغم اتّفاقهم على تحديد الزمن، فإنّهم يتقاطعون في جزئيات الأحداث. (حسین، 2012م: 67-68) شكسبير وكليوباترا اعتمد شكسبير في مسرحيته "أنطونيو وكليوباترا" على الترجمة المفصلة التي كتبها المؤرخ "بلوتارك". فقد قدّم شكسبير في مسرحيّته أوصافاً دقيقة عن أنطونيو وكليوباترا وحدّد شخصيتها تمام التحديد من ذلك أنّه صوّر أنطونيو أنّه: "مروحة بيد الملكة تحرّكها بيدها" وهو يعترف بلسانه حينما يفيق إلى نفسه، بأنّه مقيّد بقيود ثقيلة من حبّ هذه المرأة المصريّة وسحرها، إلّا أنّه عاجز عن تحطيم هذا القيد. (ندا، 1975م: 182) ورغم أنّ شكسبير يتفهّم حبّ أنطونيو العظيم لكليوباترا، فانّه التزم الحقائق التاريخية في هذه المسرحية بدقّة متناهية، فقام ينعت كليوباترا أنّها امرأة لعوب، مستبدّة، هلوك، غويّة، في وقت لا يقدم أنطونيو إلّا عاشقاَ أعمى مكبّلاً بأغلال عشقه، لا يسمع لوم اللائمين، أو نصح الأصحاب. (عبدالصبور، مجلة الهلال، 1976م:11/129) يمضي شكسبير في تصوير هذا الهوى المتسلّط حتّى النهاية وإن كان ذلك لا يغيّر من الأحداث شيئاً، أمّا كيلوباترا، فقد جاءت عند شكسبير في المحلّ الثاني بعد أنطونيو ومع ذلك نسب إليها من الملامح في السلوك والحوار ما جعلها شخصيّة متميّزة، جديرة بالبطولة الثانية في المسرحية. وإنّ لها صورة أخرى غير الجمال، تلك صورة الكبرياء والكرامة، إذ فضّلت الانتحار على وقوعها أسيرة ذليلة. (القط، لاتا: 112-113) توصّل شكسبير بخبرته الطويلة إلى مفهوم جديد للمأساة في مسرحياته التاريخية وهو مفهوم بعيد عن الاعتبارات النظريّة، فالبطل يكون رجلاً باستطاعته التأثير على مقدّرات شعب بأكمله، كما أنّه يتّصف بصفات عظيمة ومواهب فائقة، لكنّه مع هذا لايخلو من ضعف أو عيب يجعله غيرقادر على مواجهة المواقف الصعبة. (ایفانز، 1961م: 71) درايدن و كليوباترا من أشهر من تناولوا شخصيتي كليوباترا وأنطونيو، جون درايدن في مسرحيته "كلّ شيء من أجل الحبّ" 1678م، وكان درايدن يدير الصراع في مسرحيته بين قضيّتين مهمّتين، هما الواجب والحبّ، فقد عمّق ذلك هذا الصراع عند كليوباترا وأنطونيو بين حبّ أحدهما للآخر وبين واجبهما تجاه بلديهما وشعبیهما. أي بين هذين العاشقين وبين واجبهما القومي. يجرى درايدن صراعه المحدود في الزمان والمكان ثم ينهي مسرحيته، وقد انتحر البطل وتلته البطلة، وأنطونيو عند درايدن، بطل رومانسي صغير الشأن، خائر العزيمة، يتّخذ القرار بالمضي إلى الحرب وحين يرى كليوباترا يذوب قراره من فوره، فيقع ضحية للغرام، أمّا كليوباترا عنده، فهي ليست الملكة العظيمة الخالدة التي يصوّرها التاريخ والأدب، إنّما هي عاشقة مفتونة، كلّ همّها أن تبقى إلى جوار الرجل الذي اختارته ولتذهب الدنيا إلى الجحيم. (الراعي، مجلة الهلال، 1968م: 1/116) لقد نهج درايدن في عمله هذا منهجاً ذا طابع كلاسيكي. وهو ليس المؤلّف الغربي الوحيد الذي نهج هذا النهج، فقد سبقه آخرون وتلاه آخرون. برناردشو وكليوباترا وقد انصرف برناردشو في مرحلة تالية إلى الشخصيات التاريخية كما في مسرحية قيصر وكليوباترا عام 1898م، وقد بذل جهداً كبيراً في تصويره الرومانتيكي لشخصية كليوباترا الناضجة، وحاول كذلك بابتكاره عقدة متكاملة أن يعطي صورة مهيبة مؤثرة للقيصر، وفي هذه الصورة يبدو أنّ برناردشو، اتّجه نحو معالجة المشكلات الفلسفية، يتجلّى بالمفهوم الديناميكي للتطوّر، وهو أنّ الإرادة البشريّة ليست عاجزة عن تقرير مصير الإنسان، فلو اتّصف هذا الإنسان بالحيويّة، واليقظة، فإنّ قوّة الحياة الدافعة توجّهه نحو صراع مجهول المصير، وهو يشير بذلك إلى شخصية أنطونيو. (إیفانز،1961م: 179) ورغم أن تاريخ كليوباترا طويل حافل بالأحداث، فقد ركّز برناردشو على فترة قصيرة من حياتها، تناولت علاقتها بيوليوس قيصر، ويهمل جوانب تاريخية كثيرة عنهما، من ذلك ما يرويه التاريخ من غرام يوليوس قيصر بكليوباترا بل وانجابه منها ولد قيصرون، وثورة الرومانيين ضدّه بسبب هذا الغرام العابث. (مندور، 1955م: 78) ويحاول برناردشو جاهدا أن يقلّل شأن كليوباترا ونعتها بالفتاة الطائشة الرعناء، وكذا الحال في وصف قيصر، فإنّ كلّ ما لديه هو قوّة من الدهاء والحكمة. (العشماوي، 1980م: 157) شوقي وكيلوباترا جاء إبداع شوقي في مسرحه الشعري مواكباً للنهضة المسرحية في مصر، وهو الأديب العربي الوحيد الذي تصدّى لموضوع كليوباترا، ودافع عن الملكة المصرية، فلم يترك شيئاً لغيره. وفي هذا المجال يقول غنيمي هلال في حديثه عن أنواع التأثيرات في الأدب المقارن، فهناك نوع من التأثير العكسي، كأن يقاوم الكاتب أثر كاتب آخر في أمة أخرى، ينتج عن هذه المقاومة أثرها في تأليفه و«لنأخذ لذلك مثلاً أحمد شوقي في مسرحية كليوباترا فقد تأثّر في فكرة دفاعه عن كليوباترا بالمسرحيات الأوربية.» (دور الأدب المقارن، هلال، 1956م: 33) وقد وفق شوقي إلى حد كبير في تحقيق الهدف الذي قصد إليه، أي الدفاع عن كليوباترا وعن الشعب المصري. (هیکل، 1983م: 312) كتب أحمد شوقي مسرحية كليوباترا عام 1927م، وقد كثر الجدل عند الدارسين العرب في مسألة أخذ شوقي من الغرب أو تأثّره بآرائهم، غير أنّ محمد مندور حسم هذا الموضوع بقوله: «إن شوقي لم يتأثّر بالأدب التمثيلي الغربي فحسب، بل تأثّر أيضا بالشعر الغنائي وبخاصّة الرومانتيكي، فنقل قصيدة البحيرة للامارتين كما تأثّر بحكايات لافونتين على لسان الحيوانات.» (مندور، 1955م: 17) لقد انتقى شوقي موضوعات مصرية وعربية، يتاح فيها للمبدأ النفسي أن يتصارع مع مبدأ أخلاقي مهمّ كالوطنيّة ومثلما نجد في مصرع كليوباترا وقمبيز وعلي بك الكبير، أو مع عامل أخلاقي يجوز قهره كالتقليد العربي الذي كان لا يجيز زواج الفتاة بمن شبّب بها، وهو في ذلك يجاري الأدباء الكلاسيكيين الذين لا يقصدون التاريخ لذاته، بل للكشف عن خلال إنسانية نفسية ثابتة، مشتركة بين بني الإنسان في كلّ زمان ومكان يجلونها للناس لأجل التسليّة والتهذيب. فالمسرحيون الكلاسيكيون يستخدمون الصراع بين عامل نفسي كالحبّ أو الغيرة وآخر أخلاقي كالشرف والمجد، فيكشفون الحقائق النفسيّة، والصراع لديهم لايكون سجالاً أو متعادلاً لاينتج الكشف عن هذه الحقائق النفسية، بل يغلب به الشاعر مبدأ على آخر، بما يتيح ذلك، الكشف، فراسين يغلب الحبّ على الواجب ويدفع شخصياته فيه إلى مستوى الجنون فالموت،أمّا كورني فيغلب الواجب على الحبّ، أو قل إنّه یحقق موازنة بينهما كانت ترضى الرجل النبيل في القرن السابع عشر. (کمال اسماعیل وعبد المنعم، 2006م: 21-22) قد تأثّر شوقي في مذهبه الفنيّ بالكلاسيكية الفرنسيّة، ومال من بينها إلى الكاتب المسرحي كورني أكثرمن ميله إلى راسين وتراه يودّ أن يتّخذ من المسرح مدرسة لعزة النفس الإنسانية ونبل الأخلاق على ما نحو فعل كورني وكورني هو صاحب مسرحيات "السيد" و"هوراس" و"بوليوكيت" وامتازت شخصياته دائماً بتمسّكها بالمثل العليا؛ وشوقي وإن كان قد صوّر الغرام والجنون به في مجموعة مسرحياته "كليوباترا" و"مجنون ليلى" و"عنترة" فإنّه لم يصوّره، على نحو ما فعل "راسين" بل أخضعه لمبادئ الأخلاق، وسطوة التقاليد، بما فيها من عادات فرعيّة، ومشاعر وطنية أو قبليّة على نحو ما فعل" كورني" فكليوباترا تضحّي بحبّها في سبيل وطنها، وليلى تضحّي بغرامها لقيس الذي تحبّه نزولاً على التقاليد العربية التي لا تبيح زواجها بمن شبّب بها، ونتيتاس في قمبيز تضحّي بنفسها زوجة لقمبيز فداء لوطنها وهي كارهة للزواج. غير أنّ هذا الاتجاه الأخلاقي لا يخلو أحياناً من شوائب وتناقض، في تقييم العرف والعادة ومدى التمسك بها، فبينما ترى ليلى وهي المتيّمة المغرمة بقيس، حين يستشيرها أبوها في الزواج وتفضّل ورداً الثقفي على قيس. (الدسوقي، لاتا: 54) نجد في عنترة، البطلة "عبلة" لا تعبأ بتلك التقاليد العربية، فلا تؤثر على عنترة أحداً، (زغلول، لاتا: 168) مع أنّ التقاليد كانت أشدّ صرامة في حالة عنترة لأنّه أسود وابن أمَة حبشيّة بالنسبة إلى حالة قيس وكلّ ذنبه أنّه ذكر ليلى في قصائده وعرض بحبّه لها. فما الذي دفع شوقي إلى هذا التناقض؟ هل كانت فروسية عنترة وحسن بلائه أقوى في نظر عبلة من شعر المجنون لدى ليلى؟ على كلّ لم نشهد لدى عبلة أيّ صراع ولاشدّة هذه التقاليد، بل راحت تتآمر وعنترة على الزواج ضاربة بهذه التقاليد عرض الحائطـ، وإن كنّا لانلمس لهذا التمرّد على التقاليد مظاهر محسوسة. (الدسوقي، لاتا: 55) يشير محمد مندور إلى هذه النقطة المشتركة بين كورني وشوقي فيقول: فالأخلاق التي يستند إليها كورني ترجع في جوهرها إلى مايسميّه علماء الأخلاق "أدب الرياضة والاستصلاح" أي أدب رياضة النفس على الخير والحقّ والجمال واستصلاحها على أسس قيادة الضمير والاستماع لصوته الأبهى؛ ويستطرد كلامه فيقول: «وأمّا شوقي فإنّ مبادئ الأخلاق عنده تستند إلى ما يسمّى بأدب المواضعة والاصطلاح، أي ما تواضع عليه المجتمع من عادات وتقاليد، لا تغوص في الضمير الفردي.» (مندور، 1955م: 47-48) مع أنّ نزعة الولاء لمصر في نفس "كليوباترا" أو "نتيتاس" في مسرحية "قمبيز" و... ليست من مبادئ الأخلاق الوضعيّة التي لا تغوص في الضمير الفردي، فشأنها في ذلك شأن أيّة عاطفة وطنيّة لدى أيّ مواطن في أيّة أمّة من الأمم. أمّا تقليد عدم تزويج الفتيات بالشعراء الذين شبّبوا بهنّ، فربّما كان من الأخلاق الوضعيّة التي أشار إليها مندور. (کمال اسماعیل وعبد المنعم اسماعیل، 2006م: 23) ومهما يكن من أمر فإنّ شوقي تأثّر بالمسرح الكلاسيكي في بعض الجوانب وخالفه في جوانب أخرى، فمن وجوه الشبه: 1-التاريخ: المسرح الكلاسيكي الغربي استقى موضوعاته من تاريخ الإغريق والرومان، ومن أساطيرهم ومسرح شوقي اتّخذ موضوعاته من تاريخ مصر، والتاريخ العربي، ولكن طريقة المعالجة الفنيّة اختلفت، فقد عالج شعراء المسرح، الفرنسيون من الكلاسيكيين موضوعاتهم التاريخيّة من وجهة انسانيّة، أمّا شوقي فقد عالجها من وجهة أخلاقية - كما ذكرنا - أو وطنيّة. (زغلول، لاتا: 169) لم يتمسّك شوقي باتّباع الحقائق التاريخيّة، حين كتب مصرع كليوباترا، وإنّما حوّره بما يناسب الوعي القومي الذي عاصره، ففي مسرحيته لم تعد فرار كليوباترا من أكتيوم غدراً منها بأنطونيو، كما ذكر بلوتارك المؤرّخ الروماني، (الفن المسرحي، شوکت، 1970م: 82) بل لسياسة وطنيّة عميقة، وهي أن تترك قادة الرومان يفني بعضهم بعضاً، لتنفرد هي بالسيطرة على مصر؛ (زغلول، لاتا: 168) ولم تفرّ كليوباترا بجنودها في معركة الاسكندرية البريّة خيانة منها لأنطونيو، وإنّما تمشياً مع هذه السياسة أيضاً. وفي مسرحية شوقي حمل أولمبوس إلى أنطونيو نبأ انتحار كليوباترا كذباً، بينما، ذكر بلوتارك أنّ كليوباترا قد أرسلت إلى أنطونيو رسولاّ يخبره بانتحارها، وفي "مصرع كليوباترا" تعلو كفّة الوطنيّة على كفّة الهوى في "كليوباترا"؛ (الفن المسرحي، شوکت، 1970م: 82-83) ورغم هذا التشابه بين مسرح شوقي والكلاسيكيين الفرنسيين عامّة وكورني خاصّة، إلّا أنّ الاتجاهات النفسيّة والإنسانيّة في مسرح هؤلاء جاءت أعمق وأكثر إيحاء من الاتجاهات الأخلاقية الوطنيّة التي اصطنعها شوقي في مسرحه. 2- البناء الفني: ومن حيث البناء الفني أو المعالجة المسرحية، فإنّه آثر طريقة الكلاسيكيين في عدم عرض مشاهد المعارك الحربيّة على المسرح مكتفياً بالوصف على لسان الأبطال الذين شاركوا فيها أو المشاهدين لها، وهكذا فعل في كليوباترا، فلم يعرض مشاهد معارك أنطونيو وأكتافيوس في أكتيوم. (زغلول، لاتا: 169-170) 3- الأداة: فقد تأثّر فيها بالمنهج الفرنسي الكلاسيكي وربّما أعجبه منه بساطة الموضوع وسموّ الشعر ممثلاً في مسرح راسين وكورني. (الفن المسرحي، شوکت، 1970م: 78) وقد اتّخذ الشعر أداة للتعبير في خمس مسرحيات على نحو ما فعل الكلاسيكيون والعجيب أنّه يتّخذ النثر أداة للتعبير في مسرحية واحدة مع أنّ أحد أبطالها شاعر ومن المفارقات في هذا أن يكتب مسرحية اجتماعية، ويجعل الشعر أداته فيها مع أنّها كوميديا شعبية وهي مسرحية "السّت هدى" والنثر بطبيعته أكثر ملائمة للكوميديا وأقرب إلى الواقعية في تصوير بيئة شعبية معاصرة، والشعر أكثر مناسبة للمأساة التاريخية الغنائية. (زغلول، لاتا: 169) وحسب شوقي أصلاً، أنّه ارتفع بالمسرحية الشعريّة إلى منزلة الأدب الرفيع، في وقت كثرت فيه المسرحيات النثريّة باللغة العاميّة، وقد وفّق شوقي في اختيار الشعر قالبا لمسرحياته على الرغم من صعوبته. إذ أنّ المسرحية في الأدب الغربي لم تخلّد إلّا في صيغتها الشعرية، وإنّ كبار الأدباء الغربيين حتّى في العصر الإبداعي مثل هيجو، وبيرون وشيلي، قد آثروا الشعر على النثر في كثير من مسرحياتهم. (الدسوقي، لاتا: 51-52) 4- وافق شوقي الكلاسيكيين في اختياره لموضوعات قاسية أو تراجيدياته من بين الموضوعات الجليلة التي تدور حول حياة الملوك والعظماء والأبطال، بينما اختص الكوميديا بالموضوعات الشعبيّة، ولم ينظر شوقي إلى ألوان أخرى من المسرح ظهرت في عهده تناولت حياة الطبقة الوسطى، ولكنّه لم يتأثر بهذا الاتجاه المسرحي المعاصرله قدر تأثّره بالكلاسيكية الفرنسيّة التي صادفت هوى في نفسه. (زغلول، لاتا: 169-170) وجوه الخلاف: 1- لم يعتمد شوقي على الوحدات الثلاث "الموضوع، والمكان والزمان" دائماً، فمن حيث وحدة الموضوع نجده في كليوباترا يعالج موضوعاً جانبیاً آخر وهو حبّ حابي لهيلانة، ويتطوّر هذا الحبّ الآخر بتطوّر المسرحية جنباً إلى جنب مع الحب الأول للبطلين الرئيسين. ويرى بعض النقّاد أنّ هذا التفريع عيب في البناء المسرحي أو البناء الفنيّ للمسرحیة، لأنّ المشاهد لايرتكز انتباهه على موضوع واحد يتابعه، بل يشتت جهده في تتّبع الحدث في الموضوعين. أمّا وحدة المكان والزمان فغيرملتزمين في مسرحياته الأخرى(علي بك الكبير ومجنون ليلى) إذ ينتقل شوقي بين أمكنة وأزمنة مختلفة لاتحدّها فترة زمنيّة محدودة، وكذلك المكان ينتقل بالمشاهد والأحداث. (زغلول، لاتا: 170) 2- لم يتقيّد شوقي بإنهاء مسرحياته كلّها (المآسي) بحدث مؤلم أو فجيعة فحسب؛ بحيث يؤدي هذا الأمر إلى ضعف الأثر المأسوي الذي كان من المفروض أن تحدثه نهايتها. فقد قلّل من وقع الأثر في مصرع كليوباترا ما لجأ إليه شوقي تتبّع القصة الثانوية، وجعل نهاية هذه القصة نهاية سعيدة، مضادّة تماماً لنهاية القصة الرئيسية وهي قصّة كليوباترا، فقد جعل المؤلّف حابي ينقذ هيلانة، في الوقت الذي ماتت فيه البطلة، ثم جعله يتزوّجها ويرحل إلى طيبة، وكلّ هذا التضاد أو الثنائيّة التي تمزج بين الموت والحياة والترح والفرح، قد قلّلت من وقع المأساة وأضعفت من الشعور بالحزن على البطلة، ذلك الحزن الذي من شأنه أن یقوى التعاطف معها. (مندور، 1955م: 55) ففي مصرع كليوباترا كان من المفهوم ومن دواعي الأدب المسرحي القوي أن تنتهي تلك المآساة بانتحارالبطلين، ولكن شوقي يأبى إلّا أن ينهي بتلك الخاتمة المؤثرة أو الفاجعة بخاتمة أخرى مضحكه، هي زواج هيلانة من حابي، الأمرالذي يجرد المأساة من آثار عاطفتي الخوف والشفقة التي ركزّ عليها أرسطو وظيفة للمسرح وجعلها وسيلة لتطهّر النفس. (زغلول، لاتا: 172-173) 3- الكلاسيكية جعلت من أصولها وأسس مسرحها مبدأ فصل الأنواع، بمعنى أن الدراما تنقسم عندهم إلى نوعين مأساة أو تراجيديا وملهاة أو كوميديا، وعند الكلاسيكيين ينبغي أن تكون أحداث المأساة جملة من المآسي، متتابعة لا يتخلّلها مشهد مضحك أو أيّة فكاهة، كما أنّ الكوميديا أن تكون مهزلة لاتجري المأساة في أيّ عرق من عروقها؛ ولم يؤمن شوقي بهذا الأصل، ولم يلتزم به، بل خرج عليه، فخرجت مآسيه بألوان من الفكاهة من مواقف ساخرة ضاحكة. بينما نجد في مزج المأساة بالمشاهد المضحكة عند شكسبير والرومانسيين لها فلسفة ولها مبرّر، لأنّ الحياة خليط من المبكيات والمضحكات ولا فصل بينهما. وأمّا بالنسبة إلى شوقي فأكبر الظن أنّه لم يمدّ مسرحياته هذه الخيوط الضاحكة إلا مجاراة للروح المصرية المولعة بالنكتة اللفظية والمرح الخفيف. (زغلول، لاتا: 172) 4- لم يتمسّك شوقي بضرورة فصل التمثيل عن غيره من الفنون كالرقص والغناء، كما فعل الكلاسيكيون، بل نجد مسرحياته تشمل على مواقف غنائيّة عديدة، وقيل إنّ مثل هذه المواقف تُبطّئ وتُطوِّل الحديث، بما يتنافى مع الأصول المسرحية، ولعلّ هذا الأثر جاءه أيضاً من بيئته المصريّة العربيّة، فالعرب والمصريون جميعاً، يولعون بالغناء والطرب وهو عريق في تراث الأمّتين المصريّة والعربيّة. (زغلول، لاتا: 174) كليوباترا بين شوقي وشكسبير إنّ السمات الشكسبيريّة في الأدب العربي الحديث كثيرة، بحيث تضطرنا الرغبة في الإيجاز إلى الاكتفاء حول شخصية واحدة، وبل عمل واحد من أعمال هذه الشخصية، وقد آثرنا شوقي- بالمناسبة - من خلال مسرحيته مصرع كليوباترا. (عناني، 1993م: 84) على أنّ أغلب وجوه التشابه بين المسرحيتين تنبع من أنّ كليهما قد أخذا أحداث مسرحیتیهما من مصدر تاريخي واحد وهو سِيَر بلوتارك اليوناني المعروف. (القط، لاتا: 102) إضافةً إلى ذلك، قد أفاد شوقي من بعض الأعمال التي أنتجها قبله مؤلفون مسرحيون أوربيون وكلّها تدورحول الملكة (مندور، 1955م: 50؛ المسرحیة في شعر شوقي، شوکت، 1947م: 38) ويتّضح ذلك من اتّفاق مسرحيته مع مسرحية شكسبير مثلاً في أسماء بعض الشخصيات المخترعة، بل في بعض المواقف، بل في بعض التعابير؛ من أمثلة مجاراة شوقي لشكسبير في بعض الأسماء، إطلاق اسم "شرميون" فهو اسم "شارميان" الذي وضعه شكسبير. ومن أمثلة المواقف، ما نرى في بعض مواقف اللقاء من أنطونيو وكليوباترا وما نشاهد من منظر موت أنطونيو و كليوباترا. ومن أمثلة التعابير، البيت المشهور الذي يجريه شوقي على لسان أكتافيوس حين يرى الملكة قتيلة. تأثر شوقي في مسرحيته بالسلسلة التاريخية التي وضعها شكسبير في تاريخ بلاده مثل مسرحية الملك هنري الرابع وغيره، ولكنّه حذا حذو موليير في ملاهيه "السّت هدى" و"البخيلة" ولو أنّه كتبهما نظماً - بينما كتب مولييرمسرحیاته نثراً؛ وقد زاوج شوقي أحياناً موضوعين في المأساة على طريقة شكسبير، كما في مصرع كليوباترا وعلي بك الكبير. (الفن المسرحي، شوکت، 1970م: 78-79) وقد تناول المؤلفان انسحاب كليوباترا بأسطولها من معركة "أكتيوم" وهو حقيقة تاريخيّة وردت في كتاب بلوتارك ؛ وإذا كان شوقي قد جعل ذلك الفرار خطّة مرسومة، فإنّ شكسبير لم يكن لديه هذا الحافز القومي لكي يبرئ كليوباترا من الجبن والضعف؛ غير أنّ شكسبير يعود فيضيف إلى شخصية كليوباترا بعض الحوافز التي تتّفق مع الصورة التي رسمها شوقي، فلا يجعل انتحارها مجرد هروب من موقف لامخرج منه، بل استجابة لكبريائها وأنفتها «أن تعرض في روما كالسبيّ على الرجال» كما قال شوقي، وإن أضاف شكسبير إلى هذا لمسة أنثوية تتّفق مع شخصية كليوباترا وماعرف عنها من غيرة بالغة. (القط، لاتا: 103-104) كذلك انتفع المؤلفان بما جاء في "هيرودوت" عن انتحار أنطونيو، إذ طلب إلى تابعه إيروس أن يطعنه بسيفه فأبى عليه ولاءه وحبّه لسيده وآثر أن يقتل نفسه، وترجم شكسبير تلك الحقيقة إلى مشهد مسرحي، أمّا شوقي – کما علمنا – فإنّه احتال لكي يبرئ كليوباترا من هذه الخيانة، بأن وكل إلى أولمبوس الطبيب الخائن إبلاغ النبأ الزائف. وحينما يلتزم شكسبير خطاً رئيساً عندما يركز، على مأساة قائد شجاع تستبدّ به امرأة لعوب، فتحطّمه بغوايتها وفتنتها وتقطع كلّ علاقة بينه وبين وطنه، فهو يلتزم بهذا التفسير، فتظهر مأساة الانسان حين يقع في أسرالفتنة الجسدية فلايستطيع منها فكاكاً (عبد الصبور، مجلة الهلال، 1976م: 11/129)، ففي هذا الحين يبتعد شوقي قدرما استطاع عن هذه التهمة التاريخية ولم يثبت شيئاً من هذا على كليوباترا؛ وهناك اختلاف جوهري آخر بين العملين، يرجع إلى المنهج الفني والأخلاق الإنسانيّة، فشكسبير عندما يحلّل المشاعر الإنسانية يستند إلى الوقائع التاريخية التي تنعقد، في حين يعمد شوقي إلى وصف وتحليل الشخصيات الروائيّة ليحقّق معها المشاركة الوجدانية. (حسین، 2012م: 80) ومهما يكن أمر هذه الوجوه من الاتفاق والخلاف، فإنّ الخلاف الأكبر بين المؤلفين يتمثّل في بطولة المسرحية وبنائها الفني، فقد رأى شكسبير في أنطونيو شخصية تنطوي على صراع حادّ متعدّد الجوانب يمكن أن يكون مجالاً طيباً لتصوير صراع مسرحي في نفس بطل نبيل تقوده نقطة ضعف إلى الهاوية، لذا وجه اهتمامه إلى أنطونيو وبدت كليوباترا و كأنّها وسيلة لإثارة هذا الصراع بين الحبّ والواجب؛ صحيح أنّ شكسبير لم يغفل رسم صورة كليوباترا في كثير من جوانبها التي أهملها شوقي، فصوّرها منقلبة الأطوار، حادّة المزاج، متأرجحة بين دلال المرأة وجلال الملكة ولكنّها مع ذلك تبدو شخصية شاحبة إذا قيست بأنطونيو.؛ والمشاهد يصادف أنطونيو في الطور الأخير من أطوار حياته بعد أن أوشك هواه أن يقوده إلى مصرعه ومصرع بطولته ومجده، ولكن شكسبير يبدو حريصاً على أن تظلّ المفارقة بين ماضيه وحاضره قائمة في نفس المشاهد، وهو لايبتر الماضي تماماً ويبدأ من بداية النهاية لذلك الماضي المجيد، فنرى أنطونيو مازال قادراً على شيءٍ من العزيمة والحركة، إذ يثور على تخاذله وخضوعه لهواه حين تبلغه أنباء الحرب والسياسة من روما فيذهب إلى هناك. (القط، لاتا: 106-107) ولم يكن شكسبير يهمّه أن يبرئ كليوباترا من تلك الصورة العامّة التي نقلها عنها التاريخ، كما اهتم شوقي. لذلك نراه قد احتفل في المقام الأول بالكشف عن ذلك الجانب من شخصيتها الذي استطاع أن يأسر أنطونيو... فصوّرها امرأة - قبل أن تكون ملكة - تُحسن اجتذاب الرجال بتقلباتها وحبّها الذي يتأرجح بين الخضوع والتمرّد الظاهري من لحظة إلى أخر ، وممّا نلاحظه أيضاً في مواقف المسرحية وحوارها اتباع شوقي الطابع الكوميدي الواضح الذي درج شكسبير على استخدامه في مآسيه ليخفّف من حدّتها من ناحية، وليجرّد بعض الشخصيات من جلالها التاريخي من ناحية أخرى،لكي يكشف بعد ذلك عن نوازعها التي تكمن وراء هذا الجلال الظاهري. (القط، لاتا: 120،114) وفي النهاية نشير إلى ما أجزم به الدكتور شوقي ضيف وهو: «إنّ شوقي أقبل على المأساة و هو يعرف قواعدها و يظهرأنّه أعجب بالمسرح الفرنسي الكلاسيكي في أثناء القرن السابع عشر»؛ (ضیف، 1953م: 176) بل أنّ محمد مندور يؤكد أنّ شوقياً تأثّر بكورني أكثر من تأثره براسين. (مندور، 1955م: 20) كما أنّ علي الراعي يلخّص الموقف كلّه قائلاً: «درجنا القول بأنّ مؤثرات شوقي المسرحية قد جاءت من روائع المسرح الكلاسيكي الفرنسي علاوة على مسرح شكسبير المختلط الاتجاهات وهذا القول حقيقة لاتقبل مناقشة ... وكلّ هؤلاء الكتاب درايدن وكونجريف وشوقي قد نهل من مصدر واحد هو المسرح الكلاسيكي الفرنسي وكورني بالذات، في حالة المآسي، وموليير في حالة الكوميديات.» (الراعي، مجلة الهلال، 1968م: 1/117) النتائج 1- أحمد شوقي باعتباره الرائد والمنشئ للشعر التمثيلي في الأدب العربي، متأثّر بالمسرح الفرنسي وألوانه، وخاصّة اتجاهه الكلاسيكي في المأساة التي تدور موضوعاتها حول الأبطال والملوك والحوادث الكبرى والتي تعتمدعلى الحبّ والصراع والحرب والخيانة. 2- مسرح شوقي لم ينحصر على الجانب التراجيدي والكوميدي فحسب بل يتضمّن مجالات غير معروفة لدى العربية مستلهماً فيها من اطلاعه وثقافته في الأدب الفرنسي ومن كبار روّاده وشعرائه، من أمثال كورني وراسين في المأساة وموليير في الملهاة. 3- لم يستطع شوقي الخروج والانفكاك من الطابع الغنائي لغةً وتركيباً بسبب ما اعتاد عليه طيلة حياته الأدبية، لكي يجمع دفعة واحدة بين الصياغة القويّة وبين مقتضيات الفنّ المسرحي، فلذلك نجد الكثير من المقطوعات التي هي من صميم الشعر الغنائي في مسرحياته ولاسيّما في مواقف الغزل والرثاء والفخر. 4-بدأ شوقي مسرحه أول الأمر اقتباساً ثمّ سار نحو الابتكار مستبدلاً فيه المنهج التركيبي بالمنهج التحليلي الذي يعمد إلى أن تعبّر الشخصيات والحوادث عن نفسها بصورة عمليةً، مبتعدة عن تأثير الصُدف والوصف الذي لا يمثّل الحركة على المسرح. 5- تجتمع في مسرح شوقي آثار دراسته العربية إلى جانب دراسته الغربية، لاسيّما كورني وراسين وموليير، معتمداً على سموّ الشعر وبساطتهّ مستغنياً عن الحركة العنيفة على المسرح، متّجهاً نحو دراسة العيوب الإنسانية العامّة. كما نری من آثار دراسته الغربية المباشرة وغير المباشرة للمسرح الانجلتري المتمثّل بشكسبير كتابة سلسلة من المسرحيات المقتبسة من التاريخ القومي والعربي؛کما یحاکي راسین وکورني في اختياره قطاعاً محدوداً محاکیاً للحیاة، يتضمّن أزمة تتصارع فيها عوامل نفسيّة كالحبّ والغیرة، مع مبدأ أخلاقي كالشرف والمجد. 6- لقد حجب شوقي الحقائق التاريخية وغيّر بعض التفصيلات في مسرحياته وأجرى فيها تعديلات وفقاً لهدفه وخطّته وفسّرها تفسيراً يتلاءم مع هدفه المنشود. 7- اتّفق الأدباء الغربيّون بصورة عامّة على مواقف محدّدة بالنسبة إلى كليوباترا وصوّروها بأنّها المرأة اللعوب التي استخدمت أنوثتها وجمالها للسيطرة على قلوب ورجال روما، تسعى وراء الملذّات والشهوات وعدّوها رمزاً للعقليّة الشرقيّة تبغي لذّة العيش وجعلوا أكتافيوس رمزاً للعقليّة الغربية بقوّته واستقامته، بينما نرى أحمد شوقي قد تأثّر في فكرة دفاعه عن كليوباترا بالمسرحيات الأوربية تأثّراً عكسيّاً وقاوم آثار الكتّاب الغربيين ودافع عن الملكة المصريّة فهي عنده ملكة ضحّت بحبّها في سبيل وطنها. فقد وفّق شوقي إلى حد كبير في تحقيق الهدف الذي قصد إليه؛ أي الدفاع عن كليوباترا وعن الشعب المصري. 8- قد تأثّر شوقي في مذهبه الفنّي بكورني أكثر من راسين، حيث اتّخذ من المسرح مدرسةً لعزّة النفس الإنسانيّة ونُبل الأخلاق على نحو ما فعل كورني في إظهار شخصياته المتمسّكة بالمثل العُليا، فشوقي وإنْ صوّر الغرام والجنون به في مسرحيّاته "كليوباترا" و"مجنون ليلى" و"عنترة"، فإنّه لم يصوّره على نحو ما فعل راسين بل أخضعه لمبادئ الأخلاق وسطوة التقاليد. بما فيها العادات الفرعيّة والمشاعر الوطنيّة أو القبليّة على نحو ما فعل كورني غيرأنّ هذا الاتّجاه لا يخلو أحياناً من شوائب وتناقضات في تقييم العرف والعادة. فالأخلاق التي يستند إليها كورني ترجع في جوهرها إلى رياضة النفس على الخير والحقّ والجمال واستصلاحها على أسس قيادة الضمير والاستماع لصوته الأبهی، أمّا شوقي فالأخلاق عنده تستند إلى ما يُسمى بأدب المواضعة والاصطلاح أي ما تواضع عليه المجتمع من عادات وتقاليد. 9- لم يعتمد شوقي على الوحدات الثلاث فمن حيث وحدة الموضوع نجده في كليوباترا يعالج موضوعاً جانبیاً آخر، ولم يتقيّد بإنهاء مسرحياته (المآسي) بحدث مؤلم أوفجعية فحسب، على خلاف الكلاسيكية التي تجعل من أصولها مبدأ الفصل بين المأساة والملهاة، فقد زاوج شوقي موضوعين في كليوباترا على طريقة شكسبير. 10- لم يتقيّد شوقي بضرورة فصل تمثیله عن الفنون الأخرى كالرقص والغناء كما نرى عند الكلاسيكيين، بل تشتمل مسرحياته على مواقف غنائيّة كثيرة تتنافی مع الأصول المسرحية، وربّما أتى هذا الأثر من البيئة المصرية العربية. 11- استقى شوقي وشكسبير أحداث مسرحيتهما من مصدر تاريخي واحد وهو "بلوتارك" كما انتفعا بما جاء في "هيرودوت" عن انتحارأنطونيو وترجم شكسبير تلك الحقيقة إلى مشهد مسرحي، بينما احتال شوقي لكي يبرئ كليوباترا من هذه الخيانة وابتعد قدر استطاعته من هذه التهمة ولم يثبت شيئاً من هذا على كليوباترا. 12-هناک اختلاف جوهري آخر بین عمل شوقي وشکسبیر، یرجع إلی المنهج الفني والأخلاق الإنسانیة؛ فشکسبیر عندما یحلّل المشاعر الإنسانیة یستند إلی الوقائع التاریخیة التي تنعقد، في الوقت الذي نری شوقي یتّجه إلی وصف وتحلیل الشخصیات الروائیة لتحقیق المشارکة الوجدانیة معها. | ||
مراجع | ||
أحمد كمال، محمد اسماعيل وعبدالمنعم، اسماعيل. (2006م). الشعر المسرحي في الأدب المصري المعاصر. لامك: الهيئة المصرية للكتاب.
بي آيفور، ايفانز. (1961م). تاريخ المسرح الإنكليزي. ترجمة علاء الدين حمودي. بغداد: طبعة المعارف.
محمد، التونجي. (1955م). الآداب المقارنة. بيروت: دار الجيل.
ميشال، خليل جحا. (1999م). الشعر العربي الحديث من أحمد شوقي إلى محمود درويش. بيروت: دارالعودة.
محمود، حامد شوكت. (1947م). المسرحية في شعر شوقي. القاهرة: لانا.
محمود، حامد شوكت. (1970م). الفن المسرحي في الأدب العربي الحديث. القاهرة: دار الفكر العربي.
عمر، الدسوقي. (لاتا). المسرحية نشأتها وتاريخها وأصولها. القاهرة: دارالفكر العربي.
علي، الراعي. (1968م). نظرة في مسرح شوقي. مجلة الهلال.
محمد، زغلول سلام. (لاتا). المسرح والمجتمع في مائة عام. الإسكندرية: منشأة المعارف.
محمد، زكريا عناني. (1993م). الأدب المقارن. الإسكندرية: الثقافة الجديدة. أحمد، سليمان الأحمد. (1972م). دراسات في المسرح العربي المعاصر. دمشق: دار الأجيال. أحمد، شوقي. (1981م). مصرع كليوباترا. بيروت: دار العودة.
حسين، شوقي. (1974م). أبي شوقي. القاهرة: لانا.
لويس، شيخو. (1910م). الآداب العربية. الجزء 2. بيروت: لانا. مجيد، صالح بك. (2002م). تاريخ المسرح عبر العصور. القاهرة: الدار الثقافیة للنشر. شوقي، ضيف. (1953م). شوقي شاعر العصرالحديث. مصر: دار المعارف.
صلاح، عبدالصبور. (1976م)كليوباترا بين شكسبير وشوقي، مجلة الهلال، 11.
محمد زکي، العشماوي. (1980م). دراسات في النقد المسرحي. بیروت: دار النهضة العربیة.
محمد الصادق، العفيفي. (1978م). النقد التطبيقي والموازنات. القاهرة: مكتبة الخانجي.
محمد، غنيمي هلال. (1953م). الأدب المقارن. مصر: دار نهضة.
محمد، غنيمي هلال. (1956م). دور الأدب المقارن في توجيه دراسات الأدب المعاصر. مصر: دار نهضة.
محمد، غنيمي هلال. (1985م). دراسات أدبية مقارنة. مصر: دارنهضة.
عبدالقادر، القط. (لاتا). من فنون الأدب. بيروت: دار النهضة العربية. محمد، مندور. (1955م). مسرحيات شوقي. القاهرة: لانا. محمد، مندور. (لاتا). محاضرات عن مسرحيات شوقي. القاهرة: لانا. صبحي، ناصر حسين. (2012م). دراسات في الأدب المقارن والنقد. بغداد: دار الفراهيدي للنشر والتوزيع. طه، ندا. (1975م). الأدب المقارن. بيروت: دارالنهضة العربية. أحمد، هيكل. (1983م). الأدب القصصي والمسرحي في مصر. القاهرة: دار المعارف.
سامي، يوسف أبوزيد. (2012م). تذوّق النصّ الأدبي. عمان: دار المسيرة. | ||
آمار تعداد مشاهده مقاله: 2,673 تعداد دریافت فایل اصل مقاله: 303 |