تعداد نشریات | 418 |
تعداد شمارهها | 9,997 |
تعداد مقالات | 83,560 |
تعداد مشاهده مقاله | 77,800,534 |
تعداد دریافت فایل اصل مقاله | 54,843,355 |
دراسة تحليلية مقارنة بین الاتجاه الشعري لتوماس إليوت ويوسف الخال | ||
إضاءات نقدیة فی الأدبین العربی و الفارسی | ||
مقاله 2، دوره 12، شماره 48، اسفند 2022، صفحه 35-59 اصل مقاله (257.39 K) | ||
نوع مقاله: علمی پژوهشی | ||
نویسندگان | ||
علی نجفی ایوکی* 1؛ مینا محمدی2 | ||
1أستاذ مشارك في اللغة العربية وآدابها، جامعة کاشان، أصفهان، إيران | ||
2مرشحة للدکتوراه في اللغة العربية وآدابها، جامعة کاشان، أصفهان، إيران | ||
چکیده | ||
قد تأثّر کثير من الشعراء العرب المعاصرين بالآداب الأجنبية وقد ترك كبار الشعراء العالميين بصماتهم على هؤلاء ومنهم الشاعر الأمريکي توماس ستيرنز إليوت (1888م- 1965م) حیث أثرت قصيدته المشهورة "الأرض الخراب" بصبغتها المأساوية مباشراً وغير مباشر على الشعراء خاصة بعد قضية فلسطين وأوضاع العرب الاجتماعية والثقافية المتأزمة؛ إذ يرون أرضهم أشبه بالأرض الخراب لإليوت فوجدوها يباباً وينتظرون الماء الذي ينتهي إلی الحياة من جديد، ويمکن القول إنّ الواقع السياسي والاجتماعي المؤسف في الوطن العربي هو العامل الرئیس الذي دفعهم إلی استلهام الأرض الخراب. هذا وإنّ يوسف الخال من المتأثرين بالأدب الأجنبي عامةً وبإليوت خاصةً؛ الّذي أسّس مجلته المعنونة بــــ"شعر" وأسّس حركة شعرية حول هذه المجلة في التحويل الفعّال لمفهوم الشعر في اللغة العربية. ومن المسلّم أن شعرهم ودراساتهم الأدبية في مجلة "شعر" کان تحت تأثير الأدب الغربي خاصة إليوت. علی ضوء أهمية المسألة ودورها في فهم شعر يوسف الخال خاصة والشعر العربي المعاصر عامة، تسعى هذه المقالة باتجاهها المقارن وبمنهجها الوصفي-التحليلي إلى إلقاء الضوء على وجوه تأثير إلیوت علی شعر الشاعر يوسف الخال في الفكرة والرؤية والشكل والصورة بالترکیز علی المقاطع التي يلاحظ فيها تأثّر الخال بقصيدة "الأرض الخراب". ومن أهم نتائج الدراسة هي أنّ مفهوم يوسف الخال للشعر يبدو قريباً من المفهوم الإليوتي في الخصائص التالية: استخدام الإيحاء التاريخي أو الأسطوري والتعبير عن معاناة مشاكل الجيل والأمة والرؤية المسيحية أو التموزية؛ لذلك يمکن القول بأنّه تاثّر مباشراً بإليوت. | ||
کلیدواژهها | ||
الأثر الغربي؛ إليوت؛ الأرض الخراب؛ الشعر العربي؛ يوسف الخال | ||
اصل مقاله | ||
إن الشاعر يوسف الخال ولد سنة 1916م في غضون الحرب العالمية الأولى في قرية "عمار الحصن" بسوريا وبعد بضع سنوات رحلت عائلته لتستقر في مدينة طرابلس شمال لبنان. وعندما اشتعلت نار الحرب العالمية الثانية كان على الدراسة الجامعية في الكلية الأميركية في مدينة حلب، فلمّا دعي للتدريس في الجامعة هذه، كان الأدب العربي مادّة درسية مطلوبة عنده. وفي عام 1947م التحق بالجامعة الأمريكية في بيروت وبعد سنتين من الدراسة في الفلسفة، تخرّج بدرجة البكالوريوس فكان ذلك آخر عهده بالدراسة الجامعية. وفي عام 1947م ترك التدريس وتسلّم رئاسة تحرير "صوت المرأة" التي أنشأتها جامعة نساء لبنان. وبعد أن أكبّ على الأدب وذاع صيته، عزم على زيارة الولايات المتحدة لبضعة أشهر امتدّت إلى سنوات سبع. فهو انتقل إلى نيويورك للعمل في الأمانة العامة لمنظمة الأمم المتحدة وفي تلك السنوات (1947م-1955م) تعاون الخال مع 14 مجلة، فكانت "مجلة شعر" وليدة تجارب حصل عليها عبر تلك السنين وبعد عودته إلى بيروت في عام 1956م بدأ تحضير إصدار مجلة "شعر" وأصبح صدورها حدثاً هاماً في حياته وفي مسيرة الشعر العربي أيضاً. یری يوسف الخال أن مفهوم الشعر الحديث كان مجهولاً لولا الانفتاح على الغرب حیث نراه قائلاً: «و فيما يختص بالعالم العربي فإنه ازداد انفتاحه على الاتجاهات المعاصرة؛ فأدّى هذا الانفتاح إلى مفهوم جديد للقصيدة كان مجهولاً من قبل عند الشعراء والنقّاد.» (الحلاوي، 1994م: 39) والحق أنّ إليوت تأثّر إلی حدّ بعيد من الحرب العالمية الأولی وكتب قصيدته متأثّراً بمناخات هذه الحرب، من الناحية الأخری إنّ یوسف الخال المتأثر من اليوت، ربط بين التأثّر بالحرب العالمية وقضية فلسطين؛ حيث ظهر العالم العربي وخاصة فلسطين عالماً مأساوياً ضائعاً في رؤيته. والطريف أنّ الشعراء العرب واصلوا هذه الرؤية فيما بعد حيث أصبحت اتجاهاً معروفاً بين اتجاهاتهم الشعرية. فالشاعر يوسف الخال اطّلع على أشعار إليوت وباوند وترك إليوت أثراً واضحاً في تجربته الشعرية حيث وصف الخال علاقته مع الحركة الشعرية التي قادها باوند وإليوت بالكلمات التالية: أنا أقرب إلى باوند وإليوت مني إلى سواهما من أقطاب التجديد الشعري منذ بداية هذا القرن. (فضول، 2000م: 46) هذا وإنّ «يوسف الخال كثير التأمل بمجريات الحياة والكون، لقد سحقته حضارة القرن العشرين في الغرب وسحقه الشرق الجامد كالحجر، هكذا أصبح الشاعر بين حضارتين؛ حضارة الغرب المتطورة وحضارة الشرق الجامدة وبين زمنين؛ زمن الغرب المتحرك نحو العمران وزمن الشرق المتشنج الذي يسقطنا في الماضي الثابت.» (جيدة، 1980م: 258) وما يجدر بالذكر في أهمية تأثير الشعر الغربي على الشعر العربي هو أنّ «هناك شعراء أوروبيين بارزين، ذاع صيتهم في جميع أنحاء العالم وأثّروا تأثيراً مباشراً في غيرهم من الشعراء مثل إليوت وإنّ هذا الشاعر لعب دوراً بارزاً في عالم الشعر وأثّر في الشعراء العرب المحدثين هو الّذي أصبحت قصيدته "الأرض الخراب" معيناً لاينضب للشعراء الذين أتوا من بعده.» (المصدر نفسه: 138) فالتوضيح أنّ جوهر إبداع إليوت کان في أسلوبه المتميّز، ودعوته إلی المعادل الموضوعي، وتوظيف التراث، ولغة الحديث اليومي، والاستناد إلی الأسطورة، فضلاً عن إيمانه بالحضارة الإنسانية، وبتداخل الماضي في الحاضر، الذي ظهر جلياً في قصائده. (الضمور، 2014م: 866) ويمکن القول إنّه ما من قصيدة تركت أثراً بالغاً على الأدب العربي الحديث مثل قصيدة "الأرض الخراب" ويعلّل تلك الاستجابة العاطفية من الكتاب العرب للقصيدة بالتجرة المأساوية التي تشبه في شموليتها العالمية تجربة إليوت في ردّ الفعل عنده بالنسبة للحرب العالمية الأولى. فإنّنا لو تعمّقنا لرأينا أنّ أوجه التأثر من الغرب واضحة ولايمکن الإغماض عنها أبداً حیث «اقتبس شعراء الشعر الحر كثرة استخدام الأساطير والرموز الدينية والقصص الموروثة لدى الشرقيين والإغريق بالإضافة إلى الرموز العبرانية المسيحية والإسلامية، وعلى الجملة تقديم الشعراء العرب لهذه التكنيكات في أشعارهم كان بتأثير ازرا باوند، وإليوت من خلال وسيط هو "الغصن الذهبي" لفرايزر وبهذا عادت الآلهة والأساطير من خلال الشعر الغربي.» (مورية، 2003م: 361) علی ضوء هذه المسألة ودور إليوت المحوري في الشعر العربي العاصر، تتعاطي هذه المقالة أشکال تأثّر يوسف الخال کشاعر عربي مطّلع علی معطيات غربية من صاحب قصيدة الأرض الخراب. أسئلة البحث والأسئلة التي تطرح نفسها في هذه الدراسة هی: ما هو أهم وجوه تأثّر يوسف الخال بإليوت؟ أجاء تأثره بشعر إليوت تعميقاً للرؤية الفكرية في الشعر أو کان في الشكل والظاهر فحسب؟ فرضيات البحث من المفروض: أولا، أنّ الرؤية المسيحية، المنهج الأسطوري الانبعاثي، الموقف الدرامي والنزعة التراجيدية، والميل إلی الموت والنفور من المدينة من أهمّ تاثير إليوت علی الخال. ثانيا، أنّ تأثّر يوسف الخال برؤية اليوت الفكرية کان أشدّ وضوحاً وعمقاً. خلفية البحث وفيما يتعلّق بخلفية البحث يمكن القول إنّ الدراسات حول تأثير الشاعر ت.س.إليوت كثيرة جداً بالإنكليزية والعربية وغيرهما؛ فقام "ماهر فريد" في مقالته "أثر ت. س. إليوت في الأدب العربي الحديث" (1981م) بعرض موجز أشبه ببلوغرافيا وصفية لكل ما وقع تحت يده من ترجمات وكتابات بالعربية عن إليوت، فإنه واجه القارئ العربي بحقيقة الموقف الذي طغت عليه الشهرة في العربية. والآخر جبرا إبراهيم جبرا الذي بادر بتقييم قيّم ونشر بحثاً بالإنجليزية بعنوان "الأدب العربي الحديث والغرب" وهو في الأصل محاضرة ألقاها في عدة جامعات بريطانية بدعوة منها عام 1968م وما زال يعتبر مرجعاً هاماً حول الموضوع خصوصاً ما يتعلّق منه بإليوت حيث بيّن وجوه تأثير الكتّاب والشعراء العرب من خلال اتصالاتهم بكتابات إليوت. ومحمد شاهين قدّم دراسة موجزة في كتابه "إليوت وأثره على عبدالصبور والسياب" (1992م) حیث عالج موضوع تأثير إلیوت علی الشاعرين المذکورين مدلّلاً بالنقد والتحليل على صدق ما جاء في عرض ماهر فريد وجبرا جبرا. وفي كتاب آخر "المؤثرات الأجنبية في الشعر العربي المعاصر" (1997م) قام یوسف حلاوي بدراسة تأثير إليوت على السّياب، عبد الصبور، حاوي وأدونيس وعالج فيه نماذج شعرية من التأثير المباشر بإليوت لبعض الشعراء المعاصرين واستنتج أنّ تأثّر الشعراء المعاصرين لم يكن تأثر امّحاء بل تأثّر تمثّل وانصهار، وبالتالي نقطة ارتكاز للإنطلاق في عالم الإبداع الشعري. أيضاً دراسات حول الشاعر الأميركي إليوت وافرة كدراسة "إليوت عند النقاد العرب" من فؤاد مخلف ولطيف محمد ودراسة "إليوت" من فائق متى، التي قامت بنقد وتحليل شعر إليوت وكتاب "الأرض اليباب الشاعر والقصيدة" من "عبدالواحد لؤلؤة" حيث رسم في هذا الكتاب صورة تقترب من الوضوح عن الشاعر، في واحدة من أهم قصائد هذا القرن العشرين عرفها الغرب مستمداً رأياً ناقداً ومستنداً على تقديم التفسير والتحليل. وكتاب "أرض الضياع رائعة الشاعر ت.س.إليوت" ترجمة ودراسة من الكاتب العربي "نبيل راغب"؛ والملاحظ أنّ المترجم أختار کلمة "الضياع" بدلاً من "الخراب". وأخیراً طبع "عماد عبدالوهاب الضمور" مقالة "أثر إليوت في شعر عزالدين المناصرة" (2014م) ووصل إلی أنّ المناصرة عمّق رؤيته الفکرية إثرَ تأثّره بشعر إليوت، إضافة إلی ما حققه التعالق النصّي مع شعر إليوت من تعزيز للجانب الدرامي في شعر المناصرة، فکلاهما يشترکان في تجربة المعاناة والإحساس بالضياع. وفيما يتعلق بالدراسات التي كتبت في إيران حول هذا الموضوع، فلابدّ من القول بأنّ المقالة التي ترتبط إلی حدٍ بدراستنا هی "المسيح والرموز المسيحية في شعر يوسف الخال" (1435ه) من كبرى روشنفكر ومجيد محمدي بايزيدي حيث عالجت هذه المقالة شخصية المسيح (ع) والرموز المسيحية من وجهة نظر هذا الشاعر وكشفت عن انطباع أشعاره بالطابع المسيحي وديانته المسيحية. إضافة إلی هذه الدراسة، فقد کتب حسین ميرزايينیا وزملائه مقالة "دراسة نظرية تي. اس. إليوت وأثرها علی أدونيس" (1392ه.ش) مستنتجين أنّ ادونيس تأثّر بشکل غير مباشر بهذه النظرية خاصةً في مجال استخدام الرموز الشعرية للتعبير عن الأحداث الخارجية. إذاً علی الرغم من أهمية الشاعر يوسف الخال في تطور الشعر العربي المعاصر وعلی الرغم من تاثير إليوت عليه لم تکن دراسة وتحليل تأثير إليوت عليه محورَ أية من الدراسات المسبقة، في حين هذا الموضوع علی جانب عظيم من الأهمية. إليوت وتأثيره في الشعر العربي المعاصر ولد إليوت سنة 1888م في الولايات المتحدة الأمريکية وهو من أعمدة الشعر والنقد المعاصر وصاحب مدرسة أدبية تركت بصماتها واضحة على الشعر والمسرح بصفة خاصة، وعلى الأدب العالمي بصفة عامة. في عام 1917م صدر له أول ديوان شعري بعنوان "بروفروك وملاحظات أخرى"[1] وبعده بعامين صدر ديوانه الثاني بعنوان "قصائد"[2] وكانت قصيدته "الأرض الخراب" أو "أرض الضياع"[3] التي نشرت عام 1922م سببا في الشهرة العالمية المدوية التي حازها بعد ذلك. بل كانت هذه القصيدة سبباً في الحماس الذي استقبلت به كل دواوين إليوت بعد ذلك. (راغب، 2011م: 37-39) وكان إليوت قد كتب "الأرض الخراب" في أعقاب الحرب العالمية الأولى والهزة العنيفة التي أحدثتها في قيم الحضارة الغربية، هي الحرب التي شملت العالم لأول مرة في تاريخه. (المصدر نفسه: 81) وعلى هذا القول قصيدة "الأرض الخراب" تحلّ تجربة إليوت الإنسانية تحمل معاناة الإنسان الذي يتمزق من شرور المجتمع وما يحتويه من متناقضات هائلة ومن جشع وخبث هذا الإنسان الذي سحقته حضارة القرن العشرين وما تحمله من أدوات هدم وتدمير وتخريب. هذه القصيدة تمثل رؤيا الإنسان من حروب الدمار والموت؛ فالشاعر يريد أن ينقل الينا أزمة الإنسان المعاصر وسط الفوضى والضياع والتمزق واليأس والاغتراب. (جيدة، 1980م: 141) لقد استطاع إليوت أن يتحدث عن نظرة الناس القاتمة إلی الحضارة، وعن ضياع الفرد، واضطرابه النفسي في ظلّ تلك الحضارة النخرة. (عباس، 1959م: 112) هذا وإنّ إليوت الشاعر والناقد يعدّ أحد الشعراء الکبار جداً بالنسبة للشعرية الأوروبية والغربية بشكل عام والشعرية العربية الحديثة على حد سواء، نظراً لأعماله الشعرية والنقدية ذائعة الصيت التي حازت على اهتمام الشعراء والنقاد. (مخلف ومحمد، 2010م: 2) فهو «أكثر الشخصيات تأثيراً على الشعر العربي المعاصر وقد مارس هذا الشاعر تأثيراً حاسماً ليس على الشعر العربي فحسب، بل على الشعر العالمي كلّه والفن عموماً وذلك من خلال شعره وبخاصة قصيدة "الأرض الخراب" أو من خلال آرائه النقدية.» (الحلاوي، 1997م: 52) ومن خلال البحث والتمحيص يمکن القول بأنّ يوسف الخال أحد الشعراء العرب الذين تأثروا به في شعره وفي إيصال رسالته إلی الإنسان العربي. یوسف الخال ومواضع تأثّره بإليوت أمضى يوسف الخال ثمانية أعوام في الولايات المتحدة الأميركية واطّلع بجوانب الشعر الحديث والنظرية الشعرية الأميركية وتجربة القرن العشرين وعاد حاملاً فكرة تأسيس حركة مشابهة للحركة التي قادها إليوت وإحداث تحوّل أساسي في الثقافة والأدب اللبناني والعالم العربي. ورأى أن حضارة لبنان والدول الأخرى المجاورة حضارة متوسطية غربية يعود أصلها إلى الشرق الأدنى، فربّما كان السبب في تأثر الخال بإليوت هو أن كليهما دافعا عن حضارة أوروبية متوسطية. (فضول، 2000م: 44) وإذا تناولنا شعر يوسف الخال، نجد أن مفهومه للشعر يبدو قريباً من المفهوم الإليوتي، يظهر ذلك جلياً من خلال حديثه عن الخصائص التي يجب توفرها في القصيدة الحديثة، من هذه الخصائص «استخدام الإيحاء التاريخي أو الأسطوري أو الفولكوري ومنها التعبير بالصورة الحية المجسّدة والتعبير بكلمات وعبارات حيّة عند الناس، لا في بطون الكتب والقواميس ومنها التعبير عن روح العصر، أي معاناة مشاكل الجيل، أو الأمة، على أنها من مشاكل هذا العصر، وذلك برفعها من نطاقها المحلي إلى النطاق العالمي.» (الخال، 1978م: 95) وشعر الخال في أي نوع کان، ينطبق تماماً على قصيدة إليوت "الأرض الخراب" وخاصة طبيعة الرؤيا المسيحية عنده تشبه إلى حد بعيد الرؤيا المسيحية عند إليوت ويبدو هذا الموقف المشترك للشاعرين واضحاً عند الخال. «إن هذا الموقف للخال هو الموقف ذاته الذي وصل إليه إليوت والذي تجسّد شعرياً في قصيدته "الأرض الخراب". ثم إن إليوت يجهر بإعلانه عن عقيدته المسيحية ورفضه للمدينة الحديثة. (الحلاوي، 1997م: 74) العودة إلى الأساطير التراثية برزت بوضوح من خلال مجلة "شعر"، إن المجلة من خلال أبرز المعبرين عنها، رأت في عودة الشعر إلى الأسطورة التموزية، عودة إلى التراث القومي، تنقذ الشاعر من الجدب الحضاري والفكري. (المصدر نفسه: 103) ويمكن القول إن البداية الحقيقية لترجمة شعر إليوت إلى اللغة العربية ترجع إلى أوائل الخمسينات من القرن الماضي، مع صدور كتاب عن دار مجلة "شعر". تأسيساً علی دراسة استقصائية لشعر يوسف الخال يمکن تبيين المؤثرات الإليوتية في شعر الشاعر حول خمسة مجالات وهي الرؤية المسيحية، المنهج الأسطوري الانبعاثي، الموقف الدرامي والنزعة التراجيدية، والميل إلی الموت والنفور من المدينة. لذلك في هذه الدراسة نجعل هذه المجالات محوراً ونعالج شعر الشاعر من هذا المنظور. الرؤية المسيحية استلهم یوسف الخال تجربة شخصية النبي عيسى المسيح (ع)، لا تعبيراً عن تجربة دينية فقط، بل لينقل معاناته الذهنية والجسدية، فالغاية الأساسية من استخدام شخصية المسيح (ع) هي تجسيد الحالة النفسية للشاعر الذي يألم من معاناة مجتمعه وبأنّه مضطهد وحزين واجتهاده لإصلاح مجتمعه ضاع سدى وعلى هذا يأتي رمز المسيح رمزاً مأساوياً. فالشاعر إثر ديانته المسيحية خاصةً إثر اطلاعه علی منهج استلهام إليوت من المسيح في قصيدته الشهيرة ونظريته "المعادل الموضوعي" في عملية استلهام الشخصيات التراثية، قد تأثر برمز المسيح کيف لا وإن قصيدة "الأرض الخراب" يمكن بل يجب أن تقرأ على أنها موعظة مسيحية مستترة ... كما أن أساطير القرون الوسطى تساهم في رموز "الأرض اليباب" لأن أبطال هذه الأساطير يبحثون عن رؤيا النعمة السماوية التي يرمز اليها بدم المسيح في أسطورة "الكاس المقدسة". (جيدة، 1980م: 141) ثم إنّ إليوت يجهر بإعلانه عن عقيدته المسيحية ورفضه للمدنية الحديثة حیث قال إنّه کاثوليکي في الدين، کلاسيکي في الثقافة، ملکي في السياسة. (إليوت، 1980م: 198-199) فيوسف الخال يعتبر فاتحاً للرؤية المسيحية في الشعر العربي؛ فرمز المسيح في شعره يرمز إلى الشاعر الذي يضحى بنفسه في سبيل وطنه وشعبه وفي دائرة هذا الرمز استخدمت رموز أخرى متصلة بعملية الصلب مثل حمل الصليب الذي يشير إلى عبء التضحية في طريق المعاناة الطويل الذي يجب على الشاعر أن يقطعه. «إن يوسف الخال، الوارث ضمن التراث المسيحيّ الخاص، هو فاتحة التجربة المسيحية بالمعنى الميتافيزيقي الخالص في الشعر العربي.» (أدونيس، 1985م: 41) إنّ الخال في النموذج الشعري «وأدرنا وجوهنا: كانت الشمسُ/ غباراً على السنابكِ، والأفقُ/ شراعاً محطّماً. كان تموزُ/ جراحاً على العيون وعيسى/ سورةً في الكتاب» (الدعاء، 1979م: 227)، يخاطب القارئ خطاباً مباشراً في حين وهو لا يتحدث من خلال قناع البحر أو تموز أو المسيح فحسب، فتشکل ازدواجية في القصيدة؛ هو يلجأ إلى المسيح بشكل مباشر من خلال ذكره في القصيدة. وأما عيسى مخلّص البشرية فقد تناساه عابدوه وأداروا له ظهورهم ليتحوّل إلى مجرّد سورة في الكتاب المقدس. (الحلاوي، 1994م: 219) استخدم يوسف الخال المسيح وظروف صلبه ورمز بذلك إلی الشاعر العربي في صراعه من أجل إحياء الشعر العربي ورفضه أن يظل أسير التقاليد الشعرية الموروثة. (مورية، 2003م: 367) تتجلّى هذه المعاني في أبيات من قصيدة "دفن الموتى" لإليوت: «...هنا التاجر الأعور، وهذه الورقة/ ذات الصفحة البيضاء، شئ ما يحمله على ظهره،/ شئ منعت من رؤيته. لا أرى/ الرجل المعلق.إياك والموت غرقا/ أرى حشودا من الناس، تدور في حلقة» (راغب، 2011م: 53) التوضيح أنّ الورقة ذات الصفحة البيضاء التی بدا فيها الرجل المعلق برغم بياضها فهي للمسيح المصلوب على خشبة الصليب من أجل خلاص البشر. فقد سار المسيح حاملاً صليبه إلى مكان الصلب رمزاً للإنسان المثقل بآلام هذا العالم، ولذلك أصبح الصليب في المفهوم المسيحي رمزاً للتضحية والفداء من أجل الخلاص الروحي. (المصدر نفسه: 96) التجربة المسيحية ذات صدی فاعل في أشعار إليوت الذي قال: «الرجل المصلوب. إخشَ الموت بالماء/ ارى جموعاً من الناس، يدورون في حلقة/شكراً.أذا رأيت العزيزة مسز إكويتون/ قل لها إني سأجلب خريطة البروج بنفسي:/على المرء أن يكون حذراً هذه الأيام» (لؤلؤة،1991م: 39) الرجل المصلوب بين أوراق الرزمة. وهذا الرمز يتصل بالإله القتيل في طقوس الخصب القديمة كما يتصل بالمسيح المصلوب الذي يكون موته حياة العالم وقيامته خصوبة الأرض. لكن ايها الباحث: إخش الموت بالماء فالغرق موضوع رئيسي في القصيدة ويكون على مستويات شتى من المعنى. (المصدر نفسه: 114) الحق أنّ معظم قصائد ديوان "البئر المهجورة" تضجّ بالحنين إلى المسيح المخلص أو الله ويستعين الشاعر هنا بالمخلص/ المسيح، من خلال التفاعل المتبادل بين هذه الرموز تصبح العودة الى المخلص هي طريق النجاة الوحيدة من العمى وهي الملجأ الخير والحضن الدافئ للأنسان الذي لا حضن إلّاه. (الحلاوي، 1994م:210) فنراه قائلاً: «هذه الأرض/مواتاً أمست. وأمست عروقاً/من حديدٍ: أنّى تلفتَّ منها/غربةٌ بابلٌ.والصدى ما يزال يَرجعُ يمتدّ/ «اصلبوه، اصلبوه!»/ ما للضحايا/منذ هابيلَ منذ سقراطَ يا بحرُ/رغيفٌ وخمرةٌ للبرايا» (الخال، 1979م: 230-231) فالأبيات تنطبق على الرمز الخلاصي وتجسّد من خلال المسيح والمسيح قد صلب ولكنه افتدى البشرية بهذه التضحية. ويستنبط من النموذج الشعري الآخر: «قبضتي كلَّتْ وأظفاري براها/ الزحفُ من دارٍ لدارِ/ منذ ما سمّرتُ في الحرف مصيري. أتراني أهجر الدار وأمضي/ «يدفن الأمواتُ موتاهم» وأمضي؟/ أينَ أمضي؟/ أإلى المأتم في الغابة والميتُ إلهُ؟/ أ إلى العرس، وما/ في العرس خمر ومسيح؟ أم تراني ألزم الصمت وأبقي/جاثماً بين عظام/ عافها نور النهار...» (الخال، 1979م: البئر المهجورة، 201) أنّ الشاعر لايريد أن يكون رومانسياً ولا اجتماعياً أو كلاسيكياً بل إنه بين عظام جافة وعلى هذا الأساس هو يريد إحياء الشعر العربي باستخدام رمز المسيح في شعره الذي صورة من الديانة المسيحية. ومعظم النقاد المحدثين قد أشاروا إلى تأثير إليوت في الشعر العربي المعاصر، خاصة في شعر الخال وبالنسبة إلى تجلّي الرؤية المسيحية في شعره، «في قصيدة البئر المهجورة أصداء قوية من الشاعر الأميركي ت.س.إليوت، وقد تجلّى ذلك في ميزتين أساسيتين هما: اللغة البسيطة القريبة من لغة الحياة كما دعا اليها إليوت، والرؤية المسيحية التي هي طريق الخلاص الوحيد عند كلا الشاعرين، وإن كان هذا الخلاص المسيحي ينبع من ذات الشاعر في آنٍ معاً، وسنرى مثل ذلك في قصيدته "القصيدة الطويلة"، وينسحب هذا أيضاً على معظم شعر يوسف الخال.» (الحلاوي، 1994م: 221) ويمكن القول إن المسيح المصلوب على خشبة الصليب يكون من أجل خلاص البشر في شعر كلا الشاعرين. «فقد سار المسيح حاملاً صليبه إلى مكان الصلب رمزاً للإنسان المثقل بآلام هذا العالم، ولذلك أصبح الصليب في المفهوم المسيحي رمزاً للتضحية والفداء من أجل الخلاص الروحي.» (راغب، 2011م: 96) يقول الشاعر في قصیدة أخری: «لا أرى سيداً في الجمع. البجعُ يتمطَّي في/ البحيرة ولا نسرَ في الأفق. المياه راكدةٌ والضفاف/ أقرب من الأنف. الهواء ثقيل. النور ثقيل. الحمار/ ينطق، لا بأُعجوبة. الأعمى يُبصر، لا بأُعجوبة./الميت يقوم، لا بأُعجوبة. الأُعجوبة رقم في آلة،/ والسماءُ بقيت في المجاهل./ كنتُ صامتاً وأنا أتكلم. المرأة إلى جانبي رداء/ قاحل» (الخال، 1979م: قصائد في الأربعين، 283) صورة المسيح تتجلّى من ثنايا بعض الكلمات مثل الأعمى الذي يبصر والميت الذي يقوم فهاتان معجزتان من معجزات المسيح. المعاناة دينية الطابع، فعندما أراد أن يصف لنا واقعنا المتخلّف جاء بتعابير توحي بالمسيح مثل العمى الذي يبصر والميت الذي يقوم. ويتّضح من كل هذا أنّ المأساة في حقيقتها دينية.أي كل هذا ناتج عن افتقارنا الشديد للإيمان وبالنتيجة يكون البطل الوحد في القصيدة هو المسيح. (الحلاوي، 1994م: 225-226) المسيح عند الخال مملكة، شخص وهو البداية والنهاية والجذر والخلاص. كل ما يدخل مع الشاعر من أشياء هذا العالم في حوار وتآلف، هو من أجل توكيد المسيح وهو تجري تحت رايته وباسمه. (أدونيس، 1985م: 39) والشاعر يريد الحياة الخصبة بعودة الحبيب والحبيب رمز للمسيح المنجي فنراه يتحدث عنه: «أريد عودةَ الحبيب: إرحمني أيها الموج/ أعشاب البرية تصلِّي بلا بخور. لا صليبَ في/ الهيكل. لاصورةَ على الحائط. مفتوحةٌ هي الأبواب/ ولا من يدخل/ أجرْني أيها الغائب» (الخال، 1979م: قصائد في الأربعين، 285) تأسياساً علی کل ما سبق يمکن القول بأنّ البطل في جميع القصائد الثلاث المدروسة (البئر المهجورة-الدعاء- القصيدة الطويلة) واحد وإن اختلفت اسماؤه؛ في تعبير آخر إنه المسيح من ثنايا قصة إبراهيم أو من خلال رمز البحر أو المسيح يخفى وراء القصيدة والشاعر مؤمن بالخلاص في النهاية؛ لأنّ العقيدة المسيحية تؤمن بالمنقذ للبشر. ومما لا مراء فيه هو أنّ يوسف الخال إثر اطلاعه علی الأرض الخراب حاول أن يعطي للمسيح وتجربته دوراً فاعلاً في بنية نصوصه الشعرية وفي إيصال الرسالة المعنيّة للمتلقي العربي. المنهج الأسطوري الانبعاثي الطريف أن الأساطير الشرقية أتت الشعراء العرب المعاصرين عن طريق شعراء الغرب ونعني إليوت خاصة عن طريق قصيدته "الأرض الخراب". ويدّعي يوسف الخال أنّ قصيدته "البئر المهجورة" هي أوّل قصيدة تناولت هذه الإتجاه. (جيدة، 1980م:231) وهو جمع كثيراً من الشعراء الحداثيین في وقت واحد في مجلته "شعر" وهم نزعوا إلى هذه الإتجاه جميعاً. ولابدّ من التأكيد هنا على أن الكتاب الغربيين هم الذين أوحوا إلی الأدبا العرب بالعودة إلى عالم الأساطير حيث جاء توظيفهم للأسطورة نتيجة تأثرهم الواضح والمباشر بالكتاب الغربيين، سواء أرضوا أم رفضوا. (علي، 1978م: 21) ولعلّ الأهمية الكبرى لإليوت هي في اللجوء إلى الأسطورة، ضمن إطار مفهوم نظريته "المعادل الموضوعي"، وقد جسّد ذلك عمليّاً في شعره وخصوصاً في قصيدته "الأرض الخراب"حتى أصبحت نموذجاً ليس على الصعيد العربي فحسب، بل علی الصعيد العالمي أيضاً. (حلاوي، 1997م: 56) وعن تأثير إليوت في منهجه الأسطوری علی الشعراء العرب المعاصرين يقول عزالدين إسماعيل: فليس من الصعب على الدارس أن يلمس في كثير مما ينتجه شعراؤنا المعاصر التأثر المباشر بإليوت، وأن هؤلاء الشعراء قد صاروا في شعرهم يصدرون عن ايمان بالمنهج الأسطوري. وهم قد يتفاوتون في مدى قربهم من روح هذا المنهج وقدموا الينا أروع النماذج الشعرية كلما اقتربوا منه وتحركوا في اطاره. هذا وإنّ الشاعر يوسف الخال من أكثر الشعراء المعاصرين ولعاً بتكديس الرموز الأسطورية القديمة في شعره، وعدم توفير المجال الحيوي اللازم لها في القصيدة، وإحالتها إلى مقابلات عقلية. (1996م: 232- 233) من أمثلة ذلك قوله في قصيدة "الدعاء": «وقبلما نهمُّ بالرّحيل نذبح الخرافَ/ واحداً لعشتروتَ، واحدا لأدونيسَ/ واحدا لبعلَ...» (الخال، 1979م: البئر المهجورة، 234) أو في قصيدة "الوحدة": «بلى، و كنا الشاطئ اليشده/ بشاطئ طموحنا الرهيب، المغارة اليقيع/ فيها ألسباد، الشرفة اليطل/ منها قيصر وهنيبعل، الموكب اليشق/ دربه الصليب» (المصدر نفسه: البئر المهجورة، 211) يتّضح لنا تتابع الشخوص الرمزيين الأسطوريين على نحو لا يتيح لنا فرصة تمثّلها في الإطار الرمزي الشعري السليم، وانّما تتعامل معها بوصفها رموزاً عقلية لا تحمل في القصيدة سوى مغزاها المحدد القديم. (اسماعيل، 1996م: 214) وقد لعبت الأسطورة دوراً بارزاً في نقل القصيدة العربية إلى ساحة الدرامية؛ لأنّ الشاعر خلع على الأسطورة معنى انسانيا في الحاضر، أي ألبسها معاناة الإنسان للمشاكل المعاصرة، لعلّ أهمية استخدام الأسطورة والرمز في الشعر المعاصر ترجع إلى أن العالم المعاصر عالم مخفق وليس على الشعراء الناقدين قدرة على تفشي الاضطهاد والمعاناة فأصبحت الأسطورة أداة توصيل أي وسيلة لإستدعاء حدث معهم. بناءً على ذلك فإننا أمام شاعر يبذل قصارى جهوده لإصلاح الوضع فلننظر إلى هذه الأبيات: «وأدرنا وجوهنا: كانت الشمسُ/ غباراً على السنابك، والأفقُ/ شراعاً محطّماً. كان تموزُ/ جراحاً على العيون وعيسى/ سورةً في الكتاب.» (الخال، 1979م: الدعاء، 227) يعرض لنا الشاعر الحالة التعيسة التي يدور في فلكها هو وأبناء وطنه، فها هي شمس الحياة مطفأة، إذ تحوّلت الى مجرد غبار على حوافر الخيل، و تموز الآن يتمزق بأنياب الخنزير وأطبقت جراحه على العيون فغدا الكون أعمى يتغشاه الظلام الدامس. (الحلاوي، 1994م: 212) «ليت ذاك النهارَ لم يكُ، أُنظرْ/ كيف غارتْ جباهُنا، كيف جفّتْ/ في شراييننا الدماءُ، وكيف/ انبحَّ فينا صوتُ الأُلوهة، أُنظرْ/ هوذا الدربُ موحشٌ، ورحابُ/ الدارُ قفرٌ، والشطُّ مضجعُ رملٍ/ هجرته الأمواج.» (الخال، 1979م: البئر المهجورة ، 227) ليس عندنا شيء يبعث على الافتخار والكرامة وكل شئ في حياتنا يجرّ إلينا العار والخفّة. الحق أنّ الشاعر يحمل همّاً حضارياً وهذا مايفسّر لنا إلحاحه على أسطورة الموت والانبعاث المتجسّد في مثل: تموز والمسيح وأدونيس و... هذا هو الشاعر القائل:«ليت ذاك النهارَ لم يكُ،ليت/ العينَ ما أغمضت عليه-سوادُ/ الموتِ أبهى – ليت الوجوهَ الأدرناها/ استحالت ملحاً./ ألا من ينجّي، من يعيد الرجاءَ غيرُك يا بحرُ/ دعوناك فاستجبْ لدعانا» (المصدر نفسه: الدعا، 231) فيما يتعلق برمز "تموز" أو "أدونيس" الذي استخدمه ت.س. إليوت يمکننا القول بأنّه رسخ في خيال الشعراء الشبان من العراقيين واللبنانيين، وخاصة أولئك الذين ينتمون الى مدرسة مجلة "شعر" والذين يعتقد بعضهم أنهم أحفاد الفينيقيين القدامى. وقد أصبح تموز في الشعر الحر رمزاً لإيقاظ الحضارة الإسلامية من سباتها الطويل. (مورية، 2003م: 371) وهذا ما يشير أحد الباحثين في قوله:كان إليوت يعود الى القديم ليستوحى منه رموزه ولينقل رؤاه عبر هذه المسار الرمزي والأسطوري بلغة حية جديدة. (جيدة، 1980م: 142) إنّ هناك علاقة وطيدة بين الأسطورة والشعر من حيث نشأتهما التاريخية وأن استحضار الشعراء المعاصرين للأسطورة هو تعبير عن أزمة الإنسان في القرن العشرين وجسّد إليوت هذه الأزمة حين أعلن صراحة أن لاخلاص من الأرض الخراب إلا بالعودة إلى أحضان التراث الشعبي بطقوسه ومعتقداته. (بلحاج، 2004م: 10) علی ضوء هذه الأهميّة فليس بعجيب أن نری يوسف الخال مستلهماً التراث الديني ومعطياً له البعد الأسطوري قائلاً: «عرفت ابراهيم، جاري العزيز من زمان/ عرفت بئراً يفيض ماؤها/ وسائر البشرْ./ تمرُّ لاتشرب منها، لا، ولا/ ترمي بها ترمي بها حجرْ./ ... يقول ابراهيم في وُريقةٍ/ مخضوبةٍ بدمه الطليل/ «تُرى يحوّلُ الغديرُ سيرَه كأنْ/ تبرعم الغصونُ في الخريف أو ينعقد الثمرْ/ ويطلع النباتُ في الحجرْ» (الخال، 1979م: البئر المهجورة، 203) إنّ ابراهيم هو جاره الإنسان مصدر الخصب والعطاء، بئر تفيض ماء، ولكن الإهمال الذي جعل البشر تمر به لا تشرب ولا ترمي به حتى الحجر. ويوسف الخال يتوغل في مفازة المدن الميتة بحثاً عن حياة الإنسان والنبات ... مستمداً من تجربة الإنسان الأولى صورة لتجربة الإنسان المعاصر في عريه وضياعه ووحدته. (جيدة، 1980م: 233-234). وتبدو الخلفية الكامنة وراء تشكيل الرؤيا دينية متمثلة في إبراهيم والمسيح. إنّ الرموز هنا تمثل الغربة والافتداء والموت الفردي من أجل الجماعة. الموقف الدرامي والنزعة التراجيدية في قصيدة "الأرض الخراب" نأى إليوت عن عالم التراجيديا القديمة بصرخاته ولطماته وكوارثه الدامية وأباطرته وملوكه وأمرائه المأسويين ليكتشف عالم الحياة اليومية المعاصرة. وبذلك لفت نظر شعراء هذا العالم الى جوهر عالمهم الحقيقي وكانت رؤية إليوت الشعرية رؤية روحية دينية متشائمة تؤمن بعبث الحضارة المعاصرة، وفشل الإنسانية المتواصل طوال عشرين قرنا هي عمر الحضارة المسيحية في الوصول الى الله. (راغب، 2011م: 11) كان يوسف الخال يلتفّ حوله فيجد أن المفازة قد حلّت في كل شئ، وأن البوار مسح تربة الحياة ونضارة الوجوه فانتشر القحط والجفاف، فيرفع صوته معلناً: وجوهنا مفازة/مشت عليها قدم البوار (جيدة،1980م: 231) وأن الشاعر في كل ديوانه (البئر المهجورة) يتساءل لماذا انتشر الجدب واختفت الواحة الظليلة ونضب الماء الجاري وشحّ العطاء وبارت المواسم الكبار ويرى أن الشاعر ضائع في مفازة الحياة الحاضرة يبحث عن نفسه ومجتمعه. (المصدر نفسه: 232) أما فيما يختص باحساس الإنسان بضرورة استجلائه لذاته ولموقفه في اطارتلك الدرامة التاريخية، فإنّ الشاعر يوسف الخال يعبّر عن هذا الإحساس تعبيرا مركزا في قصيدته Ecco Homo حيث يقول: «أعلم أن الأمس بي حاضر/ وأنني أبو الزمان العتيد/ وأن أيامي على ضيقها/ تنال مني كل شئ جديد/. أنا الذي يجتر عهد الأولى/ تناحروا منذ ابتداء السنين/ متى أعي نفسي فتجري المنى/ معقودة النصر على العالمين؟» (الخال، 1979م:251) الشاعر يشير إشارة غير مباشرة إلى تجربته من خلال شعره أنها تكون تجربة إنسانية مشتركة صادقة على المستوى الإنساني العالم؛ إنّما يتمثّل في هذه القصيدة بوضوح درامة الإنسان الذي يحاول أن نعى ذاته وسط حشد الوقائع التاريخية التي تصنع في مجموعها نسيج الحياة. كانت هذه القصيدة تتناول الموقف الدرامي العام للإنسان والحياة من جذوره. (اسماعيل، 1996م: 310) وهذا المعنى متوافر في قول إليوت: «أيها التيمز العذب، تمهل حتى أنهى موالي/. في مساء شتوى خلف مستودع الغاز/ وخواطري تحوم حول حطام سفينة أخي الملك/ وحول موت أبى الملك من قبله/ أجساد بيضاء عارية على الأرض الرطبة الواطئة...» (راغب، 2011م: 61) يوحى إلينا إليوت بأن الحبّ لابدّ أن يموت في الأرض الخراب، سواء أكان بين ذراعي امرأة فقيرة بائسة مثل ليل أو في قلب أميرة بائسة أيضا مثل أوفيليا؛ ذلك أنهما تخضعان لنفس ظروف الضياع والإحباط بصرف النظر عن الاختلاف الشاسع في المستويات الاجتماعية والاقتصادية. (المصدر نفسه: 114) ويقال أن هذه النزعة الحزينة في الشعر المعاصر العربي ليست إلّا نوعاً من التأثر بأحزان الشاعر الأوروبي الذي عاين طغيان الحضارة المادية على الروح الغربي بخاصة في القرن العشرين. ولا يمكننا في الحقيقة أن ننكر التأثير المباشر أو غير المباشر ت.س. إليوت وهو يتسنم قمة الموجة الناعية على الحضارة الأوروبية المعاصرة اقفار الروح فيها وبخاصة قصيدة "الأرض الخراب" وقصيدة "الرجال الجوف". إن تأثر الشاعر بإليوت حمل معه أجواء مأساوية كما في قوله: «لألف سنةٍ وأنا أمضغ القات. لألف سنةٍ وأنا/ أركب جواداً ميتاً./ لألف سنةٍ وأنا بلا وجه/ قناعي لوحةٌ على قبر/ واليوم أنا سائح بلا هويَة. نقودي مزيّفة/ ورأسي بلا شعر/ وموكبي قصبٌ تصفرّ فيه الريح» (الخال، 1979م: قصائد في الأربعين، 284) الشاعر يشير من خلال هذه الرموز إلى حالة الركود المستشرية في العالم العربي منذ سقوط بغداد على يد هولاكو المغولي؛ فالحركة معدومة في عالمنا، ونحن عاجزون عن التقدم الحضاري وليس لنا وجه بين الأمم المتقدمة، وكأن هذه الحالة باتت مستعصية على الزمن. (الحلاوي، 1994م: 223) إن المأساة في حقيقتها دينية، تخلّفنا الحضاري ناتج عن افتقارنا الشديد للايمان أي أن العلّة هي دينية في الأساس وبالنتيجة يكون البطل الأوحد في القصيدة هو المسيح فليس لنا من الخلاص إلا على يديه وهذا الواقع المظلم الذي يطبق علينا قد تأتى بسبب ابتعادنا عن المسيح بحسب مفهوم الشاعر. وفي الأخيرة إن إيقاع الموت والجو المأساوي مسيطرة على الخال وإليوت الشعريتين، أورد من مورد الجدب واليأس وتأثر الخال من شعر إليوت بارز وواضح في هذه من الحالة الجدب الروحي. الميل إلی الموت كانت جدلية الحياة والموت هي رسالة بعض الشعراء إلى جمهورهم وهي رسالة تضع الخصب مكان الجفاف والأمل مكان اليأس والحياة مكان الموت والنصر مكان الهزيمة. ولقد استعان هؤلاء الشعراء على أداء هذه الرسالة بأسطورة الحياة والموت، المتمثّلة في جملة من الأساطير يرتبط انبعاثها بمعاناتها للموت كالفينيق والعنقاء وتموز التي اشتهر باستحياء مناخها، جماعة من الشعراء أطلق عليه خلال الخمسينيات اسم شعراء التموزيين نسبة إلى تمّوز اله الخصب وهم بالتحديد السياب وحاوي وادونيس ويوسف الخال. والسؤال الذي يطرح هنا هو لِم استعان هؤلاء الشعراء على أداء هذه الرسالة بأسطورة الحياة و الموت؟ والسبب واضح للعيان، إنّه في رأي الدارسين لم يكن سوى «أنّ اقتران هذه التجربة بلفظتي حياة وموت، في فترة قريبة العهد بنكبة فلسطين، قد أعطاها في الأدبيات المكتوبة في هذه الفترة وما بعدها أهمية لاتتناسب مع القيمة الحقيقية لما كتب هؤلاء الشعراء من شعر.» (المعداوي، 1993م: 172-173) وفي شعر الشاعر يوسف الخال لم يعد الموت يعني النهاية المادية لكائن من الكائنات بل هو يعني موت مجتمع بكامله أو موت الحضارة بعينها، بحيث يصبح المطلوب هو بعث ذلك المجتمع وإعادة تلك الحضارة إلى الوجود «وإذا كان المجتمع العربي والحضارة العربية يعانيان من الموت هذا فإنهما بحاجة إلى انبعاث حقيقي يعيد إليهما الحياة المفقودة والشاعر العربي استطاع أن يرتفع بشعره إلى مستوى موت الحضارة العربية وبعثها، عن طريق توظيف أسطورة الموت والبعث.» (المصدر نفسه: 174) فالنظرة الفاحصة إلى شعر الشاعر يكشف لنا أنّه عن المأساة التي يعيشها الواقع وتكبّل الإنسان فيه والغريب أن طريق الخروج والنجاة من تلك المأساة مفتوحة والحل موجود: «عرفت ابراهيم، جاري العزيز، من زمانٍ/ عرفته بئراً يفيض ماؤها/ وسائر البشر/ تمرّ لاتشرب منها، لا ولا/ ترمي بها، ترمي بها حجرْ/لو كان لي أن أنشر الجبينَ/ في سارية الضياء من جديد/ يقول ابراهيم في وُريقةٍ/ مخضوبةٍ بدمه الطليل/ تُرى، يحوّلُ الغديرُ سيرَه كأنْ/ تبرعم الغصونُ في الخريف أو ينعقد الثمرْ/ ويطلع النبات في الحجرْ؟» (الخال، 1979م: البئر المهجورة، 204-203) إن ابراهيم هنا يتقمص الإله تموز أو أدونيس الذي يمزقه الخنزير فتتحول دماؤها الى شقائق وينبعث ربيعاً أخضر يبعث الانتعاش في الأرض. (الحلاوي، 1994م: 206) أو إبراهيم هنا هو المسيح الذي يفدي العالم بموته مادام يشعر بمسؤوليته تجاه الآخرين. إن إبراهيم هنا ليس من أجل استمرار الحياة فحسب بل لتغييرها إلى الأفضل. ومن مظاهر هذا التغيير تحول الطبيعة التي لن تعرف غير الربيع وتحول العقبان عن طبيعتها الافتراسية فيه السلام والأمن وتسترجع المعامل والشوارع والحقول طبيعتها الحية التي فقدها الإنسان المعاصر، كما يسترجع الإنسان كرامته ويعود الضال التائه إلى أرض معاده. ولعلّ هذه المبادئ الحياة السلم الكرامة محو الخطيئة هي المبادئ التي ضحى من أجلها المسيح قديما ويضحى من أجلها إبراهيم راهنا فإبراهيم هو مخلص الإنسان حديثا. إنّ هذه المعاني تقترب كثيراً من شعر إليوت حينما قال: «فليباس الفينيقي الذي مات منذ أسبوعين/ نسى صراخ النورس، وتقلبات البحر العميق/ وحسابات الربح و الخسارة/...» (راغب، 2011م: 69) في أرض الضياع يتحول الماء من رمز للطهر والنقاء والخلاص إلى هاوية للموت. ذلك أن البحر هنا يرمز للحياة بكل أمواجها المتلاطمة الصاخبة، وفليباس هنا يرمز للأنسان الذي لابد أن يسقط ميتا بين لججها مهما طال به العمر، فلم يعد فليباس يسمع صراخ النورس الذي يرمز الى الحياة والحيوية. (المصدر نفسه: 142) كما قيل إليوت هو شاعر الموت والإقطاع والإمبريالية العالمية. (Colla, 2015: 257) أو أبيات أخرى من الخال: و«أيها البحر، يا ذراعاً مددناها/ إلى الله، ردّنا لك، دعنا/ نستردّ الحياة من نور عينيك/ ودعنا نعود، نرخي مع الريح/ شراعاتنا، نروح ونغدو/ حاملين السماء للأرض دمعاً/ ودماءً جديدةً» (الخال، 1979م: البئرالمهجورة، 230) البحر يصبح ذراع الخلاص وهو ينبوع الحياة، إنه الطريث إلى الله وهي الوحيدة القادرة على إنقاذ الإنسان برأي الشاعر. ويرى الحلاوي أن رؤيا الشاعر ههنا دينية ويطلب من البحر أن يفتح ذراعيه لأشرعتنا لكي تغدو وتروح بين السماء والأرض. (الحلاوي، 1994م: 215) وهذا يشبه ما نجده عند إليوت حيث يجد الخلاص في صورة الماء والبحر والبحر نبع الحياة الأزلي وإنه المخلص والمنقذ للبشرية: «بعد وهج المشاعل على الوجوه العرقة/ بعد صمت الصقيع في البساتين/ بعد الآلام في الأماكن الحجرية/ ...والصياح والعويل/ والسجن و القصر وتجاوب/ رعدالربيع على الجبال القصيّه/ الذي كان حيّاً هو الآن ميت/ الذين كنا أحياء نحن الآن نموت/ بقليل من الصبر...» (لؤلؤة، 1991م: 53) هذا ما قال اليوت في (قصيدة ماقال الرعد)، يحتمل هذا البيت تفسيرات عدة: فقد يفيد أنّنا في حالة موت لأننا قد فقدنا الصبر ولم يبق لدينا منه سوى القليل. وموضوع الموت في الحياة هو موضوع مطهر دانته حيث تنتظر الأرواح بين الحياة والموت. وترتبط هذه الصورة بصورة المتحدث في القسم الأول من القصيدة الذي يقول "ماكنت حياً و لاميتاً" وهي صورة الحياة في هذه الأرض اليباب حيث يكون البشر في انتظار الخلاص الذي يبحث عنه المتحدث هنا في صورة الماء والمطر. (المصدر نفسه: 144) وهذه الأبيات: «نيسان أقسى الشهور، يخرج/ الليلك من الأرض الموات، يمزج/ الذكرى بالرغبة، يحرّك/ خامل الجذور بغيث الربيع» (المصدر نفسه: 36) قيلت في "قصيدة دفن الموتى" من اليوت، قد يكون صدى نظام دفن الموتى وهو من اعراف كنيسة الانکلیکان ونيسان هو شهر صلب المسيح وقيامته، ولذا فهو قاس وهو يخرج الليلك من الأرض الموات بتفضيل كلمة يخرج على كلمة يولد التي في الأصل والأرض الموات كما في الأصل هي شبه ما لاينتفع به من الأرض لإنقطاع الماء عنه وهو يمزج. (المصدر نفسه: 107) علی ضوء ما أسلف ذکره في شعر المعاصر العربي امتلأت نغمة الحزن إلى حد تلفت النظر، بحيث أن الحزن والميل إلى الموت قد صار محوراً أساسياً في معظم قصائد الشعراء العرب المعاصرين، ولا يمكن في الحقيقة إنكار التأثير المباشر أو غير مباشر لشعر اليوت بخاصة قصيدة "الأرض الخراب" وقصيدة "الرجال الجوف". النفور من المدينة إن المدينة في الشعر المعاصر ليست إلا تقليداً من الشعر الغربي «أن الشاعر حين يحس بتضايقه من المدينة ويتحدث عن الغربة والقلق والضياع – مجرد محاكاة- شعراء الغرب حين والقلق والضياع انما يحاكي – مجرد محاكاة – شعراء الغرب حين يضيقون ذرعا بتعقيدات الحضارة الحديثة وبالمدينة الكبيرة ممثلة لها.» (عباس، 1999م: 111) «فكأن الشاعر العربي الحديث، حين يتحدث عن القاهرة ودمشق وبغداد وبيروت، إنما يتحدث عن باريس ولندن ونيويورك على لسان شاعر أوروبي، وإنما كان الشاعر العربي تابعاً لشعراء الغرب في مواقفهم من مدنهم.» (المعداوي، 1993م: 152) يمكن القول إنّ الشاعر يوسف الخال من أكثر الشعراء العرب المعاصرين احساساً وادراكاً بالنسبة لموضوع المدينة؛ فإنّها في شعر الخال مدينة الوهم كالمدينة في شعر إليوت: «مدينة الوهم،/ تحت الضباب الأسمر من فجر شتائي،/ إنساب جمهور على جسر لندن، غفير،/ ماكنت أحسب أن الموت قد طوى مثل هذا الجمع/ حسراتٍ، قصيرة متقطعة، كانوا ينفثون» (38) (لؤلؤة، 1991م: 38) والمدينة التي تدور فيها الموت والجدب ليست مدينة فاضلة كما وصفها الكتب المقدسة «بل هي مدينة الوهم مدينة زائفة غير حقيقية، رأى فيها الشاعر تحت الضباب السمر من فجر شتائي جمهوراً غفيراً ينساب على جسر لندن، سائرين نحو أعمالهم صباحاً وهم أشبه بالموتى مثل جمهور الناس في جحيم.» (المصدر نفسه: 145) وفي الأبيات التي قالها إليوت: لايوجد ماء هنا فقط يوجد صخر/ صخر ولاماء والطريق الترابي. جبال صخر بدون مياه/ لووجد الماء لتوقفنا لنشرب/ بين الصخر لايستطيع أن يتوقف الإنسان أو بفكر/ العرق قد جف والقدم في الرمال/... (العيسوي، 1998م: 18) إنّ المدينة التي تقام فوق الجبال تتصدع وتتشقق وتنهار كالأبراج المتهدمة، لكنه مدرك لحقيقة وضعه ولحقيقة وضع ما بعد الحرب بصفة عامة حين يقول: نحن نفكر في المفتاح، فكل في سجنه. (المصدر نفسه: 19) المدينة الزائفة/ بضبابها القاتم في ظهر يوم من أيام الشتاء/ كان المستر أيوجنيدس التاجر الأزميري/... (راغب، 2011م: 56) مدينة الوهم هي لندن التي يمكن أن ترمز إلى أية عاصمة من عواصم أرض الضياع ولا يتكلم اليوت عن هذا الوهم بشكل مباشر وإنّما يجسّده في رموزه؛ الضباب الداكن يحيط بكل الأشياء ولا نرى عبر طياته سوى حشد غفير يعبر جسر ندن وكأنه أصبح الجسر الذي يفصل بين الحياة والموت، فحياتهم أصبحت قاب قوسين أو أدنى من الموت، أو هي الموت نفسه. (المصدر نفسه: 100) «المدن الزائفة،/ والجموع المتزاحمة تعبر قنطرة لندن/ في فجر يوم من أيام الشتا و كان الضباب داكناً،/ إنني ما كنت أخا لا لموت قد طوى مثل هذا العدد الضخم...» )متى، 1991م: 105) لقد كانت المدينة في الماضي رمزاً للأمومة. لكنها الآن بكل بريقها الخارجي أصبحت زائفة. وأودت المدينة الحديثة بكل عناصر الترابط التي كانت تفخر بها في الماضي من محبة وإخاء وتآلف. فنظرة سكان المدن الحديثة إلى الأمور والمشاكل نظرة ضيقة مليئة بالأنانية وحب الذات ولايهمهم من أمر الدين كذكرى صلب المسيح شيء. (المصدر نفسه: 109) هذه هي بعض مظاهر المدينة الحديثة في شعر اليوت من فساد مخيم على كل أرجاء المجتمع فعمّ القحط وتناثرت أشلاء الموتى وتضاءلت الهمة. وهذا هو يوسف الخال يبحث عن نفسه فيتساءل: «القدر الأعمى أنا، أملح أرض، أم/ جبين مسح التراب في مقابر/ الملوك –هذا الأنأ؟ أم غيبة/ عابرة؟ أم أقحوان فتح الجفون/ في الصباح سردها الخلود في مسامع الضحايا. ...أم شبح يسير في/ شوارع المدينة الناطحة السحاب،/ العالية القباب، المغلقة النوافذ/ الزجاج- المدينة المقفرة الموحشة/ الخالية الروح، التي يسكنها أناس؟» (الخال، 1979م: البئر المهجورة، 176) أثرت معاناة حياة الشاعر على إحساسه فعبّر عن مشاعر الوحدة والألم والغربة. إذن مشاعر الوحدة والضياع والغربة التي عبر عنها الشاعر إنما هي أثر من معاناته الحياة في المدينة؛ وهو يتجوّل في مفازة المدن الميتة بحثاً عن حياة الإنسان والنبات مساعداً الإنسان المعاصر في عريه وضياعه ووحدته وفي عودة الخصبة. والأناس في مدينة لخال يشبه كثيراً بسكان الأرض الخراب «إن سكان الأرض الخراب يتمنون لأنفسهم أيضاً الموت وبخاصة بعد أن ذبل الزرع ولم تعد للحيوانات أية قدرة على الإخصاب، فعمّ القحط واشتدت التحاريق. والأرض الخراب في نظر إليوت ماهي إلا أوربا الحديثة وسكانها هم الذين يكونون المجتمع الأوربي بعد الحرب العالمية الأولى. وقد شهدت تلك السنوات اضمحلالاً في الأخلاق وبعداً عن مقومات الحياة وإيماناً بقوة المادة وزعزعة في القيم الروحية. ولهذا كان ومازال لهذه القصيدة صدى قوي في نفوس المفكّرين.» (متى، 1991م: 97) ... أوه أيتها المدينة، إنني أستمع احياناً/ إلى الصوات العذبة المنبعثة من القيثارة/... . (المصدرنفسه: 95) ويجمع بين إليوت والخال الحرمان من المدينة الفاضلة. وإنّ وجه التشابه بين القصيدتين كبير وإن كان عنصر العقم واللاجدوى واللاشيئية هو الغالب في هذين العملين. كما في قول اليوت: «هذه الأرض الميتة/ أرض الصبار/ حيث تنصب الأوثان/ وحيث نتلقي/ الضراعة من أكف الموتى/ تحت لألأة نجم خافق.» (متى، 1991م: 153) عالمنا الأرضي فيتمثل في هذه الأبيات، وهذه هي (الأرض الخراب) بعينها، أرض الأموات و الصبار وقد خلت من أي مظهر من مظاهرالحياة، تقام الأصنام في كل ركن من أركانها، فيضرع لها (الرجال الجوف). (المصدر نفسه: 153) وفي هذه الأرض أيضاً: «لاتوجد العيون/ العيون لا وجود لها هنا/ في وادي النجوم الخابية/ في هذا الوادي الأجوف/ في هذا الفك المهشم لممالكنا الضالة»؛ فعيون الحقيقة التي تنفذ إليها ببصيرتنا العميقة لا وجود لها بين ضلال هذا العالم. إن الفك المهشم كناية عن الحطام والدمار والخراب الذي أصاب العالم عقب الحروب والمنازعات. (المصدر نفسه: 155) كما تحدّثنا مدينة الخال ومدينة إليوت تشبهان في الجدب وعدم الخصب والموت واليأس والبأس و«إنّ المدينة الأوروبية الحديثة لم تهج هجاء أعنف ولا أعمق من الهجاء الّذي وجّهه ت.س. إليوت إليها في قصيدته الأرض الخراب.» (الحلاوي، 1994م: 27) فممّا جاء في تحليل أشعارهما هي صورة للمدينة سواء أكانت شرقية أو غربية، ويستطيع القارئ أن يقارن بين شعر الخال وبين شعر اليوت، فإن المدينة في شعر الخال شرقية خالصة وفي شعر اليوت غربية ولكن ما يتّضح للقارئ هو أنّ المدينة موهمة، كدرة، خالية عن الإنسان والحياة في شعر كلا الشاعرين. النتيجة يمكن الاستنتاج من دراسة مقارنة لبعض النماذج الشعرية للشاعرين إليوت ويوسف الخال هو أنّ الخال تأثّر مباشرة بإليوت، حيث إنّ مفهوم الخال للشعر قريب إلی حدّ کثير من المفهوم الإليوتي، ويظهر ذلك جلياً من خلال حديثه عن الخصائص التي يجب توفرها في القصيدة الحديثة، من هذه الخصائص: استخدام الإيماء التاريخي أو الأسطوري أو الفولكلوري ومنها التعبير بالصورة الحية المجسّدة والتعبير بكلمات وعبارات حيّة عند الناس لا في بطون الكتب والقواميس، ومنها التعبير عن روح العصر أي معاناة مشاكل الجيل أو الأمة على أنها من مشاكل هذا العصر وذلك برفعها من نطاقها المحلي إلى النطاق العالمي؛ فاطلاع يوسف الخال علی الأدب الإليوتي ودراسة أشعاره في مجلة "الشعر" وأخيراً دراسة مقارنة حالية بين نماذج شعرية من الشاعرين يدعونا إلی الاعتقاد بأنّ يوسف الخال کان متأثراً بأشعار إليوت وآرائه مباشرة. هذا وإنّ إليوت بذل جهوداً كثيرة في الدفاع عن حضارة أوروبية مسيحية تمتد جذورها إلى الحضارتين اليونانية والرومانية وأيضاً المصرية وبعض البلدان الآسيوية، ومثل إليوت أكّد الخال على البعد المسيحي في الحضارة الغربية. وبعد دراسة البعد المسيحي في شعر هذين الشاعرين يمكن الاستنتاج بأنّ طبيعة الرؤيا المسيحية عند الخال تشبه إلى حد کثيرٍ الرؤيا المسيحية عند إليوت، لأنّهما اشتركا في الموقف النهائي وهو أنّ الخلاص لا يتم إلا من خلال العودة إلى الينابيع الروحية المتجسدة بالمسيح أي المخلص المأمول عندهما. وكان مبدأ آخر مشترك بين الخال وإليوت هو أن الشعر يجب أن يعكس تجربة إنسانية شخصية وكونية في آن وقراءة متأنية لمقالات الخال في مجال الشعر تظهر أن جميع مقولاته صدى أفكار إليوت وحضور إليوت وأدبه في مجلة "شعر" بالحركة التي أسّسها الخال واضح جداً. ثمّ فکرة الخلاص علی يد المسيح في قصائد الخال كلها تذكّرنا بالرؤية المماثلة عند تی.اس.إليوت، أي الدرامية تتولد في قصائده بنتيجة التناقض بين الواقع المادي والمسيح المنقذ الذي توحي القصيدة بأجوائه ثم إنّ لجوء الخال إلى توظيف الأساطير وإلى استخدام اللغة الدارجة كان بإيحاء قوي من إليوت أيضاً. والدراسة تدعونا إلی الاعتقاد بأنّهما يشترکان في تجربة المعاناة والإحساس بالضياع، وتصوير معاناة المعذبين في أرضهما الخراب واليباب.
[1]. Prufrock and Other Observations [2]. Poems [3]. The Waste Land | ||
مراجع | ||
أدونيس. (1985م). سياسة الشعر: دراسات في الشعرية العربية المعاصرة. ط1. بيروت: دارالآداب.
إسماعيل، عزالدين. (1996م). الشعر العربي المعاصر قضاياه وظواهره الفنية والمعنوية. ط1. القاهرة: دارالفكرالعربي.
راغب، نبيل. (2011م). أرض الضياع رائعة الشاعر ت. س. إليوت. القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب.
بلحاج، كاملي. (2004م). أثر التراث الشعبي في تشكيل القصيدة العربية المعاصرة. دمشق: منشورات اتحاد الكتاب العرب.
جيدة، عبدالمجيد. (1980م). الإتجاهات الجديدة في الشعر العربي المعاصر. ط1. بيروت: مؤسسة نوفل.
حلاوي، يوسف. (1997م). المؤثرات الأجنبية في الشعر العربي المعاصر. ط1.بيروت: دار العلم للملايين.
________. (1994م). الأسطورة في الشعر العربي المعاصر. ط1. بيروت: دار الآداب.
الخال، يوسف. (1979م). الأعمال الشعرية الكاملة. بيروت: دار العودة.
_______. (1978م). الحداثة في الشعر. ط1. بيروت: دار الطليعة.
خيربك، كمال. (1986م). حركية الحداثة في الشعر العربي المعاصر. ط2. بيروت: دارالفكر.
شاهين، محمد. (1992م). إليوت وأثره على عبدالصبور والسياب. ط1. بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر.
شكري، عبدالرحمن. (1994م). دراسات في الشعر العربي. ط1. القاهرة: الدار المصرية اللبنانية.
عباس، إحسان. (1959م). فنّ الشعر. ط 2. بیروت: دار بیروت للطباعة والنشر.
عباس، إحسان. (1999م). اتجاهات الشعر العربي المعاصر. الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب.
علي، عبدالرضا. (1978م). الأسطورة في شعر السياب. الجمهورية العراقية: منشورات وزارة الثقافة والفنون.
العيسوي، بشير. (1418ه-1998م). دراسات في الأدب العربي المعاصر. القاهرة: دار الفكر العربي.
فضول، عاطف. (2000م). النظرية الشعرية عند إليوت وأدونيس دراسة مقارنة. ترجمة: أسامة إسبر. المجلس الأعلى للثقافة.
لؤلؤة، عبدالواحد. (1995م). ت.س.إليوت/ الأرض اليباب الشاعر والقصيدة. ط2. بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر.
متى، فائق. (1991م). نوابغ الفكر الغربي إليوت. ط2. القاهرة: دار المعارف.
المعداوي، أحمد. (1993م). أزمة الحداثة في الشعر العربي الحديث. ط1. المغرب: منشورات دار الآفاق الجديدة.
مورية، س. (2003م). الشعر العربي الحديث1800-1970تطور أشكاله وموضوعاته بتأثير الأدب الغربي. ترجم وعلّق عليه: شفيع السيد وسعد مصلوح. القاهرة: دارغريب.
المقالات والرسالات الجامعية
حورية، كريدات. (2015م). الأسطورة عند أدونيس. الجمهورية الجزائرية: جامعة وهران.
الضمور، عماد عبدالوهاب. (2014م). «أثر إليوت في شعر عزالدين المناصرة». عمان: دراسات العلوم الإنسانية والإجتماعية. المجلّد41. العدد 3. صص 877-866 .
مخلف، فؤاد مطلب ولطيف محمود محمد. (2010م). «إليوت عند النقاد العرب». مجلة جامعة الانبار للغات والآداب. العدد 3. صص 106-88 .
المصادر الأجنبية
Saddik, M. Gohar. (2017). Appropriating English Literature In Post-WWII Iraqi Poetry. United Arab Emirates, Al Ain, United Arab Emirat.
Saddik, M. Gohar. (2008). Toward a Hybrid Poetics: The Integration of Western/ Christian Narratives in Modern Arabic Poetry. CROSSROADS.
Colla, Elliott. (2015). Badr Shakir al-Sayyab, Cold War Poet. Middle Eastern Literature.
Samarrai, Ghanim. (2014). Rejuvenating T.S.Ellot,s The Waste Land. UAE.
Adhrraa A. Naser. (2016). Westtern Modernism Translated And Retranslated In Iraqi Poetry: Al Sayyab Between Eliot And Sitwll. Plymouth, UK. Impact Journals.
Neimneh, Shadi and Zainab al Qaisi.(2015). The Poetry of B.S.Al-Sayyab:Myth and the Influense of T.S.Eliot. Hashemite University, Zarqa-Jordan. pp 178-192.
| ||
آمار تعداد مشاهده مقاله: 1,446 تعداد دریافت فایل اصل مقاله: 224 |