تعداد نشریات | 418 |
تعداد شمارهها | 10,004 |
تعداد مقالات | 83,624 |
تعداد مشاهده مقاله | 78,490,463 |
تعداد دریافت فایل اصل مقاله | 55,492,991 |
دراسة نقدیة تحلیلیة فی مآخذ مارون عبّود علی شعر عباس محمود العقّاد | |||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
إضاءات نقدیة فی الأدبین العربی و الفارسی | |||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
مقاله 4، دوره 6، شماره 22، آذر 1437، صفحه 92-73 اصل مقاله (226.86 K) | |||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
نوع مقاله: علمی پژوهشی | |||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
نویسنده | |||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
جمال طالبی* | |||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
أستاذ مساعد فی قسم اللغة العربیة وآدابها بجامعة فرهنگیان ـ طهران، إیران | |||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
چکیده | |||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
عباس محمود العقّاد ناقد، شاعر، وموسوعیّ کبیر خلّف لنا تراثاً قیّماً علی ساحات اجتماعیة، وسیاسیة، ودینیة، وأدبیة. إنّه لم یتخلّف عن میدان النقد والشعر فصدر منه ما یقارب من عشرة دواوین شعریة، لکنّ شعره أُثیرت حوله معارک نقدیّة حامیة الوطیس أدّت إلی انقسام النقّاد إلی ثلاثة تیّارات: التّیّار المؤیّد، والتّیار الرافض، والتّیار الذی سار فی اتّجاه موضوعیّ علمیّ. یمثّل مارون عبّود الناقد اللبنانی الشّهیر الاتّجاه الذی یرفض شعر العقّاد رفضاً باتّاً منکراً شاعریّته فهو یری شعره باعثاً للسخریة والهزء. إنّ الإنسان عندما یقرأ آراء عبّود یحسّ منذ البدایة أنّها خلت من الروح العلمیّ والموضوعیّ، وأنّ عبّود وقع فی شباک التکتّلات النقدیة السائدة فی النقد الأدبی العربی فی القرن العشرین عندما یقول: «لا أقابله بناجی، وأبی شادی، وطه، والصیرفی، والخفیف، وبشر فارس، وصالح جودت، ومبارک، وکلّ من یقول شعراً بمصر، فکلّ هؤلاء حتّی زکی مبارک خیر منه.» فمن هذا المنطلق رأینا من الضرورة أن نقوم بدراسة آرائه برؤیة نقدیة محایدة فنکشف حقیقة شعره خاصّة فی دواوینه "هدیة الکروان" ، و"عابر السّبیل" و"وحی الأربعین" التی تمتاز بالتجدید والموضوعیة ووحدة القصیدة. وأهمّ نتیجة حصلت لنا أنّ عبّود رغم أنّه کان مصیباً فی بعض جوانب نقده، إلّا أنّه ابتعد عن الحقیقة والموضوعیة فی قسم کبیر من آرائه فجری وراء أغراضه الفردیة. لأنّ التنافس بین مصر و لبنان فی ساحة الأدب والنقد فی بدایات القرن العشرین دفع النقّاد إلی خوض معارک نقدیة سادت العصبیة واللامنهجیة علی قسم کبیر منها. | |||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
کلیدواژهها | |||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الشعر العربی الحدیث؛ عبّاس محمود العقّاد؛ النقد الأدبی؛ مارون عبّود | |||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
اصل مقاله | |||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
إنّ الحدیث عن العقّاد صعب وخطیر جدّاً إذ یعدّ من أکبر أعلام النهضة الفکریة والأدبیة المعاصرة، وهو شخصیة موسوعیة غزیر الإنتاج. فقد شارک فی الحیاة الأدبیة شاعراً وناقداً، وفی الحیاة السیاسیة مناضلاً ومؤرخاً، وفی الحضارة العربیة باحثاً ودارساً لکثیر من الشخصیات العبقریة فی الإسلام والمسیحیة. (انظر: وادی، 1994م: 184) کان العقّاد من کبار النقّاد، ومن أعلام النقد النظری والتطبیقی فی ساحة النقد العربی الحدیث، وکانت مساعیه الأدبیة مرکّزة علی حقول ثلاثة: «الأول، وهو أکثرها فائدة للشعر، کتاباته فی النظریة الشعریة، والثانی نقده التطبیقی، والثالث فی الأمثلة التی قدّمها من شعره حول ما کان ینادی به من نظریات.» (خضراء الجیوسی، 2007م: 219) وأهمّ کتاب قدّمه فی الحقلین الأوّلین هو "الدیوان". وفی الحقل الأخیر ترک عدّة دواوین شعریة وهی: یقظة الصّباح، وهج الظهیرة، أشباح الأصیل، أشجان اللیل (قد جمعت هذه الدواوین الأربعة فی مجموعة واحدة طبعت عام 1928م بعنوان دیوان العقّاد)، هدیّة الکروان (1933م)، عابر السبیل (1942م)، وحی الأربعین (1933م)، أعاصیر مغرب (1942م)، بعد الأعاصیر (1950)، ما بعد البعد، ودیوان من دواوین (اقتبسه من الدواوین السابقة). عباس محمود العقّاد فی طلیعة الشعراء المجددین فی العصر الحدیث، فأصبح شعره موضع إعجاب بعض النقّاد، کما أنّ بعضاً آخر قام برفض شعره وتهجینه بحجّة التعقید، والغموض فیه وغلبة الرؤیة المنطقیة علیه. کان مارون عبّود أشدّ النقّاد لهجةً فی نقد شعر العقّاد إذ نفی شاعریته رغم أنّه کان من روّاد التجدید خاصة علی صعید وحدة القصیدة والموضوعیة. عندما یفضّل عبّود، زکی مبارک الکاتب والناقد المصری علی العقّاد فسرعان ما یحس الإنسان أنّه وقف وراء ذلک التفضیل أغراض خاصّة دفعته أن یقول ما لاینبغی أن یقال. لأنّ شعر العقّاد برؤیة کثیر من النقّاد یفیض بالحیویة والحداثة، کما أنّه یتبوّأ مکانة ممتازة فی الشعر العربی المعاصر. (انظر: نفس المصدر، 2007م: 221ـ226) أسئلة البحث یبدو أن مارون عبّود قد ابتعد عن الروح العلمیّ والمنهجیّ والحیادی فی دراسة شعر العقّاد، والرغبة فی تسلیط الضوء علی آرائه، فرأینا أن ندرس آراءه من خلال بحثا الموسوم بـ: «رؤیة نقدیة فی مآخذ مارون عبّود علی شعر عبّاس محمود العقّاد». هذا هو الباعث الرئیس الذی حرّضنا أن نقوم بدراستنا هذه محاولین أن نقیّم آراء عبّود باستخدام المنهج النقدی التحلیلی. وبجانب ذلک نحاول أن نجیب علی الأسئلة التالیة: ما هی البواعث الحقیقیة التی تکمن وراء آراء مارون عبّود؟ إلی أیّ مدیً اتّصفت آراء عبّود بالموضوعیة والمحایدة؟
سابقة البحث لعلّ القاریء یظنّ فی بدایة الأمر أنّ العقّاد شاعر تکثّفت الدراسات المتعلّقه بشعره. أمّا الحقیقة غیر ذلک، لأنّ الدراسات فی شعره تکاد لاتتجاوز عدد أصابع الید الواحدة. وأهمّ البحوث التی درست بعض جوانب شعره فهی علی غرار ما یلی: 1 ـ شعر عباس محمود العقّاد بین النظریة والتطبیق، حوریة عروی، جامعة الجزائر، معهد اللغة العربیة وآدابها، 1992م. هذه الدراسة لم نعثر علی مادّتها، فهی علی ما یبدو حاولت تطبیق شعر العقّاد علی آرائه النقدیة ومدی تطبیقها علیه. 2 ـ القصّة الشعریة عند العقّاد، دراسة موضوعیة فنّیة، جواهر بنت عبدالله، جامعة أمّ القری، کلیّة اللغة العربیة قسم الدراسات العلیا العربیة، 2008م. هذه الدراسة تناولت العناصر الفنیة للقصة الشعریة عند العقّاد ومستویات السّرد وأنواع الحوار وفنیّات المعالجة والبناء فی شعره، وهی تختلف عن دراستنا هدفاً وأسلوباً. 3 ـ شاعریة العقّاد علی محک مارون عبّود، لخضر تیبت، جامعة باجی مختار فی الجزائر، مجلة کلیّة الآداب والعلوم الإنسانیة والاجتماعیة، العدد الرابع، 2009م. هذه الدراسة سردت أهمّ ما أخذ عبّود علی شعر محمود العقّاد، و لم تتجاوز سرد ذلک ولم تنقد آراءه ولم تضعها فی میزان النقد والدرس المنهجیّ. وربّما کتاب «شاعریة العقّاد فی میزان النقد الحدیث» لـ "عبدالحی دیاب" هو أهمّ بحث فی شعر العقّاد، والذی أقرّ صاحبه بشاعریة العقّاد ودرس فیه ثقافته الفنیة وروافدها الشعریة وکذلک عوامل التجدید فیه. وأما الجدید فی بحثنا هذا فهو الترکیز علی العیوب التی وجّهها عبّود علی شعره والإجابة عنها بمنهج وصفی تحلیلیّ بالعودة إلی أهمّ دواوینه خاصة "عابر السبیل"، "هدیة الکروان"، و"وحی الأربعین" لنثبت أمرین: الأوّل أنّ العقّاد شاعر وعلینا أن نلحقه بمملکة الشعر، والثانی أنّ مارون عبّود ظلم العقّاد بآرائه الخاطئة أحیاناً کثیرة وإن کان مصیباً فی أحیان قلیلة. التیّارات النقدیة حول شعر العقّاد یری کثیر من النقّاد والباحثین أنّ العقّاد قد خدم اللغة العربیة فی ساحات شتّی خاصّة فی میدان النثر وفی کتاباته النثریة عن السیاسة والثقافة والاجتماع والنقد الأدبی. أما شعره فلم یکن موضع إجماعهم، بل تشکّلت تیّارات ثلاثة حوله. ولعلّ هذا الأمر کان من أهمّ البواعث التی حال دون دراسة شعره دراسة موضوعیة محایدة. هذا هو أهمّ تلک التیّارات: أ ـ یشکّل مؤیّدو شعره، التیّار الأول؛ یعتقد أصحاب هذا التّیار أنّ شعر العقّاد یمثّل شعراً حقیقیّاً أصیلاً تجب محاکاته من قبل الشعراء الآخرین. یعتبر زکی نجیب محمود أهمّ ناقد أبدی عن إعجابه بشعر العقّاد وأشاد به فی مواقف کثیرة معتقداَ أنّ «شعره یقرب من فنّ النّحت والعمارة .. والقلم بیده کأنّه إزمیل النّحات.» (نجیب محمود، 1961: 47) والناقد الثانی الذی وقف بجانب زکی نجیب، هو طه حسین الذی توّجَه أمیراً للشعراء العرب بعد شوقی، فی مؤتمر أقیم تکریماً له. (انظر: خضراء الجیوسی، 2007م: 225) ب ـ یمثّل معارضوه، التّیار الثانی من النقّاد. هؤلاء النقّاد رفضوا شعر العقّاد رفضاً تامّاً ونفوا شاعریته، ورأوا أنّ شعره لیس إلّا سبباً للسخریة والتّهکم. إن أهمّ ناقد وقف فی هذا الاتّجاه هو مارون عبّود الذی أصرّ علی سخریة العقّاد، حیث قال فی نقد قصیدة له بعنوان "عصر السّرعة": «فَواللهِ وحقّ من نفسی بیده، لو قدّم لی أحد تلامیذی ورقة کتب علیها مثل هذا الحکی ]إشارة إلی أبیات من قصیدة عصر السرعة[ لصفعته بها وأعطیته صفراً.» (عبّود، 1978م: 228)کان محمد مندور ناقداً آخر أشار فی مواقف نقدیة مختلفة إلی الطبیعة الجافّة العقلانیة فی شعر العقّاد (انظر: مندور، لاتا: 65) وإلی بنائه النثری (انظر: المصدر نفسه، لاتا: 78) وروحیّته التعلیمیة (انظر: مندور، 1963م: 108) وفتور العاطفة فیه. (انظر: مندور، لاتا: 60) وقد عبّر مندور کذلک عن قلقه الشدید من أن یتأثر الشعر العربی بأعمال من نوع دیوان "عابر السبیل" فقال: «إنّنا لنخشی أن یدفع منهج عابر السبیل الشعر العربی نحو الانتکاس إلی الهوّة التی کان قد وصل إلیها ما قبل البارودی، عندما کان الأمر قد انتهی إلی معالجة التوافه.» (المصدر نفسه، لاتا: جـ1: 78)هاجم العقّاد هذا التّیار، ووصفهم بقوله:
ج ـ سلک نقّاد التیّار الثالث طریقة موضوعیة وعلمیة فی نقدهم. هؤلاء لاحظوا الجوانب الإیجابیة فی شعره کما أنّهم لم ینسوا المواقف السلبیة والعیوب التی زلّت أقدام الشاعر فوقع فیها. شوقی ضیف ومحمد غنیمی هلال یمثّلان هذا التیّار. وبعد هذا الاستعراض للتّیارات النقدیة لشعر العقّاد نحاول أن ننقد ونقیّم آراء مارون عبّود الذی یمثّل نقّاد التیّار الثانی الذین شنّوا حملات عنیفة ضدّه.
استعراض آراء مارون عبّود ونقدها إذا کان عبّود یعجب بالعقاد الناثر ویضعه فی طلیعة الکتّاب العصریین، ویقدمه علی طه حسین من ناحیة الأسلوب والتفکیر، فإنّه لا یقرّ بشاعریته ویری أنّه فی نثره أشعر من نظمه، بل یعدّه أضعف شعراء مصر المعاصرین له، معتقداً أنّ شعره یخلو من عناصر الحیاة والخلود، کما أنّه لایستطیع أن یؤثّر علی قرّائه. وقد لخّصنا آراء عبّود فی تسع نقاط رئیسة، وقمنا بعد عرضها بنقدها وتقییمها:
1 ـ تفضیل کلّ شاعر بمصر علی العقّاد لقد فضّل عبّود جمیع الشّعراء فی مصر علی العقّاد قائلاً إنّی: «لا أقابله بناجی وأبی شادی وطه والصیرفی والخفیف وبشر فارس، وصالح جودت ومبارک، وکلّ من یقول شعراً بمصر، فکلّ هؤلاء حتّی زکی مبارک خیر منه ـ فی الشعر ـ وإن عدلت شعراء هذا العصر فهو سکیت الحلبة ودواوینه کأنابیب اللقاح تصلح لوقت محدّد.» (عبّود، 1978م: 236) من نافلة القول أن نقول إنّ وظیفة النقد الأدبی هو تقییم النّصوص الأدبیة، وتمییز جیّدها من ردیئها، وتحلیلها علی ضوء آلیّات النقد الأدبی کالقواعد العقلیة، والذوق السّلیم، ومعرفة الأسالیب البیانیة و.... وعلی النّاقد الأدبی أیضاً أن یبتعد عن النزعات والمیول النفسیة فی نقد النصوص الأدبیة والحکم علی قیمتها. بالعودة إلی رأی عبّود سرعان ما یظهر أنّ الرؤیة الفردیة سائدة ههنا، وأنّه لم یستطع أن ینصف واقع شعر العقّاد علی ضوء النقد السّلیم. لأنّ التصریح بتفضیل شعر کلّ من ینطق لسانه بالشعر فی مصر علی شعره، حتّی أولئک الذین قلّ شعرهم ولم یعرفوا به مثل زکی مبارک، اندفاع مزاجی. لاشکّ أنّ شکری لم یبلغ النضج العقلی والأدبی اللذین وصل إلیهما العقّاد، کما أنّ لأبی شادی عیوب کثیرة فی شعره عدّتها الناقدة الجیوسی حیث قالت إنّ «شعره یفتقر إلی تناسق المعنی، ویخلو من التأثیر العاطفی، ویکشف عن ضعف متکرر فی الأسلوب واللغة، وفی موسیقی الشعر کذلکز» (خضراء الجیوسی، 2007م: 391) هذا ما أغفله عبّود فی نظرته علی شعره. ولعلّه کان علی حقٍّ حین فضّل إبراهیم ناجی علی العقّاد، لأنّه قد بلغ فی شعره علی درجة عالیة من الرقة والتعاطف واللمسة الشخصیة، کما أنّ الشعر بلغ علی یدیه إلی درجة ممتازة من البساطة والحداثة فی اللغة. (انظر: مندور، لاتا: 87ـ88) والنقّاد کذلک یفضّلون شعر علی محمود طه علی شعر العقّاد بکونه یجمع بین میزات الأسلوب الحدیث وقوّة القدیم وجزالته. (انظر: حسین، لاتا: 166ـ167) فإذا وضعنا هذه الرؤیة النقدیة لعبّود فی میزان النقد والدراسة یمکن إرجاعها إلی سببین رئیسین: الأوّل: وهو الأهمّ، الإغراق والمبالغة بحیث یحسّ الباحث أنّه کانت هناک خصومة فردیة بین الشاعر والنّاقد، إذ أنّ عبارة عبّود «وکلّ من یقول شعراً بمصر، فکلّ هؤلاء حتّی زکی مبارک خیر منه» لا تدلّ علی شیء أکثر ممّا ذکرنا. والثانی: أنّ شعر العقّاد یخلو فی الغالب من المحسّنات اللفظیة، والتعابیر المجازیة، والاستعارات التی نألفها عند کبار الشّعراء، وکثیراً ما استعملت الألفاظ والتعابیر فی شعره استعمالاً حقیقیّاً. وفی نفس الوقت یجب أن نلاحظ أنّ الاستعمال الحقیقی للألفاظ فی شعر العقّاد یتمتّع بدقة التصویر ویدلّ علی خیاله الخصب أکثر من دلالة التعابیر المجازیة والاستعاریة التی لا تدلّ علی فلسفته الشعریة التی یقول عنها: «إنّنی أفهم الاستعارة للتوضیح والتمکین، ولکننی لا أفهم أن تکون هی قوام الکلام کلّه، وکلّ استعارة عرفت وکثر استعمالها أصبحت کلاماً واضحاً وذهبت مذهب الأفکار المحدودة، لأنّ الذهن یطلب الاستعارة لیستعین بها علی التحدید، فإذا ما وصل إلی التحدید کان فی غنیً عن الاستعارة وعن المجاز.» (العقّاد، 1945م: 191)
2 ـ التجدید عند العقّاد فی العناوین لا فی الموضوعات یتناول عبّود دواوین العقّاد الثلاثة «وحی الأربعین، هدیة الکروان، وعابر السبیل» فیعجب بتسمیاتها قائلاً: «لستُ أجحد تجدیده فی العناوین، فوحی الأربعین وهدیة الکروان، وعابر سبیل، أسماء لا یستهان بها، ولیست بالشیء القلیل. قد فعل العقّاد کشعراء العالم الیوم، ولکن الملبوس لا یصیر القسوس، ولا یغضب أن نُصارِح بما فی نفسنا، فهذا شعر جافّ کأنّه الحطب الیابس، ویا لیته الحطب فیخرج ناراً ونوراً؛ فما هناک إلّا دخان یعمی الأبصار قبل أن تأتی السّماء.» (عبّود، 1971م: 195) والواقع أن تجدید عبّاس محمود العقّاد لم یقف عند عناوین دواوینه کما ظنّ عبّود، بل کان مجدّداً فی محاور شتّی، منها: التجدید فی تشبیهاته، فیکفینا أن نعود إلیها حتّی نری مدی التجدید فیها إذ لم یقف عند التشبیهات الحسّیة التی تسمّی فی البلاغة العربیة "الجامع فی کلّ" بل یتعلّق التشبیه عنده بجوهر شعوره وفکرته، وهو «یصرفنا إلی وقع الموصوفات فی النفس والخاطر، لأنّ شعوره یصدر من داخل نفسه وخاطره.» (دیاب، لاتا: 160) ذهب العقّاد فی نظریته النقدیة للتشبیه نفس المسار فی إبداعه، وصرخ عالیاً أنّ التشبیه الصحیح هو التشبیه المحسوس بالفکر، والتشبیه الشعری الذی یعنی بإحصاء الموصوفات وترتیبها وحکایة أحجامها وسرد أعدادها وتقیید موادّها وألوانها، لایعجب العقّادَ کما یعجبه التشبیه النفسی الذی ینفذ بنا لأوّل نظرة إلی بواطن الموصوفات وطبیعة إحساس النّاظرین إلیها والمفکّرین فیها. (انظر: دیاب، 1966م: 445ـ449) وللتمثیل علی ما ذهبنا إلیه نذکر الأبیات التالیة من دیوان عابر السبیل:
إنّ تشبیه المنزل بالإنسان الضّاحک، وتشبیه ضیائه بالشباب لانألفه عند الآخرین، لأنّ المشبّه فیهما حسّیٌّ والمشبّه به هو فکرة الإنسان الشّابّ فحاول العقّاد فی الأبیات السابقة أن یعطی لموصوفه قدراً کبیراً من الحیویة التی هی من میزات الشباب. کما جدّد العقّاد فی تشبیهاته، فقد جدّد فی فنّ التشخیص بحیث أصبح ظاهرة فنیة فی شعره، وهو میزة قلّما تتوافر لغیره من الشّعراء. فننظر إلی هذه الأبیات من دیوانه:
فنلحظ ههنا أنّ التشخیص طغی علی الأبیات المستشهدة بها، إذ ظنّ العقّاد حرکة الماء بین الصّخور والشواطیء والجسور کحیّاتٍ، وقد تتسرّب أحاسیسها بین الصخور. ثمّ أعطی للنیل فی تلاطم أمواجه شخصیة إنسان تهزّه شدّة سروره، ورسم أمواج النیل کإنسان یرقص علی موسیقی جریان الماء. والشّمس أصبحت کإنسان عندما یفتح عینیه لینظر إلی النّیل یحسّ بملل من طول المسیر، وأخیراً رأی النیل کعروس لبست رداء ذات نقوش جمیلة تمدّه علی الأرض متبخترةً. وهکذا نری أنّ الصور الشّعریة عند العقّاد تمتاز بالتشخیص أحیاناً کثیرة إذ یعطی الحیاة علی الجمادات والظواهر الطبیعیة والمشاعر الوجدانیة. إذاً یعدّ التشخیص إحدی محاور التجدید عند العقّاد، وهو ملکة خالقة تستمدّ قدرتها من سعة الشعور حیناً ومن دقة الشعور حیناً آخر. والتجدید فی اللغة یمثّل محوراً آخر فی شعر العقّاد، فالدارس لدیوان عابر السبیل یفاجأ بالتعابیر الدقیقة فیه ویلحظ أنّ أسلوبه بعید عن الصور البیانیة المستثارة للعاطفة فی بعض الأحیان. ذلک «لأنّه طریقة آلیة من طرائق التعبیر، أو لأنّه لغة تسود بین جماعة للشعراء فحسب، ومن ثمّ رأیناه یصوغ خواطره قی عبارة مساویة لها تماماً لأنّه یری أن إحدی خصائص الشعر الرائع هو المعنی الجیّد، ومن هنا نفهم بعده عن کثیر من الصیغ الجزلة وألوان البدیع التی تستحوذ علی الغالبة العظمی من الشعراء.» (دیاب، لاتا: 239) إقبال الشاعر علی الطریقة التأملیة هو المحور الأخیر من محاور التجدید فی شعره فاستطاع العقّاد بذلک أن یعطی وحدة موضوعیة لتجربته الشعریة واستطاع کذلک أن یعطی لشعره خاصّة فی دواوین "وحی الأربعین"، "هدیة الکروان"، و"عابر السّبیل" التوازن والانسجام اللذین یصاحبان عملیة الإبداع ویبتعد عن الاضطراب والهیجان کما کان فی شعر "الدیوان" ذی الأجزاء الأربعة. یقول فی دیوان وحی الأربعین:
نلحظ ههنا أنّ العقّاد یتأمّل فی التفکیر الزّهدی عند الهنود ویقارن بینه وبین تفکیره؛ وبینما یترک الزاهد الهندی الدّنیا وما یتعلّق بها ویقطع صلته بها، فهذا هو العقّاد یحقّر الدنیا ولکنّه لایترکها بل یأخذ حظّه منها بقدر اللازم. کما أنّه یفرّق بینه وبین الإنسان فی الغرب الذی عشق الدّنیا ویری أنّ علی الإنسان أن یتّخذ موقفاً بین بین فی تفاعله مع الدّنیا. ونری أنّ منهج العقّاد فی تجربته الشّعریة ترکیبی تحلیلی، لأنّه یرتّب فروع تجربته ویؤلّف بینها علی نحو یستطیع الوصول معه إلی الأغراض التی یستهدفها، وهذا المنهج هو منهج التفکیر الإنسانی فی جملته، «لأنّ کلّ معرفة إنسانیة لیست إلّا تحلیلاً یتوسّط نوعین من الترکیب: أوّلهما فکرة عامّة غامضة، وثانیهما: فکرة عامّة أکثر وضوحاً لأنّها تعتمد علی التحلیل الدقیق.» (قاسم، 1966م: 238)
3 ـ شعر العقّاد یخلو من التعبیر الجمیل إذا کان العقّاد یری أنّ حدّ الشعر هو «التعبیر الجمیل عن الشّعور الصّادق» (عبّود، 1978م: 194) فإنّ مارون عبّود یعجب بهذا الکلام ویراه أحلی وألذّ حیث یقول: «هذا کلام أحلی من العسل، ولکن هل استطاع العقّاد شیئاً من هذا؟ نعم لقد طبّق مفصّل الشقّ الثانی أی الشعور الصّادق، أمّا الشقّ الأعلی أی التعبیر الجمیل فیعجز عنه ولو عمّر مثل نوح.» (المصدر نفسه: 196) والواقع أنّ عبّود عبّر عن حقیقة شعر العقّاد عندما وصف مشاعره بالصدق؛ إذ هو من أصدق شعراء العرب المعاصرین لهجة وبیاناً. کما أنّه أصاب عندما جرّد شعره من الجمال الشکلیّ، وهو حکم لم یتسرّع عبّود فی إطلاقه. أما السؤال الذی یطرح ههنا هو: لماذا یفتقد شعر العقّاد الجمال الشکلیّ؟ نقول فی الإجابة: الأوّل أنّ کلّ شاعر ینظر إلی العالم والحیاة بمنظاره الخاصّ به، وهذه الرؤیة تتطلّب من الشاعر لغة تخدمها کالذی فعله العقّاد. إنّ الطابع التفکیری والتأملی غلب علی شعر العقّاد، وهذا یقتضی أن یعتمد صاحبه على الفکرة أکثر من الجمال الشکلی. والثانی أنّ شعر العقّاد شعر جلیل وهو یدعو «إلی الوقار والتّسامی والإعجاب تماماً کما یقف الإنسان أمام الطّود الشّامخ، ومن أجل هذا کلّه فإنّ شعر العقّاد أدخل منه فی باب الجلیل منه فی باب الجمیل، لأنّ فیه شموخ الجبال وصلابة الصوان وعمق المحیط، وفیه من الحبّ جناح العزة لا جناح الذّلة ... وفیه من الخیال جِدّه لا لعبه، وفیه من الروح أعماقه وذراه، ومن هنا ساغ لبعض العابثین أن یترکو شعر العقّاد زاعمین أنّه فلسفة ولیس شعراً.» (نجیب محمود، 1961م: 47) ولیس معنی ذلک أنّنا لا نلحظ فی دواوینه قصائدة جمیلة، فنستطیع أن ننفی صفة الجمال من شعره بشکل کلّی، بل فی شعره قصائد کثیرة نشعر منها الجمال والجلال. لعلّ هذه الأبیات التی اقتطفناها من قصیدة له تکشف عن الجوانب الجمالیة فی شعره:
کم صوّر الشاعر ههنا جفاء الأصدقاء وخیانتهم بأسلوب جمیل رائع إذ آثر مصاحبة الجمادات ومودّتهم علی الأحیاء الذین یخونون صاحبهم. وکم صوّر بشکل رائع النجوم وهی تواسیه، والأمطار وهی تبکی علیه بدموع غزار من خیانة أصحابه. فإذا استقبله النّاس بوجه کریه فإنّ الورود والأشجار خاصة السرو والبان تستقبلانه بأذرع رحیبة. لاشکّ أنّ المحسّنات المعنویة فی هذه الأبیات خاصّة صناعتی التشخیص والتشبیه أعطتا جمالیة خاصّة لها، فهو یظنّ النجوم کأناسٍ یسهرون معه ویسمعون آلامه وهمومه، ویحسب المطر أناسیّاً یبکی علیه من شدّة آلامه. فهذه الصور الجمیلة أعطت حیویة کثیرة وجمالیة رائعة علی شعر العقّاد وابتعد ذلک عن الرتابة التی تمتاز بها الشعر التأمّلی عند کثیر من الشعراء الآخرین. 4 ـ رکاکة الأسلوب وضعف الخیال یزعم مارون أنّ بیان العقّاد لا یطاوعه، ویده لا تؤاتیه علی النّظم ومع ذلک یراه مُصرّاً علی کتابة الشعر المحکوم علیه مسبقاً بالإعدام، لأنّه یولد وهو مصاب بعلّتین قتالتین، هما رکاکة الأسلوب وضعف الخیال، (انظر: عبّود، 1978م: 182) ومع هذا یتطلّب منه أن ینظم ولا ییأس من رحمة الله، وینصحه ساخراً أن یسهر لیلة القدر لعلّ الفنّ یتکرّم علیه فیفکّ عقمه الشعری، ویهبه من لدنه ولیّاً یرثه وتقرّ به عیناه: «...انظم ولا تیأس من رحمة الله فلولا تسمع منّی وتسهر لیلة القدر لعلّ الفنّ یهبک من لدنه ولیّاً ... .» (المصدر نفسه: 195) والواقع أنّ هذا موقف انفعالی أیضاً، وشعر العقّاد لایخلو من الخیال ولیست فیها رکاکة الأسلوب کما ظنّ عبّود. إنّ القاریء لشعر العقّاد یشعر بوضوح أنّ هناک روافد کثیرة أثّرت فیه، ولعلّ أهمّها الشعر القدیم لأنّه کان یحبّه وکان یعارض فی بدایة تجربته الشعریة أبی العلاء المعرّی وکان منهماً فی قراءة الشعراء الکبار أمثال ابن الرومی، والمتنبّی والشریف الرضی وغیرهم من کبار الشعراء، کما أنّه تأثّر بأسلوب المتنبّی فی شعره من حیث قوّة الأسلوب وفخامته فبرز ذلک فی شعره بروزاً واضحاً. ننظر إلی هذه الأبیات من دیوانه:
لابدّ أن نتذکّر أنّ هناک معاییر عدّة لتقییم الشّعر من ناحیة الأسلوب، وأهمّها نقد المفردات وسلامتها من الغرابة ودقّة استعمالها، ونقد التراکیب واتّصافها بالفخامة وابتعادها من العامیة والغرابة، وأخیراً موسیقاه ووزنه وقافیته. فلو اتّخذنا هذه المعاییر فی نقد الأبیات المستشهدة بها سرعان ما یظهر لنا أنّها من الشّعر البلیغ الذی یتسق لها حسن الصیاغة وجودة الوصف وبساطة الأداء. إنّ المفردات فیها کلّها مألوفة ومستساغة، والمفردات حسنة تنسجم رؤیة الشاعر الفکریة إذ لیس فیها ألفاظ عامیّة وغریبة. کما أنّ التراکیب سلیمة من أیّ عیب، والوزن والقافیة یستقیمان فیها. ومن الناحیة المعنویة کشف العقّاد فی هذه الأبیات عن هیام النّاس له فی سابق الزّمن وهو الآن یأمل أن یحقدوه. ویتخلّل أحیاناً بعض الحکم فی ثنایا شعره وهو یعطی قوّة لأسلوبه کالذی نلحظه فی البیت الثانی حیث یری أنّ النّاس یمیلون إلی ما هو سهل المنال وهم لایقدرون أن یرنوا إلی أشیاء بعیدة المنال. وأخیراً یشکو فی البیتین الأخیرین عن الذین کان یقدرهم ویجلّلهم فیصرح الآن أنّه تغیّرت معاییره فی تقدیر النّاس وأصبح أکبرهم عنده أضغرهم فی میزان مقاییس الطبیعة. ویری المتأمّل فی دواوین العقّاد أنّه «یجنح بخیاله فی شعره، ویحلق فوق السّحاب، ولا ینقاد إلی الواقع، ولا یفقد کلّ آماله ومشاعره.» (دیاب، لاتا: 118) ولو عُدنا إلی غزلیّات العقّاد، لنسمع فی شعره أغانی خلّابة تسکر النفس وتحمل قارئها إلی عوالم الحلم والرؤیا، وتدخله فی عوالم السّرور والکآبة. یقول واصفاً حبیبته:
رسم العقّاد فی هذا البیت صوراً خیالیة رائعة فی وصف محبوبته إذ جعلها "جنّة الهوی" والمحبّة، وأکمل صورته بصورة أخری خیالیة أخری: «کم فیک من ثمر سقاه صوب الهوی.» ولا شکّ أنّ هذین الترکیبین أی "جنّة الهوی" و"ثمر سقاه صوب الهوی" یحملان ظلالاً نفسیة وخیالیة تدفع عن العقّاد خلوّ شعره عن الخیال. ونموذج آخر ما قاله فی الأحجار:
فلفظة "تغبطینا" فیه صورة خیالیة، إذ أعطی العقّاد للأحجار مشاعر إنسانیة وحسبها أناسیاً یشعر ویحسّ ما یشعره الإنسان المحبّ فی لقاء محبوبته. وهکذا البیت التالی:
یبدو أنّ عدم استخدام التعابیر المجازیة بکثرة فی شعر العقّاد دفع مارون إلی تعریة شعره من عنصر الخیال. لکننّا نقول إنّ الصور الشعریة لا تحتّم علی الشاعر أن تکون عباراته مجازیة، فقد تکون العبارات ذات استعمال حقیقی وتکون فی نفس الوقت دقیقة التّصویر دالّة علی خیال خصب أکثر من التعبیرات المجازیة التی تعبّر عن فلسفة خاصّة فی حیاة الشاعر. «کان فی وسع العقّاد أن یتناول من الصور الشعریة أسهلها تناولاً وأیسرها تشکیلاً، ویلهو بها لهو الصبیان برمال الشاطئ یبنونها فی سهولة ویهدّمونها فی سهولة، وکان یستطیع ـ کما یفعل غیره من أمراء الشعر ـ أن یصوغ الخیال علی الصّورة التی تتفق مع حسن النّغم، فسواء لدیه أخذ فکرة معیّنة أو أخذ نقیضها ما دامت الفکرة المأخوذة تحقق البهرج ودقّات الطبل، لکن العقّاد یرغم المادّة إرغاماً حتی تستوی له علی النّحو الذی یریده هو لها، کما یرغم المثال قطعة الجرانیت علی التشکیل بالصورة التی یبغیها لها، فهی التی تطاوعه، ودما هو فلا یطاوعها إلّا بالمقدار الذی یبرز طبیعتها وصلابتها.» (نجیب محمود، 1961م: 46) والعقّاد نفسه قد أجاب عن هذا الأمر بـ «أنّ الشاعر لابدّ أن یلزم الحدّ المقبول فی التّخیل، لأنّ الخیال إن زاد عن حدّه، دلّ علی نقصٍ فی قوّة الحکم عند صاحبه، إذ أنّ عقول الشعراء کالشّمس ترسل أشعتها علی الموجودات فتبعث منها ظلالاً تختلف فی الطول واقصر باختلافها فی مواقعها.» (دیاب، لاتا: 47) ومهما یکن من أمر، فإنّنا نقول إنّ تصویر العقّاد الشعری للمعانی التی یعبّر عنها فی شعره کان تصویراً تخییلیاً. إنّه یصوّر المعانی الذهنیة والحالات النفسیة ویبرزها فی صورة حسّیة لیخاطب بذلک الحسّ والوجدان، وتصل هذه الطریقة إلی النّفس من الحواسّ بالتخییل.
5 ـ خلوّ شعره من العناصر الشعریة إن الشعر تعبیر فنی، وله خصوصیته التی تمیزه عن بقیة الأنواع الأدبیة. فأهمّ الخصائص والعناصر الشعریة یتمثّل فی الوزن، والموسیقی، والقافیة، والمعانی، والألفاظ، والصیاغة، والتشبیهات، والاستعارات. یقول عبّود فی تعریة شعر العقّاد عن تلک العناصر الشعریة: إنّ له «سبعة دواوین، لک أن تسمّیها ضربات بنی اسرائیل السّبع، أو سبع بقرات فرعون العجاف، أما أنا فهی عندی کرجال الکهف، تحسبهم أیقاظاً وهم رقود، لو اطّلعتَ علیهم لولیت منهم فراراً ولملئت منهم رعباً ... .» (عبّود، 1978م: 193) یبدو أنّ هذا أیضاً من الأحکام النقدیة التی تسارع إلیها عبّود وقارنها بشیء من الخصومة وابتعد فیها عن النقد العلمیّ الموضوعیّ. فکم من قصائد فی دواوینه تمتع القارئ لاشتماله علی عناصر شعریة رائعة منها المنظر الحسن، وعناصر الزمکانیة، والمفردات والتراکیب الحسنة، والصیاغة القویة. وللتمثیل علی ما ادعینا نذکر المقطوعة التالیة من دیوانه:
صوّر العقّاد فی هذه الأبیات حالة اللیل والبحر عند غروب القمر متسائلاً هل غرب القمر أم دفن فی السّماء، والنجوم هوت من السّماء أم اختفت وراء الأستار؟ بحیث اشتدّت ظلمة اللیل وأصبح الأعمی والهرّ متساویین لایریان الأشیاء أمامهما، وقد أدّی ذلک إلی تلوین السّماء بظلمة مطبّقة کظلمات البحر. ومن جانب آخر صوّر تلک الظلمة بأنّها أصبحت محیطة بکلّ شیء تمتدّ إلیه عینه حتّی إنّه لا یستطیع أن یری أمامه ولو قدر شبرٍ. ثمّ اتّخذ هذه الصورة موضوعاً لذاتیته، ورحّب بالظّلام علی الضوء الذی لا یری فیه النّاس إلّا عبیداً ولایری بینهم أحراراً. ففی هذا المنظر یتجلّی لنا العناصر الشعریة کلّها، وعنصر الزمان، والمکان، واللون، والحرکة. وقد أعطی لهذه الصورة حرکة نفسیة من ضمیره، ومن ثمّ خرجت الصورة مجسدة مشخصة کأنّنا نحسّها ونلمسها ونراها متحرکة أمام أعیننا وفی مخیّلتنا.
6 ـ عدم مقدرة الشاعر فی فنّ الهجاء ومن الأحکام المتسرّعة لمارون عبّود فی نقد شعر العقّاد وصفه بالعجز فی فنّ الهجاء. وهنا أیضاً لانری تحلیلاً أو تعلیلاً فی رأی عبّود، بل اکتفی بنظرته النقدیة قائلاً: «هذا الغرض لا یحسنه إلّا من أوتی موهبة شعریة فذّة، وشاعرنا قد حرم منها لأنّه کان غائباً یوم قسمة الحظوظ.» (انظر: عبّود: م1978: 219) یجدر بنا أن نقول إنّنا لانری شاعراً فی العصور التاریخیة للشعر العربی استطاع أن یحلّق فی سماء الموضوعات الشعریة کلّها، بل نری إنّ الشعراء ـ حتّی کبارهم ـ مهما کانت مقدرتهم، برعوا فی فنون شعریة خاصة وأثبتوا مقدرتهم وقریحتهم الشعریة فی غرض شعری محدّد کالغزل أو المدیح والزّهد والرثاء و... فهذا شاعر فذّ فی الغزل، وذاک عبقریّ فی الوصف. إذن انحسار موضوع الهجاء فی شعر العقّاد لایمکن أن یکون دلیلاً علی ضعف شاعریته وقلّة موهبته الشعریة. هذا شیء، والشیء الآخر أنّه لیست دواوین العقّاد خالیة من الهجاء بل نراه قد تناول الهجاء خاصّة الهجاء الاجتماعی حیث ذمّ المصریین والشباب المصریین علی غرار الأبیات الآتیة:
فالأبیات السابقة بسیطة وغنیّة عن أیّ شرح وإیضاح، وهی نموذج رائع من الهجاء الذی تعجّ به دواوینه الشعریة. وثمّة نقطة هامّة هی أنّ العقّاد کان «ینفی ما شاع خطأ عند الکثیرین من النقّاد من أنّ الهجاء المطبوع، هو الذی تکثر فیه نقائض المهجوّ والفحش فی شتائمه، ومن أنّ الشاعر المطبوع علی الهجاء هو الذی أوتی من الفطنة وسعة المخیلة واستعداد الطبع ما یفتح له معانی الهجاء إذا أراده ناقماً أو غیر ناقم، ومعتمداً علی ما یقول أو عابثاً فیه.» (دیاب، م1966: 446) 7 ـ بشاعة ألفاظه و یبوستها یصف مارون ألفاظ العقّاد بالبشاعة، وتارة أخری بالیبوسة، ویشبهها بالمومیاء المحنطة والتی لا توحی له بشیء، وطوراً یصفها بأنّها ثقیلة متنافرة قد یقبلها النثر، ولکنّها لا تصلح للشعر ولا تناسب مواضیع الشاعر وأغراضه، وقد تضیق به فلا تحسن استعمالها ویعقّدها. (انظر: عبّود، م1978: 175ـ177) یبدو أنّ عبّود قد أصاب فی بعض جوانب هذا المأخذ وقد أخطأ فی بعض آخر، إذ یمتاز شعره فی کثیر من جوانبه بالجزالة والاستحکام، ومتانة الأسلوب، کما أنّ لغته الشعریة کلاسیکیة جدیدة فهی تمثّل اللغة الفصحی التی کان یکتب بها الشعر العربی القدیم، ولکنّها تخلّصت من القوالب والکلیشهات التی کان یستخدمها القدامی. فالعقّاد من الناحیة الفنیة «یعنی بأسلوبه عنایة واسعة، وهی عنایة تقوم علی الجزالة والمتانة واستخدام اللفظ الفصیح.» (ضیف، 1961م: 141) إنّه وقع فی بعض نتاجاته الشعریة فی التکلّف والتّعسف أحیاناً وهذا راجع إلی طبیعة موضوعاته ولغته الخاصّة، غیر أنّنا نری ـ علی الرغم من الطابع التأمّلی الفلسفی فیما نظم ـ فی کثیر من قصائده ومقطعاته نفحات شاعریة مرهفة تنبض بخوالج إنسانیة رقیقة.
8 ـ ضعف العقّاد فی التصویر الشعری یری مارون عبّود أنّ الشاعر الحقّ هو من أوتی مقدرة فائقة علی التصویر، فلا یکتفی برصد الظواهر المرئیة ونقلها، وإنما علیه أن یجسّد الجماد وینفخ فیه من روحه فیصیره حیّاً، وهو من یأسر المشاهد الهاربة ویحبسها بین دفّتی کتاب تنبض بالحیاة، وهذا ما لم یتمکّن منه العقّاد لأنّه لا یفهم من الشعر إلّا أنّه کلام ... أبعد غایاته مطابقة الصرف والنّحو والعروض. (انظر: عبّود، 1978م: 204) وللإجابة عن هذه الرؤیة نقول إنّنا تحدّثنا فیما سبق عن التصویر الشعری عند العقّاد واستشهدنا ببعض أبیات من شعره. وأمّا اهتمام العقّاد بالقضایا الصرفیة والنحویة والعروضیة، فلابدّ أن نذکر أنّه قلّما یلجأ إلی الضرورات الشعریة ولعلّه أکبر دلیل دفع عبّود أن یتّهمه بملاحظة الجوانب الصرفیة والنحویة والعروضیة فی شعره، لأنّ العقّاد «کان یستخدم العروض استخدام العالم به، الحاذق لفنّه، ولذلک یندر أن یستخدم الضرورة الشعریة.» (دیاب، لاتا: 205) والعقّاد یمتاز بأسلوبه الخاصّ ویصرّح بوضوح أنّ له عالم شعریّ یتفاوت ما نألفه عند الآخرین:
إنّ العقّاد لم یکن یعمل علی أن ینزل الأسلوب الشعری عن مستواه الفنّی إلی الأسلوب الخاصّ بالصرف والنّحو. فالدّارس للمعجم الشعری عند العقّاد یلحظ أنّه کان یعرف مقدرة الألفاظ والتراکیب علی تولید الانفعال عند المتلقّی کما أنّه کان یتمتّع بموهبة ممتازة یجعل الألفاظ فی تتابع إیقاعی.
9 ـ السرقة والعجز عن خلق التعابیر والمعانی یری مارون أنّ العقّاد عاجز عن خلق التعابیر والمعانی، وأنّه یسطو علی غیره من شعراء العرب والغرب فیسلبهم معانیهم، أما إذا کفّ عن سرقاته واعتمد علی شاعریته أو أرجعنا ما أخذه إلی أهله، فسیکون من المفلسین، ولن یبقی له شیء یذکر. یقول: .. ولو أرجعنا تفاریقه لأصحابه لم یبق للعقّاد شیء. (انظر: عبّود، 1978م: 212) کان العقّاد مع زملائه فی مدرسة الدیوان ولید مدرسة أوغلت فی قراءة الإبداعات الفنیة للشعراء الإنجلیزیین، وقد تأثّر بکبار شعراء الإنجلیز ونقّادها خاصّة هازلیت Hazlitt الناقد الإنجلیزی وتوماس هاردی Thomas Hardy الشاعر الإنجلیزی. (انظر: طالبی، 1382ش: 80) غیر أنّ هذا لایعنی أنّه کان یسرق فی شعره معانی الآخرین، فمن یراجع إلی دواوینه الشعریة سرعان ما یلحظ أنّه لم یترک أصالته العربیة ولم یفقد إرادته، بل بقی مزوّداً باستقلال الرأی، واکتفی بالإیحاء والإلهام من بعید. هذا من جانب، ومن جانب آخر «لا توجد سرقة أدبیة بالمعنی السّابق، ولکن هناک مواقف إنسانی ینفعل به کثیرون، ویجسّده الشّعراء ویعبّرون عنه، والفارق الوحید بین هذا وذاک یبدو فی إحساس کلّ منهما من حیث العمق والضحالة والتعبیر، ومن حیث البیان أو التقریر أو التعبیرات الخطابیة وغیر ذلک من مقوّمات الشعر الصّادق.» (دیاب، 1965م: 150) وعلی الرّغم من قراءات العقّاد الکثیرة لشعر القدماء وللشعر الأجنبی وتکوین معجمه الشعری من مفرداتهم فإنّه لم یکن یرید أن یحاکیهم فی التفکیر، لأنّ شخصیة العقّاد لاترضی بالتّقلید، ولذا کان لابدّ من ترکیزه علی أصالته فی التعبیر عن تجربته لیحقق ذاته التی یحسّ بها ویحاول إبرازها عن طریق المضمون والأداء الفنّی لهذا المضمون. إنّ علاقة الروافد المؤثّرة فی شعره لیست علاقة التابع بالمتبوع بل علاقة المهتدی بنماذج فنیة أو فکریة یطبعها بطابعه، ویضفی علیها صبغة قومیة إذ «لا یستطیع شاعر أن یصقّل نفسه ولا أن یبلغ أقصی ما یتیسّر له من کمال إلّا بجلاء ذهنه بأفکار الآخرین، وبالأخذ المفید من آرائهم ودعواتهم.» (غنیمی هلال، 1963م: 107) یری الناقد شوقی أنّ العقّاد فی أوّل قصیدة له فی دیوانه المسمّاة بـ «هدیة الکروان استلهم شللی الشاعر الإنجلیزی إلی قبّرة» وهی من روائع هذا الشاعر وبدائعه، وفیها یشبّه القبّرة بالفرح المجرّد. لیس معنی ذلک أنّ العقّاد یقتبس من شللی أو ینقل، فهو یلهمه ویوحی إلیه، أمّا بعد ذلک فمعانیه فی قصائد له، وقد نحسّ نفس الإحساس إزاء کثیر من قصائده بدواوینه المختلفة فی الطبیعة والحبّ، ففیها جمیعاً أثر قراءاته فی الآداب الغربیة، ولکنّها مطبوعة بشخصیته، وتستمد من أفکاره وأحاسیسه ما یجعلها مصریة عربیة صمیمة. (انظر: ضیف، 1961م: 144) النتیجة عباس محمود العقّاد کاتب، وأدیب، وشاعر، وموسوعیّ کبیر خدم اللغة العربیة وثقافتها خدمة کبیرة؛ لکنّه شعره لم یرضَ النقّاد کلّهم بل وقفوا إزاءه مواقف متضاربة بین مؤیّد له ومعارض. وکان مارون عبّود أشدّ النقّاد رفضاً لشعره وأبدی آراءا نقدیة کثیرة درسناها فی هذه الدراسة المتواضعة. والنتائج التی حصلنا علیها أنّ عبّود رغم مقدرته النقدیة الفائقة قد تأثّر بالتّکتلات النقدیة فی العالم العربی خاصّة مصر ولبنان، ولم یستطع أن یقیّم شعر العقّاد وفق الأسس النقدیة المألوفة بین النقّاد، فرفض شعره رفضاً باتّاً وفضّل علیه من لم یقل شعراً. اتّضح لنا من خلال هذه الدراسة أنّ آراء عبّود ـ رغم صحّته أحیاناً قلیلة ـ قد ابتعد أحیاناً کثیرة عن الموضوعیة، واکتفی النّاقد بالانطباع من دون تحلیل أو تعلیل، وأدّت هذه الأسباب إلی أن تکون آراؤه بعیدة عن الصواب. لاشکّ أنّ شعر العقّاد رغم کثرة العیوب الموجّهة إلیه یمتاز بالریادیة والتجدید فی بعض جوانبها کالفکرة الموضوعیة ووحدتها، کما أنّه سار فی اتّجاه شعری مغایر لروح العصر وحاول تطبیق شعره مع نظریاته النّقدیة ممّا دفع مارون عبّود علی التشکیک فی شاعریته ورفضها وتوجیه التّهم إلیه. | |||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
مراجع | |||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الجیّوسی، سلمی الخضراء. (2007م). الاتّجاهات والحرکات فی الشعر العربی الحدیث. ترجمة: عبدالواحد لؤلؤة. ط2. بیروت: مرکز دراسات الوحدة العربیة. حسین، طه. (لاتا). حدیث الأربعاء. مصر: دار المعارف. دیاب، عبدالحی. (لاتا). شاعریة العقّاد فی میزان النقد الحدیث. القاهرة: دار النهضة العربیة. ـــــــ. (1966م). عباس العقّاد ناقداً. القاهرة: لانا. ـــــــ. (1965م). فصول فی النقد الأدبی الحدیث. ط1. القاهرة: لانا. ضیف، شوقی. (1961م). الأدب العربی المعاصر فی مصر. ط10. مصر: دار المعارف. طالبی، محمدعلی. (1382ش). عبّاس محمود العقّاد. ط1. طهران: دار الحروفیة للنشر. عبّود، مارون. (1978م). مؤلفات مارون عبّود. المجموعة الکاملة. ط2. بیروت: دار مارون عبّود، دار الثقافة. العقّاد، عباس محمود. (1945م). ساعات بین الکتب. القاهرة: لانا. ـــــــ. (1937م). شعراء مصر وبیئاتهم فی الجیل الماضی. القاهرة: لانا. ـــــــ. (1977م). عابر السبیل. القاهرة: نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزیع. ـــــــ.(1942م). وحی الأربعین. القاهرة: لانا. ـــــــ. (1971م). دیوان العقّاد. بیروت: المکتبة المصریة. ـــــــ. (1957م). ابن الرومی. القاهرة: لانا. غنیمی هلال، محمّد. (1963م). دراسات ونماذج فی مذاهب الشعر ونقده. لامک: نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزیع. ـــــــ. (1963م). الأدب المقارن. القاهرة: لانا. قاسم، محمود. (1966م). المنطق الحدیث. القاهرة: لانا. مندور، محمد. (لاتا). الشعر المصری بعد شوقی. القاهرة: دار نهضة مصر. ــــــــ. (1963م). فی المیزان الجدید، ط3. القاهرة: مکتبة نهضة مصر. نجیب محمود، زکی. (1961م). العقّاد دراسة وتحیة. لامک: لانا. وادی، طه. (1994م). جمالیّات القصیدة المعاصرة. ط3. القاهرة: دار المعارف.
| |||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
آمار تعداد مشاهده مقاله: 1,373 تعداد دریافت فایل اصل مقاله: 3,055 |