تعداد نشریات | 418 |
تعداد شمارهها | 10,003 |
تعداد مقالات | 83,616 |
تعداد مشاهده مقاله | 78,238,459 |
تعداد دریافت فایل اصل مقاله | 55,286,389 |
دراسة آلیّات الإقناع والحجاج فی رسائل الإمام علی(ع) فی نهج البلاغة (الرّسالة الخامسة والأربعین نموذجاً) | ||
إضاءات نقدیة فی الأدبین العربی و الفارسی | ||
مقاله 4، دوره 9، شماره 36، فروردین 2020، صفحه 85-110 اصل مقاله (302.2 K) | ||
نوع مقاله: علمی پژوهشی | ||
نویسنده | ||
مهدی عابدی* | ||
أستاذ مساعد فی اللغة العربیة وآدابها بجامعة أصفهان، أصفهان، إیران | ||
چکیده | ||
الإقناع کان ومازال من أفضل الوسائل تأثیراً علی الآخرین، وهو آلةٌ بیانیة فاعلة لتحقیق التأثیر فی المتلقّی، والمحور الرّئیس فی إیصال الأفکار وتحقیق المقاصد بین المتکلّم والمتلقّی عبر وسائل الإقناع والإثارة، والحجاج میزةٌ من میزات هذا التخاطب (الشفویة والکتابیة). هذه الدّراسة تکشف عن جانب بسیط من العملیة الإقناعیة فی کلام خطیبٍ کان له الحظّ الأوفر فی هذه الصّناعة، لأنّ رسائل الإمام علی (علیه السّلام) مادّة غزیرة بشکلها ومضمونها وتکامل مجموعة العلاقات فیها، وتنظّم النصّ ککلّ منسجم متلائم. قد تناولت هذه الدّراسة موضوع الحجاج والإقناع فی رسالة الإمام علی (ع) إلی عثمان بن حنیف الأنصاری (کعامله الحکومی) وتحاول أن تقوم بدراسة کیفیة استخدام آلیات الإقناع ووسائله فی بناء الرّسالة بمنهج وصفی- تحلیلی. ومن نتائج هذه الدّراسة أنها تهدف إلی إیجاد نظرة عمیقة لمتلقّی رسالة الإمام وتقدّمه رؤیة طریّة؛ هذه الرّسالة تقوم علی الطّابع الحجاجی والإمام یحاول من خلالها تنفیذ أغراضه عبر الإقناع والتأثیر وکلامه البلیغ مزوّدٌ بأسالیب متنوّعة وکذلک یتحدّث المرسل عن نفسه تارةً یمتدحها وأخری یؤبّخها، وذلک وفق الإستراتیجیة التضامنیة، وتعدّ إحدی استراتیجیات التّخاطب أن یتضامن المتکلّم مع المخاطب فی حالة التنازل عن سلطته فی التخاطب ویعتمد المرسل فی صوره التشبیهیة علی الهیئات المختلفة، ما یجعل المتلقّی فی رقابة دائمة مع النصّ من أجل اکتشاف الخیوط المشترکة بین هذه الصّور. | ||
کلیدواژهها | ||
الإقناع؛ الإمام علی (ع)؛ الحجاج؛ عثمان بن حنیف؛ رسالة 45 من نهج البلاغة | ||
اصل مقاله | ||
یشتمل النّشاط البشری علی مستوی محدّد من الإقناع، وهذا المستوی مختلفٌ نظراً للزّمان والمکان المعیش، ففی العصور الإسلامیة الأولی وبعدها بعدّة قرون، کانت الخطابة والعملیة الإقناعیة المنطویة فیها، الشّرط الأساس لاستمرار الحیاة وحثّ الجنود وسدّ الثغور؛ لذلک تتأتّی هذه الأهمّیة البالغة بالکلام وصقله وتعلّم ما فیه من عناصر الإجادة. فقد حلّل العلماء نواته ولکنّهم لم یفهموا أنّ الإقناع لیس أداة نستخدمها اختیاریاً، بل إنّها أداة لابدّ لنا من استخدامها من أجل البقاء، الإقناع جوهر الحیاة وهو الوسیلة لإقناع أنفسنا ومن حولنا. وإنَّ کلام أمیرالمؤمنین (ع) منهلاً للعلوم من حیث التأسیس والتبیین وکتاب "نهج البلاغة" وخاصّةً رسائله، من أعرق النّصوص العربیة وأفصحها، أمّا بالنسبة لآلیة الإقناع، فإنَّ الإمام فی رسائله انبنی بناءً تبلیغیاً مؤسّساً وفقاً لمقدّمات خطابیة تواصلیة. منهجالبحث سلک الباحث فی بحثه المنهج الوصفی- التحلیلی، لتحلیل وسائل الإقناع وآلیاته فی الرّسالة الآنفة للذّکر وفقاً لنظریات بعض اللّسانیین الجُدد. أسئلة البحث - ما هی الأسالیب الحجاجیة التی اتّخذها الإمام فی رسالته إلی عثمان بن حنیف؟ - إلى أیّ مدىً کان الإمام(کمرسل) ناجحاً فی العملیة التواصلیة مع عثمان بن حنیف کعامله الحکومی (المتلقّی)؟ - لماذا أکثر الإمام من استخدام الصّور الفنّیة والتشبیهات والاستعارات فی هذه الرّسالة؟ خلفیّة البحث تسبق هذه الدّراسة المقتضبة، دراساتٌ عدیدة فی مجال الإقناع وأسالیبه، أهمّها هذه الدّراسات: - حمدان، خالد حسین (2005م)، "الإقناع أسسه وأهدافه فی ضوء أسلوب القرآن الکریم"، دراسة وصفیة تحلیلیة؛ یستهدف هذا البحث العقل الإنسانی باعتباره المنحة الإلهیة التی کرّم الله بها الإنسان على غیره من المخلوقات، لأنّ طرق ووسائل الإقناع یجب أن توظّف لتأصیل العلاقة بین الإنسان وربّه. - السبعاوی، طه عبدالله (2007م)، "أسالیب الإقناع فی المنظور الإسلامی"؛ کتاب تناول الإقناع من المنظور الإسلامی وأسلوب القرآن فی الإقناع، کما تناول أسلوب الاقناع العلمی وأنواعه وکلّ ما یتعلّق به مع الأمثلة الدالّة والموضّحة ممّا یسهل علی القارئ الفهم والاستیعاب. ونوقشت وشرحت رسائل الإمام سابقاً کما درست خطبه و رسائله وحکمه فی نهج البلاغة خطابیاً وتداولیاً، علی سبیل المثال: - الزّبیدی، جبّار (2017م) ؛"رسائل الإمام علی (ع) فی نهج البلاغة دراسةً حجاجیةً"؛ هدف الباحث من وراء هذه الدّراسة الحجاجیّة لرسائل الإمام علی (ع) عن الآلیات الحجاجیّة الموظّفة من قبل الإمام علی (ع) لتدعیم قضیّته، وإیصال أفکاره، وتفنید خطب خصمه بکونها تفاعلاً خطابیاً قائماً على الادّعاء والاعتراض فی وجه مهمّ من وجوهها. - الخزاعی، عمّار حسن (2017م). "الخصائص الأسلوبیة فی کتاب الإمام علی (ع) إلی والیه علی البصرة عثمان بن حنیف"؛ قدّم الدارس فی هذا الکتاب رؤیة أسلوبیة فی رسالة الإمام علی (ع) إلی عامله بالبصرة ویأخذ بمعطیات علم اللّغة والظواهر الأسلوبیة بمستویاتها الثلاثة وهی المستوی الصوتی والترکیبی والدلالی فی هذه الرسالة. - وهناک أطروحات جامعیة ومقالات مرتبطة ببحثنا هذا، مثل: - فضیلة، ماضوی (2015م)، "الإقناعیة وآلیّات الحجاج فی خطب الإمام علی ابن أبی طالب (ع)، دراسة تداولیة"؛ درست الکاتبة اللّغة غایة ووسیلة فی خطب الإمام(ع) وفق مناهج عدّة علی رأسها التداولیة التی تعدّ أحدث فروع العلوم اللّغویة تعنی بتحلیل عملیات الکلام والکتابة ووصف وظائف الأقوال اللّغویة معتمدةً فی ذلک علی أهمّ قضایاها المتمثّلة فی أفعال الکلام، الملفوظیّة، الحجاج والسّیاق وغیرها. - مقالة لکاتب السّطور(2017م)، "آلیات الإقناع فی خطب الحجّاج بن یوسف الثقفی(دراسة نقدیة تحلیلیة)"؛ دُرست فیها عناصر الخطابة فی خطب حجّاج بن یوسف الثقفی مستندةً علی الدّراسات النقدیة الاجتماعیة الحدیثة. - مقالة لکاتب السّطور(2019م)،"دراسة أسالیب الإقناع فی رسائل الإمام علی(ع) (نموذجاً الرسالة الثامنة والعشرین من نهج البلاغة)" دُرست فیها أسالیب الإقناع وآلیّاته حسب مناهج الألسنیة الحدیثة. لکن الدّراسات السّابقة فی رسائل الإمام وإن کانت فی مجال الإقناع والحجاج، انتهجت تطبیقاً لبعض رسائل الإمام کنماذج ولکن رسالة الإمام إلی عامله الحکومی، عثمان بن حنیف (رسالة 45 من نهج البلاغة)، لا تدرس بمفردها تحت إطار نظریّات الإقناع والحجاج، فلهذا قمنا بشرح هذه الرّسالة تطبیقیاً من جانبها الإقناعی والحجاجی لعرض جانب آخر من بلاغة الإمام وأسلوبه الفرید فی الردّ والجواب. التمهید الإقناع مصطلحاً یشکّل الإقناع رکیزة مهمّة من رکائز العمل الرّسالی الذی یهدف إلی التأثیر فی تکوین الرّأی العامّ وتغییر المعتقد والموقف و السّلوک. ومعرفة الأسالیب والطّرق التی تؤدّی إلی الإقناع ضروریة فی الحقول المختلفة لمن یقصد استمالة الجماهیر واستقطابهم وعملیة الإقناع تبدأ من الفکرة وطریقة التعبیر عنها وأسلوب نقلها والرّبط بین الفکرة والتعبیر عنها وکیفیة نقلها. والإقناع مصطلحاً: «فعلٌ مؤثر فی الرّأی أو فی وجهة النظر، إذ یتمّ عن طریق المناقشات أو التفسیرات.» (شمال حسن، 2006م: 30) هذا التعریف کما هو معلوم، یرکّز علی التأثیر فی الآخر؛ وذلک عن طریق تغییر رأیه أو موقفه ویدلّ علی قدرة التأثیر فی الآخر، أو القدرة علی استمالة الآخر؛ وذلک لحمله علی الاعتقاد بمعتقد ما، أو لحمله علی استصدار نمط سلوکی معیّن، وهذا یقتضی بطبیعة الحال، أن یکون المرسل متمتّعاً بهذه القدرة، لکی یتمکّن من إحداث التأثیر المطلوب. لذلک نری أنّ الإقناع والتأثیر ممارسة بین طرفین أحدهما یرید التأثیر فی الآخر. وکذلک یعرّف الإقناع بأنّه: «أیّ اتصال مکتوب أو شفوی أو سمعی أو بصری یهدف بشکل محدّد إلی التأثیر علی الاتجاهات والاعتقادات أو السّلوک. کما أنّه القوّة التی تستخدم لتجعل شخصاً یقوم بعمل ما عن طریق النّصح والحجّة والمنطق.» (أبوعرقوب، 2005م: 189) ویمکن القول بشکل مبسط و شامل بأنّ الإقناع: "فعل متعدّد الأشکال، یسعی لإحداث تأثیر أو تغییر معیّن فی الفرد أو الجماعة". و قد شمل هذا التعریف ثلاث جمل: - "فعل متعدّد الأشکال": یعنی أنه فعل یتمّ بأکثر من شکل وإن کانت الفکرة الأساسیة أو الأسلوب واحداً. وباعتبار الأسلوب یکون بالإقناع بالحجّة أو بالتأثیر فی العاطفة وباعتبار الوضوح یکون مباشراً وغیر مباشر. - "یسعی لإحداث تأثیر أو تغییر معین": ویعنی هذا أن الإقناع یسعی للتأثیر فی الآخر بشکل عام أو جزئی؛ سواء کان فی الفکر والسّلوک أو فی أحدهما. - "فی الفرد أو الجماعة": ویعنی أنّ ممارسة الإقناع والتأثیر قد یکون موجّهاً إلى فرد بعینه کما فی الدّعوة الفردیة وکما بین الزّوجین أو الوالدین لأحد أبنائهما أو تکون موجّهة إلى مجموعة تمثل مجتمعاً نوعیاً کمجتمع التجّار. ولکی یحدث الإقناع، لابدَّ من تقدیم عدد من الحجج والأدلّة والشواهد، التی تثبت صحّة القضیّة التی أرادها المتکلّم. والحجاج کالإقناع عملیة عقلیة تعتمد مبدأ استمالة الآخر وتغییر مواقفه العامّة إزاء الأشیاء المادّیة والفکریة والحجاج هو تقدیم الحجج والأدلّة المؤدّیة إلى نتیجة معیّنة، وهو یتمثّل فی إنجاز تسلسلات استنتاجیة داخل الخطاب، وبعبارة أخری، یتمثّل الحجاج فی إنجاز متوالیات من الأقوال، بعضها هو بمثابة الحجج اللّغویة، وبعضها الآخر هو بمثابة النتائج التی تستنتج منها. الرّوابطوالعواملالحجاجیّة لما کانت للّغة وظیفة حجاجیّة، وکانت التسلسلات الخطابیة محدّدة بواسطة بنیة الأقوال اللّغویة وبواسطة العناصر والموادّ التی تمّ تشغیلها، فقد اشتملت اللّغات الطّبیعیة علی مؤشّرات لغویّة خاصّة بالحجاج. فاللّغة العربیة، مثلاً تشتمل علی عدد کبیر من الرّوابط والعوامل الحجاجیة التی لا یمکن تعریفها إلا بالإحالة علی قیمتها الحجاجیّة. نذکر من هذه الأدوات: لکن، بل، إذن، حتى، لاسیما،إذ، لأن، بما أن... إلخ. وینبغی أن نمیّز بین صنفین من المؤشّرات والأدوات الحجاجیّة: الروابط الحجاجیّة والعوامل الحجاجیة، فالرّوابط تربط بین قولین، أو بین حجّتین علی الأصحّ (أو أکثر)، وتسند لکلّ قول دوراً محدّداً داخل الاستراتیجیة الحجاجیّة العامّة. ویمکن التمثیل للرّوابط بالأدوات التالیة: بل، لکن، حتى، لاسیّما، إذن، لأن، بما أن ، إذ.... أمّا العوامل الحجاجیة، فهی لاتربط بین متغیّرات حجاجیّة أی بین حجّة ونتیجة أو بین مجموعة حجج، ولکنها تقوم بحصر وتقیید الإمکانات الحجاجیّة التی تکون لقولٍ ما وتضمّ مقولة العوامل أدوات من قبیل: ربما، تقریبا، کاد، قلیلاً، کثیراً، ما...إلا... علی هذا الأساس وبعد تمییزالرّوابط والعوامل الحجاجیّة، تُقسم هذه الروابط والعوامل کالآتی؛ فللرّوابط الحجاجیّة عدّة أنواع: 1. روابط التعارض الحجاجی (بل، لکن، مع ذلک) ؛ هی من الأدوات التی حدّدها النحویون العرب لنفی کلام واثبات غیره. 2. روابط التّساوق الحجاجی (حتّی، لاسیّما)؛ یکتسب هذه الروابط أهمّیتها من علاقتها الواضحة والقویّة مع المعنى الضمنی والمضمر، إذ أن دورها لا یقتصر على إضافة معلومة جدیدة إلى سیاق الجملة.
4- روابط العطف الحجاجی (الواو، والفاء، وثُمَّ)؛ مجموعة من الحروف تضطلع ببعد حجاجی مهم من خلال ربطهما بین الحجج والنتائج والتنسیق بینهما من أجل التعلیل والتفسیر والتبریر. (راجع: الزّبیدی، 2017م: 107-108) أمّا العوامل الحجاجیة فهی لا تربط بین متغیّرات حجاجیة (أی بین حجّة ونتیجة أو بین مجموعة حجج) «لکنّها تقوم بحصر وتقیید الإمکانات الحجاجیة التی تکون لقولٍ ما، مثل: ربّما، تقریباً، کاد، قلیلاً و کثیراً، ما... وإلّا وجلّ أدوات القصر.»(العزاوی، 2010م: 63) والعوامل الحجاجیة تقوم بوظیفة شحن الکلام لتؤدّی وظیفة حجاجیة تتلائم مع مقاصد المحاجج وفضلاً عن ذلک تؤدّی إلی مساعدة المتلقّی فی تحدید دلالة المراد من الکلام. وثمة فارق هامّ بین الرّوابط والعوامل الحجاجیّة؛ فالعامل الحجاجی هو الذی یربط بین وحدتین دلالیتین داخل الفعل اللغوی نفسه، أمّا الرابط الحجاجی فهو یربط بین فعلین لغویین. الفکرة الأساس لهذه الرّسالة تتمحور هذه الرّسالة علی فکرة «الزّهد فی الدنیا.» یعاتب الإمام عثمان بن حنیف الأنصاری، وهو عامله على البصرة وقد بلغه أنه دُعی إلى ولیمة قومٍ من أهلها فمضى إلیها ثم یتّجه(ع) إلی ما یحثّ المخاطب علی الزّهد والقناعة، فیعرض أولاً صورة من حیاته(ع) وما ابتنت علیه من زهد وقناعة. ثمّ یقوم بتیین ضرورة مشارکة الفقراء والمساکین فی"جشوبة العیش" وصعوبته. ثمّ یعمد إلی عرض صورة من إعراضه عن الدّنیا وتشوّقه إلی الله تعالی. (پروینی؛ 1435ق: 9) کما أنّ هذه الرّسالة کشفت عن قیمة عثمان بن حنیف الممیزة بالنّسبة للإمام(ع)؛ «فهو وبّخه بعنف وبشدّة لمجرّد استجابته لولیمة دُعی لها الأغنیاء دون الفقراء، وهذا بحدّ ذاته یکشف عن المقام السّامی لعثمان بن حنیف الذی لم یناسبه ذلک الفعل.» (الخزاعی،2017م: 103) آلیّات الإقناع ووسائله فی رسالة 45 من نهج البلاغة روابط التعارض الحجاجی الرّابط الحجاجی (لکن) وهی من الأدوات التی حدّدها النحویّون العرب لنفی کلام واثبات غیره وهو «حرف استدراک، ومعنى الاستدراک أن تنسب حکماً لاسمها یخالف المحکوم علیه قبلها، کأنّک لما أخبرت عن الأوّل بخبر خفت أن یتوهّم من الثانی مثل ذلک فتدارکت بخبره إن سلباً وإن إیجاباً...ولاتقع لکن إلّا بین متنافیین بوجه ما...ومن هذا المنطلق فإنّ هذه الأداة تقیم علاقة ربط بین قولین متناقضین أو متنافیین هو من الناحیة الحجاجیة ربط حجاجی تداولی بین المعطی والنتیجة.» )المرادی، 1992م: 591) لو أخذنا مثالاً لذلک فی هذه الرّسالة لمثّلنا قوله علیه السّلام: «وَلَوْ شِئْتُ لاَهْتَدَیْتُ الطَّرِیقَ إِلَی مُصَفَّى هَذَا الْعَسَلِ، وَلُبَابِ هَذَا الْقَمْحِ، وَنَسَائِجِ هَذَا الْقَزِّ، وَلکِن هَیْهَاتَ أنْ یَغْلِبَنِی هَوَایَ، وَیَقُودَنِی جَشَعِی إِلَی تَخَیُّرِ الْاطْعِمَةِ وَلَعَلَّ بِالْحِجَازِ أوْ بالْیَمَامَةِ مَنْ لاَ طَمَعَ لَهُ فِی الْقُرْصِ، وَلاَ عَهْدَ لَهُ بِالشِّبَعِ! أَوْ أبِیتَ مِبْطَاناً وَحَوْلِی بُطُونٌ غَرْثَی، وَأکْبَادٌ حَرَّی.» (نهج البلاغة، رسالة 45) نلاحظ أنّ الرّابط الحجاجی(لکن) قد عمل تعارضاً حجاجیاً بین ما تقدّمه وما تأخّر عنه، فی بدایة الأمر یشیر الإمام إلی أنّه یقدر علی الثّراء وترف العیش ویستطیع أن یتمتّع بلذائذ الدّنیا وحُطامها، ثمّ فی القسم الثانی من الکلام یشیر إلی زهده ومواساته الفقر ویربط هذین الجملتین بلکن الإستدراکیة وبما أنّ القسم الثانی یأتی بنتیجة مضادّة للأوّل، فهو أقوی من الحجّة الأولی. فی هذه العبارة أتی المتکلّم حرف الاستدراک فی سیاق "لو" وبذلک یکون ما قبل (لکن) منفی؛ لأنّ (لو) تدلّ علی امتناع الشّئ لامتناع غیره وهنا تدلّ علی أنّ المشیئة ممتنعة فی المعنی، فلمّا قیل«ولکن هیهات أن یغلبنی هوای...» علم إثبات ما فهم إثباته وهو سبب (الزّهد ومواساة الفقراء) الذی یقتضی نفی المشیئة فیصبح المعنی (ولکنّی لم أشأ اهتداء الطریق إلی مصفّی العسل...) وبذلک یکون ما قبل (لکن) منفی وما أحدثه الرّابط إنّما هو الإستدراک وهو رفع ما یتوهّم ثبوته. روابط التّساوق الحجاجی: الرّابط الحجاجی (حتّی): یبرز الرّابط الحجاجی (حتّی) کمؤشر حجاجی بارز فی رسائل الإمام (ع) ویکتسب هذا الرّابط أهمیّته من علاقته الواضحة الوطیدة مع المعنی الضّمنی والمضمر؛ إذ أنّ دورها لا یقتصر علی إضافة معلومة جدیدة إلی سیاق الجملة کما لو نقول (جاء زیدٌ) فتکون (حتی زید جاء) إذا کان مجئ زید غیرمتوقّع، بل «إنّ دور هذا الرابط یتمثّل فی إدراج حجّة جدیدة تردف الحجّة التی تسبقها وتساوقها والحجّتان تخدمان نتیجة واحدة، لکن بدرجات متفاوتة من حیث القوّة الحجاجیة.» (العزاوی، 2010م: 27) والإمام فی شطرٍ من هذه الرّسالة هکذا یسطر: «وَاللَّهِ لَوْ تَظَاهَرَتِ الْعَرَبُ عَلَى قِتَالِی لَمَا وَلَّیْتُ عَنْهَا، وَلَوْ أمْکَنَتِ الْفُرَصُ مِنْ رِقَابِهَا لَسَارَعْتُ إِلَیْهَا، وَسَأجْهَدُ فِی أنْ أطَهِّرَ الْأرْضَ مِنْ هَذَا الشَّخْصِ الْمَعْکُوسِ، وَالْجِسْمِ الْمَرْکُوسِ، حَتَّى تَخْرُجَ الْمَدَرَةُ مِنْ بَیْنِ حَبِّ الْحَصِیدِ طُوبَى لِنَفْسٍ أدَّتْ إِلَى رَبِّهَا فَرْضَهَا، وَعَرَکَتْ بِجَنْبِهَا بُؤْسَهَا، وَهَجَرَتْ فِی اللَّیْلِ غُمْضَهَا، حَتَّى إِذَا غَلَبَ الْکَرَى عَلَیْهَا افْتَرَشَتْ أرْضَهَا.» (نهج البلاغة، رسالة 45) هنا الرّابط (حتّی) یأتی لتبین نتیجة وسبباً لما قبله؛ فإنّ القول المشتمل علی (حتّی) یکون أقوی ممّا قبله وربما یأتی (حتّی) بمعنی کی التعلیلیة: الف: سَأجْهَدُ فِی أنْ أطَهِّرَ الْأرْضَ مِنْ هَذَا الشَّخْصِ الْمَعْکُوسِ وَالْجِسْمِ الْمَرْکُوسِ. ب: حَتَّى تَخْرُجَ الْمَدَرَةُ مِنْ بَیْنِ حَبِّ الْحَصِیدِ. فجملة (ألف) یمکن أن نعدّه حجّة وجملة (ب) یکون نتیجةً لما قبلها. موضوع هذا النصّ المختار بیان مدی القوّة الإیمانیة التی یتمتّع بها المرسل وکذلک الثّبات ورباطة الجأش علی الموقف السّلیم وإن عارضت العرب بأسرها، «فإنّه عازم علی تطهیر الأرض من معاویة بن أبی سفیان وهذا الأمر یستلزم من المستقبل کذلک الثبات علی مواقفه حتی وإن تفرّقت عنه الناس فیما إذا لم یجب الولائم التی تکون خاصّة بالأغنیاء دون الفقراء، فإنّ علیه الالتزام بما یملیه علیه الواجبُ الشرعی الذی یتطلّب مراعاة کافة فئات المجتمع.» (الخزاعی، 2017م: 67) والإمام فی مقام إتاحة الفرصة له، فإنه لا یهدأ إلا بعد أن یطهّر الأرض من معاویة ویبیّن حقیقته ومعدنه الفاسد إذ هو کقطعة طین بین حبّ القمح حتّی یخرجه من تلوّنه بلون الصالحین؛ إذ هو کقطعة طین یابسة متخفیة بین حبّ القمح الکثیر. الموجّهات الحجاجیّة الموجّهات اللّغویة محمّلة بطاقة حجاجیّة، یتمّ استثمارها من قبل المتکلّم فتکون قادرةً علی توجیه الملفوظ تبعاً لمقصدیات الکلام ومتطلّبات التلقّی«ورسائل الإمام قد اصطبغت بمجموعة من الموجّهات الحجاجیة التی تحقّق الإقناع والتأثیر ومن ثمّ توجیه المتلقّی نحو فعل ما أو ترکه(الإقناع أو الإذعان).» (الزبیدی، 2017م: 151-152) وهذه الموجّهات إمّا یقینیة کأدوات القصر والتوکید وأفعال الیقین و...وإمّا تقریبیة أو موجّهات الشکّ بألفاظ مثل: یبدو، کأنّ، زعم، لعلّ وظنّ... وهذه العوامل الحجاجیّة وغیرها من شأنها أن تجعل الملفوظ ذا سمة ذاتیة من خلال الإعلان عن حضور صاحبه فیه حضوراً بارزاً للعیان تکسبه صبغة موضوعیة. (صولة، 2007م: 317) الموجّهات الیقینیة الف- القسم یعدّ القسم صنفاً من أصناف الفعل الکلامی التی توجّه القول توجیهاً یقینیاً اثباتیاً یلجأ إلیه المتکلّم لتوکید کلامه؛ فهو إذ یثبت القضیة ویوجبها یقیم فی الوقت نفسه الحجّة علی المخاطب ویلزمه بها وفی ذلک یقول أبوالقاسم القشیری: «إنّ الله ذکر القسم لکمال الحجّة وتأکیدها وذلک أنّ الحکم یفصل بأثنین: إمّا بالشهادة وإمّا بالقسم فذکر تعالی فی کتابه النوعین حتی لا تبقی لهم حجّة.» (السیوطی، 2006م ، 2: 133) کما تکشف الملفوظات المؤکّدة بالقسَم صورتین متعارضین یمکن استخلاصهما من مجمل رسائل الإمام حیث تزید درجة إثبات الدّعوی بارتفاع درجة الإنکار وتطابق الجمل أنماط مقامیة مختلفة، «تتمایز بموقف المخاطب من فحوی القضیة انطلاقاً من مجرّد التردّد فی قبول هذا الفحوی إلی الإنکار التامّ؛ فکلّما ازداد الإنکار احتیج إلی مضاعفة التّوکید.» (المتوکّل، 1995م: 188) ویتجلّی ذلک الظّهور للدّعوی فی أنماط بُنیویة متباینة وذلک حتّی تکون منسجمة ومطابقة مقامیة متمایزة، أشهرها: الف- الطّبقة المقامیة الأولی وهی الطّبقة التی یکون فیها المخاطب جاهلاً بالمعلومة التی یقصد المتکلّم إعطاءه إیاها أو یعتبر المتکلّم أنّ المخاطب یجهلها أی إنّ المعلومة المقدّمة لا تدخل فی القاسم الإخباری المشترک بین المتکلّم والمخاطب. (المصدر نفسه:29) وتمثّل العبارات التالیة هذه الطّبقة: - وَاللَّهِ لَوْ تَظَاهَرَتِ الْعَرَبُ عَلَى قِتَالِی لَمَا وَلَّیْتُ عَنْهَا. - وَاللَّهِ لَوْ کُنْتِ شَخْصا مَرْئِیّا، وَقَالَبا حِسِّیّا، لَأقَمْتُ عَلَیْکِ حُدُودَ اللَّهِ. فی العبارة الأولی یشیر الإمام إلی شجاعته وقوّته والعبارة الثانیة کنایة عن وقوعهم فی خطر عظیم بحیث لا یمکن الخروج عنه وبعبارة أخری:«سُدَّ علیهم باب الورود والخروج وهو عالم القبر وما بعده من الموارد» (مفتاح، 1990م: 357) وبعد أن خاطب الإمام الدّنیا أتی بجواب القسم فی النمط الطّلبی التی یجهلها المخاطب بالنّسبة للمتکلّم، لذلک یلجأ الأخیر إلی إثباتها والسّعی إلی حصول الیقین والإطمئنان بیقینها فی ذهن المتلقّی وکأنّ المتکلّم یدفع بالمخاطب إلی الوثوق بکلامه حین یقدّم له معلومة یجهلها فیعمل (المتکلّم) علی تأکیدها بأعلی درجات الإثبات. ب- الطّبقة المقامیة الثانیة هی الطّبقة المقامیة التی یتوفّر فیها المخاطب علی المعلومة التی یعدّها المتکلّم معلومة غیر واردة ویعمل المتکلّم علی تصحیحها للمخاطب وتمثّلها الفقرة التالیة: «فَوَاللَّهِ لاَ أذِلُّ لَکِ فَتَسْتَذِلِّینِی، وَلاَ أسْلَسُ لَکِ فَتَقُودِینِی، وَایْمُ اللَّهِ - یَمِینا أسْتَثْنِی فِیهَا بِمَشِیئَةِ اللَّهِ - لَأَرُوضَنَّ نَفْسِی رِیَاضَةً تَهُشُّ مَعَهَا إِلَى الْقُرْصِ إِذَا قَدَرَتْ عَلَیْهِ مَطْعُوما، وَتَقْنَعُ بِالْمِلْحِ مَأْدُوماً، وَلَأدَعَنَّ مُقْلَتِی کَعَیْنِ مَاءٍ نَضَبَ مَعِینُهَا، مُسْتَفْرِغَةً دُمُوعَهَا.» (نهج البلاغة، رسالة 45) هنا استعمل الإمام القسم وأتی بجواب القسم فی نمط الخبر المنفی کی یخاطب الدّنیا و یبعدها عن نفسه قائلاً: لا أجعل نفسی ذلیلاً منقاداً للدّنیا حتّی تحقّرنی، ویلجأ إلی القسم، حتی یثبت عدم حرصه علی الدّنیا وانقیاده إلی ملذّاتها ورغائبها وهو بوصفه هذا یرید أن یقنع المخاطب کی یحذّر من مغریات الدّنیا ومکائدها. «واستعار وصف إسلاس القیاد للتسهیل فی متابعة النفس العاقلة للنفس الأمّارة وعدم التشدّد فی ضبطها باستعمال العقل عن متابعتها.» (الأسدی، 2006م: 559) ثمّ استعمل قسماً آخر استثنی فیها بمشیئة الله وجواب القسم تمثّل النمط الخبری المؤکّد (وایم الله)؛ وهو درَّب نفسه بالجوع واکتفی بقرص وبکی حتی لا یبقی دمع فی عینیه «ومحصّل هذه الکلمات هو اعتیاد النّفس بالقرص والمَلح واعتیاد العین بالبکاء من خشیة الله تعالی.» (مفتاح، 1990م: 358) فاستدعاء القسم قد ساهم مساهمة فعّالة فی إبراز الوقع الحجاجی؛ لأنَّ أثره یکون أشدّ علی المخاطب وأعمق أثراً فیه ممّا لو کان الجواب عاریاً عن مظاهر التّوکید. من هنا نجد أنَّ القسم الحجاجی قد انتصب علی المکوّن الدالّ علی المعلومة الجدیدة التی یعتقدها المتکلّم نفیاً أو إیجاباً. وأمّا سبب إتیان المرسِل بهذه الکمیة من المؤکّدات؛ «فلأنّه فی معرض الحدیث عن سمات نفس مثالیة استطاع صاحبها أن یروّضها، کیفما شاء ویجعلها محکومة به لا محکوماً بها.» (الخزاعی، 2017 م: 68) وفی مثال آخر یقول الإمام: - «فَوَاللَّهِ مَا کَنَزْتُ مِنْ دُنْیَاکُمْ تِبْراً وَ لاَادَّخَرْتُ مِنْ غَنَائِمِهَا وَفْراً، وَ لاَ أعْدَدْتُ لِبَالِی ثَوْبِی طِمْراً. وَ لاَحُزْتُ مِنْ أرْضِهَا شِبْراً وَ لاَ أخَذْتُ مِنْهُ إِلا کَقُوتِ أتَانٍ دَبِرَةٍ وَ لَهِیَ فِی عَیْنِی أوْهَى وَأوْهَنُ مِنْ عَفْصَةٍ مَقِرَةٍ فَوَاللَّهِ لاَ أذِلُّ لَکِ فَتَسْتَذِلِّینِی، وَلاَ أسْلَسُ لَکِ فَتَقُودِینِی.» (نهج البلاغة، رسالة 45) انتظمت العبارة التی أشیر إلیها بخطّ (فی هذه الفقرة) بجو إیقاعی منتظم وذلک بالتوافق فی البنیة الترکیبیة التی یمکن أن نمثّلها کالتالی: نفی+ فعل ماضی+ تاء الفاعل+ شبه جملة(جا رو مجرور)+ مضاف إلیه+ مفعول به وهذا التشاکل التّرکیبی منح النصّ إیقاعاً متمیزاً شکّل سمة تنبیهیة للمخاطب، «مهمّتُها لفت الانتباه إلی ما ورد فی النصّ وزیادة التّفاعل التواصلی مع المادّة المرسلة ویستوقف متلقّی الخطاب(ابن حنیف) وینبّهه إلی السنّة التی اتبعها إمامه، فیعرف بذلک مخالفته التی ارتکبها.» (الخزاعی، 2017م: 41) إنَّ الإمام بعد أن ذکر بأنّهم لا یقدرون علی القناعة ویطلب منهم مساعدته ونصرته بورع واجتهاد، أقسم بالله قسماً صادقاً بأنه ما کنز وما جمع الفضّة والذّهب وما ادّخر غنیمة لأهله. من الواضح فی هذا القول أنه یمثّل جواب القسم فی النمط الخبری المنفی والقسَم شکّل نقطة اشتراک بین طرفی الخطاب وهذا الإجماع ناتجٌ عن العظمة التی یحملها المقسم به التی تبرز عبر هذا العوامل الحجاجیة وللمقسم به قوّة فی تحقیق قیمة الکلام التأثیریة. تبین الملفوظات المؤکّدة بالقسم «محاولة المتکلّم لإقناع الخصم بوسم خطابه بأعلی درجات التأکید ومن ثمّ یصبح للملفوظ درجة حجاجیة عالیة.» (ابن خراف،2010 م: 251) إنَّ الإمام بهذه العبارات والحجج المنفیة یسوق علی زهده فی الدّنیا والإعراض عن ملذّاتها؛ کما إنها جاءت مرتّبة ومتدرّجة من الحجّة الأقلّ دلالةً علی المدلول إلی الحجّة الأقوی لتؤوّل بمجملها إلی نتیجة ضمنیة. إنّ نفی إحدی الحجج یؤدّی إلی نفی مدلول الخطاب؛ بعبارة أخری إنّ قوّة النفی تترتب عکسیاً فی السلّم فنقیضُ(ماکنزت من دنیاکم تبراً) أی إثبات هذا الأمر هو دلیل أقوی من الأدلّة الأخری علی الرّغبة والحرص علی الدّنیا. حینما یقول الإمام: ما کنزت من دنیاکم تبراً، توؤل إلی النتیجة: الزهد والإعراض عن الدنیا. و یکنز من الدنیا تبراً تؤوّل إلی النتیجة المضادّة: الرّغبة والحرص علی الدنیا. فمادامت الدّنیا فی نظر الإمام لا تساوی عفصة مقرة فکیف یکنز من الدنیا التبر، فتصبح الحجّة (ولهی فی عینی أوهی و أوهن من عفصة مقرة) هی الحجّة الأقوی علی زهد الإمام وإعراضه عن الدنیا وملذّاتها. ب- القصر من الوسائل اللّغویة التی یلجأ إلیها المتکلّم حتی یوجّه خطابه توجیه اثبات. والقصر لغةً الحبس وفی الإصطلاح تخصیص أمر بأمر بأسلوب معین أی حبسه علیه وجعله ملازماً له. «وهو أداة توکید وتخصیص وکلّما قویت الحاجة إلیهما کان القصر أبلغ.» (قصاب؛ 1999م: 161) وإنّ التوکید بالقصرهو عمل إنجازی یعتمده المتکلّم فی توجیه المخاطب وجعله یسیر فی الاتجاه الذی یحدّده ویرسمه المتکلّم «وبالنتیجة دفع المتلقی إلی إعمال الاستنتاج لدیه. فالأقوال التی تتضمّن هذه العوامل الحجاجیة (أدوات القصر) فی حقیقتها قائمة علی ثنائیة النفی والإثبات من حیث السّلوک الحجاجی والوجهة الحجاجیة کما إنها تبین التعارض بین المعنی الإخباری والمعنی الحجاجی.» (الزبیدی، 2017م: 167)
ج- "إنّما" ذکر الجرجانی أنّ: "إنما" یؤتی بها لخبر لا یجهله المخاطب ولا یدفع صحّته ولکن لا یعلمه ویقرّ به کما أنها تأتی إثباتاً لما یذکر بعدها وتوکیداً لها (الجرجانی؛1991م: 327) ومثال ذلک فی هذه الرّسالة: -«إِنَّمَا هِیَ نَفْسِی أرُوضُهَا بِالتَّقْوَى لِتَأْتِیَ آمِنَةً یَوْمَ الْخَوْفِ الْأکْبَرِ، وَتَثْبُتَ عَلَى جوَانِبِ الْمَزْلَقِ.» (نهج البلاغة، رسالة 45) إنَّ الإمام یذلّل نفسه ویحقّره بسبب التّقوی ویؤکّد کلامه بإنّما؛ لأنّ الإمام یعتقد أنّ ریاضة النفس تنفّذ بالتّقوی لا بالتقلّل والتقشّف لتأتی النفس آمنة مطمئنة یوم الفزع الأکبر وتثبت فی مواضع تخشی الزلّة فیها ولاسیما جسر الصّراط، وترویض النّفس بالتقوی هو أن یطهّر الإنسان نفسه من کلّ شائبة کالکذب و الحسد وأن یحلّی ضمیره بحبّ الخیر للنّاس. الموجّهات التقریبیة الموجّه التقریبی (ظنّ) هو أحد طرفی التشبیه بصفة الرّجحان وهو من الأفعال التلمیحیة التی تفید«الظنّ فی الظّاهر مع احتماله فی بعض المواضع للیقین.» (الأستراباذی، 1996م: 149) فهی أداة تندرج ضمن سلّم قوّة الإعتقاد بین العلم والحسبان، فتکون فی مرتبة دون مرتبة أفعال الیقین ولکن من حیث القوّة الإعتقادیة. نجد أنّ الیقین والظنّ متساویان مع خصوصیة کلّ منهما واختلافهما فی الاتجاه. فالاتجاه الذی نقصده هو علاقة مضمون الکلام بالخارج أی إمّا باتجاه أقصی الیمین نحو العلم أو باتجاه أقصی الیسار نحو الشکّ؛ فإذا کان العلم یدلّ علی الیقین أی اعتقاد جازم فی مطابقة مضمون الکلام لحالة الأشیاء فی الکون، فإنّ الظّنّ والحسبان یدلّان علی اعتقاد جازم فی انتفاء هذه المطابقة (المبخوت، 2010 م: 54) ومثال "الظنّ" فی هذه الرّسالة: «أمَّا بَعْدُ، یَا بْنَ حُنَیْفٍ فَقَدْ بَلَغَنِی أنَّ رَجُلاً مِنْ فِتْیَةِ أهْلِ الْبَصْرَةِ دَعَاکَ إِلَى مَأْدُبَةٍ فَأسْرَعْتَ إِلَیْهَا، تُسْتَطَابُ لَکَ الْألْوَانُ، وَتُنْقَلُ عَلیْکَ الْجِفَانُ، وَمَاظَنَنْتُ أنَّکَ تُجِیبُ إِلَى طَعَامِ قَوْمٍ عَائِلُهُمْ مَجْفُوُّ، وَغَنِیُّهُمْ مَدْعُوُّ.» (نهج البلاغة، رسالة 45) هنا یخاطب الإمام عثمان بن حنیف ویوبِّخه بسبب حضوره فی مجلس الأغنیاء ویتعجّب الإمام ویقول: أنت من المؤمنین فما ظننت بک الإجابة هذه. أمّا "ظنّ" إحدی أدوات الإقناع حیث تقتضی هنا (إنّک تجیب إلی طعام) لکن الجملة المنفیة تقتضی (إنّک لا تجیب إلی طعام قوم...). أمّا تأثیر النفی فی مقتضى الفعل "ظنّ" وتحدید المقصود من نفی هذا الفعل، وما یؤدّیه من احتمالات فی التأویل الدّلالی، فنجد أنّ التحقّق ینقلب بموجب النّفی إلى اقتضاء لعدم التحقّق. حیث تقتضی "ظنّ" (هنا على وجه الترجیح ) إنک تجیب إلى طعام... لکن الجملة المنفیة تقتضی (إنّک لا تجیب إلى طعام قوم)... وهذا الأمر یجعلنا نعود إلى الخلف لبیان صورة "ظنّ" فی الإثبات حیث نجدها لا تعین مقتضیات مفاعیلها من حیث التحقّق وعدم التحقّق، «فالإمام فی هذه المسألة یحمل شکّه شکّاً آخر من أجل التّعبیر عن عدم التزامه بصدق مضمون کلامه، لکی یحقّق مفهوم الالتزام والمطابقة بین الکلام والاعتقاد والخارج؛ لأنَّ الادلّة والبراهین السّلبیة الواقعیّة الملازمة للمخاطب، ابن حنیف- نسبیّة- لا ترقى إلى إثبات فساده، أی هناک عدم مطابقة بین الخارج والإعتقاد.» (الزبیدی، 2017 م: 176-177) السُّلّم الحجاجی فی هذه الرّسالة تتجلّی العلاقة المجازیة بین الدّعوی والحجّة، لتصبح علاقة شبه منطقیة إلی حدّ ما، وذلک بالرّغم من أنها تتجسّد، بطبیعة الحال، من خلال الأدوات اللّغویة، فیتمثّل صلب فعل الحجاج فی تدافع الحجج وترتّبها حسب قوّتها؛ إذ لا یثبت غالباً فی السّیاق. لذلک یرتّب المرسل الحجج التی یری أنها تتمتّع بالقوّة اللّازمة التی تدعم دعواه. وهذا الترتیب هو ما یسمّی "بالسلّم الحجاجی". ویمکن تعریف السلّم الحجاجی بأنّه: «عبارة عن مجموعة فارغة من الأقوال مزوّدة بعلاقة ترتیبیة وله ثلاثة قوانین: 1- قانون الخفض. 2- قانون تبدیل السلّم. 3- قانون القلب. (الشهری، 2004م: 499-500) ونجد أنّ رسائل الإمام (ع) لاتخلو من تمثّلات لهذا النوع الحجاجی اللّغوی الذی یکشف عن قوّة الحجج وترتیبها فی القول؛ بل لابدّ لکلّ قول بطبیعته أن یخضع لسلّمیة وتراتبیة معینة فی خدمة النتیجة أو القول بأسره. یقول الإمام علیه السّلام فی هذا الصّدد: «فَوَاللَّهِ مَا کَنَزْتُ مِنْ دُنْیَاکُمْ تِبْراً وَلاَادَّخَرْتُ مِنْ غَنَائِمِهَا وَفْراً، وَلاَ أعْدَدْتُ لِبَالِی ثَوْبِی طِمْراً. وَلاَحُزْتُ مِنْ أرْضِهَا شِبْراً وَلاَ أخَذْتُ مِنْهُ إِلا کَقُوتِ أتَانٍ دَبِرَةٍ وَلَهِیَ فِی عَیْنِی أوْهَى وَأوْهَنُ مِنْ عَفْصَةٍ مَقِرَةٍ.» (نهج البلاغة، رسالة 45) ومثلما یصدّق السلّم الحجاجی فی الإثبات، فإنه أیضاً یصدّق فی النّفی، فالإمام یسوق أکثر من دلیل على زهده فی الدّنیا والإعراض عن ملذّاتها، حیث نجد أنّ الحجج المستعملة فی هذا المثال هی حجج منفیة، کما إنّها جاءت مرتّبة عمودیاً ومتدرّجة من الحجّة الأقلّ دلالةً على المدلول إلى الحجّة الأقوى، لتؤوّل بمجملها إلى نتیجة ضمنیّة هی (الإمام رجلٌ زاهدٌ) ویمکن أن ندرج هذه الأدلّة على زهده بحسب قوّتها فی السلّم الحجاجی بالشّکل التالی:
النتیجة (الزهد والإعراض عن الدّنیا( هی فی عینی أوهى وأوهن من عفصة مقرة ولا حُزت من أرضها شبراً ولا أعددتُ لبالی ثوبی طمراً ولا ادّخرتُ من غنائمها وفراً فو الله ما کنزتُ من دنیاکم تبراً ولو مثّلنا هذه الحجج بدون نفی، فإنّه یتغیّر مجمل الخطاب؛ فتصبح الحجة الأقلّ مدلولاً فی أسفل السلّم هی الحجّة الأقوى دلالةً على النتیجة المضادّة للنتیجة السّابقة، ویمکن إیضاح هذا الأمر عبر السلّم الحجاجی التالی:
نفی النتیجة (الرّغبة والحرص على الدّنیا) یکنز من الدنیا تبراً ادّخر من غنائمها وفراً اعد لبالی ثوبه طمراً حاز من أرضها شبراً أخذ من قوتها شأنها ومحبتها کبیرة فی عینه یترتّب على ذلک أنّ نقیض إحدی الأدلّة / الحجج (یؤدّی إلى نفی مدلول الخطاب وهذا ما یسمّی بقانون تبدیل السلّم ونتیجة لذلک نتبین أنّ قوة النفی/ النقیض تترتب ترتیباً عکسیاً فی السلّم، فنقیضُ(ما کنزت من دنیاکم تبراً) أی إثبات هذا الأمر هو دلیل أقوى من کلّ الأدلّة الأخرى على الرّغبة والحرص على الدّنیا. حجاجیة الصّورة الفنّیة اتّفق الدّارسون علی أهمیة الصّورة الفنّیة کحجر الأساس فی بناء العمل الفنّی والتصویر وسیلة من وسائل الدّلالة البلیغة التی تتمکّن فی النفس فیکون لها الأثر العمیق فی الإبلاغ والإثارة وهی توظّف لغایة الإقناع والتأثیر قبل أن ینحسر دورها وتعتبر الاستعارات من أسالیب التعبیر الفعّالة التی نستخدمها لترک انطباعات دائمیة حیّة. یقول الباحث النفسی اللّغوی المشهور عالمیاً سوزیتیه هادین إلجین: «تعتبر الاستعارات أکثر الوسائل فعالیّة من أجل تغییر مواقف الأشخاص بسرعة وفعّالیة وبصورة دائمة.» (الشهری،2004 م: 485) وتشکّل الاستعارات الطّریقة التی نفکّر بها، فهی تشبه هیاکل النوافذ التی یصمّمها المعمار لیصل إلی المنظر المطلوب، بل إنّ أطر النوافذ لا ترکّز فقط علی ما ینظر إلیه، «فإنها أیضاً تحدّد ما تستطیع أن تشاهده، لذا فإنّ الاستعارات تعمل بنفس الطّریقة، إذ إنها ترکّز علی خصائص معینة، بینما تخفی خصائص أخری.» (المصدر نفسه: 495) والإستعارة لغةً رفع الشئ وتحویله من مکان إلی آخر واصطلاحاً هو علم من علوم البیان وهی مجاز لغوی تکون العلاقة فیه بین المعنی الحقیقی والمعنی المجازی المشابهة (سارة، 2015 م: 62) ومن أمثلة تلک فی هذه الرّسالة یقول الإمام: «وَالله لَوْ تَظَاهَرَتِ الْعَرَبُ عَلَى قِتَالِی لَمَا وَلَّیْتُ عَنْهَا، وَلَوْ أمْکَنَتِ الْفُرَصُ مِنْ رِقَابِهَا لَسَارَعْتُ إِلَیْهَا، وَسَأجْهَدُ فِی أنْ أطَهِّرَ الْأرْضَ مِنْ هَذَا الشَّخْصِ الْمَعْکُوسِ، وَالْجِسْمِ الْمَرْکُوسِ، حَتَّى تَخْرُجَ الْمَدَرَةُ مِنْ بَیْنِ حَبِّ الْحَصِیدِ.» (نهج البلاغة، رسالة 45) هنا یتحدّث الإمام عن خُبث طبع معاویة ووصفه بالمعکوس والمرکوس ویعتقد من الواجب أن یطهّر الأرض من هذا الشّخص الخبیث. أراد الإمام من کلمة(معکوس) بأنّ معاویة رجل أوّله کآخره وآخره کأوّله وأراد (بالمرکوس) إلی مقام نفاقه یعنی ظاهره، خلاف باطنه وعبّر بالجسم قاصداً أنّه لا یسمّی إنساناً بل جسم من الأجسام کالجمادات والنباتات غیر أنه یشرب ویأکل کالإنسان «ومحصّل الکلام؛ خروجه عن مقام الإنسانیة.» (النقوی، 1383ق: 354) ثمّ فی نهایة الفقرة تعبّر عن لفظین عن طریق الإستعارة وهما "المدرة" و"حبَّ الحصید"؛ استعار لفظ "المدرة" لمعاویة ویکنّی بها عن الکفر ولفظ "حبّ الحصید" للمؤمنین ویکنّی بها عن الإیمان؛ استوحی هذه الصّورة الفنیة لیشبّه معاویة بحجر وشبّه الناس بالحبّ الذی هو ثمرة الزّرع. فوجود معاویة بین المسلمین کالمدرة بین حَبّ الحصید یوجب الفساد ویضلّ العباد «ووجه المشابهة أنّه مخلص للمؤمنین من وجود معاویة بینهم لیزکّوا إیمانهم ویستقیم دینهم؛ إذ کان وجوده فیهم سبباً عظیماً لفساد عقائدهم وهلاک دینهم کما یفعل أهل البیادر من تصفیة الغلال وإخراج ما یشوبها ویفسدها من المدر وغیره.» (الأسدی، 2006م: 557) إنّ هذه الصّورة التی رسمها الإمام یوافق مع المخاطبین، لأنّهم من أصحاب الزّرع والإمام یرید أن یؤثّر فی نفسیة المخاطب عن طریق هذه التشبیه ویؤکّد بأنّ تواجد معاویة بین المسلمین یسبّب فساد عقائدهم وهلاک دینهم. والإمام لجأ إلی أسلوب الکنایة الذی یتضمّن خرق المعنی الحرفی والمعجمی للملفوظات لتشکیل صورة تتضمّن خیالاً أوسع «ویحفز المتلقّی إلی البحث عنها ویحاول جاداً اکتشاف ما یقصده المرسل.» (الخزاعی، 2017م: 97) کما أشار أمیرالمؤمنین إلى حاله مع الدّنیا(فی هذه الرّسالة) بقوله: «إلِیَکِْ عَنیِّ یَا دُنیْاَ فَحَبلْکُِ عَلَی غَارِبکِِ.» (نهج البلاغة، رسالة 45) فی هذه الفقرة یمثّل الإمام الدّنیا بصورة من یعقل ویخاطبها بخطاب العاقل لیکون ذلک أوقع فی النّفوس وأمرها بالتنحّی والإبتعاد ویکنّی بها عن الطّلاق والترک؛ لأنه شبّه الدنیا بالحیوان الذی حبله علی غاربه وهو یذهب حیث یشاء، فقد حرّر الإمام نفسه عن ملذّات الدنیا وشهواتها. ومرّة أخری شبّهها بالحیوان الذی له مخالب (قَدِ انْسَلَلْتُ مِنْ مَخَالِبِکِ) «استعارة بالکنایة عن کونها کالأسد فی جذبها للإنسان بما فیها من الشّهوات والقینات إلی الهلاک الأبدی کما یجرّ الأسد فریسته.» (الأسدی، 2006م: 558)، ثمّ شبّه الدنیا بالصّائد(وَأفْلَتُّ مِنْ حَبَائِلِکِ) و«کنّی بهذا الوصف المستعار عن کونها تصیید قلوب الرّجال بشهواتها الوهمیة فهی لها کحبائل الصائد.» (المصدر نفسه) کما أن الصیاد یصید الحیوانات بحبائله، إن الدّنیا تصید الناس بظواهرها ومغریاتها ویشیر الإمام إلی خلاصه ونجاته من الدنیا الدنیة. وفی عبارة (وَاجْتَنَبْتُ الذَّهَابَ فِی مَدَاحِضِکِ) «استعار لفظ مداحضها لشهواتها وملذّاتها باعتبار کونها مزالق أقدام العقول عن طریق الله ومصارع لها» (المصدر نفسه) والإمام شبّه الدنیا بالأرض الواسعة التی لها مراتع کثیرة خضرة وشبّه نفسه الشریفة بمن یرتع فیها، ومن أمثلة تلک قوله علیه السّلام: «إذَِا کَانَ هَذَا قُوتُ ابْنِ أَبِی طَالبٍِ فَقَدْ قَعَدَ بهِِ الضَّعْفُ عَنْ قتِاَلِ الْأقرَانِ وَمُناَزَلةَِ الشُّجْعَانِ،أَلَا وَإِنَّ الشَّجَرَةَ الْبَّرِیَّةَ أَصْلَبُ عُوداً وَالرَّوَاتِعَ النَّضِرَةَ أَرَقُّ جُلُوداً وَالنَّابِتَاتِ الْعِذْیَةَ أَقْوَى وَقُوداً وَأَبْطَأُ خُمُوداً.» (نهج البلاغة، رسالة 45) هنا جاء الإمام بأربعة تمثیلات کی تشرح بأنّه لیس علاقة بین القوّة والشّجاعة وأکل الطّیبات من الرزق؛ لأنّهم یعتقدون بضعف الإمام عن قتال الأقران بسبب قوته النزر؛ لذلک یجیبهم بهذه التمثیلات. أوّلاً فی عبارة (إِنَّ الشَّجَرَةَ الْبَرِّیَّةَ أصْلَبُ عُوداً) یمثّل الإمام بالشّجرة البرّیة ویقاس نفسه علیها فی الشّجاعة والصلابة، کما أنّ الشجرة البرّیة تنبت فی الصحراء ولا تتغذّی إلا بماء المطر، لکن عوده أصلب من الشّجرة الأهلیة التی تنبت فی المزارع وهی أضعف بالنّسبة للشجرة البرّیة؛ إنَّ الإمام أیضاً مع قلّة غذاءه یکون أقوی من الآخرین، لأنه یتحمّل فی حیاته کثیراً من الصّعوبات خلافاً للذین یعیشون عیشة طیبة ولیس لدیهم القدرة أمام الصعوبات «والمشترک الجامع بینهما هو قلّة الغذاء وجشوبة المطعم کقلّة غذاء الشجرة البرّیة وسوء رعیها والحکم عن ذلک هو صلابة أعضائه وقوّته کصلابة عود الشجرة البرّیة وقوّتها.» (الأسدی، 2006 م: 556) وفی عبارة «وَالرَّوَائِعَ الْخَضِرَةَ أرَقُّ جُلُوداً» تشبیه معاویة وأصحابه بالرّوائع الخضرة وهی الأشجار والأعشاب الغضّة الناعمة الحسنة؛ لأنّهم یعجزون عن المقاومة ولایمکن لهم التجلّد علی المصائب ویمیلون إلی الدّعة والرّفاهیة «والمشترک الجامع بینهما هو الخضرة والنّضارة الحاصلة عن الترف ولین المطعم والحکم اللازم عن ذلک هو رقّة الجلود ولینها والضّعف عن المقاومة وقلّة الصبر علی المنازلة والمیل إلی الدّعة والرفاهیة والغرض أن یعلم کون أقرانه أضعف منه.»(المصدر نفسه: 557) وفی النهایة «وَالنَّابِتَاتِ الْعِذْیَةَ أقْوَى وَقُوداً، وَ أبْطَأُ خُمُوداً» شبّه الإمام نفسه بالنباتات العذیة التی یسقیها ماءُ المطر وبسبب ذلک یکون أقوی علی إشعال نار الحرب ویتّصف بالصّبر. وکذلک فی هذه الفقرة قد أتی الإمام بعدّة مؤکّدات عندما أحسّ بتسرّب الشکّ إلی ذهن المستقبل من أجل أن یستحکم الخبر فی نفسه. «لأنّ وظیفة الخبر تثبیث المعنی فی تلک النفس الرّافضة له؛ فلابدّ أن تکون العبارة ووثاقتها ملائمة لحال النفس، قادرة علی الإقناع.» (حسنین موسی،1980م: 81) وبعد ذلک لتأکید کلامه أی توصیف شجاعته، مثّل الإمام، نفسه أمام رسول الله فی العلم والقدرة والزّهد والحلم والصّبر قائلاً: «أنَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ کَالضَّوْءِ مِنَ الضّوء» (نهج البلاغة، رسالة 45) «وأصل هذا التمثیل هو الضّوء بالضّوء وفرعه نسبة نفسه من رسول الله وعلّته الجامعة هی کون علومه وکمالاته النفسانیة المشرقة مستفادة ومقتبسة من مصباح علم النبوّة وکمالاتها کالمعلوم من العلّة.» (الأسدی، 2006م: 557) شکل الصّورة وأبعادها الحجاجیة فی هذا القسم من المقالة ندرس المنحنی الحجاجی الذی تؤدیه الصّورة الفنّیة انطلاقاً من شکلها(القالب/الهیکل) الذی یحوی تلک المادّة المستمدّة أو المستقاة من الواقع الذی تعارف الناس علیه وهذا الشکل أو البناء التصویری قد یظهر بأشکال أسلوبیة متعدّدة. ومن أمثلته قوله علیه السّلام إلى عثمان بن حنیف، فی حاله مع الدّنیا وتطلّعه إلى الآخرة: «طُوبَی لِنَفْس ٍأَدَّتْ إِلَی رَبِّهَا فَرْضَهَا، وَعَرَکَتْ بِجَنْبِهَا بُؤْسَهَا، وَهَجَرَتْ فِی اللَّیْلِ غُمْضَهَا، حَتَّی إِذَا غَلَبَ الْکَرَی عَلَیْهَا افْتَرَشَتْ أَرْضَهَا، وَتَوَسَّدَتْ کَفَّهَا، فِی مَعْشَرٍ أَسْهَرَ عُیُونَهُمْ خَوْفُ مَعَادِهِمْ، تَجَافَتْ عَنْ مَضَاجِعِهِمْ جُنُوبُهُمْ.» (نهج البلاغة، رسالة 45) فقولُه (عرکت بجنبها بؤسها) کنایة عن الصّبر على نزول المصائب والبؤس یقال:«عرک فلان بجنبه الأذى، إذا أغضى الطّرف عمّن یؤذیه وصبر على فعله، ویلازم ذلک عدّة فضائل کالحلم والکرم والعفو والصّفح والتجاوز وکظم الغیظ واحتمال المکروه والعفّة ونحوها.» وقوله (وهجرت فی اللّیل غمضها) کنایة عن إحیاء النّفس لیلها بعبادة ربّها واشتغالها بذکره، و"تجافت عن مضاجعهم جنوبهم" کنایة، إذ إنّ اجسامهم لم تکن لتستقرّ على فراشها خوفاً من معادها واشتغالاً بما یصلح آخرتها. هذه الفقرة المصطفاة تعتمد علی الشّکل الثانی من أشکال(القالب/الهیکل) الصورة الفنّیة الحجاجیة أی:
دلیل مدلول (أ) یجاور (ج) ( أ) وینطبق هذا الشکل علی الکنایة بمختلف أنواعها سواء کانت کنایة عن صفة أو کنایة عن موصوف، حیث یجاور المکنّی عنه المکنّی به. و مثال آخر فی هذه الرّسالة قوله علیه السلام: «وَأَنَا مِنْ رَسُولِ اللّه کالصّنو مِنَ الصّنو وَالذِّرَاعِ مِنَ الْعَضُدِ.» (نهج البلاغة، رسالة 45) هذه الفقرة من رسالة الإمام تعتمد علی الشّکل الثالث من أشکال الصّورة الفنیة الحجاجیة علی النحو التالی: دلیل مدلول (أ، ب)= (ج، د) (أ، ب) وینطبق هذا الشکل علی التشبیه التمثیلی الذی یکون قائماً علی المشابهة بین البُنی، حیث یمثل العنصر(أ) بالنسبة للعنصر(ب) ما یمثّله العنصر(ج) بالنسبة للعنصر (د) (الزمانی، 2012م: 204) فیکون شکل التشبیه علی هذا الأساس فی هذا التمثیل کالآتی: أ. الامام علی علیه السلام ب. رسول الله صلى الله علیه وآله ج. الصنو/ الذراع د. الصّنو/ العضد أی مکانة الإمام (ع) أمام رسول الله (ص) کمنزلة الصّنو من الصّنو أو بمنزلة الذّراع من العضد. وقد یختلف شکل التمثیل بحسب تعدّد عناصره المذکورة، فقد تکون تلک العناصرأربعة کما فی المثال السابق وقد تکون أکثر من أربعة أو أقلّ، إذ قد یکون انعقاد التشبیه التمثیلی بین عناصر متعدّدة من الجهتین المشبه والمشبه به تزید على هذا العدد. و مثال ذلک قوله علیه السّلام: «وَکَأَنِّ بِقَائِلِکُمْ یَقُولُ إِذَا کَانَ هَذَا قُوتُ ابْنِ أَبِی طَالِبٍ فَقَدْ قَعَدَ بِهِ الضَّعْفُ عَنْ قِتَالِ الْأَقْرَانِ وَمُنَازَلَةِ الشُّجْعَانِ أَلاَ وَإِنَّ الشَّجَرَةَ الْبَّرِیَّةَ أَصْلَبُ عُوداً وَالرَّوَاتِعَ الَنْضِرَةَ أَرَقُّ جُلُوداً وَالنَّابِتَاتِ الْعِذْیَةَ أَقْوَى وَقُوداً وَأَبْطَأُ خموداً.» (نهج البلاغة، رسالة 45) نجد أنّ الشّکل أعلاه قد استجاب إلى الشّکل النموذج بحیث یصبح تشابه العلاقة قائمة على بنیتین هما: قلّة طعام الامام وجشوبة المطعم. صلابة أعضاء الامام وقوّته. (ج): قلّة غذاء الشجرة البرّیة وسوء رعیها. (د): صلابة عُود الشجرة البرّیة وقوّتها. النّضارة والرقّة الحاصلة من ترف ولین مطعم خصوم الإمام وأقرانه کمعاویة . الضّعف عن المقاومة وقلّة الصّبر على المنازلة والمیل الى الدّعة والرّفاهیة. (ج): الرّواتع الخضراء. (د): رقّة الجلود ولینها. قلّة طعام الإمام وجشوبة المطعم . أقوى على سعیر نار الحرب وأصبر على وقدها وأبطأ فتوراً فیها وخموداً. (ج): النباتات العذیّة. (د): بطئ وقدها بالنار وبطئ فتورها وإخمادها. ففی هذه الفقرة یمنح المرسل حالة الاستقبال وما ینبثق عنها من مستجدّات حال التواصل أهمیة بالغة، «فیسعی إلی إطفاء عناصر التشویش التی قد تحدث بسبب کمّیة المعلومات الجدیدة وغرابتها بأسالیب لغویة مضادّة.» (الخزاعی، 2017م: 66)
النتیجة 1- إنَّ هذه الرّسالة تقوم علی الطّابع الحجاجی والإمام یحاول من خلالها تنفیذ أغراضه عبر الإقناع والتأثیر؛ علی سبیل المثال یعنی الإمام بحروف الربّط والعطف لتوجیه کلامه واستعان بها من أجل التأثیر والإقناع والأشکال البیانیة أی الاستعارة وغیرها. أمّا بالنسبة لإحصائیات موارد الاستعمال للرّوابط والعوامل الحجاجیة، فنرسم الرّسم البیانی لها کالآتی:
وفی دائرة الموجّهات الحجاجیة یرسم الرّسم البیانی لها کالآتی:
وکما یبدو أنّ الإمام یکثر من استخدام الموجّهات الیقینیة أکثر من الموجهات التقریبیة ولاسیّما القسم؛ حتی یثبت عدم حرصه علی الدّنیا وانقیاده إلی ملذّاتها ورغائبها وهو بوصفه هذا یرید أن یقنع المخاطب کی یحذّر من مغریات الدّنیا ومکائدها ووظّف المرسل أنواع القسم والتوکیدات، لأنه یحاول استثارة المتلقّی وتحریک کلّ قنواته التواصلیة من أجل أن یستحکم کلامه فی خلده وشدّد رباطة جأشه. 2- فی هذه الرّسالة أکثر المرسل من أسالیب البیان لیبتعد بأسلوبه عن التقریریة والمباشرة؛ مستغلاً طاقات هذه الأسالیب للوصول إلی الإقناع والتأثیر فی المتلقّی ولذلک عدل بلفظ عن آخر للتّعبیر عن معانٍ ودلالات عمیقة. وکذلک استخدم المرسل فی هذه الرّسالة کثیراً من المفارقات النّحویة وینتهک النظام المعیاری للملفوظات وهذه المفارقة تُرشدنا إلی المفارقة بین فعل المرسل الرّافض للدّنیا وبین فعل المخاطب المخالف لما أراده منه إمامه. وغرض الرّسالة هذه جاء من أجل المأموم ومن أجل بیان مخالفته لإمامه. 3- أخذ المستوی الدّلالی مساحته الرحیبة فی هذه الرّسالة من خلال التشبیهات التی کانت واضحةً فی صورها، قریبةً من الذّهن وکذلک العلاقات التی تربط بین طرفی التشبیه ووجه الشبه قریب لا یحتاج فی إدراکه إلی تأویل وتفکیر وکذلک الإستعارة التی لا نکاد نجد فیها صوراً صعبة تحتاج فی فهمها إلی إعمال الذّهن وکدّها وکذلک الکنایة. یعتمد المرسل فی صوره التشبیهیة علی الهیئات المختلفة، ما یجعل المتلقّی فی رقابة دائمة مع النصّ من أجل اکتشاف الخیوط المشترکة بین هذه الصّور. والکنایة والتمثیل والتشبیه فی هذه الرّسالة لم تأتِ للتزیین وترصیع الکلام فقط؛ بل ذریعة أساسیة لتوجیه المخاطبین وحملهم علی الإذعان والاعتراف.
| ||
مراجع | ||
نهج البلاغة. ابن خراف، ابتسام. (2010م). الخطاب الحجاجی السیاسی فی کتاب (الامامة والسیاسة) لابن قتیبة، دراسة تداولیة. الجزائر: جامعة الحاج لخضر. ابن منظور، جمال الدین محمد. (1414ق). معجم لسان العرب. ط الثالثة. بیروت: دار صادر. أبوعرقوب، إبراهیم. (2005م). الاتصال الاجتماعی ودوره فی التفاعل الاجتماعی. عمان: مجدلاوی للنشر والتوزیع. أرسطوطالیس. (1979م). الخطابة. الترجمة العربیة القدیمة، تح. بدوی عبد الرحمن. بیروت: دار القلم. الأسترآباذی، رضی الدین. (1996م). شرح الکافیة. لیبیا: منشورات قار تونس. الأسدی، عادل. (2006م). من بلاغة الإمام علی(ع) فی نهج البلاغة. طهران: المحبین. البحرانی، کمال الدین بن میثم بن علی. (1992م). شرح نهج البلاغة. بیروت: دار إحیاء التراث العربی. بلخیر، هشام. (2012م). آلیاتالإقناعفیالخطابالقرآنی، دراسةحجاجیة. مذکرة مکملة لنیل درجة الماجستیر فی اللسانیات العامّة (سورة الشعراء نموذجاً). الجزائر: جامعة الحاج لخضر. پروینی، خلیل. (1435م). «الصّورة الفنیة فی رسائل الإمام علی(ع) (دراسة فی ثلاث رسائل من نهج البلاغة نموذجاً)». طهران: مجلة آفاق الحضارة الإسلامیة. السنة السادسة عشرة. العدد الثانی. صص 48-23 الجاحظ. (1995م). البیان والتبیین. تح: عبدالسلام هارون. القاهرة: مطبعة الخانجی. الجرجانی، عبدالقاهر. (1991م). دلائل الإعجاز. تحقیق محمود محمد شاکر. ریاض: دارالمدنی. الحصری، أبو إسحاق بن علی.(1986م). زهر الآداب وثمر الألباب. تح. محمد محی الدین عبد الحمید. بیروت: دار الجیل. دیماس، محمد راشد. (1999م). الحوار والإقناع. ط الأولی. بیروت: دار ابن حزم. رزق، علی. (1994). نظریات فی أسالیب الإقناع. بیروت: دارالصفوة. الزبیدی، جبّار. (2017م). رسائل الإمام على(علیه السلام) فی نهج البلاغة: دراسة حجاجیة. ط الأولى. کربلا: مؤسسة علوم نهج البلاغة. سارة، قطاف. (2015م). أدوات الإقناع البیانیة فی مقامات البشیر الإبراهیمی. بجایة: جامعة عبدالرحمن میرة. سعدون هنون، هادی. (2012م). التصویرالفنیفیخطبالمسیرةالحسینیة. ط الأولی. النجف: إصدارات العتبة العلویة المقدسة. السیوطی، أبوالفضل جلال الدین. (2006م). الاتقان فی علوم القرآن. بیروت: المکتبة العصریة. شمال حسن، محمود. (2006م). الصورة والإقناع. القاهرة: دار الآفاق العربیة. الشهری، عبدالهادی بن ظافر. (2007م). استراتیجیات الخطاب، مقاربة تداولیة. بیروت: دارالکتب الجدیدة المتحدة. صفوت، أحمد زکی. (1996م). جمهرة خطب العرب. بیروت: المکتبة العلمیة. صولة، عبدالله. (2007م). الحجاج فی القرآن الکریم من خلال أهمّ خصائصه الأسلوبیة. ط الثانیة. القاهرة: دارالمعارف. العبد، محمد. (2005م). النصّ والخطاب والإتّصال. القاهرة: الأکادیمیة الحدیثة للکتاب. العزاوی، أبوبکر. (2010م). الخطاب والحجاج. بیروت: مؤسسة الرحاب الحدیثة. القرطاجنی، حازم.) 1966(. مناهج البلغاء وسراج الأدباء. تح: محمد الحبیب بن الخوجة. تونس: لانا. قصاب، ولید ابراهیم. (1999م). البلاغة العربیة-علم المعانی. دبی: دارالقلم. الکعبی، رائد حاکم. (2015م). بلاغةالإقناع؛قراءةحجاجیةفیخطبالإمامالحسین(ع). رسالة ماجستیر. جامعة کربلاء. المبخوت، شکری. (2010 م). الاستدلال البلاغی. بیروت: دارالکتاب الجدیدة المتحدة. المبخوت، شکری. (2009م). توجیه النفی فی تعامله مع الجهات والأسوار والروابط. بیروت: دارالکتاب الجدیدة المتحدة. المبرّد. (1988م). الکامل فی اللغة والآداب. بیروت: مؤسسة المعارف. المتوکل، أحمد. (1985م). الوظائف التداولیة فی اللغة العربیة. الدار البیضاء: دارالثقافة. المرادی، أبومحمد. (1992م). الجنی الدانی فی حروف المعانی. تحقیق فخرالدین قباوة ومحمد ندیم فاضل. بیروت: دارالکتب العلمیة. مفتاح، محمد. (1990م). مجهول البیان. المغرب: الدار البیضاء. النقوی، محمدتقی. (1383م). مفتاح السّعادة فی شرح نهج البلاغة. تهران: قائن.
| ||
آمار تعداد مشاهده مقاله: 680 تعداد دریافت فایل اصل مقاله: 2,517 |