تعداد نشریات | 418 |
تعداد شمارهها | 10,005 |
تعداد مقالات | 83,619 |
تعداد مشاهده مقاله | 78,305,667 |
تعداد دریافت فایل اصل مقاله | 55,360,065 |
ازدواجية التجربتين المختلفتين؛ لمدينة الديستوبية في تجربة "ياسين طه حافظ" الرومانسية | ||
إضاءات نقدیة فی الأدبین العربی و الفارسی | ||
مقاله 4، دوره 11، شماره 41، تیر 2021، صفحه 85-108 اصل مقاله (240.73 K) | ||
نوع مقاله: علمی پژوهشی | ||
نویسندگان | ||
عاطی عبیات1؛ عبدالحسین فقهی2؛ حسین الیاسی* 3 | ||
1أستاذ مساعد في اللغة العربية وآدابها بجامعة فرهنکيان، طهران، إيران | ||
2أستاذ مشارک في اللغة العربية وآدابها بجامعة طهران، طهران، إيران | ||
3باحث ما بعد الدکتوراه وخريج مرحلة الدکتوراه من جامعة طهران، طهران، إيران | ||
چکیده | ||
ینتمي شعر "یاسین طه حافظ" إلی شعر طائفة من الشعراء الذین مزجوا في أشعارهم بین تجربة الحبّ الرومانسي وتجربة المکان في بعده العام الخارج عن الإطار الرومانسي المرتبط بحالات الحب والاشتیاق أو البعد والافتراق. تکون التجربة الرومانسیة في هذا النمط من الأشعار فریدة في نوعها بحیث تسرد قصة الحب المرتبطة بالمجتمع الفاسد والمدینة الفاسدة أي یسرد الشاعر من خلال أشعاره الرومانسیة الحالات الفاسدة الغیر مرغوبة فیها للمدینة والمکان. یحاول هذا البحث عبر المنهج الوصفي _ التحلیلي دراسة هذا الملمح الشعري الجدید في أشعار" یاسین طه حافظ" والهدف المرجو هو الکشف والإبانة عن التمظهر الواسع لهذا الدمج الشعري الإبداعي بین الدیستوبیا وتجربة الحب الرومانسیة وتشیر النتائج إلی أن شعر "طه حافظ یاسین" یمثّل شعراً ذي البعدین في ارتباطه بالمکان وتجربة الحب الرومانسي الذي یحکي قصة حبّ الشاعر لعشیقته فاطمة رمزاً أو حقیقةً. فعمد الشاعر في أشعاره علی تجسید الحالات الفاسدة وغیر المرغوبة للمکان الذي یعیش فیه والذي یختلف ویکون في مفارقة کاملة مع صفاء الحب وبراءته ولا یمکن للإنسان المعاصر أن يمتلک تجربة الحب الرومانسي الخالص في مثل هذه المدینة. فالمدینة والمکان اللذان یخوض فیهما الشاعر لا یحملان البعد المنشود المثالي فالمدینة فقدت في شعر الشاعر بعدها المثالي ولایشمُّ منها رائحة الصفاء والبراءة ولا تکون المدینة المعاصرة حاضنة للحب البرئ مادامت علی نقیض مع الحب الطاهر نتیجة الحالة السلبیة وهیمنة الوجه المادي والنزعة الجسدیة و زوال الحرکة والفکر في المدینة الدیستوبیة. | ||
کلیدواژهها | ||
الشعر العراقي المعاصر؛ ياسين طه حافظ؛ تجربة الحب الرومنسي؛ المدينة الديستوبية | ||
اصل مقاله | ||
ارتبطت التجربة الشعریة بتجربة المکان مند العصر الجاهلي حتّی یومنا هذا ونری للمکان حضوره المتجذّر علی أرض القصیدة في العصر الجاهلي فکثیراً ما نری الشعراء الجاهلیین یعکفون علی المکان ویستهلون افتتاحیة قصائدهم بذکره ویسهبون الحدیث عنه کأن المکان العنصر الأساسي في بناء الشعر ونری الیوم هذا العنصر السردي، قد ازداد حضوراً وبلورة في الشعر العربي المعاصر وخاصة عند طائفة من الشعراء الذین یرون أن المکان هو الحاضنة الشعریة وأرضیتها وهو الذي یجعل الشاعر المعاصر یتوغل في صمیم التجربة الشعریة بالتعکز علی العنصر المکاني. حضور المکان وارتباطه بالتجربة الشعوریة، أمر مهم لا یمکن الإغفال عنه ونری بعض النقاد المعاصرین یعتبرون حضور المکان وحضوره الفني، من أهم أسباب النجاح في الشعریة ومما یبدو جدیداً في الشعر المعاصر العربي وفي تمظهر العنصر المکاني فیه، هو التمازج بین المکان وبین تجربة الحب الرومانسي وحضور المکان هنا یختلف عن الحضور المألوف عند الشعراء بل یرتبط بالبعد السلبي للمکان أو حضور ملامح المدینة الفاسدة غیر مرغوبة فیه وسط تجربة الحبّ الرومانسي. یعرض الشاعر سلبیة المکان من خلال تجسید حالات الحبّ الرومانسي وهذا هو ما یبدو جدیداً ومبکراً في الشعر العربي المعاصر ونری الحضور المکثف لهذه الخصوصیة الجدیدة للشعر العربي المعاصر في شعر الشاعر العراقي یاسین طه حافظ. ارتبطت التجربة الشعریة عند الشاعر بتجربة الحضور في المکان الفاسد ویسعی الشاعر في أشعاره لیعکس تجربة حبّه الرومانسي في مناخ المکان الفاسد ویقف في الصف المعادي لهذا المکان الذي یکون في مفارقة مع الحبّ والصفاء والبراءة. یرمي هذا البحث إلی دراسة هذا الموضوع في شعر یاسین طه حافظ وتبنّی للنیل إلی أهدافه من خوض عالم الشاعر الشعري، المنهج الوصفي _ التحلیلي ویحاول عبر مقاربة شعر الشاعر في الاطار المذکور أن یفتح أعین للمتلقیین نافذة علی کیفیة المزج بین التجربتین في شعر الشاعر وهذه الورقة البحثیة شأن کلّ البحوث العلمیة يمتلک فرضیة أساسیة مفادها أنشعر یاسین طه حافظ شعر مکاني بامتیاز ویتجلّی حضور المکان في شعر الشاعر بالصورة السلبیة والمکان الحاضر في شعر الشاعر لایتلاءم ونفسیة شاعر عاشق مثل یاسین طه حافظ وهو یصبو إلی الجمال والجلال ویضمر في نفسه قصة عشق یتّسم بالجمال والصفاء والنقاء. مما تکمن فیه ضرورة الدراسة هو أن هذه الخصوصیة الشعریة التي یحمله شعر الشاعر فریدة في نوعها ولم نعثر علی دراسة شاملة حول هذا الموضوع وخاصة في تجربة هذا الشاعر الشعریة ونحاول من خلال تسلیط الضوء علی هذا الملمح الشعري الجدید للشاعر، الکشف والإبانة عن الحضور السلبي للمدینة وتعریتها في الفضاء الشعري الرومانسي عند هذا الشاعر العراقي المغمور. أسئلة البحث يحاول هذا المقال أن يجد إجابات واضحة لمجموعة من الأسئلة منها:
وهذه الأمثلة وما یماثلها من الأسئلة تکون بمثابة دافع للخوض في غمار هذا الجهد العلمي وهذه المحاولة الجادة هي الأولی من نوعها والتي تقوم بمقاربة المزج بین الواقعیة والرومانسیة في شعر الشاعر. فرضيات البحث
خلفیة البحث کثرت الدراسات التي تناولت موضوع المدینة في الشعر المعاصر فنذکر منها: بحثا یحمل عنوان: جدلیة المکان في خطاب سعدي یوسف الشعري للباحثين حسین الیاسی وملا إبراهیمی وهي منشورة في مجلة الآداب بجامعة فلسطین ودراسة أخری للباحث جمال طالبي مقالة معنونة بـ: دراسة الرؤیة الجدلیة مع المدینة في تجربة أمل دنقل وهي مطبوعة في مجلة اللغة العربیة وآدابها سنة 2017م والمقالة دراسة عابرة للمدینة وسلبیتها في الأبعاد السیاسیة والاجتماعیة والاقتصادیة وکتب صادق آلبوغبیش وآخرون بحثا بعنوان: ملامح الدیستوبیا وتمظهراته في أشعار عبدالرزاق الربیعي سنة 2020م وهو منشور في مجلة لسان المبين والمقالة دراسة للوجه السلبي للمدینة في بعدها السیاسي في شعر الشاعر بحیث هي دراسة لأزمة المدینة تحت الاحتلال الأمریکي وکتبت فاطمة برجکاني مقالة تحمل عنوان: الدیستوبیا في الروایة العربیة المعاصرة: قراءة في روایة "أورویل في الضاحیة الجنوبیة" والمقالة منشورة في مجلة إضاءات نقدیة سنة 2018م وهي دراسة لإشکالیات سیاسیة واجتماعیة للمدینة وهناک دراسات عدیدة عن شعر یاسین طه حافظ نخصُّ بعضا بالذکر منها مقالة عبدالرزاق کریم خلف ویونس عباس حسین وهي تحمل عنوان "الهیمنة السردیة وتقنیاتها الإجرائیة في النص الشعري الحدیث" والمقالة منشورة في مجلة کلیة التربیة الأساسیة سنة 2010م وهي دراسة لاحتفاء الشاعر بالسرد في أشعاره کافة ودراسة لأنماطه مثل الزمان والمکان والحوار والشخوص و.. وهناک مقالة أخری تحمل عنوان "تداخل الأمکنة في شعر یاسین طه حافظ" للباحث یونس عباس حسین والمقالة منشورة أیضاً سنة 2014م في مجلة کلیة التربیة الأساسیة بجامعة بابل وهي دراسة عابرة لتداخل الأمکنة المغلقة والمفتوحة في شعر الشاعر واختار الطالب علي سریع یحیی الموسوي شعر یاسین طه حافظ میداناً للبحث والدراسة في رسالة معنونة بـ" البنیة السردیة في شعر یاسین طه حافظ" ونوقشت الرسالة عام 2019م بجامعة القادسیة وتطرق الباحث في قسم من رسالتها لمعالجة المکان السردي في شعر الشاعر وکتب یاسین النصیر مقالة تحمل عنوان "یاسین طه حافظ: تراجیدیا الشعر" والمقالة منشورة في مجلة اللحظة الشعریة یصدرها الشاعر فوزي کریم سنة 2017 وهي عرض موجز ومختصر لظاهرة الحزن الرومانسي في شعر الشاعر ولم نجد بعد الجولة الطویلة في المجلات والمواقع بحثاً یمتُّ بصلة لموضوع هذه الدراسة وما صار مطروحاً من الحدیث عن المکان في البحوث السابقة، لم یخرج عن إطار دراسة سردیة المکان وفاعلیة المکان السردي في شعر الشاعر ویعدُّ هذا البحث العلمي المحاولة الأولی الجادة التي تسعی لاستجلاء حضور المکان في بعدها السلبي والإحباطي وفي اتصاله بتجربة الحبّ في شعر یاسین طه حافظ. نبذة عن حیاة الشاعر ینتمي یاسین طه حافظ إلی جیل الموجة الصاخبة وهو جیل الستینیات (سامی مهدي، 2014م: 44)، في الحرکة الشعریة العراقیة. ولد الشاعر (1936م) في محافظة بغداد وفي منطقة الأعظمیة والشاعر الابن الأکبر لأبیه ونشأ وترعرع في کنف والدٍ کان یهتم بتربیته. أکبَّ یاسین علی تعلّم الشعر العربي القدیم وحفظ القرآن الکریم مبکراً وتفتحت ملکاته وموهبته وهو صغیر وکان یری فیه أبوه مخایل هذه الموهبة . کان لعام (1949م) تأثیر بالغ في حیاة الشاعر بعد انتقال الأسرة إلی المدینة وبسبب عقوبات متعددة افترضت علی أسرته. ترک الشاعر أمانیه الصغیرة في مدرسته الکبیرة في بغداد واستقر به الأمر في هذه المدرسة وفي الحقیقة کانت لهذه النقلة تأثیرها البارز في تکوینه الشخصاني وهذا ما نلمسه في قصائد الشاعر مثل قصیدة: تینة نهر الشیخ. (الصالحي،2017م: 7- 8) أنشد مجموعة من القصائد في غایة الجمال والبهاء والنضج من حیث الإبداع وترک مجموعة ثرَّة من القصائد ذات الطاقات الکثیرة والقدرة علی الإیحاء والبوح مثل: دیوان الوحش والذاکرة (1969م)، دیوان قصائد الأعراف (1974م)، دیوان البرج (1977م)، قصائد من زمن الحرب صدر عام 1986م، دیوان في الخریف یطلق الحب صیحته (2012م) ودیوان لکنّها هي هذي حیاتي الذي صدر عام (2012م) وآخر مجموعة شعریة أصدرها الشاعر هو دیوان "الحدیقة لیست لأحد" وهي مجموعة شعریة صدرت عن منشورات الاتحاد العام للأدباء والکتاب في العراق (2017م) وکان للشاعر أربع مراحل شعریة مختلفة وتغلب الرومانسیة علی المسیرة الشعریة للشاعر في کلّ هذه المراحل المختلفة وفي جمیع هذه المراحل الشعریة یقوم بالمزج الواعي بین الرومانسیة والواقعیة أو ما یسمّی بالرومانسیة الموضوعیة بحیث یقوم الشاعر بتعریة الفضاء الدیستوبي للمدینة وسط الفضاء الشعري الرومانسي. الديستوبية کثر استعمال مصطلح الدیستوبیا في عصرنا الراهن ولا سیّما في الأعمال الأدبیة التي تتخذ بالصبغة الواقعیة. فمصطلح الدیستوبیا مرتبط بمصطلح یوتوبیا الذي استخدمه "توماس مور". فالدیستوبیا هي نقیض الیوتوبیا، فعندما تخطيء الیوتوبیا تکون الدیستوبیا حیث ینتشر المرض و الدمار وهي تعني المدینة الفاسدة أو الواقع المریر. (مور، 1987م: 13) إنَّ الدیستوبیا من المصطلحات الجدیدة التي ظهرت في الأدب وخاصة الروایة حیث تبلور في ساحة الأدب والرواية، نتیجة ارتباطها الواقعي والموضوعي بالواقع الإنساني والمجتمع الإنساني الذي یعیش فیه الإنسان المعاصر وبعد التنازل الحقیقي عن رومانسیة الرؤیة إلی الأدب والشعر تحدیداً وصار لهذا المفهوم حضوره الفضفاض والواسع في الأدب والروایة، نتیجة الخرابات التي تحملها الأرض علی کاهلها ونتیجة الفساد المتفشي في المجتمع الإنساني والمدینة «وتبلور باعتباره مفهوماً متعارفاً علیه في منتصف القرن العشرین وذهب البعض إلی أن الأدب لیس وحده هو الذي أوجد هذا المفهوم وإنما عند العودة إلی المصادر الفلسفیة تبین لها تردد أصداء مفهوم الدیستوبیا في فلسفة فریدریک نیتشة العدمیة أو النهلیستیة کما یطلق علیها والتي وجدت امتداداً لها في القرن العشرین في إیدئولوجیات الفیلسوف الأمریکي ریتشارد روتي بل وأیضاً في مفهوم الواقع الشبیه لدی الفیلسوف الفرنسي جون بودریار.» ( نجدي، 2020م: 42) الروایة الدیستوبیة إشارة إلی حالة من الحضور للمکان أو المدینة في الأدب والروایة في تمظهره السلبي في الروایات أي تجسید خبث الواقع بما فیه من الإحباط والخراب في أرض الأدب والروایة. «أصل الکلمة مأخوذة من الیونانیة بمعنی المکان الخبیث. الأدب الدیستوبي أو الرؤیة الدیستوبیة هو أدب المدینة الفاسدة أو أدب الواقع المریر وهو مجتمع خیالي مخیف أو غیر مرغوب فیه تسوده الفوضی ومن أبرز ملامحه الخراب، القتل، القمع، الفقر والمرض وهو یأتي في مقابل أدب الیوتوبیا أي المدینة الفاضلة.» (پرچکانی، 2018م: 136) یعیش فیها الإنسان بالسعادة والرفاهیة ولا یرتطمه القلق ولا یرتابه الخوف والتي یستشرف فیها الإنسان المستقبل بصورة أکثر سعادة ورفاهیة وعیشة من الحاضر السعید وفي المقابل تنتفي نتیجة خراب الواقع وخبثه الرؤیة المستشرفیه في الدیستوبیا ولا یری فیها الإنسان مخایل السعادة والنجاة ولا یری فیها إلا المأساة والنهایة المؤلمة للإنسان وهذا هو المفارقة الوجودیة بین المکانین وبین الإنسان في المجتمعین. وثمة نوع من الحضور لدیستوبیا وهو الحضور في الشعر الرومانسي بصورة یعکس الشاعر من خلال تجربة الحب الرومانسي ومن خلال تجسید الحب یعکس الحالات الفاسدة للمکان ویحاول عبر المزج بین الرؤیة الرومانسیة والرؤیة الرواقعیة أن یزیل الستار عن وجه المجتمع في مسعی لتعریة الواقع الإنساني والمجتمع الذي یعیش فیه. یعدُّ "یاسین طه حافظ" من أبرز الشعراء الرومانسیین الذین مزجوا بین تجربة الحب وتجربة الواقع في شعره وسعی فيه لفضح الواقع المدني الذي لا یتلاءم مع تجربة الحب المتّسم بالصفاء والبراء ونقاء الباطن والخارج وفیما یخصُّ بمصدر هذا الاهتمام بالمکان في التجربة الشعریة الرومانسیة، یمکن القول إنَ هذا الاهتمام یعود إلی العلاقة بین الإنسان والمکان. العلاقة بین الإنسان والمکان «علاقة جدلیة وفي الحقیقة لا یحتاج الإنسان فقط إلی مساحة فیزیقیة یعیش فیها ولکنه یصبو إلی رقعة یضرب فیها بجذوره وتتأصل فیها هویته ومن ثمَ یأخذ البحث عن الکیان والهویة شکل الفعل علی المکان لتحویله إلی مرآة فیها یری الأنا صورتها.» (لوتمان، 1986م: 83) وإذا کانت هذه هي حقیقة حضور الإنسان في المکان وهو یعي هذه الحقیقة بالکامل، فإنه یأبي تماماً الحضور في الفضاء الدیستوبي للمدینة وخاصة إذا کانت قضیة الحبّ مطروحة في هذا المیدان ولابراح إنَّه یرفض هذا المکان وهذا الحضور وهذا هو سرُّ الوقوف بوجه الدیستوبیا وخاصة عند الأعمال الرومانسیة التي تحمل صفاء الحب والبراءة التي تفارق هذا المکان السلبي وهذا من جهة ومن جهة أخری یمکن القول إن الشاعر المعاصر «لا یتفاعل مع المکان حرفیاً ومباشراً بالصورة وإنما یسعی إلی محاوره والدخول في أعماقه مسبغاً علیه عالمه الشعوري وشعوره الوجداني وتسعی لتسکب فیها خلاصة تجربتها.» (ربابعة، 2012م: 142) واذا کان هذا هو حقیقة التعامل مع المکان فکیف الشاعر الرومانسي الذي لایعرف سوی الصفاء والبهاء، یستطیع احتضان المکان السلبي أو یعیش في الفضاء الدیستوبي للمدینة التي تمنع کلّ شیء وحتی تصدم العلاقات الإنسانیة. المدینة الدیستوبیة والمکان في شعر یاسین طه حافظ في هذه الفقرة نحاول الولوج في صلب الموضوع لعمل علی دراسة الملامح السلبیة للواقع المعیش ودیستوبیا المدینة في شعره ونحاول الکشف والإبانة عن حقیقة تعریة المدینة في شعر الشاعر في شعره الرومانسي مما یعدُّ جدیداً. في هذه المغامرة البحثیة، نعتمد علی الرؤیة التحلیلیة إلی أشعار الشاعر وخاصة الأشعار التي أنشدها قبل مغادرته لبغداد في دیوان: الوحش والذاکرة وقصائد حبّ علی جدار آشوري وفي الخریف یطلق الحب صیحته. یاسین طه حافظ من أبرز الذین أکثروا من استخدام المکان الفني في أشعارهم وتصویر المدینة بتفاصیلها «فالمدینة عنده البؤرة المرکزیة التي تستقطب تفاصیل الحیاة وهي وإن کانت مکاناً مرکباً من أمکنة متعددة وعلاقات متشابکة، لکنَّها ترتبط بالجانب السیاسي والاجتماعي وظاهرة المجتمع توحد بینهما وکلتاهما تبرز وتتمظهر في المجتمع نفسه.» (المدیني ،2000م: 21) وما یلفت النظر في شعر یاسین طه حافظ والذي یبدو جدیداً ومبدعاً هو الدمج بین التجربتین المختلفتین في الشعر وهذا الدمج یتأتی من الدمج الفني الأسطوري بین المکان في بعده السلبي والإحباطی وبین تجربة الحبّ الرومانسي للشاعر من خلال استحضار معشوقته فاطمة وهذا الدمج بین التجربتین في شعر الشاعر، یعدُّ من إبداعاته الشعریة. یعکس الشاعر من خلال اشعاره الرومانسیة موقفه الرافض من المدینة المعاصرة التي لا تتلاءم ونفسیة شاعر عاشق مثل یاسین طه حافظ تحلق روحه الوهّاجة في الآفاق الرحبة. في ما یلي نقوم بدراسة التمظهرات المختلفة للمکان في شعر الشاعر ونسلّط الضوء علی کیفیة الدمج بین التجربتین المختلفتین في شعر یاسین طه حافظ الذي اشتهر في أوساط الأدب والشعر برومانسیته الموضوعیة.
هیمنة المدینة علی وجود الإنسان وضیاع الحب أکثر ما یمرُّ به الشاعر في المدینة هو الحالات المختلفة من القمع والتعذیب والعذاب النفسي بالنسبة للإنسان وخاصة عندما یرحل من أحضان الریف بصفائه ونقائه وصفوة العلاقات وعلاقة الشوق والحنین لها. المدینة الدیستوبیة التي تحمل السلبیة والانحطاط عند الشاعر تشکل یومیاً صفحة من صفحات العذاب والمعاناة للشاعر العاشق الذي یری صفحة المدینة بلا المکیاج والروتوش والمتسمة بالسواد والقتامة وتغیب عن عینیه تلک الصفحات البیضاء من الحیاة في الریف بحیث یلاقي الحبیبة في أجواء طافحة بالنور والحیاة والشوق والنشوة إذ یقول: حبیبتي/من یمنح العون لروحي في مدینة کلها رحی/ساعة سقوط المدینة/سیتوقف في واحدة من خطواتنا الانهیار/صحیح هي بلامکیاج/ولولاکِ لما رأیت ثروت الحب الهائلة/تبدو نینوی شحاذة في الطریق/بغداد مقفرصة علی کوم الانقاض/وأنا اجد في حبک حلا ورغیفا والماء/ولیکن في السوق المضبب ما یکون/وصار الحب/قضیة یتدخل في توجیهه القدر والقوانین وشروط العیش/في کون مسمّم بالرصاص والخردل/فلن یمجده أحد/ولن نتوقع أن نسلم فیه من/مکائد سفلة و سفاهات بهالیل. (طه حافظ، 2014م: 148- 149) وفي هذا النص الشعري الذي نستشف منه حزن الشاعر نتیجة حضوره في المکان الضیق والسلبي الذي جعله المتبرم بکلّ إشکاله، نری الشاعر یخاطب رفیقة روحه "فاطمة" بصورة التماسیة ویعبّر عن حالات عذابه ومعاناته في المدینة التي أصبحت الرحی تمضغ جسده الطافح بعبیر الحب والعشق والصفاء الریفي والمدینة کالرحی یمزّق جسد الشاعر ویجعله عرضة للبلاء والأحزان ومن دون الروتوش وبلاالمکیاج، یبسط قبضته علی جسد الشاعر والمدینة هي بغداد التي یبکي الشاعر علی أنقاضها وهي مکان له سطوته علی الإنسان والحیاة الإنسانیة برمتها ویهیمن علی علاقات الإنسان والحبیب والحبیبة ویکدّر صفوة الداخل والخارج وهذا هو مدینة الشاعر الذي یری الصفاء والنقاء في الریف ویخزن لا یزال تلک الصفحات البیضاء من حیاته في الریف مع عشیقته فاطمة مما یجعله في الضیق النفسي حدّ المأساة والخناق نتیجة الفضاء السلبي المدني الذي ینکمش فیه الحب والعشق وصار الحب هو الموضوع غیر المرغوب فیه ولا یمجِّده أحد في هذه المدینة التي تزید الشاعر وجعاً علی الوجع في حیاته بکل تفاصیلها حین ینشد: أغلقتُ نافِذتي وأسدلتُ کلَّ الستائرَ/یطاردني في المدینة/کلّ الذینَ هنا حول بیتي/فامحت لحظاتُ لقاءٍ صادقة ومصادفة حلوةً/واختفت الأوجه/کلُّ هذه النوافذ مغلقة/والشجر الأخضر یحمرُّ، یبکي، یموت. (طه حافظ، 2014م: 87) وفي مثل هذه المدینة التي نزح إلیها الشاعر تجعل قبضتها علی الإنسان وعلی علاقات الحب والعشق والحنین بین الناس في المدینة ولا یری الشاعر الذي في المدینة إلا العلاقات المسمومة بین الناس في المشاهد المختلفة والهوّة بین الناس في الفضاء المجتمعي الدیستوبي مما یجعل الشاعر یحتمي بکاهله المثقل من الأحزان والأتراح إلی بیته. لا یری الشاعر من ملامح الحب والعشق شیئا بل یری تمحي لحظات اللقاء الصادقة والحلوة وضیاع حالة التواصل الحمیم وضیاع الحیاة المتمثّل في احمرار الشجر الأخضر فالشجر الأخضر یدلّ علی الحیاة الطافح بعبیر الحیاة ونشوتها واحمراره هذه الحیاة وبکائها تعبیر شعري عن ضیاع الحیاة والحب في المدینة. کل ما یرتطم به الشاعر في المدینة هو ضبابیة العلاقات والاتصال بالوجوه المقنعة واختفاء الوجوه الحقیقیة والجوهر الأصیل للإنسان وهذا هو الوسم الحقیقي للمدینة عند الشاعر یاسین طه حافظ. الوجه المادي للمدینة وتجربة الحب حین ینزح شاعر بقامة یاسین طه حافظ إلی المدینة بفضائها الدیستوبي وهو یحمل ذکریات الصفاء والنقاء، یشعر في المکان الجدید - الذي یفارق تماماً مع الحیاة الریفیة التي تکون فیها العلاقات بین الناس علی أساس الحب والعشق والإنسانیة- بنوع من التذمّر والألم النفسي نتیجة المفارقة بین المکانین: الموطن الأول المتسم بالصفاء والنقاء والثاني بفضائه الدیستوبي ولا براح أنَّ قسماً کبیراً من التدهور بین العلاقات في المدینة وهذا یعود إلی سطوة المادیة علی الحیاة في المدینة ویعکس الشاعر یاسین طه حافظ هذا الحاجب للقاء بین الطرفین والعاشقین بقوله: قدر ما یحزُنني هذا/دعي الآخرین في فوضاهُم/في صخبِ البیع والشراء/وفي المشاریع الکبیرة والأمجاد/هم لم یحظوا بجلسة مثل هذه/سیظلونَ بلا شموع و قصائد. (السابق: 146) ولا یتمتّع الناس في المدینة نتیجة هیمنة المادیة علی النفوس والمشاعر وعلی العلاقات بین الناس، بتجربة حبّ خالص مثل تجربة یاسین طه حافظ في موطنه الأول؛ فالناس في المدینة غارقون في الأمیال المادیة وهذا هو عند الشاعر من الأسباب التي تحدُّ من نشوء علاقات الحب الرومانسي والناس غارقون في ضوضاء البیع والشراء ولهذا لم یتمتّعوا بحالة من العیش والحب وهذا ما یشکّل حاجباً بین اتصال الأرواح عند یاسین طه حافظ ولهذا یستحضر رفیقة روحه خضم صراع الناس في المدینة من أجل إرضاع رغباتهم المادیة بحیث ظلّوا بلا الشموع والقصیدة في المجتمع الدیستوبي المادي ویدعوها إلی المعانقة وفعل التواصل والتماهي.
فساد الحبِّ في المدینة الدیستوبیة ومن أهم الملامح السلبیة للمکان یجسّدها یاسین طه حافظ في أشعاره هي فساد المدینة والفضاء الدیستوبي في شعر الشاعر في تصویره لهذا الموضوع یجسّد المکان کمجتمع غاب لا یخضع لأي قانون وشروط مجتمعية مما مما یؤدي إلی فساد المجتمع وهذا الفساد في المدینة قد یتسرّب إلی داخل العلاقات الإنسانیة برمتها وفساد الحبّ عادة عند الشاعر ینطلق من فساد المجتمع ولنقل إن فساد المجتمع یجعل الحب وکلّ ما قیم بالنسبة للإنسان والمجتمع سحیقاً منسیاً والشاعر في أشعاره لتجسید حالة فساد المدینة في الفضاء الشعري الدیستوبي یستحضر مدینة سدوم التاریخیة ویقول: فأجأتني سِباخ مدینتک الفاجرة/أطبقت علی تصیح بفم مخیفٍ: هو ثأري/برق طاريءٌ علی شبکات سدوم/خذ جرحکَ وأمضِ/لیست روحي وحدها المفجوعة/هي روحها واحدة الدراري في کوننا التالف/وظلت هي في مستنقعات المدینة/تلعقها کلاب المدینة والسماسرة. (طه حافظ، 2016م: 24- 25) والفضاء الدیستوبي الذي یعکسه هذا التشکیل الشعري السردي هو فضاء المدینة التي یسکن فیه الشاعر ولا یحظي بشیء من الصفاء والنقاء والبراءة. المدینة فاسدة دیستوبیة تجعل الشاعر في العذاب والمعاناة نتیجة المشاهد الفاسدة التي تترأی امام عینیه في کلّ یوم من حیاته في المدینة والمشهد السردي یأخذ مساحة کبیرة من صور غیاب الإرادة أو الدعوة إلی الخروج. الروح مسکونة باللافعل وسط ساحة الفساد والشهوة والامتثال لها أو المحاولة للخروج والرهبة وردة الفعل والخروج علی أساس منطق العقل الحبِّ. (هیاس، 2016م: 185) إذ إن منطق العقل والحب یأبی الحضور وسط الفساد والخراب في الفضاء الدیستوبي للمدینة ولهذا یدعو الشاعر عبر المونولج الداخلي الذي یحتویه النص الشعري إلی أن یأخذ بجراحه ویترک منطقة الفساد والمدینة الفاسدة والشاعر في هذا التشکیل الشعري استخدم مدینة سدوم التي وردت ذکرها في التوراة «فهي مدینة کما تصوّرها التوراة مدینة الموبقات والشهوات الدنیة.» (الزیادات، 2014م: 69) والرغبات الجنسیة لیلج به المتلقي في الفضاء الدیستوبة للمدینة التي صارت کمدینة سدوم بفسادها ومستنقعاتها التي تتسرب إلی فضاء الحب والعلاقات وصار الحبّ في هذه المدینة الدیستوبیة الفاسدة یحمل وشم الفساد والخراب ولا یحمل وسم الصفاء والبرائة مما یجعل روح الشاعر وروح حبیبته في هذه المدینة الفاسدة مفجوعة وموجوعةً في کلّ حین. یری الشاعر في هذه المدینة الفاسدة الحب والحبیبة في قفس الشهوات الدنیئة والرغبات الشهوانیة الفاسدة وظلّت في مستنقعات المدینة الفاسدة تلحقها کلاب المدینة وهي ترمز بها أهل المدینة الذین یرون في الجسد بعده الشهوانی وکلّ ما یهمّهم في هذه المدینة إشباع امیالهم الشهوانیة الغریزیة وهذا ما یجعل المدینة عند یاسین طه حافظ فاسدة بحیث تزول به العلاقات الحمیمة الوفیة بین الناس في هذا المجتمع وصار أهلها غارقین في مستنقعات الفساد والخراب والشذوذ الأخلاقیة کما یعکسها هذا التشکیل الشعري للشاعر إلی جانب ما یؤول الیه المکان من الضیاع والخراب مما یدمر حتّی الجانب الروحي للإنسان المعاصر وخاصة الإنسان الریفي الذي لا یطیق صبراً علی المشاهد الفاسدة للمدینة التي تحطُّ بها الکلاب وسماسرة الروح والجسم بالنسبة للإنسان المعاصر وخاصة الجسد عند حصره في دائرة الشهوات الدنیئة کوسیلة من وسائل الاشباع الغریزی. المدینة الدیستوبیة والإغراء السلبي هناک وجه آخر من وجوه المدینة والذی یقف منه الشاعر موقف الرافض فهو الحالة المغریة للمدینة. فالیوتوبیا عادة تمتلک حالة ثقافیة خاصة یشعر فیها الإنسان بنوع من الرّضا النفسي والأمن العاطفي من دون الخوف في حالة السواد و السقوط الأخلاقي والدیستوبیا یختلف من حیث الوجوه المتسمة بها خاصة في الروایات الدیستوبیة التي تعکس هذا الوجه من الدیستوبیا والشاعر في قسم عظیم من أشعاره یرفض الحالات والمشاهد المغریة للمدینة التي تجعل الإنسان في ورطة الخطر والموبقات: أخلع کلَّ جلابیب العیشِ/سأشغل نفسي بالحُبِّ ویشغِلني/تعِب الإنسان المدعو هنا/من لبس بهارجهِ/من الأضواء المصنوعة ترسم هیأته/کم یبدو مزدحماً و یمور/تتدفق افواج الضحکات وفي داخل/حزن عصور. (طه حافظ، 2014م: 30- 31) والمشهد الشعري یحتوي علی النماذج الکثیرة من صورة الإغواء والإغراء للإنسان وخاصة الإنسان الریفي الذي لا یزال یحمل الصفاء والبراءة وأکثر ما یجعل هذا الصفاء والبراءة في الخطر بهرجة الحیاة والصور المبهرجة للمدینة مما یشکل مجموعة من الإغراءات المختلفة التي تدخل الإنسان في الشذوذ الأخلاقي والانحراف والإنسان القادم من الیتوبیا یلمس في المدینة المشاهد المغریة والمدینة ببهارجها والأضواء المصنوعة في تعبیرها عن بهرجة الحیاة في المدینة یجعل الإنسان في التعب والإرهاق غیر أنَّ هناک وسیلة تزیل الملل والضجر وهي الحب بوصفه الملجأ والمعاذ للإنسان مقابل التیارات المغریة المخدعة للإنسان فالحبُّ في هذا المیدان هو الفن والوسیلة للحیاة الیوتوبیة والحبِّ عند الشاعر وسیلة الإنقاذ للإنسان في کون طافح بالمشاهد المغریة المخدعة. یقول في قصیدة أخری: المدینة المُحجَّبة /بالزیف والمباهج الفارغة /وبعشرات الأقنعة والجلابیب الثقیلة/تلک المدینة الصخریة/تغرق من یمرُّ في طرقها/قصة الحب غریبة في هذه الدینة. (السابق: 59) والشاعر تصیبه الدهشة والاغتراب في مثل هذه المدینة الحجریة التي فقدت روحها وقصة الحب في هذه المدینة، قصة غریبة وفي هذه المدینة یغرق الإنسان في مباهجها الزائفة الفارغة والمشاهد المغریة لهذه المدینة التي فقدت أصالتها وروحها، هي التي تجعل الإنسان غارقاً في المباهج المغریة المزیفة وهذه المباهج والمشاهد المغریة بدورها، تنفي حضور تجربة الحب الأصیلة في هذه المدینة التي تجعل الجشع والحیوانیة سیدة المواقف بین الناس في المجتمع وصار التعامل بالأقنعة والجلابیب الثقیلة. فضاء الموت وعلاقة الصدام والصراع فضاء الحب هو فضاء الحیاة والعیش والدفء والجمال غیر أن المدینة تحولت إلی محل للصدام والصراع والفضاء المعیش في المدینة الدیستوبیة هو فضاء یعجُّ بالموت ورائحته وهذا الوضع المأساوي نتیجة لغیاب الحب والألفة الاجتماعیة في هذا الفضاء تفتت وهکذا النسیج الاجتماعي ولا نلحظ التماسک الاجتماعي في الفضاء الدیستوبي والموت هو الوسمة الواضحة لهذا المکان: أخبار مدینتکم مُربکةٌ یا حبیبتي/والموت فیها کالحبِّ صدفةٌ/والناس تذکّروا انوع القتل والقطع/وغرقت في النسیان المباهج/المدینة ظاهرة احشاؤها الاضراس/في الهامات و العیون في الاقدام...کوابیس/أغلق الباب والنافذة/لاالحب و لا الحیاة في زمن الرعب/لیس لي في هذا العالم الشائه الا لحظات.. (طه حافظ، 2016م: 29) فضاء المدینة في غیاب الحبِّ صار فضاء الموت والنهایة المؤلمة للإنسان وللعلاقات الإنسانیة. في هذا التشکیل الشعري نری الشاعر یجسّد إغلاق الأبواب والنوافذ ویعبّر من خلال هذا التجسید الشعري عن غیاب علاقات الحبِّ والانتماء في المدینة وضیاع التماسک الاجتماعي ونتیجة هذا الغیاب تفشي الموت والضیاع في الفضاء الدیستوبي للمدینة بحیث صار الموت في هذ المدینة اعتباطیة وضاع الحب وکلُّ المباهج والمسرات في هذه المدینة وفي هذه المدینة لا یحمل الحب ملامحه الخاصة ولا محل للحب في المدینة الدیستوبیة وصارت الکوابیس تحطُّ بالهامات والاقدام و یتذکّر أهل هذه المدینة شتّی انواع القتل والذبح والقطع والموت والحدیث عن القتل والذبح واستغلال الآخر بالصورة الحیوانیة هو الطابع الأساس لخطاب أهل المدینة وحلَّ الموت محل الحبّ والعشق الحقیقي الذي لا یکتمل عند الشاعر في الفضاء الضوضائي للمدینة التي یملک أهلها النهمة الشدیدة إلی القتل والذبح والقطع والاصطراع کوحوش الغابة ولا یعرف الحب والعشق بل بنیت علی أساس الصراع والقتل والتکالب. یقول: متکتّمة هي في المدینة الحجریة/مدینتها المقننّة محسوبة الرخام/والتي لا تفارقها اصطدامات الناس/وعربات القتال منذ تأسیسها/عبرها متکتّمة تمرُّ حبیبتي، وجهها لا یکفُّ/رغم لفاعاته، عن السطوع/ساکنة تشي بلذة ناعمةٍ بمتعٍ نادرات. (طه حافظ، 2014م: 31) والحب الأصیل عند الشاعر ردیف للحیاة والدیمومة والحرکة. المدینة المعاصرة بفضائها الدیستوبي تفقد الحرکة والاستمراریة والحیاة في غیاب الحبَّ وتفشي الموت والضیاع، تفقد الروح والأصالة بفعل القتل والارتطام والصدام من دون أن یکون هناک محل للحب والعشق والانسانیة وفي مدینة حجریة فقدت روحها وجوهرها ولا تنبض بالحیاة والحرکة وتکتظُّ بالموت والقتل والاصطراع بحیث صارت هذه الظاهرة الجزء البنیوي في تکوین هذه المدینة الجامدة التي یفقد فیها الإنسان المشاعر ولهذا «ینبجس الشعور الإنساني المریر حین تتحوّل إلی عالم خارج عن أن یحتضن الشاعر بین جناحیه وتمثل عند الشاعر أبرز معاني الموت والغدر والتسلط والصراع.» (ربابعة، 2012م: 163) والحب بوصفه القوة المحرّکة التي تشیع الحیاة والحرکة في مثل هذه المدینة، یقفد فاعلیته ویبتعد عن جوهره الاصلي ویری الشاعر أن المدینة لاتتخلص من فضاء الموت والضیاع إلا باعتناق أهلها الحب کالمذهب والمبدأ والحب الأصیل الروحاني هو وسیلة النجاة والإنقاذ غیر أن الحب بوصفه الملجأ والمعاذ للإنسان، یخرج عن إطاره الروحاني نتیجة هیمنة الحیوانیة والصراع علی العلاقات الإنسانیة ولا یخرج في هذا الفضاء الدیستوبي عن إطار اللذة والجشع والالتماس الجسدي وهذا هو حقیقة الحبِّ في المدینة المعاصرة. الجمود والزیف والتقنع تجسید الصورة الحقیقیة للمدینة الدیستوبیة التي اتّسمت بالزیف و المراوغة والتقنع وجمود الأفکار والمشاعر هو وجه آخر من وجوه المدینة الذي یکثر الشاعر من التعبیر عنه في أشعاره. ففی مثل هذه المدینة التي نزح الیها الشاعر العاشق الریفي یری فیها أن کلَّ شیء صار خارجاً من جوهره الأصلي ویری الافکار جامدة وعلی الوجوه الاقنعة والسواد: موحشة حیاتنا ومدمَّرة الحافات/أشیاء کثیرة فقدت لونها/الثیاب والوجوه والأفکار/فنحن نتحرک بحکم الاعتیاد/نعیش بحُکم حیوانیة تجوع وتبرد/اکبر عمارة هي القبو واکبر ریح خسارة/أو وهکذا یکسر الحب نصفین وماذا بعد/لا نملک عمراً لنضیّع ذهبَه بالتردد/بالتوقف والبدء مرة ثانیة أو ثالثة/کیف أفسّر الرغبة بالمحو والإعجاب/في هذا الخلیط من الموتی والقتلة/وآکلي اللحوم النیئة والمشوهین. (طه حافظ، 2016م: 36- 37) والمشهد الشعري الدیستوبي - عبر استخدام الرموز الشعریة المختلفة مثل الثیاب والقبو والحیوانیة والوجوه في تعبیرها عن الهویة والأصالة والقبو هو الحضیض وهو تعبیر عن سکونیة الفضاء والحیاة والأشیاء- یجسّد الحالة السلبیة للمدینة؛ ففي هذه المدینة الدیستوبیة کلُّ الأشیاء فقدت لونها واللون هنا بنیة للمعنی ترتبط في الذاکرة الإنسانیة بالتجلي والحس واثارة الشعور والحس الصادق مثل حس الطفولة والتي من تجلیاتها القداسة والبراءة. (عفیفي، 2016م: 41) ولکنَ الشاعر لا یری من مخایل هذا اللون شیئاً في المدینة ویری الأشیاء فقدت لونها والثیاب بوصفه من الرموز المعرفية في الذاکرة الجماعیة لا یری الشاعر عندها الثبات بل یری فیها التأرجح والتذبذب في کل حین وتغیر لون الثیاب في التشکیل الشعري یحیلنا إلی التحول السلبي لکلِّ ما هو جمیل وأصیل في المدینة وحتي الأفکار والوجوه في هذه المدینة الدیستوبیة لا تحمل بصمة من بصمات الحقیقة بل قناع الزیف والتصلف والکذب هو ما غطّی الوجوه واعتلی الجمود علی الأفکار والأحلام في هذه المدینة. الناس في هذه المدینة فقدوا إنسانیتهم وروحانیتهم ولا یری الشاعر هنا اختلافاً بین الحیوانیة والروحانیة وفي الحقیقة یری الحیوانیة أکثر قهراً وسلطویة علی أهل المدینة وسیطرة هذه الحیوانیة هي التي تقصر من دائرة الحب وتجعلها کسیراً بمعنی الکلمة وفي الحقیقة الحب ذو البنیة الروحانیة ولا یطیق الشاعر في مدینة مثل هذه المدینة التي تحکم الحیوانیة علی السلوک والمشاعر والأحاسیس وصارت خلیطا من القتلة والموتي ولا یری فیها الشاعر ما یبعث علی الحلم والإعجاب ویبلغ حد الخناق من الصور المأساویة لهذه المدینة الدیستوبیة. انتفاء تجربة الحب الخالص عند ضغوط المدینة وفساد الداخل ثمة مفارقة بین الریف وبین المدینة. فضاء الریف هو فضاء الحیاة والحریة والانطلاقة الواسعة من دون التمنع وفضاء المدینة المعاصرة، فضاء الخناق والضیق والمدینة نتیجة الأزمة المالیة تفرض القیود والضغوط علی الإنسان المعاصر وعلی العلاقات الإنسانیة وفي هذه الفضاء الدیستوبي الضاغط، تنتفي إمکانیة علاقات الحب والانتماء؛ لأن الحب لایظهر ولا یتنامی إلا في الفضاءات الرحبة من دون القیود والاصطدام. یعکس الشاعر هذا الوجه السلبي للمدینة الدیستوبیة ویقول: بعد الحراسات/بعد الطرق المغلقة/بعد الشرطة والنظرات الشزر/بعد الاعتقال/بعد حوانیت نشرب فیها أحزاناً صامتة/یا حزن الإنسان/لم یکن الحب لنا/لم یلق قلوباً سالمة من العطن/لم یلق الحیاة/الحب یعود لفراغ العالم.. (طه حافظ، 2016م: 46- 47) وغلق الطرق والحراسات والشرطة صورة من صور ضغوط المدینة علی الإنسان والعلاقات الإنسانیة والشرطة رمز السلطة وفعل لقمع الذي تمارسه المدینة علی الإنسان وهذا ما یجعل الإنسان المعاصر في فضاء التیه والاغتراب وفعل الاعتقال هو اعتقال للمشاعر والأحاسیس بفعل المادیة التي صار الإنسان في قبضتها وهذه الضغوط التي تمارسها المدینة تمنع من تجربة الحبِّ في المدینة. هذا وأیضا فساد الداخل یمنع إلی جانب هذه الضغوط من تجربة الحب؛ فأصبح القلوب في ظلِّ المادیة والغریزیة عفنة وعطنة وهذا أیضاً یحدُّ من إمکانیة تجربة الحب في المدینة . فیقول الشاعر في مشهد شعري آخر: بعدَ مُزامنةٍ، بعدَ ألفةٍ للإیحاء المصطنع.وإشارات النبالة والهیبة الأولی...رأی الحارس....واستسلملا یقظة في المدینة من هذا کثیرکم تؤلمني رؤیتکَ نبیلة قلقةً/بین لحظة وأخری تخشین فضحاً/قد یفلت من حرکة أو کلمة في صیاغة الکلام//ها أنا أری الجمال منکسراً آخر الغرفة..لو أستطیع أن ألمَّ من حولک الشظایا/لتهنئني بعزلتک. (طه حافظ، 2016م: 33-34) ونری الشاعر یستخدم في قصیدته رمز الحارس للتعبیر عن ضغوط المدینة علی علاقات الحبّ والانتماء والرقابة التي تمارسه المدینة علی مشروع الحب وعلاقات الحبّ والصداقة بحیث تکون هذه الرقابة مصدر الألم والأذی للطرفین ویعود الحب لفراغ العالم عند الشاعر وینتفي بها الحلم والیقظة وتدخل المرأة في القلق والألم وهذه الضفوظ تسلب من الطرفین تلک النشاط والحرکیة الأسطورية التي یضخها الحب داخل الطرفین وهذا الموضوع ینتفي تماماً في فضاء المدینة الدیستوبیة التي تمارس الضغوط والرقابة وهکذا یضیع الجمال في هذا الکون الدیستوبي وضیاع الجمال عند الشاعر أفدح الخسارات بحیث لا یجد الشاعر علی وجه الأرض شیئاً یجبر الخسارات التي یترکها ضیاع الجمال. الدیستوبیا وزوال الأفکار والإبداع من أهم مواصفات المدینة المعاصرة، ثقلها علی الإنسان والتمنع من الانطلاقة في الفکر والوعي وفي الحقیقة لیس فضاء المدینة فضاء الرؤیا وانطلاقة الفکر والتأمل في العالم والأشیاء التي تحیط بالإنسان وهذا یعتبر من وهذا ما یصادف شاعرنا في تجربته في المدینة وهذه الخصوصیة هي التي أبعدت المدینة عن المثالیة التي یصبو إلیها الإنسان: في مدینتک الحجریة/حیث الشعر یبحث عن ظل یستریح/کنت أنت محنیة علی مکتبتک البسیط/ترسم نهایة القصیدة/هي مدینة تخشاها الحیاة/دخلت المدینة أبحث عن المعنی/قلت/ظل مکانا نموت اشتیاقاً خیر لي/من أن أراک مذبوحاً علی عتبة أو رصیف/ونعلم جیداً أننا.نسحق أیامنا وأجمل ساعاتنا في الوحل الیومي. (طه حافظ، 2014م: 14- 15) الحیاة في ظلّ الحب وعلاقة الانتماء هي حیاة تحمل البکارة والانطلاقة وتتسم بالحیویة والحرکة وحیاة العاشقین کلها حرکة واندفاعة من دون أن تعتریهما حالة من الانکسار الداخلي والسحق النفسي غیر أن هذه الحیاة في المدینة المعاصرة تحوّلت بشکل کبیر إلی جحیم وفي الحقیقة «عالم المدینة تقیم عالماً جدیداً بدلاً عن العالم الذي یصبو إلیه الإنسان ویصبح عالم الزوال للشاعر ویحمل المحدودیة والجمود إلی الإنسان وإلی مشاعره.» (العلاق، 2014م: 167) إن عالم الشعر هو عالم الرؤیا والرؤیا هي الانطلاقة في الفکر والمشاعر والأحاسیس وبحثه عن ظلّ لیستریح، تعبیر شعري عن حالة الانطفاء الداخلي وزوال الرؤیا في المدینة الدیستوبیة التي تخشاها الحیاة وهذه الحالة في المدینة، هي التي تمنع من فعل الاتصال والدمج بین الطرفین وکیف وعالم المدینة لیس إلا عالم لسحق الرؤیا والجمال تحت وطأة الزمن وثقله علی الشاعر وحبیبته في المدینة الدیستوبیة وهذا هو المعنی المنبعث عن الوحل الیومي في التشکیل الشعري. إذن عالم المدینة عند الشاعر عالم لایری فیها الشاعر الحرکة والانطلاقة في الفکر والشعور ولا یحدث في فضاء المدینة فعل التوهج الداخلي والوصول إلی فعل الإبداع تحت ثقل الزمن علی الإنسان المعاصر ویشیر الشاعر في مشهد آخر إلی انتفاء الفکر والإبداع في الفضاء الدیستوبي إذ یقول: کفّک النبیلة التي لم تشبع تقبیلاً ترسم نهایة القصیدةفکرتُ أن أحزم أمتعتي وأجيء/أدخل مثل مسافر یبحث عن المعنی/لکنک قلت هي المدینة التي تخشاها الحیاة. (طه حافظ، 2014م: 13) وفي الحواریة بین الشاعر وبیبته في الفضاء الرومانسيلإ ترسم الحبیبة نهایة القصیدة وهي رمز الفکر والإبداع والشاعر برسمه نهایة القصیدة بدلالاتها المألوفةلإ یشیر إلی زوال الفکر وزوال الإبداع في الفضاء الدیستوبي مما یجعل الشاعر مسکوناً بهاجس الخوف والتوتر الداخلي مما یدفعه إلی البحث عن المعجزة والمعنی غیر أن الحبیبة ترسم له نهایة الإبداع وزوال الفکر و تسرى له عن مدینة تخشاها الحیاة وکیف للشاعر أن یجد ضالته في مثل هذه المدینة. الدیستوبیا والعادات والتقالید ومن أهم العوائق أمام إدراک الحبِّ و إدراک التجربة الرومانسیة الخالصة التي یعمل کوسیلة محرّکة للإنسان هي التشبّث بالتقالید والعادات القدیمة التي تمنع من الحصول إلی تجربة رومانسیة تکفل سعادة الحیاة واستمراریتها وحرکیتها وشاعرنا تؤلمه هذه المشاهد المختلفة من التشبّث بالعادات والتقالید المفضیة إلی ضیاع الحب وأواصر الصداقة والعشق ویجسِّد هذا الملمح السلبي من ملامح المدینة ویقول: فاجعٌ هو الحب/وصلني متفسّخ المعنی/لن یُجدي أن أمرر علیه غبار المعلقات/وأقاویل الموتی/الصحراء سکتت عن حقیقة القِصص/من یدعي أنه فهم الحیاة إذا هو بائس/ آثمٌ أنا أتخبط فوق قشّ رطب/ماذا فعلت أنا لتسمع صوتکِ/رأیتها أسطورة الجمال التائه التي یسقط خطوها الحرس. (طه حافظ، 2016م: 52) یجسّد هنا فجیعة الحب والعشق ومصاحبته للألم والعذاب وتفسّخ معانیه في الفضاء الدیستوبي الذي یتمسک أهل المدینة الدیستوبیة بالأعراف والتقالید البالیة کأنهم الموتی وما یلفت الانتباه في هذا المشهد الشعري، هو أن الشاعر بالترکیز علی لفظة الموتی وعلی معاني الحب والعشق یحاول تکریس حقیقة یؤمن بها وهي أن الحب وسیلة لمصایرة العصر الجدید ووسیلة بلوغ الحداثة في الفکر وفي السلوک وحتّی في المشاعر وفي أحاسیس ومادام الناس یتشبٍثون بمثل هذه التقالید والأعرافلإ لا یمکن بلوغ الحداثة في الفکر والمشاعر والأحاسیس إذ أن الحبَّ عند شاعر فن تکریس الحیاة وفن ممارسة مشروع الجمال في الحیاة الإنسانیة وعند الشاعر أنَّ الذین یتخبّطون في الأوهام ویتشبّثون بالتقالید والأعرافلإ هم في الحقیقة کالموتی لأنهم لا یدرکون معنی الحیاة وقیمة الحب. الدیستوبیا نتیجة عدم الانتماء للحبِّ لعل من موضوعیة القول إنَّ الحب عند الذین یمیلون إلی الاتجاه الرومانسي وسیلة الخلاص والتحرر من فوضی العالم وتشتّته والحبُّ عندهم یعمل کوسیلة لبثّ الأمل والتفاؤل في نفوس الناس وهو ردیف للسعادة وکفیل له في الحیاة الإنسانیة وفي الصور المختلفة من التعایش بین الناس وفي الحقیقة «بالحبّ یزدهر العالم ویسود منظومات القیم الجمالیة فیه وینمو نمواً جدیداً بعیداً عن أمراض الحقد والاشکالیات التي تحاصره.» (عابد،2011م: 38) والحب من هذا المنطلق هو فن الحیاة وممارسة الحیاة وهو التي یعید للحیاة بهاءها وزهوها والالتزام به في الکون وفي الحیاة الإنسانیة، طریقة للحفاظ علی الحیاة وإجهاض کلّ الأحقاد التي تضرُّ الأجیال وعند شاعرنا یاسین طه حافظ أن عدم الانصیاع لمنطق الحب، هو المسؤول عن الکثیر من العذابات ومادامت الأحقاد تحلّ محل الحب، لا یمکن الوصول إلی تلک المثالیة التي یصبو إلیها الإنسان: نشتبک بالأسلحة علی الأمکنة الأصلح للموت/والرواقیون الغائبون یقتسمون اللذة/في الغرفة الثانیة/نحن المختلفون علی لون الظبیة/یطرأ ذکر العفاف لن یجد/أنا المدانة بالغزو/احتلتُ واحتال علی الفرصة للنجو/لأنکم لم تعرفوا الحبَّ فلن تعرفوه أبداً/أنا وروحي شریکان في شرف جدید/ ، فقد ملأت البلدة الکلاب/ها أنا أدینه لأنه هجرَ ویدینني لأنني غدرت/أدفع ثمنا آخر لمن لا یری/ ما الذي نصطاده من هذه الفوضی/من العدم الکبیر الصاخب. ما ینقذنا وأذرعنا في فراغ أسود یتسعُ/وکل قصة حبّ غابت لا نعرفها. (طه حافظ، 84- 85) یری الشاعر أنَّ الفضاء الدیستوبي الذي یهیمن علی المدینة وعلی العلاقات بین الإنسان بوصفه ابن المکان والبیئة التي یعیش فیها وأیضا منظومات القتل وسلسلة الصراعات التي یراها في فضاء المدینة الدیستوبیة، هو ینبثق عن الرکون للأحقاد والضغائن وفقدان حضور الحبَّ وهذا عند الشاعر هو المسؤول لمأساویة المدینة وخرابها في قسم کبیر منها لدی الناس بحیث أغفلوا معنی الحب و صار الحقد والبغضاء محل الحب الأسطوري وفي غیاب الحبَّ عشش الحقد والبغضاء والاحتیال والمراوغة في نفوس الناس وفي عقولهم في المدینة الدیستوبیة وفي الحقیقة کما یجسِّده الشاعر، فراغ العالم وإجهاض کلّ الأحلام الإنسانیة ولید عدم الاعتراف بقیمة الحب ومکانته الاسطوریة في المدینة الدیستوبیة التي تکون فیها الذراغ في فراغ أسود تتسع دائرته بکل یومٍ نتیجة إهمال الحبَّ بوصفه القوّة المحرّکة للإنسان والمجتمع وفي تجسید شحن فضاء المدینة الدیستوبیة بالکلاب، یشیر الشاعر إلی حقیقة الصراع والاصطراع في فضاء المدینة الدیستوبیة وهذا الأمر عند الشاعر نتیجة لغیاب منطق الحب في الکون وفي العالم وعند الشاعر هذا الکون صار مشهد التراجیدیا الیومي لفقدان الحب وفي المقابل تجذّر البغضاء والأحقاد في نفوس الناس مما یجرُّهم إلی الصراع والاصطراع یومیاً. ضیاع الروح وهیمنة الجسد في المدینة الدیستوبیة یصوّر الشاعر في الکثیر من أشعاره عذابات الروح في المدینة الدیستوبیة. المدینة الدیستوبیة عند الشاعر هو المکان الذي یصبح مصدر عذابات الروح ومعاناتها في ظلّ احتدام الجانب الجسدي والنظرة الرغبویة إلی الجسد والروح في هذا الفضاء الدیستوبي تغطّها العذابات والمعاناة في فضاء المدینة و هذا عند الشاعر ولید عدم ممارسة مشروع الحب في المجتمع المدني ونری شاعرنا یجسّد في قصیدته عذابات الروح في الفضاء الدیستوبي للمدینة: هذه جلسةٌ توجع الروحَ/الحقیقة یابسةٌ لا تلین/عجلي الخطو قبل الظلام/تلک حافلة واقفة/دنَس لا یفارقه ایامه الفاجرات حراسه/تفتّت مِلحاً مدینتنا/تلفت کلُّ ابراجها/میت کل هذه الحمام/وأنا أشهد الموت حولي وأسأل نفسي/کیف تعیش علی اللغو والدغل هذي الملایین/هي الریح فاسدةٌ/والمدینة فاسدة والکلام/ولا أحد ینقذ في غمرات الجحیم أحد. (طه حافظ، 2016م: 67-68) یجسِّد الشاعر في هذا المشهد الشعري من دیوان "في الخریف یطلق الحبّ صیحته" ضیاع الجانب الروحي والإغراء الجسدي في المدینة الدیستوبیة ویری الشاعر أن الفضاء الدیستوبي للمدینة تکثر فیه متعة الجسد والنظرة الشهوانیة في المدینة، هي مصدر عذابات الروح وإحباطها؛ فالدنس والدغل واللغو من معطیات الفضاء الدیستوبي للمدینة وإذا کانت الروح هي حقیقة الإنسان فنحن نری هذه الحقیقة الروحانیة تنکمش ومآلها إلی الضیاع نتیجة النظرة الرغبویة الشهوانیة ومتعة الجسد وفي الحقیقة أنَّ هیمنة الجانب الجسدي في المدینة الفاسدة، تصبح مصدر عذابات الروح ومعاناتها وتصبح الریح في تعبیرها عن السطوة الفاسدة للجسد والجشع الجسدي، مصدر لعذابات الإنسان وإحباط الروح وسقوطها عند التفشي الواسع لإیقاع الجسد في الفضاء الدیستوبي للمدینة. الشاعر من خلال وصف الأیام بالفاجرات وإسقاط صفة العهر علی المدینة وعلی الأیام في هذا المکان، یعبّر عن النظرة الرغبویة والشهوانیة إلی الجسد ولا یری الشاعر في هذا الفضاء الدیستوبي مجالاً للسمو والتعالي للروح بل یری الإحباط والسقوط والحیاة في هذا الفضاء الدیستوبي ردیف للموت والتفتّت والضیاع وکل مظاهر الدنس والدغل في هذا الفضاء، یخرج الجسد والروح من روحانیتهما وتجعل الجانب الروحي في العذاب والمعاناة ویجعل الحقیقة الإنسانیة وهي الجانب الروحاني حدَّ النسیان والضیاع في هذا المکان الفاسد بفعل الهیمنة الجسدیة. النتیجة إنَّ "یاسین طه حافظ" من الأسماء الشعریة المتمیّزة في الحرکة الشعریة العراقیة. نری عند الخوض في عالم الشاعر الشعري أن الرومانسیة تطغی مسحتها علی شعر الشاعر وفي الحقیقة هو شاعر رومانسي تماماً ومع هذا لم یغفل المجتمع والمکان الذي یعیش فیه ویعمل في أشعاره کافة علی الدمج بین الرومانسیة والواقعیة التي ترتبط بالواقع واشکالیاته ومن صور هذا المزج نراها في مجموعة من أشعار الشاعر یعکس فیها موقفه الرافض للمکان الدیستوبي خلال تجسید حالات الحبِّ والانتماء وعلیه فإن الشاعر في هذه المجموعة من أشعاره یضع النقاط علی الحروف في التعبیر عن سلبیات تمنع من تحقیق الیوتوبیا الذي یطمع إلیه الإنسان المعاصر وما یلفت الانتباه في الارتباط بهذا الموضوع، هو أنَّ الشاعر في التعبیر عن الفضاء الدیستوبي للمدینة یستخدم الحب ومعطیاته والحبُّ في فلسفة الشاعر هو القوّة المحرکة التي تضخ الحیاة في الحیاة و في الکون ومن شأنها ردم الفراغات التي تترکها الاشکالیات السلبیة علی وجه الحیاة الإنسانیة غیر أنَّ الشاعر لا یجد مکاناً لهذا الحبُّ الأسطوري في الفضاء الدیستوبي للمدینة وکلُّ ما یجلب انتباهه هو سحق هذا الحبُّ وإجهاض الحلم الإنساني وعذابات الروح ومعاناتها في ظلِّ الهیمنة التامة للجانب الجسدي وتفشي معطیاته التي من شأنها تغذیة النهمة الجسدیة واشباع الرغبات الجسدیة الدنسة ومن الوجوه السلبیة للمدینة الدیستوبیة کما یعرضها الشاعر في أشعاره، هي الضغوط المختلفة وفرض الخطوط الحمراء علی العلاقات بین الناس في المجتمع وأیضاً سطوة المادیة مما تخرج المجتمع والمکان من مثالیتهما ولکنَّ الشاعر وسط هذه الخرابات والعذابات یدعو الجماعة الی التشبّث بالحبِّ للخروج من دائرة العذابات التي تتسع یومیاً والحبُّ عند الشاعر هو الحقیقة الکونیة التي یمکن للإنسان المعاصر الذي یطمح إلی الیوتوبیا المثالي، أن ینقذ الإنسان من عذاباته ومعاناته ویمکن له أن یقاوم بها کل السلبیات التي تمنع من تحقیق مثالیة المجتمع والمکان. | ||
مراجع | ||
البستاني، بشری. (2015م). وحدة الإبداع وحواريِّة الفنون. ط1. عمان: دار فضاءات. برچگانی، فاطمة. (2018م). «الدیستوبیا في الروایة العربیة المعاصرة: قراءة في روایة أورویل في الضاحیة الجنوبیة لفوذي ذبیان». مجلة اضاءات نقدیة. السنة الثامنة. العدد 29. صص 149-132 طه حافظ، یاسین. (2016م). ما أراد أن یقوله الحجر. بغداد: دار حیدر. السابق.(2014م). المجموعة الشعریة الکاملة. بغداد: دار الشؤون الثقافیة. عاید، توفیقز (2011م). شاعرة عراقیة تطالب بتحریر ثقافتنا من التبعیة واستنجار المواقف (الحوار).موقع الشاعرة بشری البستانيز www.dijila.com عفیفي، احمد. (2016م). الصوت المختلف. ط1. عمان: دارفضاءات. العلاق، علي جعفر. (2014م). حداثة النص الشعري. عمان: دارفضاءات للنشر والتوزیع. کاظم عباس الصالحي،سمیرة. (2017). شعر یاسین طه حافظ: دراسة فنیة. رسالة ماجستیر. بغداد: جامعة بغداد. لوتمان،یوري. (1986م). «مشکلة المکان الفني». ترجمة وتحقیق: سیزا قاسم. مجلة ألف. القاهرة. العدد6. صص 105-76 نجدي عبدالستار، محمد. (2020م). «تشکّل الشخصیة في الروایة الدیستوبیة». المجلة العربیة مداد. العدد الرابع. المجلد التاسع. صص 88-41 المدیني، احمد. (2000م). أسئلة الإبداع في الشعر العربي المعاصر. لبنان: دارالطلیعة للنشر والتوزیع. مور، توماس. (1987م). یوتوبیا. ترجمة وتحقیق: أنجیل بطرس سمعان. القاهرة: الهیئة المصریة العامة للکتاب. مهدی، سامي. (2014م). الموجة الصاخبة في شعر الستینیات في العراق. العراق: دار میزوبوت میا. هیاس، خلیل شکري. (2016م). القصیدة السیر ذاتیة: بنیة النص وتشکیل الخطاب. ط1. عمان: دار غیدا للنشر. یحیی الموسوي، علی السریع. (2019م). البنیة السردیة في شعر یاسین طه حافظ. من متطلبات شهادة الماجستیر في اللغة العربیة وآدابها. العراق: جامعة القادسیة.
| ||
آمار تعداد مشاهده مقاله: 470 تعداد دریافت فایل اصل مقاله: 158 |