تعداد نشریات | 418 |
تعداد شمارهها | 10,005 |
تعداد مقالات | 83,622 |
تعداد مشاهده مقاله | 78,406,308 |
تعداد دریافت فایل اصل مقاله | 55,436,770 |
أنماط صور العنف في صعيد مصر من خلال رواية "قطار الصعيد" للروائي "يوسف القعيد" | ||
إضاءات نقدیة فی الأدبین العربی و الفارسی | ||
مقاله 3، دوره 11، شماره 42، شهریور 2021، صفحه 61-87 اصل مقاله (297.42 K) | ||
نوع مقاله: علمی پژوهشی | ||
نویسندگان | ||
هاشم محمد هاشم1؛ مریم جلائی* 2 | ||
1مدرس اللغة الفارسية وآدابها بجامعة أسيوط، أسيوط، مصر | ||
2أستاذة مشارکة في اللغة العربية وآدابها بجامعة کاشان، إصفهان، إيران | ||
چکیده | ||
ارتبطت الرواية منذ ظهورها كجنس أدبي بالحياة وتطورها وواقعها اليومي، ولقد أتاحت سمات الرواية ومميزاتها للروائي أن يصور الحياة اليومية ويضع يده علی أهم قضايا المجتمع ومحاولة توصيفها من خلال عمله الإبداعي. وفي هذه الدراسة حاولنا بالمنهج الوصفي ـ التحليلي أن نكتشف كيف استطاع الروائي المصري "يوسف القعيد" الكشف عن أهم صور العنف الذي ظهر وتجلی في "صعيد" مصر في فترة السبعينيات من خلال روايته "قطار الصعيد"، والسبب الرئيس في اختيار هذا الموضوع هو أن ظاهرة العنف في صعيد مصر ارتبطت بالتحول الفكري والثقافى الذي شهدته فترة السبعينيات في مصر والذي وجد في الصعيد التربة الصالحة للنمو والتوغل مما جعل من ظاهرة العنف بصورها المختلفة قرينة تقترن بصعيد مصر وأهله وهذا الأمر هو ما ظهر بوضوح شديد في رؤية وكتابة يوسف القعيد لروايته "قطار الصعيد". ومن أهم ما توصل إلیه البحث أنه لقد تمثلت صور العنف داخل الرواية في ثلاث صور أساسية وهي الإرهاب، والثأر، والفتنة الطائفية وهي التي استطاع "يوسف القعيد" توظيفها داخل الرواية وتوصيفها وعرض أسبابها ونتائجها وذلك بشكل أدبي منمق. ويرى الكاتب أن السبب الأساس وراء هذه الظواهر هو تعامل الدولة مع القضية والسبب الثاني هو انتشار التطرف الدينى المرتبط بالفكر الإسلامى المتشدد الذي انتشر في تلك المرحلة في صعيد مصر. | ||
کلیدواژهها | ||
الرواية المصرية؛ يوسف القعيد؛ رواية "قطار الصعيد"؛ العنف؛ صعيد مصر | ||
اصل مقاله | ||
. المقدمة حاز صعيد مصر علی اهتمام عدد كبير من الأدباء والكتّاب المصريين والأجانب؛ فعلی سبيل المثال هناك عدد كبير من الروايات والأعمال الشعرية التي تدور حول صعيد مصر وثقافته بل إن هناك كُتّابا وشعراء كان كل مشروعهم الإبداعي حول الصعيد وثقافته ولنجاحها نجد بعضها قد تحول إلی أعمال سينمائية وتليفزيونية حازت علی نجاح منقطع النظير؛ منها علی سبيل المثال فيلم "الطوق والأسورة" المأخوذ من رواية "الطوق والأسورة" للروائي "يحيی الطاهر عبدالله"، ومسلسل "درب الطيب" المأخوذ من رواية "سيرة الشيخ نور الدين" للدكتور "أحمد شمس الدين حجاجي"، ومسلسل "خالتي صفية والدير" المأخوذ من رواية "خالتي صفية والدير" للروائي "بهاء طاهر"، وغيرها من الأعمال الأخرى. ولقد نال الصعيد أيضاً اهتمام عدد كبير من الرحالة؛ سواء الرحالة المسلمون ومنهم الشاعر "ناصر خسرو" والرحالة "ابن بطوطة" و"ابن جبير" أو رحالة الغرب والمستشرقون ومنهم علی سبيل المثال الإيطالي "ليو الإفريقي" والألماني الأب "فانزليب"، والرحالة الفرنسي "جرانجيه"، والرحالة الفرنسي"لوكا" وغيرهم، وذلك لما يتميز به صعيد مصر من سمات خاصة سواء كانت جغرافية أو تاريخية وأثرية أو ثقافية جعلت منه محط اهتمامهم، وعلی الرغم من ذلك إلا أننا نجد أن الصعيد يُعد من المناطق النائية والمهمشة في مصر حيث يحوى أكبر نسبة بطالة وأكبر نسبة فقر وأكبر نسبة جهل وأكبر نسبة أمراض بأنواعها. إن "يوسف القعيد" يعي جيداً خصوصية الصعيد ومكانته وسماته التي يتميز بها سواء كانت سمات مادية أو معنوية، وحاول برؤيته الأدبية أن يسلط الضوء علی خصوصية الصعيد في أكثر من موضع في روايته ونلحظ أنه يدرك جيداً خصوصية الصعيد ومن ثم فهو من خلال هذا الإدراك يحاول أن يضع يده علی قضايا ومشكلات الصعيد برؤيته الأدبية من خلال سرده الروائي في روايته. يوسف القعيد قصاص مصري ولد في محافظة البحيرة، اهتم بالتعبير عن البيئة القروية وما يتصل به من قضايا وعُرف بنبرته السياسية الناقدة والتى كانت سببًا في تعرض بعض أعماله للمصادرة. يعتبر يوسف القعيد من رواد الرواية في مرحلة ما بعد نجيب محفوظ الذي ربطته به علاقة متينة، حصل على جائزة الدولة التقديرية في الآداب سنة 2008م، وحازت روايته "الحرب في برّ مصر" المرتبة الرابعة ضمن أفضل مائة رواية عربية، وكان من ضمن النواب المعينين في البرلمان يوم 31 ديسمبر 2015م، من قبل الرئيس عبد الفتاح السيسي. ومن أهم أعماله الروائية "البيات الشتوي"، "الحداد"، "الحرب في بر مصر"، "القلوب البيضاء"، "وجع البعاد"، "بلد المحبوب"، "لبن العصفور"، "أربع وعشرون ساعة فقط"، "أخبار عزبة المنيسى"، ورواية "قطار الصعيد" (موضع دراستنا) كما له أعمال قصصية وعدد من المؤلفات الأخرى مثل أحاديث أدبية. أما رواية "قطار الصعيد" فهي تُعد من أهم روايات "يوسف القعيد" في مشروعه الإبداعي، ولقد نشرت الرواية في مصر بطبعتها الأولی عام 2004م ضمن منشورات دار نشر "الشروق"، وأعيدت طباعتها عدة مرات أخری، ومن تلك الطبعات المتعددة للرواية طبعة الهيئة المصرية العامة للكتاب التي نشرت ضمن منشورات مشروع "القراءة للجميع" بمشاركة "دار الشروق" عام 2009م - وهي النسخة التي سوف تعتمد عليها الدراسة- وتقع الرواية في 224 صفحة. ولقد قسمت الرواية إلی 10 عناوين وهي المهمة، السفر، الأسايطة، البداري، المقهى، الأقصر، السلاح، العرض، عنترة، الخُط، مع إضافة نص افتتاحى لكل قسم من الأقسام العشرة وغالباً يكون هذا النص عبارة عن مقولة منسوبة لأحد علماء ومشاهير الإسلام فنجده علی سبيل المثال في العنوان السادس الذي جاء تحت عنوان "الأقصر" يقتبس قولا لـ "ياقوت الحموي" حيث يقول «تقع علی شاطیء شرقي النيل بالصعيد الأعلی، فوق قوص، وإنها أزلية قديمة ذات قصور، ولذلك سميت الأقصر كأنها جمع قصر.» (القعيد، 2009: 83) وفي أغلب العناوين كان "يوسف القعيد" يلحق عناوينه بأحد نصوص الغناء الفلكلوري لإحدی أشهر الأغاني المرتبطة بالصعيد والقطارات، فمثلاً في العنوان الثالث جاء بعنوان "الأسايطة" والذي تدور أحداثه حول أهل أسيوط وأوضاعهم عند حضور الصحفي لأسيوط وجاء النص المرافق له كالتالي: قلبي عشق بنت ناسها كتير في إسنا الخال من أسيوط لكن العم من إسنا والخال علی الخد يشغلنا ويهوسنا يارب صبر قليب الغرام... أضناه وقوي همه رجالنا ودخلنا باسنا (المصدر نفسه: 32) أما عن أحداث رواية "قطار الصعيد" فهي تدور حول صحفي يسافر من "القاهرة" إلی صعيد مصر وتحديداً إلی محافظة "أسيوط" وذلك للتحقيق ولتغطية خبر صحفي عن حادثة قتل، وأثناء رحلة سفره إلی الصعيد يشاهد الصحفي أوضاع الصعيد ومشاكله وقضاياه المستعصية سواء كانت مشاكل أمنية، أم سياسية، أم اقتصادية، أم اجتماعية، ولم يتوقف الصحفي علی تغطية حادث القتل الذي يُعد هو الخط الرابط بين الحكايات كلها وهو الصورة غير المباشرة لأوضاع الصعيد ومشكلاته، فقد سافر جنوب محافظة "أسيوط" تحديداً إلی محافظة "قنا" ومدينة "الأقصر" ليكتشف الصعيد الحقيقي أو ما يطلقون عليه اسم "الصعيد الجواني"، ثم عاد مرة أخری إلی محافظة "أسيوط" ومنها يعود مرة أخری إلی القاهرة. ونلحظ أن الرواية تضم بداخلها عدداً من الحكايات مثل حكاية "الصول بدير" وحكاية " الخُط " وحكاية "عنتر كامل مصطفي" وحكاية "العسكري عرابي" التي تتلاحم فيما بينها لتكشف لنا عن الصورة الحقيقية والصادقة للصعيد، وكان القطار هو الوسيلة الرئيسية التي يتنقل بها الصحفي من محافظات الصعيد ومدنها وكذلك هو الوسيلة السردية التي ينتقل من خلالها "يوسف القعيد" لسرد وتوصيف حكايات الصعيد التي من خلالها يُبين أهم قضايا الصعيد ومشكلاته والتي حاول "يوسف القعيد" توصيفها وتشريحها داخل روايته بشيء من الحيادية والصدق بعيداً عن التجميل والتزييف لبعض الحقائق وإن كانت هذه الحقائق في بعضها يُدين سياسة الحكومات المتتالية في تهميش الصعيد مما أدی إلی تراكم بعض مشكلاته مثل الإرهاب والبطالة والجهل والفقر، وبعضها الآخر يدين الموروث والثقافة الصعيدية التي ساعدت علی ترسيخ بعض مشكلات الصعيد مثل الثأر. تهدف هذه الدّراسة إلى تسليط الضوء علی مدى حجم العنف في صعيد مصر وعوامل انتشاره وكذلك تحديد أنماط وصور العنف في صعيد مصر في السبعينات من خلال هذه الرواية والتي تمثلت في الإرهاب والثأر والفتنة الطائفية، وجعلها أرضية خصبة لشتى الدّراسات الأدبيّة في ضوء القضايا الاجتماعية، ولنجاعة هذه الدّراسة وضمانًا لحسن سيرها، اعتمد البحث على استثمار آليات المنهج الوصفي - التحليلي.
تحاول هذه الدراسة الإجابة عن السؤالَين التاليَين؛ أولاً: ما أنماط العنف في صعيد مصر في السبعينات من خلال رواية "قطار صعيد"؟ ثانياً: ما الأسباب الكامنة وراء انتشار العنف في صعيد مصر من خلال رواية "قطار صعيد"؟ أما فرضيتا البحث فهما؛ أولاً: إن ظاهرة العنف في الصعيد برزت في أشكال متنوعة من أبرزها الإرهاب والثأر. ثانياً: قد تكمن وراء العنف الشائع في الصعيد إهمال هذه المنطقة من قبل الحكومة وكذلك انتشار الأسلحة بشكل واسع.
أما بالنسبة للدراسات السابقة لدراستنا هذه فهناك عدد من البحوث والدراسات التي تناولت روايات يوسف القعيد من منظور ما، من أبرز هذه الدراسات؛ دراسة تحت عنوان «الميتاقص تجريبـاً روائيـاً - قـراءة في أعمال الروائي المصـريّ يوسف القعيـد: الحرب في برّ مصر ويحـدث في مصر الآن وثلاثيـة شكاوى المصريّ الفصيح» للباحثة الشوابكة (2013)؛ قد توصلت إلى وجود تقنيات تجريبيّة عدّة في نصوص الروايات القعيديّة – إنْ جاز التّعبير- تتذرع بالتّخييل والتّشكيل، في أثناء تشكّل النّص نفسه من مثل: السرد البوليفونيّ المتعدد الأصوات، وتوظيف لعبة المؤلِّف المؤلَّف في النّزاع بين النّص والقص، واستدعاء المسرود له بوصفه قارئاً منتجاً مشاركاً في انبناء النّص وتشكيله، واستباق النقد، وتشظي المحكيات، وتقطيع السرد، ومدّ خطوط التّلاقح بين الواقع وعالم التّخييل بوصف النّص عالماً ورقياً افتراضياً مستقلاً، موازياً للواقع، له صوته الخاص، وطابعه السرديّ المميز. ودراسة أخری معنونة بـ «بررسي موتيف "ارض" در رمان "الحرب في بر مصر" از يوسف القعيد[1]» لحسيني أجداد ودلشاد (1396) وقد سعت هذه الدراسة إلى كشف الدلالات والخصائص الأسلوبية التي خلقت هذه التقنية في النص. وقد تبيّن من خلالها أن الروائي وظّف هذه التقنية علی شكل متناغم بسائر المكوّنات السردية خاصة الأفكار التي ينشرها الرواة في النص كما تساهم في تشكيل الأسلوب الروائي القعيدي. وبخصوص الدراسات التي تتمحور حول ظاهرة العنف في الروايات العربية يمكن الإشارة إلی «صور العنف في الرواية الجزائرية المعاصرة» للباحثة العنزي (2010) التي تناولت فيها ظاهرة العنف السياسي في 11 رواية من الروايات الجزائرية المكتوبة باللغة العربية. ويمكننا استخلاص نتائج الدراسة بأن للعنف في الروايات المدروسة تجليات عديدة، بدأت من أبسط الأشياء حتی أكبرها، مشكلة لوحة متعددة الأطراف، لوحة تصور مأساة الإنسان الجزائري، وأثر الإرهاب عليه، فماتت وتعطلت لغة الحياة الطبيعية لتحل محلها لغة الموت والفناء، لغة لاتحمل من المعاني الإنسانية سوی الخوف والحذر وموت القيم الجميلة في فضاء نصي شاحب رمادي كئيب. وقد برهن ذلك علی مقدرة الكاتب الجزائري علی رسم صورة كاريكاتورية ساخرة من الواقع من خلال توظيف أشياء العالم الخارجي بطريقة مثيرة ومدهشة تجعل القارئ يتماهی مع النصوص ليدين العنف بكل صوره وأشكاله. ودراسة أخری للباحثة نسيمة (2012) عنوانها «صور العنف السياسي في الرواية الجزائرية المعاصرة، "متاهات ليل الفتنة لـ: أحميدة عياشي و"دم الغزال" لـ "مرزاق بقطاش" أنموذجاً» وقد اختار البحث فترة العشریّة السّوداء باعتبارها المرحلة الّتي شهدت العنف السّیاسي بحدّة أكبر، والملاحظ من قراءتها لنصوص الرّوایة الجزائریّة المكتوبة باللّغة العربیّة أنها سایرت التّحوّلات الحاصلة في المجتمع الجزائري، ممّا جعل الاتّجاه الواقعي یطغى عليها، فكانت لسان شعبها ومرآة عاكسة لنبض حیاته الیومیّة، وهذا ما جعلها لا تختلف عن سابقاتها الّتي سایرت مرحلة الاستقلال، كما عملت على تعریة الأوضاع السّیاسیّة والاجتماعیّة والاقتصادیّة، كاشفة السّتار عن العنف والظّلم والقهر الّذي عاناه المواطن الجزائري. أما حسن وستار (2016) في دراستهما «أشكال العنف وصوره في أدب نوال السعداوي» فقد تناولا أنماط العنف ضد المرأة المتمثلة في العذرية، وعدم مساواة الحقوق بين المرأة والرجل، وقضية الشرف وزواج القاصرات. والدراسة الأخری تحت عنوان «تجليات العنف في رواية "سيدة المقام" لواسيني الأعرج، دراسة ظاهراتية موضوعاتية» للباحثة زحاف (2016) إذ وصلت فيها إلی أن الرواية موضوع الدراسة كانت نتاجاً للعنف وانتصر الروائي لواقعية الفن دون السقوط في واقعية الواقع. وقام عبدي (2019) في بحث معنون بـ «دراسة صور العنف السياسي في روايات نجيب الكيلاني رواية ليالي تركستان نموذجاً» بتوضيح العنف السياسی والمفاهيم الأخرى مثل الاغتيالات وعمليات الإعدام والاغتيالات وتبيينها في رواية "ليالي تركستان". وأشارت أهم النتائج إلى أن هذه المفاهيم قد استُخدمت في احتلال الأرض وقمع المشاعر الدينية وتحويل المساجد إلى مجالس المجون والفسق ومشاركة النساء في تحرير أرضها وتضامن الدول المحتلة منها الصين و الروسية القيصرية لقمع المسلمين وقتل المثقفين بيد الصينيين؛ لأنهم يعلمون جيدًا أن هولاء المثقفين هم دعاة التحرير وتغيير طوبوغرافيا وإثنوغرافيا للبلاد. ولايفوتنا الذكر إن رواية "قطار صعيد" ترجمتها إلی الفارسية الباحثة نسيم فرهنگ (1393ش) ضمن رسالة ماجستير غير منشورة في جامعة آزاد بطهران.
فيما يلي سنتحدث بشيء من التفصيل عن المفهومين الأساسيين للدراسة ألا وهما: العنف وصعيد مصر.
إن العنف ظاهرة نفسية منتشرة في أرجاء المعمورة بأنواعه المتعددة، ويمكن تعريف العنف بأنه «خطاب أو فعل مؤذٍ أو مدمّرٍ يقوم به الفرد أو جماعة ضد أخری» (ويتمر، 2007: 11) وهذا السلوك المؤذي قد يكون جسدياً أو نفسياً أو لفظياً وطبيعي أن له آثارا مدمرة في المجتمع الإنساني لأنه «سلوك بعيد عن التحضر والتمدن تُستثمر فيه الدوافع، والطاقات العدوانية استثماراً صريحاً بدائياً؛ كالضرب والتقتيل للأفراد والتكسير والتدمير للمتلكات، واستخدام القوة لإكراه الطرف المقابل وقهره، ويمكن أن يكون العنف فردياً كما يمكن أن يكون جماعياً.» (طه وآخرون، 1993: 51) كما قبلنا إن العنف نطاقه واسع جداً قد يصدر عن طرفٍ فرداً أو جماعة أو طبقة اجتماعية أو دولة بهدف استغلال أو إخضاع طرف آخر في إطار علاقة غير متكافئة اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً مما يتسبب في إحداث أضرار مادية أو معنوية أو نفسية لفردٍ أو جماعة، أو طبقة اجتماعية أو دولة أخری. (عزالدين، 2010: 139) وتدلّ كل هذه التعاريف علی أن العنف يدل علی الشدة والحدة والتصرف الغليظ الخالي من الرأفة بغية السيطرة علی الآخر بالقوة وإلحاق الأذی.
أما صعيد مصر ويسمى بالوجه القِبلي (الجنوبي) فهو عبارة عن منطقة تمثل الجنوب الشرقي من مصر أو الجزء العلوي من أراضي نهر النيل في مصر. تمتد هذه المنطقة من الجيزة شمالاً حتى أسوان جنوبًا وإلى الحدود مع السودان وشرقاً بمحاذاة البحر الأحمر، وتمثل الجزء الأسفل من خريطة مصر. وفِي اللغة العربية الصَّعِيدُ هو المرتفِعُ من الأرض، ومنه اشتق اسم صعيد مصر. وهذه المنطقة تعدّ من أقدم الحضارات العالمية؛ حيث في بداية رحلة الشخصية الرئيسية في الرواية "الصحفي" للصعيد جاء علی لسانه في الرواية قوله «... ها هو الصعيد أمامي. أول أرض في الكون، كون العالم البعيد، انحسر عنها الماء الأول. الماء الذي رأی سيدنا نوح عليه السلام وفلكه. ثم رأی أسراب الطيور وقطعان الحيوان. من كل نوع اثنان، ذكر وأنثی ، إنها الأرض الأولی التي ارتفعت من قلب الماء بعد أن انحسر الطوفان عنها، ولكن سفينة نوح لم ترس علی هذا البر...» (القعيد، 2009: 24) وكذلك استمد "يوسف القعيد" في تناصات عناوين فصول الرواية قول بعض مشاهير التاريخ الإسلامي عن الصعيد ومنهم قول "أبواسحاق البيهقي" حيث ذكر قوله عن الصعيد «والغالب علی إقليم الصعيد، العلم والفهم والدين والسياسة وحب العمارة وجمع المال والسماح والبهاء والرزينة.» (المصدر نفسه: 45) وهذا القول المقتبس من الكتب التراثية يدل علی مدی قدم مكانة الصعيد وخصوصيته علی مدی العصور التاريخية، ويدل كذلك عل مدی قراءة "يوسف القعيد" وإدراكه للقضية والموضوع الذي يناقشه في روايته؛ فالرواية هنا ليست لمتعة القراءة فقط بقدر أنها وسيلة للكشف عن الواقع ومشكلاته وتسليط الضوء عليه لتلاشي سلبياته ومحاولة إيجاد حلول لهذه القضايا والمشكلات التى كانت إرث توارثته الحكومات المصرية دون وضع حلول فعلية وجذرية لهذه المشكلات المعقدة والمتراكمة. ومن وجهة نظر "يوسف القعيد" يبدأ الوعي بمكانة الصعيد وخصوصيته، وكل أهل الصعيد يدركون جيدا خصوصية البعد الجغرافي لموطنهم من هذه الطبيعية وأثرها على ثقافتهم وطبائعهم ، فقد ذكر "يوسف القعيد" في روايته علی لسان أحد الصعايدة إبراز البعد الجغرافي للصعيد فقد ورد كالتالي: «شرح الرجل نظريته عن الصعيد. قال إن بني سويف من بحري، وإن تمحكها في الصعيد لا يجدي، وأن مقدمات الصعيد وبداياته تهل من المنيا، وأن هناك الصعيد والصعيد الجواني. كنت أعرف جيدا عواصم المحافظات، وكنت سافرت من قبل إلى الصعيد، وكان يمكنني الحديث معه عن الأقصر وأسوان، لكنه قال لي إن ذلك شغل سواح، وإن الصعيد شيء آخر غير الأثرات التي يأتي السواح لكي يرونها ويلتقطون الصور بجانبها، ويعودون بها إلى بلادهم كدليل عل أنهم أتوا هنا وشاهدوا الصعيد المصري.» (المصدر نفسه: 26-27) فوصف جغرافية الصعيد السابقة تحدد خصوصيته وتحدد شخصية الصعايدة، وأن أهل الصعيد لا يقبلون بمن ينتسب إليهم دون أن يكون جديراً بهذا الانتساب، مع التأكيد علی أن الشكل الظاهر للصعيد من خلال زيارة المناطق الأثرية ليست هي الطريقة لمعرفة الصعيد المصري بل يجب معرفته عن طريق الاختلاط به في القری والنجوع ومعرفة طبيعة حياته وظروفه الحياتية، ويؤكد علی هذه النظرية ما ورد في الرواية: «قال لي إن من يريد أن يشم رائحة الصعيد، عليه بركوب قطارات الفقراء، أما هذا الذي نركبه فهو يخترق الصعيد نازلًا من الشمال إلی الجنوب، وصاعداً من الجنوب إلی الشمال، دون أن يعطيك فرصة لكي تلمس بحواسك الخمس الواقع الذي يجري من خلاله.» (المصدر نفسه: 28-29) ويستمر "يوسف القعيد" في روايته علي تأكيد خصوصية الصعيد علي لسان شخصيات روايته فبعيدا عن العامة من الناس فهو يوصف خصوصية الصعيد على لسان أحد الشخصيات المثقفة في روايته كدليل على أن خصوصية الصعيد موجودة عند العامة من الناس و النخبة المثقفة منهم فنجده على لسان "الأستاذ مجلي" يؤكد على هذه الخصوصية حيث يقول: «الصعيد لغز. الصعيد معمار قديم من العادات والتقاليد، هناك طريقتان للتعامل معه، إما الدخول في المعمار أو محاولة هدمه، والكل يحتويه المعمار الضخم القديم، الصعيد معبد فرعوني قديم.» (المصدر نفسه: 58) حتی أن "يوسف القعيد" لاينسى في سرد روايته تصوير أبسط سمات الصعايدة وخصوصياتهم فنجده مثلاً يستعرض حب الصعايدة لشرب الشاي ذو المذاق الخاص فقد جاء في حوار بين الشخصية الرئيسية في الرواية وشخصية "فرج " عامل نادي الموظفين « لا بد وأن أحبس ببراد شاي، سألني هل أحبه شاياً صعيدياً أم بحراويًا؟ لم أكن في حاجة لسؤاله عن الفارق بين الاثنين، قلت له: نجرب الصعيدي. جاء ومعه براد وكوب شاي صغير ومحندق رفع البراد عالياً بيده وصبّ الشاي. باللون الشاي أسود لم يكن فيه أي أثر للون الأحمر. عندما شاهد دهشتي قال لي إن الصعيدي يحب رؤية لون الشاي الأسود في الكباية قبل شربه، إنهم يشربون بأعينهم أولا، ويتذوقونه بألسنتهم...» (المصدر نفسه: 75)، ويلحظ أن الصعايدة يضفون صبغة قاسية وعنيفة على حياتهم فمثلاً الشاى لا يشربه الصعيدي إلا إذا كان أسود قاتم اللون وهذا يتناسب بشكل غير مباشر مع الطبيعة القاسية والعنيفة لدى أغلب الصعايدة. ويتبين مما سبق أن الطبيعة الجغرافية للصعيد بكل سماتها القاسية ساعدت علی صبغ الصعيد بحدة الطباع مما يؤدي إلی بروز العنف بكل أنواعه كظاهرة اجتماعية واضحة في مجتمع الصعيد؛ بعبارة أخری الطبيعة القاسية جعلتهم يتقبلون العنف من سلوك ومن مظهر حتی في أبسط التفاصيل مثل نوع الشاي المفضل لديهم؛كأنهم يريدون تميزهم عن غيرهم.
ارتبط الصعيد في الفكر المصري بالعنف والقتل، وعلی الرغم من هذا نجد تناقضاً لهذه الفكرة في الفكر المصري أيضاً، حيث نجد أن أهل الشمال في الكثير من النكات يسخرون من الصعيدي لطيبته وسماحته «وتجدر الإشارة إلی أنه بالرغم من أن الفلاحين المنتمين للوجهين البحري والقِبلي يكونون عرضة للنكت التي يطلقها الحضر والنخبة، نجد أن الصعايدة علی وجه الخصوص أكثرهم استهدافاً لكنهم – أي الصعايدة- معروفون بالتسامح ويظهرون حساً عظيماً بالمزاح.» (الأسود، 2013م: 63) وما يؤكد ذلك ما ذكره ابن ذولاق )۳۰۶-۳۸۶ق/۹۱۹-۹۹۶م( والذي أورده "يوسف القعيد" في الرواية حيث ذكر «ومن محاسن الصعيد الجليلة كثرة الأمن ولاسيما في الوجه القبلي منه، يسير الإنسان فيه ليلا ومعه ما يشاء فلا يجد من يعترضه، وقد ركبت مرة وأمسي الليل علي وأنا وحدي، فربطت في حجر ونمت.» (يوسف القعيد، 2009: 124) وعليه نجد أن الصعيد موطن أمن واستقرار منذ القدم لكن التطورات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي مرت بمصر خاصة في القرنين الأخيرين ساعدت علی انتشار العنف في الصعيد وترسخت هذه الظاهرة حتى أصبح العنف صفة أساسية مرتبطة بالصعيد، حتى أن العنف أصبح له في الصعيد خريطة خاصة يعرفها الصعيدي فقد جاء في الرواية علی لسان أحد ركاب القطار موجهاً حديثه للصحفي البطل الرئيس في الرواية قائلاً: «– جئت أحقق جريمة / قال علی الفور مستعرضاً معلوماته: - إذن ستذهب إلی مكان من ثلاثة: البداري، أو صدفا أو أبنوب... سألته، لم حددت هذه المدن الثلاث؟ وهل للجريمة في الصعيد جغرافيا محددة ومعروفة؟ قال لي إن هذه المدن تمثل مثلث الرعب الصعيدي.» (المصدر نفسه: 24)
أما أهم العوامل التي أدت إلی ظاهرة العنف في الصعيد في السبعينيات فقد حدد "يوسف القعيد" في روايته بعضها والتي بدورها أدت إلی تهميش الصعيد – حتى الآن- وتراكم مشكلاته ويمكن إجمالها في النقاط التالية: أ) يأتي تهميش الدولة وحكوماتها للصعيد أول عامل من العوامل التي أدت إلی ظهور بعض قضايا الصعيد وهذا ما جاء علی لسان "الأستاذ مجلي" الذي كان يری أن عدم تدخل الدولة ووضع القوانين الرادعة والاستثنائية لحل قضايا الصعيد ومشكلاته سبب لمشكلات الصعيد فقد صرح وقال: «اسمع، لا حل إلا بأن تتواجد الدولة" القعيد، 2009: 55 ) وفي موضع آخر قال " لا مفر من يد الحكومة الباطشة تقف بين الظالم والمظلوم.» (المصدر نفسه) وقال أيضاً: « القانون الطبيعي مطلوب لمواجهة وضع طبيعي، والقانون الاستثنائي يواجه وضعًا استثنائيًا، وما نعيشه نحن وضعا استثنائيًا مائة في المائة.» (المصدر نفسه: 56) وكذلك يجب الإشارة هنا إلی تجاهل الإعلام المدعوم من الدولة وإغفاله لقضايا الصعيد الحيوية والهامة، وهذا يبرز لنا في الرواية من خلال تجاهل مدير تحرير الجريدة للموضوعات الرئيسة التي عرضها عليه الصحفي بعد رحلته للصعيد، فلقد تجاهل مدير التحرير موضوعات وجود وفد إسرائيلي واختراق أمني من إسرائيل للصعيد وتجاهل قضايا الثأر وتجارة السلاح، والعمليات الإرهابية المستمرة في الصعيد، وتجاهل الأثر النفسي للقتل علی بعض العساكر والجنود مثل "الصول بدير" و "العسكري عنتر كامل مصطفي"، وخرافات مجتمع الصعيد مثل حديثهم عن ظهور "جمال عبد الناصر" في قرية "الترامسة" بمحافظة "قنا" علی الرغم من موته وكذلك وجود الخط ـ حتى الآن، لكنه أعجبه موضوع خاص باغتصاب سيدة صعيدية تدعی "قمرية" لرجل حتى موته، واختياره لهذا الموضوع دون غيره من الموضوعات يدل علی كيفية تعامل الإعلام بكافة صوره مع الصعيد بحيث يتم البحث عن موضوع إعلامي يحدث بلبلة ويحقق توزيعاً للجريدة دون البحث عن موضوعات تمس الحياة وتحل المشكلات المتراكمة يقول "يوسف القعيد" في روايته علی لسان مدير التحرير: «... إن الاغتصاب النسائي، عندما تكون المرأة هي المغتصبة - بكسر الصاد وليس بفتحها- يصبح الأمر أكثر إثارة، إنه يضاعف توزيع المجلة، خاصة إن نشرت الحادثة بصورة مسلسلة، خمسون حلقة علی مدي خمسين أسبوعًا، أي حوالي اثني عشر شهرًا... .» (المصدر نفسه: 205) ب) وتُعد مسألة السلاح وانتشاره من أقوی الأسباب التي أدت إلی ظهور العنف في الصعيد، وكان "يوسف القعيد" ذكياً في عرض قضية السلاح فمن خلال عرضه حتى يوضح دور الدولة في ظاهرة العنف وصناعتها وليس في سرعة حلها، فقد أشار إلی أن الدولة كانت السبب في رواج تجارة السلاح بسبب إجراءاتها الأمنية في تجريدة السلاح في قرية "الحراجية" في محافظة "قنا". فقد جاء بالرواية «فهم العمدة المسألة علی بلاطة، من لديه سلاح يسلمه أو جزا منه، ومن ليس له سلاح عليه أن يتصرف، وهكذا اتضح الموقف، لابد من وجود مهلة من الوقت حتى يتم جمع السلاح المطلوب.» (المصدر نفسه: 114) ويكمل الحدث في موضع آخر فيقول: «وبعد المفاوضات بدأت عملية تسليم الأسلحة، كانوا يحددون لكل فلاح الأسلحة المطلوبة منه حتى يحضرها، وكانت تتم عمليات استبدال أنواع مستحيلة بأنواع ممكنة ومتاحة إن تعذر عليه تسليم ما يحددونه له.» (المصدر نفسه: 114) وبدأت عملية شراء السلاح من تجار السلاح حتى يتم تسليمها للشرطة وهذه الحادثة التي جاءت في أحداث الرواية تدل علی مساهمة الدولة بشكل غير مباشر في مشكلات الصعيد، فعن طريق السلاح تتم عمليات الثأر والعمليات الإرهابية وهجوم المطاريد للسرقة والنهب. ج) أثرت التغيرات السياسية العامة للدولة علی إثارة العنف في صعيد مصر، وانعكست السياسة العامة للدولة علی الحياة في الصعيد، وما نقصده هنا تحديداً هو أثر معاهدة السلام بين مصر وإسرائيل والمعروفة باسم "معاهدة كامب ديفيد" والتي من وجهة نظر الرئيس محمد أنور السادات - والذي أطلق عليه في الرواية اسم الرئيس المؤمن - كانت خطوة لإقرار السلام وتجنب الحروب مع إسرائيل لكن كان لها آثار سلبية علی مصر، وأوضح "يوسف القعيد" مدی تأثير هذه السياسة من قبل النظام الحاكم في مصر علی الصعيد، حيث أصبح الصعيد مسرحا مباحا للصهاينة وأصبح اليهود يؤثرون علی أمن الصعيد فقد جاء علی لسان الصحفي: «... قلت ولكن لنفسي: إن كتب التاريخ القديم الوسيط والحديث، تحكي وتقول إنه لم يحدث من قبل أن وصل الأعداء والمحتلون والغزاة إلی قلب الصعيد الجواني.» (المصدر نفسه: 95) وكان لهذه السياسة من قبل النظام المصري وقتها أثرها غير مباشر علی الصعيد فكان لوجود الصهاينة في الصعيد سواء بشكل رسمي أو غير رسمي أثره علی الإجراءات الأمنية التي تؤثر علی حياة الصعايدة وحريتهم، وكانت تثير الغيرة لديهم والغضب مما كان أيضاً دافعاً قوياً لدی الجماعات الإرهابية لتجنيد الشباب ولاتخاذ هذه الإجراءات سببا في شن هجمات إرهابية، حتى أن بعض رجال الدولة ذاتهم كانوا يخجلون من ذلك، فقد جاء في الرواية موقف محافظ "قنا" الذي كان يهتم بتأمين الوفد الشباب الإسرائيلي الذي جاء في ضيافة من وصفها يوسف القعيد في الرواية "الهانم سيدة مصر الأولي حرم الرئيس المؤمن" حيث كان أول وفد ترسله الهانم وترسله إلی الصعيد ونلحظ أن المحافظ علی الرغم من قيامه بذلك فهو خجول من أفعاله: «... قلت له بصوت عال: وفد شبابي إسرائيلي يا سيادة المحافظ؟! كان يبلع ريقه بصعوبة، مد يده يوسع من ياقة قميصه حول رقبته فتح القميص وأنزل ربطة العنق قليلًا، وبرغم وجود أكثر من جهاز تكييف في الغرفة هوی بيديه حول وجهه.» (المصدر نفسه: 117-118) د) كان للإجراءات الاقتصادية في فترة السبعينيات والتي عرفت باسم عصر الانفتاح أثرها غير المباشر علی صعيد مصر فكانت هذه الإجراءات الاقتصادية فقد وضحها "يوسف القعيد" في روايته قائلًا: «... شاب متعلم كان يجلس علی المقهى أكد لي أن المواصلات تبقی حتی الفجر، فنحن في أيام الانفتاح، استيقظت حواس المدنية البعيدة بداخلي، وسألته عن العلاقة ما بين الانفتاح والتاكسي الذي يعمل جتی الفجر/ - القروشات بتاكل الناس، مثل البراغيت والنمل تقوم تجري تصرفها وترجع من تاني . فاجأني بشرح آخر: - الولد تهج، وتطير بلاد الله خلق الله، تجيب القروشات، وتعاود تهج في نصاص الليالي علشان تصرف القروشات.» (المصدر نفسه: 50) وكانت سياسة الانفتاح الاقتصادي سبباً في ظهور عدد من صور الحياة المغايرة لطبيعة الصعيد وصورته فجاء علی لسان الأستاذ "مجلي" أنه قال: «هرب الرجال، هجرة جماعية، خرجت البنات، أموال البترول جاءت، والمسجلات ملأت الشوارع، والتليفزيونات في كل بيت وجوازات السفر في الأيادي والدولار ظهر علی المقهي وفي الحقل.» (المصدر نفسه: 58) وهذا الأمر أثر بالسلب علی السلم الاجتماعي داخل المجتمع مما ساعد علی ظهور عدد من مظاهر العنف مثل السرقة والنهب والسلب وكذلك حتى أنها بلغت إلی الحد مثلًا لحدوث بعض حوادث الاغتصاب العكسي من النساء للرجال وذلك لهجرة الرجال إلی الخارج: «... قمرية التي كانت لديها الشجاعة لتبدأ حفل الاغتصاب الجماعي لرجل، تقوم به نساء محرومات حتی من رائحة الرجال... .» (المصدر نفسه: 206) ذ) التمسك بالعادات والتقاليد السيئة والتي أدت إلی انتشار الظواهر السيئة في المجتمع الصعيدى مثل ظاهرة الثأر التي انتشرت في المجتمع الصعيدى بسبب العادات والتقاليد البالية والتي تدخل في مقدسات الصعيدي والتي تتناقل مابين الأجيال حتى صارت في بعض الأماكن في الصعيد حدث يومي وجزء من الحياة اليومية فقد بين "يوسف القعيد" ذلك في الرواية بعد تنفيذ إحدی الحالات الثأرية « الليلة سيقام المأتم المؤجل منذ قتل الجد، كما أن واحدًا من هؤلاء الشبان الثلاثة، لابد وأن يقتل ذات يوم، ذلك كأس الدم لابد وأن يدور علی الجميع.» (المصدر نفسه: 82) وكما سبقنا القول إنه من العادات والتقاليد الصعيدية السيئة - والتي مازالت موجودة حتى يومنا هذا- هي انتشار السلاح بين أهل الصعيد فيصف ذلك يوسف القعيد في روايته قائلا: «بلاد مدججة بالسلاح حتى أسنانه» (المصدر نفسه: 104) ويعد التمسك بحيازة السلاح عند أغلب أهل الصعيد لفكرة الدفاع وليس للعدوان فقد جاء بالرواية: «وهل هناك بيت أو حقل لا سلاح فيه؟ الجميع يدافع عن نفسه، والسلاح هو الوسيلة الوحيدة لذلك، هذا سلو الصعيد، وقطعة السلاح في البيت هي أمانة، وفي الحقل فإن وجودها يجعل صاحبها من المطاريد.» (المصدر نفسه: 112) ر) ساهمت عزلة الصعيد وقلة وسائل الاتصال بينه وبين الشمال والذي تمثله القاهرة في تشبث الصعيد ببعض عاداته السيئة، ومن ناحية أخری ساهم في إهمال الدولة لمشاكل الصعيد وقضاياه، وقد ركز "يوسف القعيد" علی هذه النقطة في روايته، فقد لخص ذلك في جملة عبر بها أحد ركاب قطار الصعيد وهو باحث اجتماعي حيث قال: «العزلة والاتصالات، ذلك هو جوهر المشكلة» (المصدر نفسه: 91) وقد أبرز هذه النقطة في أكثر من موضع مرة يتحدث عن وسائل الإعلام المختلفة فيقول عن تأخر الصحف اليومية والمجلات والتي يعدها البعض رفاهية وترف فقد أشار إلی ذلك في أكثر من موضع فجاء علی لسان "فرج" عامل نادي الموظفين بأنه قال: «ضحك فرج وضرب كفا بكف، قال لي إن بالي رايق، صحيح أنني قادم لتوي من الشمال البعيد، طالع من تحت، إن الجرائد التي اتكلم عنها إن جاءت في المساء يكون ذلك من حسن الطالع، جميع الذين يقرءونها في البندر تعودوا علی وصولها في اليوم التالي، كل ما فيها بايت... إن الجرائد لو جاءت في نفس اليوم تكون وصاية، وللبهوات الكبار، المأمور، وحكمدار أمن الدولة، الذي أقول عنه ضابط المباحث، والبيه وكيل النيابة... والمجلات؟! قال لي ضحكًا: في المواسم والأعياد والعطلات الرسمية.» (المصدر نفسه:72-73) وفي موضع آخر يقول علی لسان أحد ركاب قطار الصعيد: «إن الصحف تصل إلی عواصم المحافظات -فقط- يعود ليؤكد المحافظات المهمة لأنه ليست جميع محافظات الصعيد مهمة لتصل إليها الصحف في اليوم التالي لصدورها، ثم تصل بعد يوم آخر- الثالث بعد صدورها- إلی المراكز والبنادر ولا يعرف أحد متى تصل إلی القرى، هذا إن كانت تصل أصلًا إليها، والمجلات فهي نسخ فردانية تصل بعد أسابيع من صدوره.» (المصدر نفسه: 90) أما عن الإذاعة والتليفزيون فقد جاء علی لسان شاب من ركاب قطار الصعيد قائلًا: « إنهم يسمعون جميع الإذاعات إلا مصر، هواء هذه الأماكن مخترق من جميع الأصوات التي تأتي من جميع أنحاء العالم ماعدا مصر، التي يلتقطها الراديو ولكن بالصدفة، والتليفزيون؟! لابد من خريطة دقيقة حتی نتمكن من التقاط إرساله، يصل إلی أماكن ويخاصم أماكن أخری ولا يدري أحد السبب في ذلك.» (المصدر نفسه: 90-91) أما عن الاتصالات التليفونية فقد ذكرها "يوسف القعيد" علی لسان الصحفي الذي عان كثيرًا في إجراء مكالمة للقاهرة فيقول واصفًا حاله: «... تذكرت أن عذابي في اليوم بليلة الماضيين، كان في إجراء اتصال تليفوني مع القاهرة، سنترال وحيد في مدينة كبيرة، يقوم بكل العمل المطلوب فيه موظف وحيد، هو مسئول الاتصالات التليفونية والبرقيات سواء كانت إرساًلا لتلغرافات أو استقباًلا لها.» (المصدر نفسه: 89)
وفي السطور التالية سوف نستعرض أهم صور العنف التي واجهت صعيد مصر والتي سلط عليها "يوسف القعيد" الضوء في روايته، وسوف نقسم هذه الصور إلی الإرهاب والثأر والفتنة الطائفية والمطاريد ويمكن تفصيلها من خلال الشكل البياني التالي:
الرسم البيانی رقم 1: أهم صور العنف في الصعيد من خلال رواية قطار الصعيد
تُعد ظاهرة العنف من أهم قضايا ومشكلات صعيد مصر والتي - للأسف حتى الآن- يعاني منها الصعيد منذ ما قبل السبعينيات، ولقد برزت ظاهرة العنف بشكل كبير جداً في فترة السبعينيات وهذا راجع لمجريات هذه الفترة والتي شهدت تغيرات سواء كانت علی المستويات السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية أو الثقافية، وحاول "يوسف القعيد" وفي رواية "قطار الصعيد" أن يناقش ظاهرة العنف هذه مستعرضاً عوامل مع مناقشة كل قضية وعوامل ظهورها ونتائجها.
لقد عانت مصر بصفة عامة وصعيد مصر بصفة خاصة منذ السنوات الأخيرة من العقد السابع من القرن الماضي وحتى الآن من الإرهاب وآثاره التدميرية سواء كانت في صورة تخريب للمؤسسات والمنشآت العامة والخاصة أو كانت في صورة قتل للأشخاص من الشخصيات العامة مثل الساسة والكتاب وغيرهم أو قتل بعض البسطاء من عامة الناس، وللأسف مازال هذا الإرهاب وآثاره المستمرة في مصر حتى الآن. كانت بيئة صعيد مصر الجغرافية القاسية والجافة والحياة الثقافية التي تتمسك بالأفكار القبلية والعادات والتقاليد هي السبب الرئيس في نشأة الإرهاب وانتشاره في الصعيد وفي كل أرجاء مصر خاصة في فترة السبعينيات حتى نهاية التسعينيات من القرن الماضي، حيث إن «الصعيد لايزال موطن الجماعات الاجتماعية القبلية المهمشة والتي تتصف بالتحفظ والتمسك بالتقاليد بصورة تفوق نسبيًا سكان الدلتا، وبسبب موقعه البعيد عن المركز السياسي؛ لأن الصعيد أصبح مكانًا للجماعات الإسلامية النشطة المدفوعة نحو مقاومة السيطرة المركزية للدولة.» (الأسود، 2013: 63) ولا يمكن أن نتجاهل أن البيئة الزراعية في الصعيد كان لها دور في ذلك أيضًا، بحيث استغلت الجماعات الإرهابية زراعات قصب السكر ليكون أماكن اختباء، حيث عملت الدولة لفترة علی عدم زراعة قصب السكر في الصعيد أو علی الأقل بالقرب من الطرق الرئيسة وهذا ما ذكره يوسف القعيد في روايته علی لسان البطل الرئيس الصحفي وهو يضع عناوين لموضوعات رحلته للصعيد فيقول: «خطة كاملة للتخلص من زراعات القصب في الصعيد، موضوع تحت عنوان: الإرهاب والقصب.» (القعيد، 2009: 203) ولقد كانت قضية انتشار الإرهاب في صعيد مصر من أول القضايا التي تواجه البطل الرئيسي للرواية "الصحفي" أثناء زيارته للصعيد، فعندما وطأت قدمه أسيوط كانت صور بعض العناصر الإرهابية أول ما تقع عينه عليها فجاء في روايته «... كنت قد خرجت من محطة السكة الحديد لحظة وصولي إلی أسيوط إلی الميدان المواجه لباب المحطة، والذي تطل عليه المحطة في كل بنادر مصر تقريبًا، كانت جدران الميدان تغطيها صور، ليست صور المرشحين في آخر انتخابات، كما تعودنا أن نری، لأن هذه الصور تكون معها رموزها الانتخابية، كانت صورا مكبرة لأشخاص ملتحين، صور البطاقة مكبرة لرجال في صدر الشباب، والقليل منهم في منتصف العمر، وتحت كل صورة كلمة واحدة حمراء اللون وبخط غليظ: مطلوب، وتحتها سطران متساويان ببنط أصغر: من يبلغ عنه يحصل علي مبلغ مالي كبير، ومن يتستر عليه يعرض نفسه للعقوبة التي تصل إلی السجن.» (المرجع نفسه: 33) يمكن أن نطلق علی العقد السابع من القرن العشرين عقد الميلاد الفعلي للإرهاب في مصر، حيث شهد هذا العقد بداية الفكر الإرهابي وظهور الكثير من المنظمات الإرهابية التي قامت بالكثير من الجرائم الإرهابية في مصر ليس في صعيد مصر فقط بل في جميع أرجاء مصر، فنجد أن هذه العمليات قد ارتبط بتنامي التيار الجهاد الإسلامي في مصر، فنجد بعض أعضاء منظمة التحرير الإسلامي في 18 أبريل 1974 تقتحم مستودع الكلية الفنية العسكرية في القاهرة، واستولوا على أسلحة وعربيات، بقيادة صالح سرية بهدف اغتيال الرئيس محمد أنور السادات وبعض قيادات الجيش المصري التي عرفت فيما بعد بحادثة "الفنية العسكرية" ثم "حادثة التكفير والهجرة" في 3 يوليه 1977م، والتي قام بها أعضاء من مجموعة التكفير والهجرة التي بدأت بخطف الوزير المصري "محمد الدهبي" وانتهت بمقتله بعد عدم تنفيذ طلبات المجموعة، وتبلورت أكبر عملية إرهابية في مصر بمقتل الرئيس "محمد أنور السادات" في حادث "المنصة" في 6 أكتوبر عام 1981م، على أيد متطرفين مسلمين. (عامر: 2014) ويمكن أن نطلق علی ما سبق أهم الحوادث الإرهابية الشهيرة، حيث أن هناك الكثير من الحوادث الأخرى التي لم يسلط عليها الضوء في تلك الفترة، وقد شهد الصعيد بعض هذه الحوادث التي لم يسلط عليها الضوء أو يتناولها الإعلام وهي التي سردها "يوسف القعيد" في روايته "قطار الصعيد"، ومن تلك الحكايات حكاية "عنتر كامل مصطفى"، فمن هذه الحكاية التي أوردها "يوسف القعيد" ضمن حكايات وأحداث روايته يتضح لنا كيف تم انتشار الإرهاب بين أهل الصعيد وكيف كان الصعيد بيئة صالحة لانتشاره، فنجد إن الشاب "عنتر كامل مصطفى" مثل أغلب شباب الصعيد يتسم بالتدين وحفظ بعض أجزاء القرآن وإلا أنه بعد ارتباطه ببعض الشباب الصغار في مقتبل العمر أصبحت له سمات؛ خاصة الذقن والجلباب الأبيض القصير وكان "عنتر كامل مصطفى" يلازمهم في المسجد وكان أغلبهم من البندر ومن طلبة الجامعة، وكان حديثهم باسم الله وباسم الدين، وأُطلق عليهم اسم الشيوخ الصغار أو الشيوخ الأولاد، فقد حدد "يوسف القعيد" الطريقة التي يتم تجنيد الشباب بها وجذبهم وهي اللعب علی الوازع الديني لديهم، بحيث كان الدين هو المحرك والجاذب الأساسي لهؤلاء الشباب الصغار للدخول في الجماعات الإسلامية والتي اتخذت العنف والقتل منهجاً وطريقاً لتطبيق أفكارها والتي تنتهي في النهاية بتطبيق كلام الله، وبعد ذلك تحدث أحداث مهاجمة محلات الصاغة - كان أغلب محلات الصاغة ملك لتجار نصارى- من قبل الجماعات الإسلامية التي كانت تأخذ هذا الذهب ليشتروا به السلاح والإنفاق علی الجماعات وهذه الأحداث شهدتها مصر حتى فترة التسعينيات يصفها "يوسف القعيد" في روايته «قال الرواة إن هناك حمامات دماء، جماعات دينية هاجمت محلات صاغة، وأخذت ما فيها وباعوا الذهب لكي ينفقوا ثمنه علی الجهاد في سبيل الدعوة، وقيل إن عددًا من الشباب، ذوي الذقون الطويلة، حاولوا القيام بانقلاب وإعلان جمهورية منفصلة عن الدولة، ولكن المحاولة أحبطت.» (القعيد، 2009: 181) والجدير بالذكر أن الهجمات الإرهابية كانت تستهدف رجال الدولة ومن يقف مع الدولة ضد فكرهم مثل ما حدث في الحرم الجامعي في أسيوط ومحاربة قوات الأمن، والنصارى لكونهم ليس من أهل الإسلام وذلك كان سبباً مباحاً لمهاجمة محلاتهم خاصة محلات الصاغة، والسياح الأجانب لكونهم كفارًا فيذكر يوسف القعيد في روايته علی لسان الصحفي إحدی الحوادث التي حدثت في الصعيد من قبل الجماعات الإرهابية والتي توضح ذلك «... مجموعة من الإرهابيين، ارتدوا ملابس جنود، وركبوا القطار، وأوقفوه، وانزلوا منه رجال الشرطة والأغنياء من الصعايدة، وتغافلوا عن السياح باعتبارهم غرباء عن بر مصر.» (المصدر نفسه: 202)
تُعد ظاهرة الثأر من أكثر مظاهر العنف في صعيد مصر، وأكثر صور العنف انتشارا في الصعيد، وهذا يعود في أصله إلی عدة أسباب منها فكرة القبلية والتمسك بتقاليدها, والسبب الثاني متعلق بانتشار السلاح وتوافره في الصعيد وهذا كما أشرنا سابقًا كان بسب التغيرات التي طرأت علی الصعيد سواء كانت سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية وغض طرف الدولة عن ذلك سواء كان بقصد أو عن عمد، والسبب الثالث قلة التعليم وانتشار الجهل وعدم محاربة الأفكار والعادات السيئة، والسبب الأخير ضعف المعرفة بتعاليم الدين وعدم نشر العلوم الدينية بشكل سليم بين الناس مما يؤدي إلی إعلاء الأفكار والموروث علی تعاليم الدين. وفي حقيقة الأمر فإن ظاهرة الثأر مازالت منتشرة حتى يومنا هذا وأصبح الثأر علامة مميزة من علامات الصعيد، ولقد كان "يوسف القعيد" مدركاً وعلی وعي تمام بهذه الظاهرة وأسبابها وأثرها علی المجتمع، وحاول في روايته أن يبرزها ويسلط عليها الضوء في أكثر من موضع في روايته، بحيث أشار يوسف القعيد علی أن الثأر أصبح مثل عادة يومية أو حدث طبيعي من أحداث اليوم في الصعيد، فقد جاء في أحداث الرواية أثناء وجود الصحفي في "البداري" وقوع حالة ثأر بجوار المقهى الذي كان يوجد به الصحفي، ويصف "يوسف القعيد" تعامل أهل الصعيد مع حوادث القتل عامة والثأر علی وجه الخصوص والذي أصبح كروتين يومي أو شيء مألوف في حياة الصعيدي، فيقول: «ما أدهشني أثناء جلوسي علی المقهى، هو الطريقة التي يتعاملون بها من القتل هنا، لو أن هذا الحادث وقع عندنا في بحري لتوقفت الحياة منذ وقوع الجريمة، ولظلت متوقفة فترة من الوقت، إن مجرد العراك بين الجيران، أو الخناق حول الري يوقف الحياة طويلًا، فما بالك بالقتل، قتيلان في ليلة واحدة؟! كان الناس يتحدثون عن الموضوع كله، عن القتيلين والقاتلة كأن الموضوع جزء من حكاية كل يوم... .» (المصدر نفسه: 48-49) ولقد أكد ذلك "يوسف القعيد" في موضع آخر من روايته فقد جاء علی لسان الصحفي وصف حال الناس بعد حادث ثأر أمام المقهى فيقول: «بدأ الناس في الانصراف، ولكن بهدوء وفي صمت، كانوا يتعاملون مع حدث يقع كل يوم، لم تكن هناك دهشة في الأعين ولا استغراب علی ملامح الوجوه، ولا خوف ولا فزع، أو حتى إحساس بالرهبة.» (المصدر نفسه: 81) وعند استفساره عن سبب إطلاق الرصاص من "فرج" عامل النادي «– إرهاب وتطرف؟/ قال لي: لا/ - سرقة؟!/ حرك يديه علامة النفي، وعندما استفهم منه كل جزء من وجهي، قال لي:- حكاية كل يوم، لم يبد علي أنني فهمت ما يقوله، أوضح:- ثأر.» (المصدر نفسه: 81) ويركز "يوسف القعيد" علی إبراز خصائص الثأر لدی الصعيد، فهناك خصائص وإن جاز التعبير نقول مراسم خاصة بالثأر أوضحها وسلط عليها "يوسف القعيد" الضوء في روايته، ومن أول هذه السمات أن الثأر لا يؤخذ من امرأة، ذكر "يوسف القعيد" ذلك في روايته قائلًا علی لسان أحد الجالسين علی المقهى «... قال إن القاتل حرمة، ولذلك لن يكون هناك ثأر منها، ولا يمكن لرجل أن يقتل حرمة طلبا للثأر، قد يقتلها لغسل عاره، أو تصحيح خطأ وقعت فيه، أما القتل من أجل الثأر فمن المستحيل أن يحدث.» (المصدر نفسه: 49) السمة الثانية أن الثأر يؤخذ ولو بعد جيل أو جيلين فقد جاء علی لسان "فرج" عامل نادي الموظفين عن الشباب الذين قتلوا رجلًا أمام المقهى في حادث الثأر قائلًا: «... إن هؤلاء الشباب، أخذوا بثأر جدهم، الذي قتل قبل أن يولدوا، ولأن والدهم مات من الحسرة علی أبيه، وكانوا هم أطفالًا في ذلك الوقت، كانوا في اللفة يرضعون، فقد كانت أول هدية لكل منهم بندقية، وكانت المهمة التي يعدون لها هي الثأر.» (المصدر نفسه: 81-82) وعليه فالثأر ظاهرة عنف مازالت باقية حتی يومنا الحالي تحتاج الكثير من السعي لتجنبها سواء من قبل الناس والنخبة المثقفة من أهل الصعيد أو من جانب الدولة بكل أجهزتها ومؤسساتها لتجنب هذه الظاهرة السيئة في صعيد مصر.
تعد قضية الفتنة الطائفية من المشكلات الشائكة في المجتمع المصري، وموضوع ذو حساسية كبيرة في المجتمع المصري، وتحركت نار الفتنة بين المسلمين والنصاري في مصر بداية الستينيات وتأججت ووصلت إلی ذروتها في فترة السبعينيات، وكان صعيد مصر مسرحاً لبعض أحداث الفتنة بين المسلمين والنصاري في مصر، ومن الأحداث التي حدثت في صعيد مصر هي محاولة تأسيس دولة مسيحية في صعيد مصر تكون محافظة أسيوط هي عاصمتها وباقي محافظات الصعيد تصبح باقي أجزاء الدولة المسيحية، كما أن نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات شهدت أقوی صراع بين الدولة وعلی رأسها الرئيس محمد أنور السادات والكنيسة في مصر والتي كان يمثلها البابا شنودة حتى وصل الأمر لعزل البابا شنودة من منصبه، وهذه الأحداث وتتابعها المستمر بالإضافة لظهور الجماعات الإسلامية والفكر التكفيري والذي ساعد علی إضفاء المزيد من التعقيد في قضية الفتنة الطائفية في مصر وخاصة في الصعيد. وكان "يوسف القعيد" صاحب رؤية خاصة فيما يخص قضية الفتنة الطائفية وقدرته علی استيعاب القضية ومهارة عرضها داخل الرواية فقد ركز "يوسف القعيد" في روايته أولًا على توضيح الشخصيات المسيحية ومزجها داخل الرواية وكأنها طرف ثانى متساوى مع باقي الشخصيات فنجد شخصية مدير التحرير مسيحي ولم يذكر اسمه، ونجد السيدة التي قتلت رجلين مسيحية واسمها "مريم" وزوجها القتيل مسيحي واسمه "شمشون جرجس عبد المسيح" وشخصية أحد الصاغة في حكاية "عنتر كامل مصطفي" مسيحي واسمه "المقدس محب"، كما أن "يوسف القعيد" كان يدرك جيدًا حجم القضية وأبعادها؛ لهذا كانت قضية الفتنة الطائفية هي الحكاية الأساسية وصلب الرواية التي تدور حوله باقي الحكايات، بحيث كان الحدث الرئيس للرواية والدافع الأول لسفر الصحفي ورحلته للصعيد سببها الأول حادث قتل قامت بها سيدة مسيحية تدعی "مريم" وقتلت زوجها "شمشون جرجس عبد المسيح" وهو رجل مسيحي وعشيقها المسلم وهو "أحمد معاطي"، وكأن "يوسف القعيد" يحاول أن يضفي قضية القتل بعد قضية الفتنة الطائفية ويحاول أن يجعل المشاركة بين الطرفين حتى في قضية القتل، وكذلك نجد أن "يوسف القعيد" يوضح مدی حساسية العلاقة بين المسلمين والنصاری في فترة السبعينيات فيشير في الرواية إلی ذلك عند وجوده في نادي الموظفين في مركز "البداري" بأسيوط وتنبيه "الأستاذ مجلي" لذلك فقد جاء في الرواية علی لسان الصحفي «... ونبهني إلی ضرورة الاهتمام بمعرفة ديانة كل من يقابلني، وعندما قلت له إنني لا أهتم بذلك الأمر الذي أعتبر أن الاهتمام به من الأمور المتخلفة التي تعود إلی نظرة متعصبة ضيقة، وأن روح العصر تخطت هذه الأمور، قال إن الأمر سهل، علي فقط الاهتمام بالأسماء، أن أطلب من كل إنسان أن يقول اسمه رباعيا أو ثلاثيا، وسأعرف ديانته من اسمه...» (المصدر نفسه: 63) فهذه الطريقة في التفكير تدل علی مدی الحساسية التي كانت موجودة في المجتمع بين المسلمين والنصاري ونفس الأمر نجده يحدث بين مدير التحرير والصحفي في نهاية الرواية عند اختيار موضوع المرأة التي تدعی "قمرية" والتي قامت باغتصاب رجل فقد جاء في الرواية « توقف وسألني: قمرية اسم مسلمة أم مسيحية./ قلت له صادقًا إنني لا أعرف، كان مسيحيًا متعصبًا لكل ما هو مسيحي، وحاول أن يبدو غير مهتم بهذه الحكاية، مع أنها كانت جوهر الاهتمام... .» ( المصدر نفسه: 205-206) أما عن الأمور التي ساعدت من وجهة نظر "يوسف القعيد" علی اشتعال الفتنة الطائفية في مصر يمكن أن نقسمها إلی سببين رئيسيين؛ أولهما سياسة الدولة ومنهجها ونظرتها للقضية فقد جاء علی لسان "الأستاذ مجلي" أنه قال في حديثه للصحفي: «قال إن المشكلة تكمن فيما يقولونه في مصر، أدركت أنه يقصد القاهرة، قال إن رئيسكم المؤمن منذ أن قال عنصري الأمة قسمنا إلی عنصرين، لكنه تناسی أن يحدد ما هو النصف الحلو ومن يبقی العنصر المالح، ثم عاد يقول الفتنة الطائفية فحولنا إلی طائفتين، وإن كان قد رفض الاعتراف بالطائفة المنتصرة، وشعاره زبيبة الصلاة، وكان هو أول من رباها، وكل منتصر لا بد له من مهزوم، يقول نسيج الوحدة الوطنية وليس وحدة الوطن، مع أن هذا النسيج عمره أربعة عشر قرنا، وقد أصبح قديما متآكلا، ليس بسبب العته، ولكن بفعل مرور الوقت وتقدم الزمان.» (المصدر نفسه: 56) وهذا يوضح كيف كانت تتعامل الدولة مع قضية الفتنة الطائفية وأوضاع النصاری في مصر في فترة السبعينيات، وكذلك كان دور التعامل الإعلامي والصحفي والأجهزة الأمنية لقضية الفتنة الطائفية وهذا ما أكد عليه "يوسف القعيد" في الرواية في التعامل مع قضية قتل السيدة المسيحية "مريم" لزوجها وعشيقها فقد جاء بالرواية «وجدتني أعوم في بحر من الحكايات، ذهبت إلی المأمور، وبعده قابلت وكيل النيابة، وكان الرد في الحالتين واحدًا : صدر قرار بحظر النشر/ سألت:ولم؟!/ قالا: لحساسية الموضوع/ -حادث قتل/ قال المأمور: لا تنس أن القاتلة مسيحية والقتيل مسلم/ قلت: ولكن هناك قتيلًا آخر مسيحيًا/ قال وكيل النيابة: الحكاية متشابكة ومعقدة، وتثير الكثير من الأمور السخيفة/ تعب المأمور من مناقشتي، فقال: أرجوك، جنب مصر الويلات/ استفهمت منه قال لي: باب الطائفية يفتح بالمصادفة، بحادث عابر، ولكن يصبح من المستحيل إغلاقه./ قلت له: ذلك أكبر تبسيط للأمور، ومن قال إن الحكاية تجري هكذ.» ( المصدر نفسه: 132-133) أما السبب الثاني فهو التطرف والتعمد في مهاجمة النصاری من قبل الجماعات الإرهابية في صعيد مصر ومنها أحداث الهجوم علی الكنائس واستمرت هذه العمليات حتى وقتنا هذا ولكن بصورة متباعدة وليست مستمرة ومتتالية مثل فترة السعيبنيات حتى التسعينيات وكذلك الهجوم علی محلات الصاغة التي أغلبها في الأساس للنصارى وهذا جسده "يوسف القعيد" في روايته في شخصية "المقدس محب" صاحب محل الذهب الواقع أمام محل بقالة "عنتر كامل مصطفی" الذي انتمی إلی جماعة إرهابية تكفيرية، فقد عبر "يوسف القعيد" عن قلق وخوف النصاری من أصحاب هذه الجماعات الإرهابية والمنتمين لهم ومنهم "المقدس محب" الذي جاء تعامله مع "عنتر" بالخوف والقلق بداية من انتماء عنتر للجماعة الإرهابية، «وعندما كان عنتر يحرق صور الفنانات خرج المقدس محب وضرب كفًا بكف، قال إن عبادة الرب أمر بينه وبين الإنسان، لا يجب أن يشعر بها أحد، وإن كان لم يقل إن ما يقوم به عنتر لا مبرر له... .» (المصدر نفسه: 173) ومن صور الخوف والقلق لدی "المقدس محب" من "عنتر" ورفاقه من الشباب ما جاء في الرواية فيصف "يوسف القعيد" حالة الخوف التي كانت تسيطر علی "المقدس محب" قائلًا: « كان المقدس محب يتصرف وكأنه لايری عنتر، وكان قد امتنع عن الحديث عن أي أمر من أمور عنتر، كأنه لا يراه، ولا يسمعه، ولا يشعر بوجوده، ما إن بدأ الشباب يترددون علی المحل، حتی بدا المقدس محب وكأنه قد ركبه العصبي، غير المقدس محب زجاج باب محله، أحضر نوعًا غريبًا من الزجاج، لم يره أحد من قبل في البندر ولا في البنادر المجاورة، قال إن ثمنه غال، قريب من أسعار الذهب، يمكن المقدس محب من رؤية من هو خارج المحل، ولكن الذي من الخارج لا يري من بالداخل أبدًا، ولا حتى بأحدث نوع من النظارات المعظمة.» (المصدر نفسه: 176)
النتيجة تتيح الرواية بسماتها المتميزة والمتعددة الفرصة للكتّاب لتشريح المجتمع بشكل أفضل وتسليط الضوء على بعض الظواهر والقضايا الاجتماعية، ولقد استغل "يوسف القعيد" سمات الرواية للكشف عن ظاهرة العنف في صعيد مصر ووضح من خلال الرواية أهم عوامل انتشار العنف في صعيد مصر في فترة السبعينيات والتي تتمثل في ست نقاط أساسية، هي: تهميش الدولة للصعيد وأهله وثانيها انتشار السلاح بكثرة في صعيد مصر وثالثها السياسات العامة للدولة وتوجهاتها السياسية التي تنعكس بشكل مباشر وغير مباشر على واقع الصعيد ورابعها الحالة الاقتصادية الصعبة التى يعيشها أهل الصعيد، خامسها العادات والتقاليد السيئة التي يتمسك بها أهل الصعيد وآخرها عزلة الصعيد عن الشمال والاحتكاك مع الغير لإحداث فارق حضاري، كما أن الرواية عكست صور العنف في ثلاث صور أساسية جميعها مرتبط ومتلاحم بعضها مع بعض؛ كأنها دائرة من العنف كل جزء منها يؤدي إلى الأخرى، أولها الإرهاب الذي استغل عزلة الصعيد وفقر الأوضاع وكثرة السلاح والتهميش الثقافي لأهل الصعيد في تثبيت جذوره لفترات طويلة داخل الصعيد وهذا النوع من العنف استغل أيضا البعد الديني لأهل الصعيد في انتشاره، والصورة الثانية وهي الثأر والذي يقوم في الأساس على فكرة القبلية المنتشرة في صعيد مصر حتى الآن فهذه الصورة من صور العنف ترتبط بالعادات والتقاليد بشكل أساسي، أما الصورة الأخيرة في الفتنة الطائفية التي وصلت إلى ذروتها في فترة السبعينيات ويرى يوسف القعيد أن السبب الرئيس فى ذلك هو تعامل الدولة مع القضية والسبب الثاني هو انتشار التطرف الدينى المرتبط بالفكر الإسلامى المتشدد الذي انتشر في تلك المرحلة في صعيد مصر.
[1] ـ دراسة موتيف الأرض في رواية "الحرب في برّ مصر" ليوسف القعيد | ||
مراجع | ||
الأسود، السيد. (2013). الدين والتصور الشعبي للكون (سيناريو الظاهر والباطن في المجتمع القروي المصري). القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب.
حسن، زينب هادي وريهام جلال ستار. (2016). «أشكال العنف وصوره في أدب نوال السعداوي». مجلة كلية التربية الإسلامية. المجلد 22. العدد 96. صص 92-65
حسيني اجداد، سيداسماعيل و شهرام دلشاد. (1396). «بررسي موتيف "ارض" در رمان "الحرب في بر مصر" از يوسف القعيد (دراسة موتيف الأرض في رواية الحرب في برّ مصر ليوسف قعيد(». مجله نقد ادب معاصر عربي. دوره 7. شماره 13. پياپي 15. صص 195-175
زحاف، آمال. (2016). تجليات العنف في رواية "سيدة المقام" لواسيني الأعرج، دراسة ظاهراتية موضوعاتية. رسالة ماجستير. الجزائر: جامعة العربي بن مهيدي، أم البواقي.
الشوابكة، سمية. (2013). «الميتاقـص تجريبـاً روائيـاً - قـراءة في أعمال الروائي المصـريّ يوسف القعيـد: الحرب في برّ مصر ويحـدث في مصر الآن وثلاثيـة شكاوى المصريّ الفصيح». مجلة جامعة النجاح للأبحاث (العلوم الإنسانية). المجلد 27 (3). صص 666-639
طه، فرج عبدالقادر، والآخرون. (1993). موسوعة علم النفس والتحليل النفسي. الكويت: دارسعاد الصباح.
عامر، عادل. (2014). تاريخ الإرهاب في مصر. موقع ديوان العرب
عبدي، صلاح الدين. (2019). «دراسة صور العنف السیاسي في روایات نجیب الكیلاني روایة لیالي تركستان نموذجاً». مجلة دراسات الأدب الإسلامي. المجلد 1. العدد1. صص 80-57
عزالدين، خالد. (2010). السلوك العدواني عند الأطفال. عمان: دار أسامة.
العنزي، سعاد عبدالله. (2010). صور العنف في الرواية الجزائرية المعاصرة. الكويت: دارالفراشة.
فرهنگ، نسيم. (1393). ترجمه و نقد و بررسی داستان قطار الصعید اثر یوسف القعید. رسالة ماجستير غير منشورة. طهران: جامعة آزاد الإسلامية.القعيد، يوسف. (2009). قطار الصعيد. القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب/ دار الشروق.
مرتاض، عبدالملك. (1998م). في نظرية الرواية (بحث في تقنيات السرد). الكويت: عالم المعرفة.
| ||
آمار تعداد مشاهده مقاله: 1,949 تعداد دریافت فایل اصل مقاله: 306 |