تعداد نشریات | 418 |
تعداد شمارهها | 10,003 |
تعداد مقالات | 83,617 |
تعداد مشاهده مقاله | 78,293,838 |
تعداد دریافت فایل اصل مقاله | 55,348,002 |
صور السّخرية الکاريکاتيريّة عند أبي دلامة | ||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
إضاءات نقدیة فی الأدبین العربی و الفارسی | ||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
دوره 11، شماره 44، خرداد 2022، صفحه 97-115 اصل مقاله (209.01 K) | ||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
نوع مقاله: علمی پژوهشی | ||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
نویسندگان | ||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
مریم رعنایی پور* 1؛ عنایت الله فاتحی نژاد2 | ||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
1دکتوراه في اللغة العربیة وآدابها، فرع طهران مرکزی، جامعة الآزاد الإسلامیة، طهران، إیران | ||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
2أستاذ مشارک في اللغة العربية وآدابها، فرع طهران مرکزی، جامعة آزاد الإسلامية، طهران، إيران | ||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
چکیده | ||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
إنّ الصور البصريّة لها قيمة کبيرة في المشاهد الشعريّة. الصورة الکاريکاتيريّة هي صورة بصريّة تستهدف نقد المجتمع عبر تشويه للصورة الموجودة للواقع وتضخيم عيوبه لکي تهاجم بطريقة غير مباشرة علی الواقع الذي غير قادر علی تلبية متطلبات المجتمع واحتياجاته. لهذا، يعدّ الکاريکاتير من أهمّ وسائل التعبير وأکثرها قوة علی التأثير والنفاذ في ذهن المتلّقي. وبما أنّ الصور الکاريکاتيريّة تبطن عادةً السخرية المريرة اللاذعة، کانت نتيجة هذا المزج المتشابک لوناً بديعاً في الشعر يسمّی السّخرية الکاريکاتيريّة. فالسّخرية الکاريکاتيريّة هي نسج فنيّ مبتكر يجمع الجدّ والفکاهة بطريقةٍ بارعةٍ حيث یختلط الجدّ والفکاهة اختلاطاً يزيل الفواصل بينهما هادفةً إلی دفع النّاس ليصيبوا کبد الحقيقة عبر تصوير إعوجاج الحياة وتضخیمه. فهذا اللون من البيان، يفرض صوراً جديدة بارعة في البنية الشعريّة تتضاعف حاجتنا الماسّة إلی دراسته. وبما أنّ أبا دلامة، الشاعر العبّاسي الشهير، مشهور في المحافل بشاعر السخريّة الکاريکاتيريّة، فهذه الدراسة، معتمدة علی المنهج الوصفيّ-التحليليّ في عرض المادة ونقدها، تهدف إلی إبراز صور السّخرية الکاريکاتيريّة، من خلال أشعار أبي دلامة. وأخيراً وصل البحث إلی أنّ السخرية الکاريکاتيريّة تشكّل خصوصية متفردة لأشعار أبي دلامة. فأصبح هذا النمط، في شعره، إلی جانب الفکاهة والظرف، آليةً دفاعيّةً يستغلّها الشاعر لمواجهة النقائض الاجتماعيّة الموجودة في المجتمع ومحاربة اعواجها ومكافحة سلبياتها حتّی ولو تجاوز الخطوط الحمراء في بعض الأحيان. | ||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
کلیدواژهها | ||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
السّخرية الکاريکاتيريّة؛ أبودلامة؛ الشعر العباسيّ | ||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
اصل مقاله | ||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الشعر جنس من التصوير وهو شبیه بالرسم، والشاعر کالرسام يقدّم المعنی تقديماً حسيّاً، عن طريق المشاهد التي يرسمها علی اللوحة ليتلقاها المشاهد تلقيّاً بصريّاً مباشراً. و«تستعمل کلمة الصورة للدلالة علی کلّ ما له صلة بالتعبير الحسيّ، وتطلق أحياناً مرادفة للاستعمال الاستعاريّ للکلمات.» (مصاروه، 2008م: 4) فالصورة هي إبداع ذهنيّ ونسيج متميّز للشاعر. فهي، في الواقع، جوهر الشعر وأهمّ وسائط الشاعر في نقل عواطفه ومشاعره إلی القارئ بصورة أکثر اتضاحاً. لقد نالت الصورة الشعرية عناية فائقة في الشعر منذ قدیم الأزمان. الصورة الشعرية هي جوهر الشعر ورکنه الأساس وهي وسيلة الشاعر الرئيسة للتعبير عمّا يختلج في داخله، بحيث يُقاس نجاح الشاعر بمدى قدرته على تشييد الصورة الشعرية ودقة معانيها، ولطافة تخيّلها وملاحة ديباجتها. و«من أهمّ أسباب نجاح الصورة في تأديتها لوظيفتها، اشتمالها علی الدّفق العاطفيّ، الذي يمنحها حرکة وإحساساً نابعين من الاندماج والتوحيد بين الشکل والمضمون.» (دريباتي، 2016م: 80-81) السخرية هي لون أدبيّ له أهمية کبيرة في خلق الصورة الشعريّة. فقد زخر الآداب، وخاصة الأدب العربي، بألوان السخرية والفکاهة. والمراد من السخرية هو «نوع من التأليف الأدبيّ أو الخطاب الثقافيّ، الذي يقوم علی أساس الانتقاد للرذائل والحماقات والنقائص الإنسانيّة، الفرديّة منها والجمعيّة. فالساخر يرصد ويراقب ما يجري من أخطاء، ويستخدم وسائل وأساليب خاصة في التهکّم عليها، أو التقليل من قدرها، أو جعلها مثيرة للضحک.» (الضمور، 2010م: 16) إنّ الصورة الکاريکاتيريّة هي فنٌ له ارتباط وثيق وعلاقة وشيجة بالسخرية، بحيث يعُدُه بعض النقاد وجهاً آخر للهجاء الساخر. فالکاريکاتير هو فن الإضحاک بالتضخيم بهدف الانتقاد والسخرية. إنّها فنٌ صعبٌ لا يبرع فيه سوی الأكفاء من الشعراء القادرين علی خلق الرسوم بشكل مناسب. ومنذ انتشر دويّ هذا النوع من البيان؛ لقد أثّر هذا الأسلوب علی الصور الشعريّة، وتلاقي الإقبالُ المتزايد عليها منذ انتشارها وأصبح أسلوباً تعبيريّاً حديثاً لكثير من الشعراء في إنشاد أشعارهم وخاصة في العصر العبّاسي. و«حتّی الهجاء تغيّر لونه في هذا العصر، وعُرف الهجاء الکاريکاتوريّ الممسوخ، وحمل في طيّاته معاني التحقير والتصغير والسخرية المريرة،» (مروة، 1990م: 42) لأنّ کلّ صور کاريکاتيريّة تنطوي بالضرورة علی الهجاء. وعلی أية حالة، فإنّ الصور الکاريکاتيريّة فهي قويّة التأثير في القارئ بما تحمله من رموز وإيحاءات. إنّ أبا دلامة مشهور في المحافل بشاعر السخريّة الکاريکاتيريّة، فهذه الدراسة تهدف إلی إظهار صور السّخرية الکاريکاتيريّة، من خلال أشعار الشاعر، وتبيين مکانتها وإبراز فنيتها. خلفية البحثوفي سياق هذه الدراسة الرامية إلی صور السّخرية الکاريکاتيريّة عند أبي دلامة، فقد سبقتها دراساتٌ عن موضوع الصور الکاريکاتيريّة، وجمعت بين النظرية والتطبيق،. وهناك دراسات تمّت بصلة للموضوع من أحد جوانب، نذكر منها: لیلا جمشیدی (1391ش)، الهجاء الکاریکاتوری فی شعر أعلام شعراء العصر العباسی (مثل: بشار، دعبل، أبی نواس، ابن الرومی، المتنبی، جامعة أصفهان. فالکاتبة تعتقد أنّنا نجد فی هجاء العصر العباسی لوناً تصویریاً ساخراً یکاد یختلف اختلافاً تاماً عن صوره الکلاسیکیه و معانیه المرذوله و یطلب دراسه واعیه مستقله؛ حیث یشتمل علی کثیر من عناصر فن الکاریکاتور أو الرسم الساخر، و یکون قادراً علی استبطان دوافع الشاعر ومشاعره بشکل مهذب ولطیف، ویستهدف التعبیر والتعلیق علی الآراء و الأفکار والأحداث فی شتی المجالات بطریقه ساخره یعمد فیها الشاعر إلی نقد الواقع بشیء من الطرافه والمبالغه. فقد أخذ هذا اللون من الهجاء مکانه فی الأدب العباسی وفرض نفسه کبدیل أصیل لما نعرفه الیوم بفن الکاریکاتور أو الرسم الساخر ولهذا استوجب الرغبه فی اختیار تسمیته بالهجاء الکاریکاتوری. عزة محمّد رشاد علی سرج (2020م) فن الصورة الكاريكاتيرية في الأدب العربي حتى نهاية القرن الرابع الهجرى، مجلة البحث العلمي في الآداب. الکاتب يعتقد أنّ طبيعة العصر العباسيّ ألقت بظلالها على أصحاب الصور الکاريکاتيريّة اللفظية، فکانوا أصحاب صنعة شعريّة جافت التعقيد، ومالت إلی الوضوح والبساطة، وکرهت الألفاظ الغريبة المعقدة، کما تعدّدت وتنوّعت الأساليب التي ساعدت علی رسم الصور الکاريکاتيريّة الضاحکة والکشف منها بوضوح ومنها الأسلوب الساخر. ليلا جمشیدی و عبدالغنی ایروانی زاده (1393ش) الهجاء الکاريکاتوري في شعر دعبل الخزاعي، فصلية السان المبین. يعتبر الباحثان الهجاء الکاريکاتوريّ في شعر دعبل بنية متکاملة الشکل والمحتوی، استخدمه الشاعر کأسلحة لمواجهة الضغوط التي تهدده وللتعبير عما يعتريه من المشاکل والهموم، معتمداً علی القيّم الجماليّة والخياليّة في فن الکاريکاتور کالمبالغة والسخرية. فقد اختارت الدراسة شعر أبي دلامة كعينة قصديّة للبحث لأنّ الشاعر مشهور في الأوساط الأدبية بالسخريّة وإنّ المتأمّل في أشعار الشاعر يلمس الحضور الفاعل للصور الکاريکاتيريّة ووظائفها، ويدرك أهمّيتها في تشكيل بنية الشعر في ديوان أبي دلامة. والهدف الرئيس من هذا البحث هو دراسة صور السّخرية الکاريکاتيريّة عند أبي دلامة، لهذا، اعتمدت الدراسة علی المنهج الوصفي-التحليلي الذي يکون أنسبَ المناهج التي تتلاؤم مع طبيعة وأهداف البحث. أسئلة البحث إنّ محور هذه الدراسة هو محاولة الإجابة عن أهمّ التساؤلات في صور السّخرية الکاريکاتيريّة في أشعار أبي دلامة. فهناك أسئلة متعدّدة تفرض نفسها في هذا السياق، منها: 1- ما هي صور السّخرية الکاريکاتيريّة عند أبي دلامة؟ 2- لماذا لجأ الشاعر إلی الصورة الکاريکاتيريّة؟ 3- كيف يتمّ توظيف الصور الکاريکاتيريّة في أشعار أبي دلامة؟ فرضیات البحث 1- يمکن تقسیم صور السخرية الکاريکاتيرية في شعر أبي دلامة، إلی ثلاثة أقسام: السّخرية الکاريکاتيريّة من النفس، السّخرية الکاريکاتيريّة من أفراد العائلة والسّخرية الکاريکاتيريّة من الأشخاص الآخرين. 2- أصبحت، السخرية الکاريکاتيريّة في أشعار أبي دلامة، إلی جانب الفکاهة والظرف، آليةً دفاعيّةً يستغلّها الشاعر لمواجهة النقائض الاجتماعيّة الموجودة في المجتمع ومحاربة اعواجها. 3- أبو دلامة حاول أن يخلق صوراً کاريکاتيريّة بديعة بمساعدة إطالة بعض أجزاء الصورة وتضخيمها في بعض الأحيان. الصورة الکاريکاتيريّة ووظائفها في أهمية الصورة في تشکيل البنية الشعريّة يمکننا أن نقول إنّه «تؤدّي العين بطاقاتها البصريّة دوراً بالغ الأهمية في تحریض الحواس الأخری وتفعيلها، إذ تتوافر علی طاقة فعالة من الإثارة والجاذبية بحیث لا يتوقف أداؤها عند حدود مسح المناظر التي تعترض العين، بل يمتدّ نشاطها إلی التقاط إیقاع الصور علی مساحة اللوحة، وإیقاع الکلمات علی المساحات الخياليّة للورقة، علی النحو الذي يعکس حاسية خاصة تنتجها کثافة التعبير القرائي البصريّ الذي تمارسه العين.» (النورج، 2015م: 157) وقبل التطرّق إلی رصد المفاهيم المختلفة التي تعرضت للهجاء الکاريکاتيريّ في دیوان أبي دلامة، فإنّنا نشير إلی تعريف مصطلح الکاريکاتير. إنّ الکاريکاتير کلمة معرّبة عن أصل إیطاليّ وهو «فن ساخر من فنـــون الرسـم، وهو صورة تبالغ في إظهار تحريـــف الملامح الطبيعيـــة أو خصائص ومـُميزات شخص أو جسٍم ما، بـهدف السخرية اأو النقد الاجتماعي والسياسي.» (العجلاني، 2013م: 1) وأيضاً جاء تعريفٌ آخر يری بأنّه «الكاريكاتير فن ساخر، ناقد لوضع اجتماعيّ أو سياسيّ، وهو تحريف لمظهر عن أساسه وخصائصه مع فکرة تعتمد علی سرعة البديهة والذکاء في الوصف التصوري، مع نظرة سخريّة.» (آل زائد، 2012م: 18) فالتصوير الكاريكاتــيريّ «هو وضع الشخص في صور مضحکة، کالمبالغة في وصف عضو من أعضائه، ومحاولة تشويهه، بالتهکّم من ضخامة جسمه أو نحافته، أو قصر القامة أو طولها، وملامح الوجه کالأنف، والفم، وغيرها.» (الضمور، 2010م: 67) فهو فنّ ساخر وصورة خياليّة مشوهة مبالَغ فيها إلی أقصی الحدود خارجٌ عن حدود إطار النسق الهندسيّ النمطيّ المألوف و«رسالة من الفنّان المتلّقي في سياق مشترک قائم علی بنيّة الواقع الذي يعيشانه معاً.» (عبدالتواب، 2018م: 9) ويأتــي من وظائف الصورة الكاريكاتــيريّة أنّها تعتنـي في المقام الأول بطـــرح الكثير من القضايا والـمشكلات الاجتماعية التي يعاني منها أبناء المجتمع في مـختلف جوانب الحيــاة ومعالجتهــا. وفي المقام الثاني، الصورة الکاريکاتيريّة هي «قادرة بشکل فعّال على ترفيه القارئ وتسليته، لاسيما في المسائل الاجتماعيّة والسیاسية.» (الطوبـجي، 1987م: 106) وربّما لا نبالغ ولا نخرج عن جادة الصواب إذ قلنا إنّ السخرية وطدّت لدی أبي دلامة فنّاً بديعاً، هو الهجاء الکاريکاتوريّ، الذي للشاعر باع طويل فيه. أبو دلامة وفن السّخرية الکاريکاتيريّة هو أبو دلامة زَنْد بن الجَون، اشتُهرَ باسم أبي دلامة نسبةً إلى اسم ابنته التي كانت تُدعى: دلامة فكُنِّي بها. يمتّ بنسبه إلی بني أسد، ولد وترعرع في الکوفة، في أواخر القرن الهجريّ الأوّل، أو أوائل القرن الهجريّ الثاني. ونشأ أبو دلامة في عائلة وضیعة فقيرة، وقد نصت بعض مصادر ترجمته على أنه لم يكن له في أيام بني أمية نباهة، ولكنه نبغ في أيام بني العباس، فانقطع إلى السقاح، والمنصور، والمهدي، وكانوا يقدمونه، ويفضّلونه، ويستطيبون نوادره، وانقطع أيضاً إلی روح بن حاتم المهلّبي في بعض أيّامه. بحيث «لا يُذکَر ظرفاء العرب إلا وأبو دلامة في مقدمتهم، وهو عند بعضهم "أظرف الظرفاء"، ولا يختار باحث مجموعة من النوادر التراثيّة الظريفة دون أن يجعل فيها بعضاً من نوادر أبي دلامة، ولا يجمع کاتب أشعاراً في الدعابة المستملّحة، والهجاء الظريف، وخاصّة في هجاء الذات والأقرباء إلّا و يجعل فيها شيئاً من شعره.» (أبودلامة، 1994م: 7) وإنّه «تطالعنا الفکاهة والسخرية المبثوثة في ثنايا ديوانه وشظايا أخباره المتناثرة عن حصيلة من التجاوزات المنفلتة، تعرض الشاعر أبا دلامة في صورة الساخر المتذمر المستهتر، الذي کبلته قيود الصلاة، وأرهقته أثقال الصوم، وحاصرته مشقة الحج في لوحات تشع بألوان من المرح والتي غالباً ما تختم بالضحک الممزوج بالرضا عنه.» (هلال، 2018م: 115) فإنّ أبا دلامة، يعدّ هو الشاعر المهرج، والضاحك المضحك، وكان نموذج للشعر الشعبي، الذى يكتب عن الواقع، لأنّه كتب عن حاله مع والديه وزوجته وابنته. فالشاعر معروف في الوسط الأدبي بأنّه من الشعراء الساخرين. وهذا القالب الذي وضع فيه شعره اتخذه فيما بعد الشاعر الكبير ابن الرومي حذواً يتبعه. (الشکعة، 1997م: 413) فقد اشتهر الشاعر أبو دلامة بالنوادر والفكاهة وكثرت قصصه وحكاياته مع الخلفاء أبي العباس السفاح وأبي جعفر المنصور والمهدي. فـ«حينما ندخل العصر العباسي تتغير عقلية العصر فتتغير مظاهر الحياة، ويتطلّب ذلک شکلاً آخر من اللغة وأسلوباً جديداً من التعبير. لم يکن ذلک الشکل والأسلوب إلّا الفکاهة واستعمال طابع ساخر في الأدب.» (طالبی قره قشلاقی والآخرون، 1391ش: 3) أمّا بالنسبة إلی هدف لجوء الشاعر إلی هذا الفن (السّخرية الکاريکاتيريّة)، يمکننا القول إنّ التکسّب بالمال هو السبب الرئیس لهذا الأمر. ولکنّ أبا دلامة «لم يکن يتصيد العطاء مالا فحسب، ولکنّه کان يلب کلّ ما يحتاج إليه الإنسان، ولا يتورع عن السؤال وکشف سوء حاله في ذلة وخضوع أمام خليفة أو أمير، أو أي فرد يحس حاجة إليه، وکان في سبيل هذه الغاية يسخر حتّی من نفسه ومن أفراد أسرته.» (مصطفی، 1970م: 151) وإثارة الضحک والتخلص من المأزق هما سببان آخران من أسباب السخرية لدی الشاعر، فإنّ أبا دلامه اشتهر بفكاهته ونوادره في زمنه. وهذا ما نجده في أشعاره عامةً وشعر السخريّة الذي تناولناه في هذه الدراسة علی وجه الخصوص. أمّا إذا أمعنا النظر في زمن الشاعر وحياته، نجد أنّه اختار هذا الوجه من أجل الخلاص من أثقال واقعه المرّ ووضعه البائس المفروض عليه فرضاً. «فهو في حقيقته الماثلة للعيان لا يعدو کونه مجرد عبد وضیع ذي بشرة سوداء ونسب غير معروف، وزاد علی ذلک دمامة منظره وفقره، ممّا جعله في موقف لا يحسد عليه، وکلّ ذلک دفعه إلی أن يبحث عما يتميّز به، ويحببه إلی أفراد المجتمع.» (هلال، 2018م: 110) فقد غلب اللون الساخر والفكـاهي على شعر أبي دلامة الذي استهدف به بعض خاصة الدولة، وترک آثاراً واضحة في إبداعاته الشعريّة وتأخذ مساحة واسعة من التشکيل الفني عند الشاعر أبي دلامة. فيما يلي نشير إلی أهمّ ملامح وظواهر هذه السخرية في ديوان الشاعر. وقد تنوعت مجالات السخرية وموضوعاتها في أشعار أبي دلامة ويمکن أن نقسمها إلی ثلاثة أقسام: السّخرية الکاريکاتيريّة من النفس، السّخرية الکاريکاتيريّة من أفراد العائلة والسّخرية الکاريکاتيريّة من الأشخاص الآخرين. السّخرية الکاريکاتيريّة من النفس السّخرية الکاريکاتيريّة من النفس من أهمّ أنواع السخرية في أشعار أبي دلامة. فهو يسخر في غير موضعٍ من أشعاره من النفس ودور السخرية هنا يکمن في خلق الاستغراب لدی المتلّقي وذلک باستخدام سخرية ذاتيّة لاذعة تجعله يستغرب الواقع المألوف الذي يعرفه. وقد عُرِف أبو دلامة باستخدام السخرية في صوره الکاريکاتيريّة لأجل التخلص من موقفٍ صعب، إذ يروى أنّ الخليفة المهدي أصرّ عليه أن يهجو أحداً ممن كان في حضرته وإلاّ قتله أو قطع لسانه، وحاول الحضور مساعدته، فكلّما وقعت عينه على واحد منهم غمزه بأنّ عليه إرضاءه، وفي نهاية الأمر خضع لإرادة الخليفة وآثر أن يسخر من نفسه على أن يسخر من غيره درءاً للخطر، فجعل من نفسه قرداً وخنزيراً، (ر.ک: الأصفهاني، 10 / 422 ) يقول:
(أبودلامة، 1994م: 83) قيل حينما دخل على المهدي وطلب منه أن يهجو واحداً ممن حوله وإلا قطع لسانه، فلم ير أحداً أحق بالهجاء من نفسه، لأن الموجودين جميعاً قد وصلوه بالعطاء. (المصدر نفسه، 109) فلم يجد مهرباً من هذا المأزق الحرج إلا أن يسخر من نفسه علی أن يسخر من غيره. لذلک يلجأ إلی التهکم بالذات والسخرية والازدراء ويجعل من نفسه قرداً أو خنزیراً، جامعاً إلی دمامته لؤماً وخبثاً (جَـمَعْتَ دَمَامَةً وجَمَعْتَ لُؤماً). فقد اعتمد الشاعر في صنع المفارقة والسخرية علی الصورة الحسيّة المحسوسة مجرّداً نفسه من أية صفة نبيلة تجعله في مراتب الإنسان، جاعلاً منها أضحوکة للآخرين، ومحطّ سخريتهم. ولهذا وبقليل من التأمّل تجد أنّ الشاعر يری نفسَه قرداً في حالة لبسه العامة وخنزيراً في حالة نزع العمامة عن رأسه. فاختیار لفظتي (قرداً وخنزيراً) وإطلاقهما على نفسه لها دلالة في السخرية عن طريق تشبيهه بهذا الحيوانين. فهاتان الکلمتان تطرقان سمع المتلقّي بما لهما من دلالات السخرية والاستهزاء، فهو يستغرب أشدّ الاستغراب حين رأی بأنّ مرجع الضمير يعود إلی الشاعر نفسه. وعبارة (كَـذَاكَ الـلُّؤْمُ تَـتْبَعُهُ الـدَّمَامَهْ) جاءت مساندة لهذا الوصف الساخر. فقد شبّه الشاعر، في تشبيه بليغ، هيئته بهيئة قردٍ في القبح والبشاعة مساعداً مقدرته التصويريّة. وإنّه قد عمد إلى حذف الأداة والوجة بهدف الإيحاء بالتماثل الكامل، والاتحاد بین المشبه والمشبهبه، فصوّر لنا القبیح الدمیم في صورة کاريکاتيريّة ساخرة. و«هو نوع من التصوير التشبیهيّ البليغ، إذ إنّه جاء محذوف الأداة، وهذا أدعی في توحّد طرفي الصورة التشبيهيّة، بل إنّ المشبه يرتقي إلی مصاف المشبهبه.» (عبدالله، 2012م: 193-194) ولم يقف أبودلامة عند هذا الحدّ في وصف نفسه ولم يکتف بهذا متجاوزاً إلى تشبيه نفسه بالخنزير لما تکون علیه من قبح المنظر. و«يحمل هذا التشکيل الشعريّ الساخر حقية الشاعر المرّة الماثلة للعيان فقبح المنظر وسواد الوجه يحاصرانه ويعلنان للمجتمع انحطاطه وتدنيه، فضحک أبو دلامة ضحک نابع من نقصه وضعته.» (هلال، 2018م: 345) فهذه التشبیهات تلتحق بغاية أبي دلامة في ترسيم هذه الکاريکاتوريّة المشوّهة. و«هكذا عاش أبو دلامة يسخر من نفسه ومن الناس، لا تفوته النادرة الحلوة، والدعابة اللطيفة واستطاع بأسلوب النديم الساخر أن يحجب نقائضه التي لم يكن يتورع عن المجاهرة بها، سواء أكانت في خلقه أو في خلقته.» (هدارة، 1996م: 131) وأيضاً هو يسخر من نفسه بمثل هذه الأبيات عندما طلب منه روح بن حاتم مبارزة أحد الخوارج (البراز):
(أبودلامة، 1994م: 54-56) إنّ فکاهة هذه الأبيات ترجع إلی أنّه يسخر من نفسه، لا غيره کما هو شائع الاستخدام. فالدلالات في هذه الأبيات توحي بعمق الجبن الذي شعر به الشاعر في حالة إنشاد أشعاره. والغرض يرجع إلی رغبة الشاعر في التخلص من هذا الموقف الصعب. لقد جعل أبودلامة في هذه الأبيات هدفاً للسخرية والاستهزاء لنفسه، فهو قد بالغ في الاستهزاء من النفس وهجائه من خلال تتبّع عيوبه والاسراف في ذکرها للسخرية منه. نلاحظ سخرية واضحة في هذه الأبيات حيث يتّخذ الشاعر من السخرية في هذا الموقف وسيلة لإحجامه عن المبارزة والقتال. فهو جبان ونذل -کما هو واضح في هذه الأبيات-، يفرّ من ساحة القتال خوفاً، عندما طلب منه روح بن حاتم مبارزة أحد الخوارج (البراز). فلا يجد أبودلامة بدأ من تخفيف حدة هذا الموقف البشع بإضفاء أسلوب السخرية اللاذع عليه. لهذا يطلب سلاحاً أمضى وتراه يهجو نفسه، لكي يخلص نفسه من الصعوبات التي تنتظره في ساحة القتال. ونستطیع أن نقول «إنّ السخرية من النفس نوع من التعویض الذاتي الذي مارسه الشاعر، ولاسیما أنّه یفعل ذلک في مجلس الخلافة والوزاراء، ليجعل من نفسه قيمة بين الملأ آنذاک.» (هلال، 2018م: 345) فأبو دلامة يحاول النجاح في ميدان السخرية والصور الکاريکاتيرية لتعویض إخفاقه أو عجزه في ميدان حياة الواقع، ولو کان ثمن هذا التعویض، الاستهانة والاستخفاف الذاتي وجعل النفس أضحوکة للآخرين، ومحطّ سخرياتهم.
السّخرية الکاريکاتيريّة من أفراد العائلة لم يکتف الشاعر أبو دلامة علی السخرية من نفسه، بل هو يتجاوز الحدود ویکسر القيود في سخرية أسرته، کأنّي بالشاعر مُساقٌ بقوة خارجيّة تُجبِرُهُ علی السخرية والهجاء. فهو في هذا النوع من السخرية يخرج عن الطبيعة المألوفة التي اعتادها الّناس، کما هو الحال في السخرية من النفس. وأيّ سخر آلم للنفس وأوجع للقلب، من قول الشاعر الذي يسخر فيه ابنته الصغيرة:
(أبودلامة، 1994م: 76) يروي أنّ أبا دلامة «ارتجل الأبيات عند حمل صبية له علی کتفه فبالت عليه، فقالها علی الفور.» (عبدالله، 2012م: 193) وأبو دلامة فقد أطلق العنان لتخيلاته الشريرة وهجی في هذه الأبيات ابنته هجاءً طريفًا بعدما بالت عليه وهى صغيرة في صورة کاريکاتيرية. فقد تخيّل الشاعر ابنته الصّغيرة شيطانة، شريرة، مخيفة بللت عليه في سخرية مرة لاذعة. وفي البیت الثاني یکمل صورته بهدف نفي الصفات الحسنة عن المهجوة وإثبات نقيضها لها، عبر هجاء أمّها وأبيها مستهزئاً من تربيته وتربية زوجته لهذه الابنة الصغيرة. وبالتالي فهو يسخر منه بهذه الطريقة. أمّا أنّه فلا يتوقّف عند هذا الحدّ من سخرية أفراد الأسرة، فهو يسخر من والدته عبر هذا النقل التصويريّ الساخر:
(أبودلامة، 1994م: 33) کما نلاحظ في هذه الصورة، فالشاعر يتجاوز حدود التأديب والعلاقات العائلية بدون أية تأشيرة ويرسم صورة کاريکاتيريّة ساخرة لوالدته التي ترتعد وتلوح بذراعيه الواهنتين. ولا يُعدم التشبيه في هذه المقطوعة، حتّی أحدث فيها رونقاً وبهاءاً، وعمقاً. فهو يجسّد شخصيتها من الناحية الخارجيّة الجسديّة بشکل مبالَغ فيه بغية السخرية منها والحطّ من شأنها «وقد عمد إلى الجانب الحسي المثير للاشمئزاز؛ لأن غرضه من التشبيه كان تشويه المشبه وتقبيحه من أجل لفت انتباه الخليفة إلى درجة الفقر والحرمان التي أدت إلى أن تصف والدته بالقبح إلى هذا الحد، وهكذا توالت التشبيهات في هذه الأبيات على نحو مكثف فشبهها بالبلية وهي الناقة التي كانت تعقل عند قبر صاحبها فلا تعلف ولا تسقى حتى تموت.» (الغضنفري و حمادي، 2013م: 41) فالشاعر استعمل بعض العيوب الخلقية في شخصية والدته ليجعلها أسماء ملصقة بها، أو كنية لها. فقد قال هذا وکأنّه يسخر من العجور. فتارة شبّهها بالمشجب قائلاً إنّ هذه العجوز من شدة هزالها وضمور بطنها تضاهي مشجباً يعلق عليه ما يريد من الملابس ونحوها، کأنّ الأم فقدت كلّ معالم الحياة، وأصبحت کتلة جامدة هامدة. فإنّ الشحوم قد ذابت ولا يبقی من الجسد سوی العظم والجلد. وعبر هذا التصوير، يری المتلقّي والدةَ الشاعر في حال من الضعف والهزال ليس وراها غاية فجانبا فمها مهزولان لدرجة تبلغ قلوبُ مشاهدهما الحناجرَ من شدة الفزع والخوف کأنّه يظنّ بأنّه صادف غولاً مخيفاً أو صغير من الجن. ففي هذا البیت أيضاً التصوير الکاريکاتوريّ الساخر يعتمد علی المبالغة والغلو في وصف المشاهد الحسيّة والتضخيم والتوغل في التشبيه الحسيّ. وهذا التضخيم لا يحسنه إلا ذو الخيال الرحب الواسع من يحسن الرسم بالکلمات. فالشاعر عبر هذه التشبیهات يقوّي المعني ويؤکّد له. فقد استطاع الشاعر، عبر تفتح خياله، رهافة حسه، صفاء عاطفته ونقاء عقله أن يحوّل کلامه من مجرد هجاء إلی رسم کاریکاتوريّ ساخر:
(أبودلامة، 1994م: 25) وهکذا يواصل الشاعر صوره المفعمة بالسخرية باستخدام الفکاهة التي تصل إلی درجة السخرية اللاذغة. نری بأنّ «الشاعر يرسم فيها صورة تشبيهية للرسالة التي كتبت إليه وقد ختمت بطابع من طين على هيئة العقرب مستخدماً أداة التشبيه الكاف لبساطة هذا الحرف موحياً عبر استخدامه العقرب لمعنيين الأول مستلهم من كون العقرب هو أشدّ عداوة وأذى، والثاني هو اللون الأسود للعقرب وذلك أنّ السواد "مصدر للتشاؤم" لما يستكره ويتشائم منه.» (الغضنفري وحمادي، 2013م: 42) وهکذا، تستمرّ خیوط الصور الکاريکاتيريّة وتتواصل، وتتواصل معها السخرية بينَ ثناياها مخفية بين طياتها في بعض الأحيان. فالمتلقي يشاهد صورة مدهشة من الهجاء، کأنّ علاقة الشاعر أبي دلامة مع أمّه تفتقر لأيّ إحساس ومحبة بينهما بحيث ينزلق الشاعر إلی هذه الدرجة من الکراهية. وعلی ضوء هذه الصور، يتّضح أنّ الصورة الکاريکاتيرية عند أبي دلامة من الأساليب البلاغيّة التي يجد الشاعر المجال الفسيح لکي يعبّر عما يختلج في نفسه، ويقرّب المتّلقي إلی تصوير ما يريد من الأشياء بالصورة التي يطمح إليها. والشاعر يبادر کلّما سنحت له الفرصة إلی السخرية کأنّها سلاح الشاعر الأمضی في وجه الزمن القاسي. يقول واصفاً زوجته:
(أبودلامة، 1994م: 48-49) إنّ أبا دلامة في هذه الأبيات الهجائية يقوم بهجاء زوجته ووصفها بأنّها عجوز هزيلة قبيح المنظر أقبح ما يکون في العالم، لأنّ ساقها تضاهي القديدة، والقديدة هي لحم مجفّف، وجلد جاف غير مدبوغ. وهکذا تدور اهتمامات الشاعر في إطار الحواس الظاهرة ورسم ملامح الشخصية بتسليط الأضواء على العيوب الجسمية الموجودة في الزوجة. فهو وصف زوجته بأبشع الأوصاف والعبارات، وکانت سخريته من هذه المرأة، أكثر وضوحاً، وقسوة. وكل ذلك التصوير لسلوك هذه المرأة (زوجته)، من أجل أن تكون سخريته أبلغ، وألصق بها. إنّ اللافت للانتباه في هذه الأبيات نری هجاء التشويه والإضحاک بالاعتماد علی هذه التصاوير الکاريکاتوريّة الساخرة المضحکة. فالشاعر يسلط الضوء على عيوب زوجته، فيبرزها أكثر للعيان. لهذا، فإنّ السخرية هي من أبرز الوسائل التي یستخدمها الشاعر لکي يُعالج بها مثل هذه العيوب والنقائص في الأفراد مؤکداً علی العیوب الظاهرة والتشوهات الجسميّة کالقبح في الوجه والسمنة المفرطة أو العرج وغير ذلک من العیوب والتشوهات والظواهر السلبية، إذ أجود السخر أن يسلب الإنسان الفضائل النفسية والخلقية ويركز على متناقضاتها في شخصه. فهو يأتي بصورة مشوّهة الملامح رسمها لأمّ عياله، وأرسلها إلى زوجة الخليفة، وأخذ ثمنها مبلغاً من المال وجارية. فالسخرية هنا تکون لأجل التکسّب من أجل المال وابتغاء مرضاة الحاکم. فبدت سخريته في الكثير من مواضع النص تحمل غاية الارتزاق. وأيضاً قوله ساخراً زوجته:
(أبودلامة، 1994م: 69) يهجو الشاعر زوجتها يصفها بالقبح وبشاعة المنظر (شوهاء) إمعاناً في سخریته منها. ويرسم جسدها في هذا المشهد الحسي بوضوح وصراحة لا مزيدَ عليها. يقول الشاعر بأنّ زوجته قبيح المظهر والهيئة وهي کثير الأکل وعظيم البطن، للدلالة علی عدم قناعتها وجاء وصف الثجل أي عظيم البطن، لشدة ضخامته وكبر حجمه، فهو سخرية من تورم بطنه وضخامته. ومفاصلها فقد أصيبت بالتهاب والإعوجاج والشلل ولا تستطیع الجلوس أو الوقوف إلا بصعوبة. والمتمعن في هذه العبارات نری ما فيها من تشويه وتكبير للعيوب الجسمية. فهذه العبارات الساخرة ما هي إلا إمعان في السخرية. والمناداة بالألقاب من أقدم صور السخرية وأنواعها، ولها وقع كبير في النفوس، وقوة عظيمة في التأثير. فالشاعر يضعنا أمام صورة تصل في سخريتها إلی حدّ کبير، لأنّه يروم عبر هذه الصورة، تسکین صورة زوجته وترسیخه في ذهن المخاطب. هذه الصور الکاريکاتيرية کلّها بهدف واحد وهو التکسّب فقط. لهذا، نری أبا دلامة ينتقي ألفاظه انتقاء فنّان موهوب لخطوطه وألوانه. السّخرية الکاريکاتيريّة من الأشخاص الآخرين يقول ساخراً لوعود علي بن صالح، وقد کان وعدُه شيئاً ولم يُوفِ له بِه:
(أبودلامة، 1994م: 43) فالمراد من «مواعيده الرياح: أي مواعيده کاذبة.» (ابن المعتز، 1998: 85) يقول الشاعر إنّ علی بن صالح کعادته لم يفي بوعده بل لم يتذکره، کما الریاح لا تلتزم بالمواعید فی مرورها علی بعض الأماکن. فالقابض علی الماء هو مثل «یضرب لمن لیس بیده شیء ممّا أخذ،» (جمیعان، 1999م: 112) يعني أنّه ما حصل علی شيء. ولکنّ الشاعر جاء بتعبير آخر وهو «قابضٌ للرِّياحِ» لتعبير علی نفس المعنی لکي يکون صورته الکاريکاتيرية أشدّ جمالاً ووقعاً في نفس المتلقي، وهو تعبیر بدیع. يضاف إلی ذلک مقدرة وبراعة الشاعر في إکساء الصورة القديمة أثوابة جديدة. فالشاعر يرسم لوحته الشعريّة بهذا التفنّن التصويريّ ویهجو علي بن صالح قائلاً بأنّه حينما يذهب إلیه يرجع بخفي حنين أي أنّه لم ينل حوائجها. فمواعيد صالح تتحقق إذا ما قبضت الريح. وهذا ما يجعل سخرية أبي دلامة أكثر إمعانًا، وأشد إضحاكًا في هذا المشهد. فهو من خلال تصويره وأيضاً قوله:
(أبودلامة، 1994م: 72) هذه المقدرة والبراعة في التصوير أشاد بها عبدالقاهر الجرجاني قائلاً بأنّ أبا دلامة يشبه حركة رجليها بحركة العاجن في عدم الاستقرار كذلك رجلاها لا يثبتان على الأرض، بل تندفعان إلى الأمام كما يدا العاجن لا يثبتان في أثناء العجن، بل تندفعان لرخاوة العجين إلى الأمام، ثم شبه حركة يديها وهما لا يتقدمان إلى الأمام، بل ينثنيان إلى الخلف نحو بطنها في تقوس واعوجاج، مثل حركة يد الخابز، من حيث كان الخابز يثنـي يده نحو بطنه ويحدث فيها ضرباً من التقويس، كما تجد في يد الدابة إذا اضطربت في سيرها، ولم تقف على ضبط يديها، ولن ترمي بها إلى قُدام، ولن تشد اعتمادها، حتى تثبت في الموضع الذي تقع عليه فلا تزول عنه ولا تنثني. (أنظر: الجرجاني، 1939م: 382-383) فالشاعر يرسم لنا لوحته الشعريّة بتناسق الخطوط، لوحة تنطق بذوقه السليم في إطار الحواس الظاهرة. ونستشف من دلالة هذه الأبيات الساخرة مقدرة الشاعر الإبداعيّة وبراعته الفنيّة في استخدام أدوات السخرية، وما يمتاز به من قوة العاطفة والتفکير ومديد الخيال والتخييل، وعميق التصوّر والتصوير.والشاعر لم يقف عند هذا الحدّ، بل يلجأ إلی الرسم الکاريکاتوريّ المضحک للزي الجديد الذي أمر به المنصور أصحابه بلبسه فقال:
(أبودلامة، 1994م: 57) روي أنّ المنصور قد أمر أصحابه بلبس السواد والقلانس الطوال، تدعم بعيدان من داخلها، وأن يعلقوا السيوف في المناطق، ويكتبوا على ظهورهم: ﴿فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم﴾ فلمّا دخل عليه أبو دلامة في هذا الزي، قال له المنصور: ما حالك؟ قال: شر حال يا أمير المؤمنين، وجهي في نصفي، وسيفي في استي، وقد صبغت بالسواد ثيابي ونبذت كتاب الله وراء ظهري، ثم أنشد البيتين. فضحك منه المنصور وأعفاه وحذره من ذلك، وقال: إياك أن يسمع هذا منك أحد. (الأصفهاني، 10 / 384 ) فإنّ أبا دلامة في هذا المشهد «شبّه لبسه ولبس أصحاب المنصور بدنان اليهود وهي الرواقيد على هيئة الحب أطول مستوى وأسفله على هيئة قوس بيضه، وجللت بالجبة الطويلة فعمد إلى تشبيه محسوس بمحسوس مستخدماً أداة التشبيه كأن التي أفادت التوكيد.» (الغضنفري وحمادي، 2013م: 43) فالتشبيه في هذه المقطوعة إلی مرتبة جيّدة للسخرية والاستهزاء. والملاحظ في صور أبي دلامة الساخرة يری مقدرتها السحريّة علی السخرية والتهکم وإثارة الضحک. فهو يعتمد علی إبراز صورٍ تبالغ فيها بکلّ ما تتسع له الوسائل، فبلغت السخرية والفکاهة مداهما عند أبي دلامة. وبذلک أصبحت صوره الکاريکاتيريّة تحمل في طياتها، إلی جانب دلالاتها، خطاباً ساخراً ومستهزئاً لاذعاً مفعماً بالصور البيانيّة. فقد تنوعت استخدامات السخرية والاستهزاء في أشعار أبي دلامة، ووُظفت توظيفًا متناسباً ملائماً، وجاءت في أقنعة وصور مختلفة، فقد جاءت في أکثر الأوقات في شكل سخرية لفظية، استخدمت من خلالها اللغة لدعم أفكار الشاعر. كما استخدمت السخرية الصورية، التي تتعلق بالشكل المحسوس والمادي للشخصيات وإبرازها في صورة مشوهة منكرة. فهو يصوّر الأشخاص تصويراً سخريّاً مضحکاً في صورة کاريکاتيريّة هزليّة تبالغ في تجسيم العيوب الجسميّة من خلال إبراز النقائص والهنات والانحرافات. وهذا هو أكبر مساحة ممکنة للسخرية اللاذعة والصور الکاريکاتيريّة في شعر أبي دلامة. النتيجة تجسّد أشعار أبي دلامة لوناً متميّزاً من ألوان الصورة الکاريکاتيريّة، وتستند إلی مبادئ جماليّة في رؤية العلاقة بين الأدب والرسم. أبو دلامة حاول أن يخلق صوراً کاريکاتيريّة بديعة بمساعدة إطالة بعض أجزاء الصورة وتضخيمها في بعض الأحيان وفي بعض آخر مسخها. فالشاعر يستخدم تارةً سخرية الرسم وتارةً يستمدّ من الکلام لتشکيل شکل بديع من أشکال السّخرية الکاريکاتيريّة و بهذا، خلق أبو دلامة من السّخرية الکاريکاتيريّة فناً يختص به. فهذه الآليات والرسوم تتواشج بشکل جيّد في تشکيل صور کاريکاتيريّة ساخرة عند أبي دلامة. لقد أصبح هذا النمط، في شعره، إلی جانب الفکاهة والظرف، آليةً دفاعيّةً يستغلّها الشاعر لمواجهة النقائض الموجودة في نفسه من الفقر والحرمان حتّی ولو تجاوز الخطوط الحمراء في وصف الأسرة والعائلة. هذه السخريات اللاذعة کانت إفرازاً لنفسية عابثة، تحاول التکسّب بالمال. والطمع في المال داءٌ عضالٌ يخرّب أفکار أبي الدلامة في بعض الأحيان ويسوقه إلی الهجاء. فهو لا يدّخر وسيلةً من وسائل التکسّب إلّا ويجرّبها. فإنّ هذا الشعور المتأزم بالفقر المحيط به عند الشاعر يکون لديه إحساساً بالدونيّة، لذلک هو يريد دوماً التخفيف ممّا يعانيه من هذا الإحساس. فالفقر سلب منه کلّ الشيء، حتّی الأمل في الغد. وهذه الحال، تجعل الشاعر برغبة هجاء نفسه وهجاء الآخرين معه في الإنتاج الکاريکاتيريّ الساخر، بحيث يمکن تأويلها علی أنّها صرخة عميقة تقدّمها الشاعر ضدّ هذا الوضع المأساويّ الموجود. فإنّ اللجوء إلی هذا الشکل من البيان جاء نوعاً من الهروب الکامل من هذه الأحاسيس. فهو يری السخرية الکاريکاتيرية ملاذاً للوصول إلی حياة جديدة. لذلک، تحتشد أشعار الشاعر بمشاهد ساخرة تقوم علی الفکاهة والطرافة والتهکّم، ويمکن أن نقسمها إلی ثلاثة أقسام: السّخرية الکاريکاتيريّة من النفس، السّخرية الکاريکاتيريّة من أفراد العائلة والسّخرية الکاريکاتيريّة من الأشخاص الآخرين. | ||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
مراجع | ||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ابن المعتز، عبدالله. (1998م) طبقات الشعراء المحدثين. بیروت: دار الأرقم للنشر والطباعة والتوزیع.
أبودلامة، زنْد بن الجْون. (1994م). ديوان أبي دُلامة. شرح وتحقيق: الدکتور إميل بديع يعقوب. بيروت: دار الجيل للنشر والطباعة والتوزیع.
الأصفهاني، أبوالفرج. (1994م) الأغاني. ط 24. بيروت: دار إحياء التراث العربي.
آل زاید، یحیی عمر. (2012م). الفن الساخر ـ الكاريكاتير ـ الفـن الناقد ـ عناصر الكاريكاتير ـ الفكـــر التعبيري. القاهرة: منتدى المقالات الادبية والمكتبة الأدبية المتكاملة.
الجرجاني، عبدالقاهر. (1939م). أسرار البلاغة. القاهرة: دار المعارف.
جميعان، محمّد سلام. (1999م). المثل في الشعر العربي. الشارقة: دار الخليج.
دريباتي، آصف. (2016م). السخرية في شعر نديم محمّد. بیروت: دار الکتب العلميّة.
الشکعة، مصطفى. (1997م). رحلة الشعر من الأموية إلى العباسية. بيروت: الدار المصريّة اللبنانيّة.
الضمور، نزار عبدالله خليل. (2010م). السخرية والفکاهة في النثر العبّاسي، عمان: دار ومکتبة الحامد للنشر والتوزیع.
طالبی قره قشلاقی، جمال والآخرون. (1391ش). «السخرية السياسية في شعر دعبل الخزاعي». مجلة الجمعية العلمية الايرانية للغة العربية وآدابها. فصلية محكمة. العدد 25. صص 22-1.
الطوبـجي، حسـين حمدي. (1987م). وسائل الاتصــال والتكنولوجيا في التعليم، الطبعة الثامنة. الكويت: دار القلم.
عبدالله، أميرة محمود. (2012م). «السخرية في شعر أبي دلامة». مجلة العلوم الإنسانية. کلية التربية. صفي الدين الحلي. صص 203- 188.
عبدالتواب، أحمد. (2018م). الکاريکاتير السياسيّ. القاهرة: مجموعة النيل العربيّة.
العجلاني، شـمـس الدين. (2013م). الكاريكاتير .. الفن الذي لا مثيل له، لبنان: منتديات ستار تايـمز.
الغضنفري، منتصر عبدالقادر وزهراء ميسر حمادي. (2013م). «الفکاهة والسخرية في شعر أبي دلامة- قراءة في الصورة البيانيّة». مجلة کلية التربية الأساسيّة جامعة بابل. صص 51- 30
مروة، محمّد رضا. (1990م). أبوتمام، عصره-حیاته-شعره. بیروت: دار الکتب العلميّة.
مصاروه، نادر. (2008م). شعر العميان. بيروت: دار الکتب العلميّة.
مصطفی، محمّد. (1970م). دراسات في الشعر العربي: تحليل لظواهر أدبية وشعراء. القاهرة: منشأة المعارف.
النورج، حمدي. (2015م). السخرية واللقطة السحريّة: دراسة نقديّة لأعمال الکاتب عمر طاهر. القاهرة: أطلس للنشر والإنتاج الإعلاميّ.
هدارة، محمد مصطفى. (1966م). «أبو دلامة». القاهرة: مجلة العربي. صص 153-130.
هلال، شافية. (2018م). شعر العبيد من الجاهلية حتّی نهاية العصر العبّاسي، دراسة في الرؤية والفن. بحث مقدّم لنيل شهادة الدکتوراه العلوم في الأدب العربي. قسنطینة: جامعة الإخوة منتوری. | ||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
آمار تعداد مشاهده مقاله: 1,055 تعداد دریافت فایل اصل مقاله: 250 |