تعداد نشریات | 418 |
تعداد شمارهها | 10,002 |
تعداد مقالات | 83,589 |
تعداد مشاهده مقاله | 78,177,282 |
تعداد دریافت فایل اصل مقاله | 55,203,415 |
وظائف السّرد البوليفوني في رواية "الحرب في برّ مصر" ليوسف القَعيد | ||
إضاءات نقدیة فی الأدبین العربی و الفارسی | ||
دوره 12، شماره 45، خرداد 2022، صفحه 67-89 اصل مقاله (290.93 K) | ||
نوع مقاله: علمی پژوهشی | ||
نویسندگان | ||
امید جهان بخت لیلی* 1؛ شهرام دلشاد2؛ مجتبی الیاسی3 | ||
1أستاذ مساعد في قسم اللغة العربية وآدابها، جامعة کیلان، کيلان، إیران | ||
2أستاذ محاضر في قسم اللغة العربية وآدابها، جامعة کیلان، کيلان، إیران | ||
3طالب مرحلة الدکتوراه في قسم اللغة العربية وآدابها، جامعة الشهید بهشتي، طهران، إیران | ||
چکیده | ||
إنَّ السرد البوليفوني هو نسق سردي حديث قد اهتمّ به بعضُ الروائيین منذ فترة ما بعد الحداثة في أواخر السبعينیات إلی العقود الراهنة. في هذا النهج يستخدم الروائي عدة رواة للتعبیر عن القصة وما فیها من قیم فنیّة وجماليات ويتجنّب استخدام راوٍ واحد. تحظی دراسة هذا النهج بأهمیةٍ بالغةٍ لأجل التعرّف على الروايات المصممة على غرار الأسالیب الملائمة لعصر الديمقراطية والحضارة؛ وهي التي تم استخدامها تزامناً مع تطوّر المجتمعات وتحوّلها الاجتماعي والسياسي لنقل وظائف فعالة للقارئ. قد قام يوسف القعید (1944)، الروائي المصري المرموق بتوظیف هذه الطريقة في عدد من رواياته تلبیة لحاجاته الإبداعیة. یهدف هذا المقال مستخدماً المنهج الوصفي- التحلیلي إلی دراسة وظائف السرد البوليفوني في رواية "الحرب في برّ مصر" ليوسف القعید. توصلت الدراسة إلی أنّه تمّ استخدام هذا الأسلوب في الروایة للحثّ علی ثلاث وظائف أساسیة، وهي الصراع الدرامي والموضوعي، والشمولیة والإفصاح، وخلق المساواة وإقامة حوار متكافئ بين الشخصيات الروائية، واختار القعيد هذا النهج السردي في حبکة القصة نظراً للإشکالیة العالقة في المجتمع المصري التقلیدي معتزما رفض الاستبدادیة في عرض الرُؤی بحيث تكون جميع الشخصيات حاضرةً بالتساوي في مضمار السرد، ومن ناحية أخرى لیتمکّن القارئ من الوعي والوقوف علی أزمة الديمقراطية في المجتمع العربي بشكل ملحوظ وواقعي. | ||
کلیدواژهها | ||
السرد البوليفوني؛ رواية ما بعد الحداثة؛ يوسف القعيد؛ "الحرب في برّ مصر" | ||
اصل مقاله | ||
أصبحت الرواية في العصر الحديث نوعاً أدبياً رجراجاً یستلهم التيارات الحديثة في علم الاجتماع والعلوم الطبيعية والإنسانية ویخضع لقواعد وآراء ونظريات اجتماعية وسياسية جديدة منها تعدّد الأصوات أو تعدّد الرواة أو ما يُسمَّی في المباحث السردانية العربية الحديثة بالسَّرد البوليفوني[1] کما نجد مصطلحات أخری کالتناصّ والحوارية ترمز إلی هذا النسق. هذا النوع السردي يمهّد الأرضیة للروائي ليستوعب کل صوت وصدی وأن يميل نحو المجاهيل والقضایا التي يعاني منها الإنسان في کينونة سردية واحدة، کما ينخرط الروائي عبرها في عالم الأفکار والسلوکيات والخصائص التي يمتاز بها أفراد المجتمع. فهذه الصيغة بآلياتها المختلفة وبنياتها الأساسية تقاوم سیطرةَ المؤلف ورقابته وهيمنته. فمن الواجب إیلاؤها اهتماماً بالغاً في الدرس النقدي، إذ إنّها من أکثر الأساليب تواتراً في الرواية العربية الجديدة بما لها من القدرة الفائقة علی حکي الظروف العصرية والمواضیع السياسية والاجتماعية التي هيمنت علی المجتمع. یناقش هذا السرد الإشکاليات والقضایا الغامضة التي واجهها المجتمع في العصر الحديث بأدق طريقة ممکنة. بما أن المجتمع الحديث أسقطَ عبر الصراعات والانقلابات والثورات، الاسبتدادية والدکتاتورية التي عانی منها الإنسان في العصور الغابرة وحان زمن الديموقراطية والحرية والمساواة والحوار، نلاحظ الآن أن الرواية أخذت تتبع هذه الظروف الجديدة فقامت بتکسير القواعد الروائية التقلیدیة السائدة ورسمت مناهج جديدة في الرواية منها السرد البوليفوني والاهتمام بالراوي المتعدد وتسجيل الأصوات المتعددة وعرض مواقف عديدة بدلاً من استخدام راوٍ واحد یسجِّل صوتاً واحداً، وکذلكَ العناية بالحيادية والاجتناب من النرجسية بدل اتخاذ الرؤية الواحدة التي تناسب رؤية الکاتب أو الرؤية التي أيّدها العصر ويقبله الحاکم فينزع إلیه العامة. نظراً لتلائم هذا الأسلوب بالعصر الجديد والتيارات التي تدعو إلی الحرية والمساواة والواقعية، توسّع استخدامه فنجد روايات اعتمدت في سردها علی الطريقة البوليفونية حيث تتخذ رواة للسرد في أسهل طريق أو أفضلها کما يختار الضمير المتکلم للسرد ویعتمد علی تغيير الضمائر وصيغ الحکي للحکاية والسرد. هناك روايات کثیرة انتهجت هذا الأسلوب السردي، وقد تکون من أفضلها وأنجحها هي رواية "الحرب في بر مصر" ليوسف القعيد الروائي المصري الشهير الذي اتخذ عالماً متخيلاً بولیفونياً علی صعيد السرد العربي، حيث يقدّم شخصيات الحکي واحداً تلو الآخر حينما یجئ دورهم. قد تناول القعيد في هذه الرواية قضیةً سياسيةً اجتماعيةً هامةً تتعلّق بمصائر الشخصيات النهائية فهي موضوع الفقر والاضطهاد وعدم التقسیم الزراعي الصحیح الذي ینتهي إلی مأساوية المصير لبعض کما يؤدّي إلی سعادة المصير لبعض آخر. یشکو القعيد من هذه القضية عبر السياق السردي المطلوب حيث لا يهيمن غضبه علی السرد فهو يحافظ علی الحيادية عبر النسق السردي البوليفوني الذي جاءت فيه الشخصیات تتحدث عن مواقفها وأفکارها. انطلاقاً من هذا فإنّنا نرمي في هذه الدراسة مستخدمین المنهج الوصفي- التحلیلي إلی تحليل وظائف هذا المنهج السردي خلال الإجابة عن السؤالين التاليين: أسئلة البحث
فرضیات البحث نفترض للسؤال الأول أن الروائي وظّف هذا النسق ليعبّر عن بعض الوظائف والدلالات التي تميِّز روايته عن الروايات ما قبل الحداثة فهي علی التوالي: الصراع الدرامي والموضوعي، الشمولية والإفصاح، المساواة الحواریة. نفترض للسوال الثاني أن الروائي حسب الموضوع المختار الذي تناول فيها الثنائيات بين القسوة والعدالة وبين المواطنين المهشمين والرؤساء والزعماء، اختار هذا النسق ليمهد السرد لکل شخصية تنتمي إلی هذه الأحداث. خلفیة البحث بالنسبة إلی یوسف القعید تمّت دراسات کثيرة في الوطن العربي. لکنّ الدراسات في الجامعات الإيرانية حول الأعمال الروائية لهذا الکاتب العملاق قلیلة. هنا نشير إلی أهمها علی التوالي: مقالة (1984) «يوسف القعيد والرواية الجديدة»، بقلم فدوی مالطي دوجلاس المنشورة في مجلة الفصول بالقاهرة. فیها درسَتِ المؤلفة بعض میزات الرواية الجديدة ومعاييرها في أعمال يوسف القعيد ومنها روایة "الحرب في بر مصر" الّتي ننوي دراستها حالیاً. مقالة (2010) «البوليفونية في الرواية العربية، يوسف القعيد نموذجاً» بقلم سمیّة سليمان الشوابکة، المنشورة في مجلة العلوم الإنسانية والاجتماعية. عالجتِ الکاتبةُ فیها موضوع البوليفونية في الرواية العربية في ثلاث عشرة صفحة وتحدثت عن الرؤية السردية وحضور الرواة والأصوات غير المتجانسة في أربع روایات ليوسف القعيد وهي علی التوالي: الحداد، الحرب في بر مصر، کامب ديفيد، مملکة الغرباء. رغم أنّ ذاك المقال یشبه إلی حدٍ ما مقالنا الحالي في عنوانه لکن هناك اختلاف في أنّنا ناقشنا وظائف السرد البولیفوني ترکیزاً علی روایة "الحرب في برّ مصر"، لکن الدراسة المذکورة تناولت عدة روايات وفي الحصة التي عالجت رواية الحرب في بر مصر، نجد إشارات عابرة وکلية حول استخدام هذه التقنية في حوالي صفحتين ولانجد دراسة الدلالات الثلاثة المدروسة في مقالتنا هذه في تلک المقالة. کتاب (2000) «وجهة النظر في روایة الأصوات العربية» بقلم محمدنجيب التلاوي الذي تناول الباحث في القسم التطبيقي للکتاب الروايات المصرية ذات تقنية تعدد الأصوات وترکّز في إشاراته العابرة إلی رواية الحرب في برّ مصر علی ابتناء الرواية علی الأصوات المتعددة ولم یتحدّث عن الجماليات والدلالات التي تکمن وراء هذه التعددية. مقالة (2013) «الميتاقص تجريباً روائياً، قراءة في أعمال الروائي المصري يوسف القعيد» للکاتبة سميّة سلیمان الشوابکة المنشورة في مجلة جامعة النجاح للأبحاث. ومقالة (2020) «موضوعية الرؤية وذاتية السرد في رواية يوسف القعيد الحرب في بر مصر» بقلم أبوالفتوح مصطفى جمعة رشوان، المنشورة بجامعة الأزهر، حولية کلية اللغة العربية بنين بجرجا. ورسالة الماجستير (2020) «دراسة البنية السردية في رواية: الحرب في بر مصر- ليوسف القعيد» أعدّها دارسان هما سعيد لعوج وجابر زميت. تناولت الدراسة مكونات البنية السردية ووظائفها في رواية "الحرب في بر مصر" لمعرفة كيفية اشتغال الروائي بعنصر الزمن، وطرائق رصده للأمكنة والشخصيات وسرده للأحداث ثم علاقتها بالمكونات الأخرى. أما المقالات الموجودة في إیران فيمکن أن نذکر مقالة (1393) «بررسی مؤلفههای پسامدرنیسم در رمان "الحرب في برّ مصر" اثر یوسف القعید». بقلم أحمدرضا صاعدي ورؤيا خبازة، المنشورة في مجلة مطالعات داستاني بجامعة بیام نور. دار الحدیث فیها عن مقوّمات ما بعد الحداثة في هذه الرواية. والمقالة الأخری (1396) المعنونة بـ«بررسی موتیف أرض در رمان "الحرب في برّ مصر" از یوسف القعید». بقلم شهرام دلشاد والسید إسماعیل حسینی أجداد، المنشورة في مجلة نقد أدب معاصر عربي. تحدّث الکاتبان فیه عن موتیف الأرض قاصدین الکشف عن دلالاته الکامنة ودوره الفاعل في الروایة. ومنها مقالة (1399) «تحلیل گفتمان رمان "الحرب فی بر مصر" اثر یوسف القعید (بر اساس نظریه تحلیل گفتمان انتقادی نورمن فرکلاف)، بقلم ناصر زارع والآخرين المنشورة في مجلة "زبان و ادبیات عربی" بجامعة مشهد. هذه المقالة درست الرواية خلال المستويات الثلاثة في ضوء نظرية فرکلاف أي التوصيف والتفسير والتبيين. أما دراستنا هذه فهي تمتاز بکونها تترکّز علی النسق السردي البوليفوني وتتناول وظائفها بصورة متعمقة. إطلالة علی السَّرد البوليفوني إنَّ السرد من المصطلحات النقدية في النقد الروائي الحديث يتکون من عناصر ومکوّناتٍ لکل منها مکانة في الدراسات السردية. یمکننا أن نقول في التعریف بالسرد إنّه «الطريقة التي يصف أو يصوّر بها الکاتب جزءاً من الحدث أو جانباً من جوانب الزمان أو المکان اللذينِ يدوران في الروایة، أو ملمحاً من الملامح الخارجية للشخصيات، أو قد يتوغّلُ في الأعماق فيصف عالمها الداخلي وما يدور فيه من خواطر نفسية أو حديث خاص بالذات.» (وادي، 2002م: 43) من عناصر السرد الرئیسة هو السارد أو الراوي الذي يعدّ رکناً في إنتاج المفهوم السردي ویعتبر أساساً في عمليّة البناء الفني يقوم بسرد الأحداث وتوزيع أدوارها کما يساهم في تقديم الشخصيات وسائر عناصر العالم الروائي، فیمکن القول إنّه «ضرورة في سبيل فهم عناصر السرد القصصي جملة» (الکردي، 2006م: 13)، يرصد الأحداث ويقوّمها في الرواية ويقوم بعملية التأليف والتقويم ويتخذ لواء الفکرة المنضوية تحت الرواية ويعتبر المسؤول الوحيد عن العقائد والأفکار والانطباعات المعروضة التي تواردت علی العالم السردي حتی يسمّيه النقادُ المؤلفَ الضمنيَّ. (لیتش، 1983م: 31) هذا العنصر الرئيسي يساهم في خلق نوع خاص من السرد یدعی "السرد البوليفوني" الذي يقوم علی عدة رواة. ﺗﺒﻠﻮﺭ ﺍﻟﺴــﺮﺩ ﺍﻟﺒﻮﻟیفوني ﺑﻮﺻﻔــﻪ ﻣﻈﻬﺮﴽ ﻣﻦ ﻣﻈﺎﻫﺮ ﺍﻟﺘﺨﻔﻴﻒ ﻣﻦ ﺍﻟﻨﺰﻋﺔ ﺍﻟﻨﺮﺟﺴــﻴﺔ ﻟﺪﯼ ﺍﳌﺆﻟﻒ ﻣﺴــﺘﻨﺪﺍ ﻋﻠﯽ ﺗﻌﺪﺩﻳﺔ ﺍﻷﺻﻮﺍﺕ ﺗﺎﺭﻛﴼ ﺗﺄﺛﲑﻩ ﻋﻠﯽ ﺍﻟﺒﻨﻴﺔ ﺍﻟﺴــﺮﺩﻳﺔ. ﻭﻗﺪ ﰎ ﺍﻛﺘﺸــﺎﻑ ﺍﳌﻈﻬﺮ ﺍﻟﺒﻮﻟﻴﻔﻮﱐ ﺃﻱ "ﻣﺘﻌﺪﺩ ﺍﻷﺻﻮﺍﺕ" ﻋﱪ ﺍﻟﻨﺎﻗﺪ ﺍﻟﺮﻭﺳﻲ ﻣﻴﺨﺎﺋﻴﻞ ﺑﺎﺧﺘﲔ ﺃﺛﻨﺎﺀ ﺩﺭﺍﺳﺘﻪ ﻟﺸﻌﺮﻳﺔ ﺭﻭﺍﻳﺎﺕ ﺩﺳﺘﻮﻳﻔﺴﻜﻲ، ﺇﺫ ﻳﻌﺮِّﻑ ﺍﻟﺮﻭﺍﻳﺔ ﺍﻟﺒﻮﻟﻴﻔﻮﻧﻴﺔ ﺑﻘﻮﻟﻪ «تشتمل الروایة المتعددة الأصوات ﻋﻠــﯽ ﺍﻟﻌﻼﻗﺎﺕ ﺍﳊﻮﺍﺭﻳﺔ ﺑﲔ ﲨﻴﻊ ﻋﻨﺎﺻــﺮ ﺍﻟﺒﻨﻴﺔ ﺍﻟﺮﻭﺍﺋﻴﺔ ﻣﺜﻠﻤﺎ ﳛﺪﺙ ﻋﻨﺪ ﻣﺰﺝ ﳐﺘﻠﻒ ﺍﻷﳊﺎﻥ ﰲ ﻋﻤﻞ ﻣﻮﺳﻴﻘﻲ.» (باختین، 1986م: 59؛ نقلاً عن عامري وآخرین، 1397: 93) في السرد البوليفوني «يسمَح الحَکْيُ باستخدم عدد من الرواة، ويکون الأمر في شکله الأکثر بساطة عندما يتناوب الأبطال أنفسهم علی سرد الوقائع واحداً بعد الآخر، ومن الطبيعي أن يختصّ کلٌّ منهم بسرد قصته، أو علی الأقل بسرد قصة مخالفة من حيث زاویة النظر لِما يرويه الرواةُ الآخرون، وهذا ما يسمّی عادة بالحکي داخل الحکي، وعلی مستوی الفنّ الروائي يؤدي هذا إلی خلق شکل متميز يسمّی الرواية داخل الرواية.» (لحمداني، 1991م: 49) قد یکون أعمق حکاية تحتوي علی قضية تعدد الرواة بشکل جمالي وفني هي حکاية "فیل در اتاق تاریک" (الفيل في الغرفة المظلمة) «پیل اندر خانه تاریک بود/ عرضه را آورده بودندش هُنود» (مولوی، 1393ش: 367) التي نظمها الشاعر الصوفي الإيراني الکبير جلالالدین مولوي. فهو في هذه الحکاية الفنية أورد حکاية أشخاص يلامسون جسم الفيل ويقصّ کلٌّ منهم حکايته الشخصية تجاهه فنجد فيها آراء متباینة حول قضية واحدة وتنبعث انطباعات کل منهم من رؤیتهم الشخصیة ومدی ملامستهم الفيل. ینبغي القولُ إنَّ الروائيّ في مجال السرد مخیّر في اختیار الراوي المفرد أو المتعدد، «أمّا اختياره عدّة رواة، وتركه كلّ راو يحلُّ في إحدى الشخصيات ويُعبِّر عن وجهة نظرها رغبةً منه في الإشارة إلى حياده وتعدُّد مواقعه فطريقة لمتعرفها الرواية التقليدية بادىء الأمر ولكنّها استعملتها في تطوراتها التحديثيّة اللاحقة. ومن المفيد القول إن سرد الحوادث لا علاقة له بالحيل الأسلوبيّة التي يلجأ إليها الروائي التقليدي ليضفي شيئاً من المصداقيّة على ما يرويه أو ليعلن انفصاله عمّا يرويه.» (روحي الفیصل، 2003م: 15) فالروائي يتوخی في الروایة المتعددة الأصوات الإمساكَ بتعدد الآراء والمواقف عبر التقنيات والبنيات التي تساهم في التجسيد الموضوعي. لأجل هذا «هناك شكول الروايات الممسرحة ورواية الأصوات، وهي روايات تمنح شخوصها حرية تعبيرية وتكافؤاً في الرأي مما يجعل الرواية حافلة بوجهات نظر داخلية نتيجة للتعددية الصوتية التي تشعل بدورها نوعاً من التوتر المقصود داخل هذه الروايات فتعكس وجهات النظر التباين الفكري والأيديولوجي والفلسفي داخل مجتمع الرواية.» (التلاوي، 2000م: 16) لیست هذه الممارسة الفنیة إلا ممارسة لدیمقراطیة التعبیر تستهدف کسر هیمنة "الأنا" فتصوغ الکلام من موقع مفتوح علی موقع المخاطب فیزول موقع الراوي الواحد والمهیمن الذي تتماثل الشخصیات ویذوب صوتها فیه فتظهر نزعة تحرریة تمیل إلی تحیید الراوي فلا یبدو سلطویا بشخصیات عالم القصة ولاتتسم فیه تلك الشخصیات بطابع التماسك ولا تحتل النهایة مکانة هامة ولا یمکن للقارئ أن یستکشف النهایة لأنه لا یعرف فکر الراوي لتعدد الرواة. (راجع: عامري والآخرون، 1397ش: 94) نبذة عن الروائيّ یوسف القعید وروايته "الحرب في برّ مصر" يوسف القعيد، قاصّ وکاتب روائي وُلد في قرية الضهرية، مرکز إيتاي البارود/ محافظة البحيرة في 2 إبريل 1944. تعلّم بدءاً تعليماً دينياً في کتّاب القرية، وتلقّی علومه الابتدائية في مدرسة "عسران عبد الکريم الابتدائية" وأکمل تعليمه في مدرسة "الضاري سمك" الإعدادیة. (الشوابکة، 2013م: 244) إنّه يکتب الرواية والقصة القصيرة من أکثر من خمس عشرة سنة، وعلی وجه التحديد من عام 1969م. (دوجلاس، 1984م: 191) هذا الروائي هو الذي حصل على جائزة الدولة التقديرية في الآداب سنة 2008 وحازت روايته "الحرب في برّ مصر" المرتبة الرابعة ضمن أفضل مائة رواية عربية حسب ما فهرسه اتحاد الکتاب العرب. کما أشرنا فإنّ رواية "الحرب في برّ مصر" من أشهر روايات يوسف القعيد علی الإطلاق إنّه يسرد فيها قضيةَ شخصيةٍ تُدعی مصريّاً من خلال نظرات ستة رواة. تتمتع الرواية بالنبرة القروية وأحداثها تجري في ريف مصريٍّ. خلاصتها هي أن العمدة شيخ القرية يحاول أن يرسل ابن خفيره أي مصريّاً بدلاً من ابنه إلی التجنيد ويتعهد إلی الخفير وعائلته أن يترك لهم الأرض التي حکمت القانون عودتها إلی العمدة عبر إلغاء الإصلاح الأرضي. الخفير المحتاج لايری سبيلاً غير الموافقة علی اقتراح العمدة حتی يأخذ الأرض. فأُرسِل مصريٌّ (ابن الخفیر) إلی الخدمة العسکرية بدلاً من ابن العمدة بمساعدة شخص آخر یدعی المتعهد الذي قام باستبدال هوية مصريٍّ ومعلوماته الشخصية بهوية ابن العمدة. أُستشهد مصريٌّ في الحرب وحُدّدت کل الممتلکات المالية والمعنوية وسائر الامتیازات لوالد الشهيد المسجّل اسمُه في الأوراق الحکومية أي العمدة وحُرّم الخفير عنها وهو الوالد الحقيقي، وهکذا تنتهي مأساة مصريٍّ الحزينة. الدراسة والتحليل هنا نتطرّق إلی دراسة وظائف السرد البوليفوني ودلالاته الأسلوبية ووظائفه المؤداة في رواية "الحرب في برّ مصر" من خلال ثلاثة محاور وهي الصراع الدرامي والموضوعي، والشمولیة والإفصاح، والمساواة الحواریة. يجدر بالذکر أنّه تم استخراج المحورين من المحاور الثلاثة المدروسة من الکتب النقدية السردية ولاسيّما المحور الأول والثاني اللذان اقتبسا من کتاب "الراوي والنص القصصي" لعبد الرحيم الکردي (2006م: 138-140) لکن المحور الثالث قد تمّ استنباطه بواسطة الباحثين خلال التأمل والإمعان في نص الرواية. فيما یلي نقوم بتحليل هذه المحاور الثلاثة: الصراع الدرامي والموضوعي[2] لابدّ أن نقرّر أن إحدی وظائف السرد البوليفوني هو تباین الآراء والمواقف التي تنتهي إلی الصراع الدرامي والموضوعي وتکوّن في عملية السرد عنصر الدراما أي انبثاق الروح الجماعية بدلاً من الفردية. و«الدراما کلمة يونانية تعني الحالة والعمل أوالحدث» (بدیع یعقوب، عاصي، 1987م: 623)، کما تعني «الشئ غير المتوقع الذي يهزّ المشاعر هزة عن طريق الصدمة والمفاجأة.» (بن تمیم، 2003م: 12) ينبغي القول بأنّ «الصراع الدرامي هو الصراع الذي ینمو من تفاعل قوی متعارضة (أفکار ومصالح وإرادات) في حبکة وأنّ الراوي المتعدد يتسم بالموضوعية دون ارتکاز علی الذاتية أي الترکيز علی النفس وانشغال الکاتب بمواده وإغفاله الموضوعية» (فتحي، 1988م: 65) فهو يحذو حذو فن المسرحية وطبيعتها ويستوعب العناصر الدرامية. في هذا النسق السردي نحن «نقف إزاء تعدد الآراء ووجهات النظر وليس ذلك وحسب، وإنّما تعدد الرواة يعني تعدد الأساليب والجماليات.» (موسی، 2013م: 195) في رواية "الحرب في برّ مصر" لکل راوٍ من الرواة الستة موقف محدد يختلف عن نظائره. هذه التعددية للمواقف انتهت إلی الصراع الدرامي المتضاد والمتقابل في نصّ الرواية وفيها نواجه العوالم المختلفة تنحرف عن الذاتية والأحادية في المبنی والفکرة ودلالاتها بدل أن نتعامل مع العالم المماثل والمتشابه المحدد. فيها جدال بين الرواة ولاتقتصر الروایة علی صوت واحد ولانجد فيها هيمنة لرؤية واحدة ولایسیر الرواة علی المسار الذي ارتسمه الروائي، بل نجد شکلاً عنقودياً للمواقف في الرواية بدلاً من الموقف الخطي الموحّد. إنّ الراوي الأول في الحکي هو العمدة، وهو شيخ القرية ورئيسها ذو عائلة ثرية ومتفوّقة وخطابه مسيطر وبطش علی سائر الخطابات. لهذا يتبیّن لنا في بداية القصة والصفحات الابتدائية أنها أکثر تمثیلاً في أحداث الرواية ولايعارض موقفَه أيُّ موقفٍ، حتی يخيّل إلينا أنّ الرواية أنشئت علی غرار الرواية التقليدية وتعود بنا إلی النمط المألوف والمعتاد في الروايات التراثية التي يسيطر فیها خطاب راوٍ واحد علی الخطابات کافّةً. إنّ خطاب العمدة في رواية "الحرب في برّ مصر" ليس خطاباً فذّاً منفرداً لاينازعه خطابٌ آخرُ، بل تنحسر سيطرته وتخفف هيمنته عمّا قلیل بحضور سائر الرواة في النصّ من الراوي الثاني إلی الراوي السادس وبينهم الصديق خاصّةً (الرواي الرابع) والضابط والمحقق (الراوي الخامس والسادس) فهما يقومان بالتحقیق مع العمدة وتخويفه من القانون الذي انتهکه. إنّ موقف الراوي الأول (العمدة) حیالَ القضايا يختلف عن الرواة الآخرين ولاسیّما في قضیة الأرض التي تعدّ موضوعاً أساسياً في الرواية. فهو يتخذ موقفاً تقليدياً في الاستیلاء علی أرض السکّان والدهاقين وتسجیلها لنفسه وهو يعارض الإصلاح الزراعي الذي يکون في طور التنفیذ ويبذل قصاری جهده لأن تعید الحکومة الأراضي إليه، وأخیراً أُعِیدت إلیه وحینذاك یحصل نجاح کبیر للراوي ومن جرّائه لایساوي فرحَهُ شيءٌ: «ولأنّ سعادتي بعودة الأرض ما بعدها سعادة أخری في العالم کلّه، تمنيّت أن أموت في ساعتها.» (القعید، 1991م: 7) غیرَ أنّه في جانب آخر من الرواية نجدُ الراوي الثالث (الخفير) له موقفٌ آخرُ يختلف عن موقف العُمدة بکامله، فهو يتوقّع أن يلغی حکم عودة الأرض أو يفرح بعدم عودتها إلی العمدة بينما وجدنا أن الأول يُسرّ بعودتها وهو يقول: «لابدّ وأن الحکومة ألغت حکم المحکمة الذي صدر بعودة الأرض إلی العمدة. فرحت وشعرت بشوق الأرض.» (المصدر نفسه: 62) في حین أنّ العمدة يصف هذا الحکم حکماً عادلاً: «بصدور حکم القضاء العادل بعودة أرضنا.» (المصدر نفسه: 7) إنّ الخفير وأعوانه لايرضون بهذا الحکم الذي أعلنه الضابط لهم: «قال لنا الضابط باختصار: صدر حکم بتسليم الأرض التي معنا للعمدة، فهي أرضه أساساً ... والضابط لا ينسی أنه مصري وأننا أهله.» (المصدر نفسه: 52) کل من الرواة يرصدون القضايا من رؤيتهم الشخصية ولاسیّما القضية الرئيسیة الأخری وهي إرسال ابن الخفير إلی التجنيد الإجباري ونحن نواجه في الرواية رؤی وأصواتاً متعدّدة بدلاً من أن نلقی صوتاً واحداً. إنّ الراوي الأول (العمدة) یعتقد أن ذهاب مصريٍّ بدلاً من ابنه ليس عملاً خطيراً، بل يکون أمراً مألوفاً شأن سائر الأمور: «مصري کان سيذهب إلی الجيش، سواء باسمه أو بدلاً عن أحدٍ، ولايوجد فارق بين ذهابه متطوعاً أو علی أنه ابن العمدة.» (القعید، 1991م: 27) هنا یحدث سؤال وهو ألا يوجد فارقٌ بين هذين الأمرين في الحقيقة؟ إنّ القارئ حين يقرأ هذه الأسطر لا يری هذا العمل غير شرعي يجدر الوقوف عنده، بل يری أنّ الحق مع العمدة وهو لم يقم بعمل غيرمنطقي. یمکن تبریر هذا الاستنتاج من جانب القارئ علی أساس أنّه ينشأ من زواية الراوي الأول، لکن حینما یدخل الرواة الآخرون وهم یختلفون معه رأیاً، یتّخذ الأمرُ مجری آخر. بما أن القعيد اختار السرد البوليفوني بملء اختياره للسرد قدّم رواةً آخرین ليناقض بوجهات نظرهم موقف الراوي الأول ولهذا تختلف آرائهم عن رأي الراوي الأول وإن کانت موافقة فلم تکن ثمة حاجة إلی هذه التقنية ولانجد جمالية لها فيبدو أمراً غيرضروري. فمن ثمّ نجد المتعهد (الراوي الثاني) يبدي رأیه إزاء هذه القضية قائلاً: «أقسم لك لولا احتیاجي في أيامي هذه ما فعلتُ هذا، ثمّ إن نصف أعمالي وقوف بجوار المظلومين. صحيح أن حکاية ابن العمدة ليست من أجل إنسان مظلوم، وأنا غير مقتنع بها، والاحتياج فقط هو الذي دفعني للتوسط فيها.» (المصدر نفسه: 40) إنّ المتعهد یحکم علی الأمر ویتخذ قراراته نظراً للوضع الذي يعيشه، السبب في ذلك والمعيار لديه هو النقود فقط. إنّه يعمل لأجل اکتسابها فهي التي يسدُّ بها مشاکله المادية حالياً. إذن یری هذا العمل حسب تفکیره عملاً لاإنسانيّ ينبغي ألّايقوم به أحدٌ. والمتعهد ینتابه إحساس غریب بأن الظروف القاسیة تسوقه نحوه. وإن کان المتعهد يعدّ صديق العمدة وشريکه في العمل، لکن يختلف موقفه من هذه القضية الرئيسية المذکورة عن العمدة ولانجد اتساقاً بينهما في الموقف الواحد لأنهما لاينتميان إلی راوٍ منفرد ليتّفق موقفهما معاً. إنّ الراوي الثالث أي الخفير وهو أبو مصريٍّ، الذي انخفضت عطوفته الأبوية من أجل الحصول علی الأرض والکنز وهذه هي التي تحدد موقفه تجاه ابنه، موقفه موقف متوازٍ للعمدة لکن يختلف عنه في الرؤية. حينما ينتظر القارئ أن نجد له موقفاً حاسماً نقدياً أمام هذه القضية أو موقفاً ثائراً لکنه لميظهر هائجاً ولم يسأل العمدة عن عدم إرسال أولاده الأربعة إلی التجنيد فیما علیه أن يرسل ولده الوحید إلی التجنيد بدلاً من ابنه، فاقداً هويّته وحياته وناسياً ذکائه وتفوقه في الدراسة. إذ نجد أن موقفه يتفق مع موقف العمدة والمتعهد في أن یخضع له وإن کان يکره: «لم أشأ الرفض والقبول، وعلی طريقتي الخاصة في التصرف في الأمور الصعبة علی الذهن، طلبتُ منهما مهلة من الوقت حتی أردّ عليهما، رفضا المهلة.» (المصدر نفسه: 66) لميظهر الخفير هنا ثائراً علی العملية التي ينويها العمدة ليقرّب الرواية من الروايات التقليدية التي یمثِّل فيها بطلٌ يرفض أي مؤهلات یواجهها ليستمر في عيشة راضية، بل يتردد تجاه القضية ويطلب من العمدة والکاتب رفيقه مهلة لاتخاذ القرار وهما رفضا وهو یظلّ يصمت بدل أن يثور. إنّ شخصية الرواية الواقعية ترصد الحوادث ملتزمةً بالواقع المعيش وإذا رفض الخفیرُ هذا الاقتراح سيسلب العمدة أرضه ويبقی هو وابنه وعائلته جائعين: «قال إنه بالنسبة إلی أرضه سيلغي عقد الإيجار ... ستبقی الأرض معي وسأزرعها مناصفة بيني وبين العمدة.» (المصدر نفسه: 68) فیعود موقف الخفير من هذه القضية إلی ظروف معيشته کما وجدناها لدی المتعهد. إنّ الجوع قد سلبه أي قرار أو فکرة یتخذه أمام القضايا: «طول عمري وأنا أعاني من الجوع، الجوع إلی النوم، الجوع إلی اللّقمة، الجوع إلی الهدمة، الجوع إلی الراحة، العمر کلّه جوع.» (القعید، 1991م: 73) الخفير يحبّ ولده حباً جمّاً لکنّه يضطرّ إلی تضحيته وهو یرسله إلی التجنید بدلاً من شخص آخر ليوفّر مستلزمات الحیاة لسائر أفراد العائلة فينقذهم من الجوع: «لکنّي کنت مسؤولاً طوال السنوات التي مرّت عن إطعام عشرة أفواه مفتوحة کل يوم تطلب الطعام ...» (المصدر نفسه: 75) وهذه الظروف الاقتصادية الضنکة تؤلّف موقفه تجاه هذا الأمر. الخفير يعمل علی عکس عقيدته. فموقفه في الرواية موقف اقتصاديّ کما يقول: «العين بصيرة واليد قصيرة.» (المصدر نفسه: 75) إنّه يعتقد بهذا المثل ويريد من تلقاء نفسه أن يرسل ابنه لتلقّي العلم، لکن الأمر يتطلّب نقوداً لايملکها الخفير ولاسيّما موضوع الأرض الذي التصق بمصیر الخفير ویحدّده تحدیداً. المشکلة الأساسیة التي واجهها الخفير هي أنه لايستطيع أن يوفّق بين هذين الأمرين ولايريد أن يهمل أحدهما، فهما الأمران أحلاهما مرّ: «الدنيا وبکل ما فيها لاتساوي التراب الذي يسير عليه مصري، ولکن عروض العمدة وما وعدني به، جعلت رفض الموضوع ليس أمراً سهلاً کما تصورتُ، خاصة الأرض.» (المصدر نفسه: 76) نلاحظ أن موقف الخفير في هذا الشأن موقفٌ وجداني ثوري طوراً ومنطقيّ ينظر إلیه حسب أوضاعه الاقتصادية طوراً آخر وفي النهاية یغلبُ العقلُ ویوافق علی إرسال ابنه إلی التجنيد. إنّ موقف الراوي الرابع وهو صديق الراوي یبدو أکثر عطفاً من بقية الرواة فهو يعتبر مصريّاً قتيلَ الإجحاف کما يعتبر نفس مصريٍّ مذنباً یستحقّ اللؤم في هذا الأمر فإجابات مصريٍّ عن فعله (تجنيده بدلاً من ابن العمدة) غير مقنعة لنا وللمتلقي ولمیقتنع الصديق به قطّ: «لم تقنعني إجابته أبدا ... .» (المصدر نفسه: 92) لأن هذه الحکاية لدی الصديق وهو شخصية لميعش في الريف أمرٌ غيرعادلٍ غير مقبولٍ فهو يرقب الحادث أيضاً من رؤيته، لأنه يعتقد أن: «ساحة المحاکم متّسع للجميع والکل يعيش الآن في أزهی العصور العدل التي عاشتها مصر.» (المصدر نفسه: 92) إذن موقف هذا الراوي الأخير يختلف تماماً عن المواقف التي شاهدناها حتی الآن حیث يقول: «هل سمعت عن أحد مات من الجوع.» (المصدر نفسه: 96) هذا الراوي بموقفه يعاکس کل ما عهدناه حتی الآن في الرواية فهو ينظر من رؤية أخری ویری أنّ الإنسان مسؤول عن أعماله. علی ما سبق، نری أن الروایة لاتسير وفق موقف واحد ومنفرد ومن حيث الوجهات والأفکار علی خط واحد، بل فيها مجموعة من الآراء والمواقف تتصارع وتتناحر معاً. هذه التقنية تنحو بالرواية نحو الحرکية والدينامية ولانری فيها ما هو ثابت يتعلق سائر الأمور به. هذه التعددية في المواقف في رواية القعيد ورواته الستّة انتهت إلی العملية الدرامية لما ليس هناك راوٍ واحد يفرض آرائه علی الآخرين، بل کلهم یساهمون ویصارعون فيصنعون العالم القصصي القعيدي وإن خفّف الأسلوب الواقعي من حدة هذا الصراع وشدته، لکنّنا رأينا بکل وضوح أن الصراع الخفي في طيّات الحکایة لدی الرواة يبرز لدی بعضهم کالصديق والمحقق ويختفي عند بعضهم کالخفير. الشمولية والإفصاح[3] الوظیفة الهامة الأخری للسرد البوليفوني هي الشمولية والإفصاح وهي تعني أنّ التعددیة الصوتیة «تتيح الفرصة لتقديم الحقيقة من کلّ جوانبها وکذلك يمکنه تقديم الأحداث التي تقع في وقت واحد» (الکردي، 2006م: 139)، بعبارة أخری فإنّ استخدام السرد البوليفوني في القصة الواحدة يعمل علی إبراز الجوانب المختلفة للحقيقة، ويکسر حدة السلطة المطلقة التي يحتکرها الراوي المفرد المهيمن علی القص (المصدر نفسه: 140) انطلاقاً من هذا فإنّ المنظر المتخيّل في العمل السردي يرصد من خلال رؤی وعيون مختلفة فیکون العمل السردي کاملاً، إذ لکلّ من العيون مشاهدات تختلف عن أخواتها فهي تشکّل رسماً سردياً جامعاً. لأن «کل کلمة في الرواية هي حوارية بطبعها حسب التصور الباختيني، فيما يعني الإقرار بمعنی التنوع والتعدد، مقابل الإدانة الصريحة الوحيدة، بما هو المعادل للنص الشمولي القاهر والمعطل لفعل التشظی والتنوع.» (العباس، 2009م: 32) قد طبّق القعیدُ هذه الوظیفة في روايته مباشرةً حیث اختار هذه النوعية السردية بملء اختياره ولم یخترها صدفة حتی يغفل عن أداء وظیفتها کما نجد الراوي السادس أو الأخير يقول: «قائمة جرائم العمدة طويلة. ليس هنا مبرر لإرفاقها بالفصل الخاص بي في الرواية، وأنا واثق أن العمدة لم يتطرق إليها بکلمة واحدة في الفصل الخاص به.» (القعید، 1991م: 146) من هنا ندرك أن الراوي السادس أي المحقق يرصد الحدث من خلال منظاره ورؤيته فيجب أن يقوم بالتعبیر عن شؤونٍ تخلّی عنها العمدةُ، وهذا یعني أنّ الحدث کان ناقصاً لا یتّضح جمیع جوانبه إلا بعد أن زوّدنا القعيد بالراوي الأخير وهو یختلف عن العمدة ليروي مالميروها العمدة وهذا ينتهي إلی الإکمال فيعلم القارئ بالمأساة التي عانی منها مصريٌّ وعائلته. نجد هنا بجلاء أن الراوي السادس (المحقق) يقول إن ما يرويه في فصله الخاص به کان قسماً من جرائم العمدة التي لميتلفظ بها هو. إنّ القعید إذا اعتمد علی الراوي المفرد واتّخذه سارداً وحیداً - أي العمدة فحسب- فستخفی هذه الجرائم التي تجدر الإشارة إليها عن أنظار القراء والمتلقين. إذن يعدّ السرد البوليفوني وسیلةً ليستوعب الروائي جوانب مختلفة للحدث ويجسّد المنظر ويکوّنه تکويناً تاماً. إنّ للراوي السادس - حسب الترتيب الذي اتخذه الکاتب - أي المحقق وكيفية اختياره من قِبَل القعيد دلالةٌ جماليةٌ تدلُّ علی وظيفة راوٍ يحقّق الشؤون ويکتشفها. أخّر الروائي هذا الراوي لينقل ما لم یتمّ التعبیر عنه فنری أنّ کثیرا من المعلومات الّتي يرویها المحقق جدید علی النص. إنّ الحدث الرئيسي في رواية "الحرب في برّ مصر" يجري حول مصريٍّ وإرساله إلی التجنيد، وإذا اختار القعيد راوياً واحداً في العمل السردي فربما یقلل من وضوح الوجوه العدیدة من المأساة التي عانی منها الخفير وابنه أو يبالغ هذا الراوي في تفاصیلها وآلامه، إذ إنّه یحتمل أن يرکّز علی ما هو غير هامّ أو يهمل ما هو جدير بالذکر. والحال حين يعتبر هذا الشأن في رأیه مأساة کبری، يقوم بتشديدها وتکبيرها لأنها تثیر في نفسه شفقة علی مصري فینبغي أن يتفوه بتفاصیلها ويتلفظ بکلّ جوانبها، أمّا إذا لم یؤثِّر في وجدانه کمأساة فنجده يتجاوز عنها سريعاً ولا يکشف خباياها ومعالمها فیصبح الحدث مبتوراً متناثراً. لکن في اختیاره عدة رواة نجد تقییماً محسوباً مستوعباً لهذه المأساة ويُنظَر في جميع جوانب القص. ينتهي النسق السردي البوليفوني في رواية "الحرب في برّ مصر" إلی الإفصاح والشمولية حیث نجد العمدة والمتعهد يعالجان قضية إرسال مصري إلی التجنيد من منظارهما الشخصي، فيرصدان الجوانب التي فيها خير ورفاهية لمصريٍّ وأسرته وأنّ هذه القضية عادلة لايتظلم بها أحد، کما لاحظنا في الفصل الأول الذي يرويه العمدة حیث يقول: «أنني بهذا أخدم مصري. الأرض التي يزرعونها ستأخذها الحکومة وتعطيها لي، ولن يصبح لهذا مورد رزق سوی معاش والده ... عندما أرسل مصري إلی الجيش بدلاً من ابني أعطيه بذلك فرصة نادرة يعيش ويفتح بيتهم، هناك سيأکل ويشرب ويتسلم ملابسه وعليّ أنا مراعاة أهله هنا.» (القعید، 1991م: 26) ما یلفت النظر هنا أنّه ما یرویه العمدة في حصّته الخاصّة من الروایة لا ینطبق علی الحقیقة، لأننا نقرأ في الفصل الرابع حیث يفطن مصريٌّ خلال خدمته أنّ: «في البلد عرفتُ أن العمدة، بعد ذهابي إلی الجيش ماطل ولم يعط والدي الأرض. أخذ الأرض منه أولاً بحکم القانون الجديد، ثمّ سلّمه قطعة منها زرعها بنظام المزارعة أو المشارکة ورفض حتی کتابة ورقة بهذا الوضع الظالم علی طول الخط» (المصدر نفسه: 95)، وکذلك في الفصل الأخير من الرواية: «حضر إليّ عدد کبير من فلاحي البلد. شکوا لي من مظالم العمدة التي لاتنتهي.» (المصدر نفسه: 146) نستخلص من هذه التفاصيل حدثاً جامعاً فهو أن العمدة رجل جائر صاحب قدرة فائقة يجحف القرويين وإن کان یعطف علی عائلته، إنّه يتعهد ولکن لا ینجز وعوده، ويخلفها في النهاية. هذه المعرفة عن العمدة لایتمّ الحصول علیها إلا بواسطة تقنية تعدّد الرواة. لانجد لهذه القضية اهتماماً بالغاً إلا في الفصل الذي يختص بالصديق وإن نغضّ النظر عن هذا الراوي فربما لا یتّضح هذا الحدث الرئيسي في الرواية. إذ إنّ الرواة الآخرین جعلوا في سردهم قضية مصري جزءاً فرعياً في حصتهم السردية حیث لاتهمُّهم قضیة مصري وهم منکبّون علی قضايا أخری بحیث أنّ الراوي الأول أي العمدة شغل باله سلبُ الأرض وعدمُ إرسال ابنه إلی الخدمة العسکرية والمتعهد یکترث بالحصول علی النقود والخفير مشغول بأن تبقی الأرض لهم فمن ثمّ إنهم لم یولوا قضية مصري اهتماماً فصارت جزءاً مهملاً أو مقطوعاً في السرد إلی أن يظهر الصديق وهو الراوي الرابع، وبما أنّ هذا الراوي کان صديقاً لمصري یهتمّ في حصته بتناول القضية تناولاً تاماً بینما لا نجد له حضوراً فاعلاً في الفصول الأخری حتی في فصل الخفير أبي مصري. نری الصديق يکترث بمصري وشؤونه قائلاً: «قبل الاستطراد في الحکاية. هناك أمور لابدّ من الکلام وتسجيلها في أوراقي، المسألة بالتحديد هي تفکير مصري، کيف کان يفهم العلم، لم يکن کثير الکلام ومهما تحدث فالکلمات کانت تتأرجه بين تصميمه علی أخذ الثأر، هکذا کان يقول أو التردي في هوة اليأس.» (المصدر نفسه: 93) نستنتج من هنا أنّ القعيد جعل راوياً يستفیض في مأساة مصري وما یهمّه هو ألّا یترك هذا الحدث ناقصاً غیرَ منجَر. إن نغضّ النظر عن اختيار هذه النوعية السردية في رواية القعيد فالراوي الأول قد یضع الإصبع علی ما یهمّه ويسردها علی ضوء وجهة نظره ویغفل عن غيرها لأن رؤیته تختلف عن رؤیة سائر الرواة کما أن لدی الراوي الثاني أي المتعهد أیضاً وجهة نظر أخری وکذلك ميول ورغبات وعقائد خاصة فیرصد شؤوناً ربما ترکها العمدة لعدم أهمیتها في رأيه وهکذا بقية الرواة وإن تأسسّت رواية علی النسق السردي البوليفوني لابدّ أن يکتمل العالم القصصي المرتبط بالشخصيات ولايترك جانباً منه إذ إنّ کلّاً يری القضایا حسب رؤيته الخاصة وانتقال جميع معالم الحدث باختلاف المواقع والرؤی. هذه تنتهي إلی الشمولية والإفصاح اللذین اعتبرناهما وظیفة سردية من وظائف البوليفونية، إذ إنّ الروائي يتخذ راوياً مفرداً للسرد فکأنّه یلتقط صورة واحدة بواسطة الکاميرا للمشهد، أما إذا وظّف تعدد الأصوات فکأنه یلتقط صوراً متعددةً. استناداً إلی ما قیل فهنا نجد القعيد قد قام بالتقاط ستّ صور لقضية مصري بدلاً عن صورة واحدة، ومن الجليّ أنّ هذه الصور الست تشکّل أظهر وأفصح وأشمل تصويرٍ للمشهد بالنسبة إلی اللقطة الواحدة التي تأخذ له وبالتالي فإنّ متلقِّي هذه الصور يستوعب الحدث بوضوح أکثر. المساواة الحوارية[4] إنّ الوظیفة الثالثة والأخيرة للنسق السردي البوليفوني هي المساواة الحواریة. ونظراً لهذه المیزة یمکننا أن نعبّر عن السرد البولیفوني بـ«ديمقراطية الکلام وحرية القول والمساواة والتعددية والاعتراف بوجود الآخر وحقّه في الحياة والکلام وإلغاء عصر التهميش والعبودية وهو يعني في الوقت ذاته انتهاء عصر کان فيه الراوي العليم يتکلّم وحيداً والناس یستمعون إليه خوفاً. قد عمّت المعرفة بين الناس في عصر القراءة ولم يعد القارئ متلقياً سلبياً استهلاکياً، ولايصدّق کل ما يقال لأن مصادر المعرفة متنوعة في عصر الاتصالات، فالمساواة في الکلام حقّ لکلّ شخصية في عالم الرواية ولايحقّ لأيٍّ کان أن يحجب عنها إلا بإرادتها ومن هنا تنوّعت أشکال التعدد.» (موسی، 2013م: 196) وفقاً لهذه المؤشرة تقرب الرواية من البوليفونية وتعدد الأصوات اللتین يزعهما میخائیل باختين. إنه یعتقد أنَّ «الرواية المتعددة الأصوات تشتمل علی جميع العلاقات الحوارية بين جميع عناصر البنية الروائية مثلما يحدث عند مزج مختلف الألحان في عمل موسیقي.» (باختين، ١٩٨٦م: ٥٩) بناءً علی ما سبق فبإمکاننا أن نعدّ رواية "الحرب في برّ مصر" عرضاً مسرحياً للآراء والأحداث وفيه لکلّ من الشخصيات حقٌّ للکلام بحیث أن الشخص یتکلم بنفسه عن ذاته. إنّ القعيد لم یأت بعدد کثیر من الشخصیات في النص السردي حتی نجد أن أصوات بعضها مسکوت عنها في الرواية بل عنده شخصيات معدودة ولکل منهم راوٍ خاصّ يسوغ له التکلم والسرد، فتشبه الرواية محکمة فيها يدلي کلّ شخص بآرائه ولکلّ إنسان حق في الکلام. «تکون المادة القصصیة فیها عبارة عن کوکبة من الدلالات المتصارعة دون أن یطغی منظور علی منظور آخر وبذلك تنتقل الروایة إلی أصوات ونغمات بولیفونیة متعددة ومتنوعة ومختلفة تشمل أشکالاً فنیة وصیغاً أسلوبیة جدیدة تتیح للمؤلف إدخال مستویات عدة للسرد وإدخال الوسائل الفنیة والتکنیکیة الحدیثة.» (جواد الطلال، 2016م: 18) هذه التعددية للرواة تختلف تماماً عمّا عهدناه في التراث السردي مثلما نراه في حکايات ألف ليلة ولیلة. في الآونة الأخيرة نری القصة الواحدة تتاح فیها لکلّ من الرواة فرصة ليروي القصة حسب رؤيته الخاصة ولانلقی فیها راوياً واحداً فقط مثلما نراه في الأدب الشفوي الذي يروی فیه الحدث ويصغي إليه الأشخاص خوفاً. إنّ الأمر في روایة القعید علی عکس ذلك حیث يظهر ستة رواة، کل منهم يقصّ جزءاً من القصة حسب رؤيته فهم يقفون أمام قضية واحدة في الشبکة السردية القعيدية فهي قضية مصريٍّ. یحدث جدالٌ بين الرواة، کل منهم يسعی لأن يعرّج فکرته علی السرد ويقتحمها بذاته فیتخلّصون بذلك من أسر التقليد والعبودية. اتّخذَ کلٌّ من الصديق والمحقق والضابط موقفاً محدّداً تجاه العمدة بوصفه الراوي الأول مزوّداً بکمیّات کبیرة من الثروة والسلطة فلم يتفقوا مع آرائه. علی هذا الأساس یمکننا أن نسمّي روایة القعید نصاً بولیفونیاً، لأن کلا من الشخصيات یظهرون في السرد بأصواتهم کما يبدأ العمدة السرد هکذا: «لاأعرف بالتحديد من أين أبدأ الحکاية، کنت أتصور أن ليلة الأمس من الليالي التاريخية.» (القعيد، 1991م: 7) أو کما يستأنف الراوي الأخير أي المحقق صوته عن آرائه قائلاً: «تستهويني لحظة انتصاف الليل، أتعامل معها علی إنها حد فاصل بين يومي انقضی أمره ويوم لانعرف عنه سوی اسمه.» (المصدر نفسه: 135) إذن کما نجد فکل من الشخصيات یبدون في السرد بصورة متساوية یتحدثون بالضمير المتکلم الأحادي عن نواياههم وأفکارهم. إنّ رواية القعيد قد اقتربت بفضل السرد البوليفوني من المسرحية واقتفت أثرها واستعارت منها تقنية الحوارية لما فيها لکل من الشخصيات من العمدة إلی المحقق – ماعدا مصرياً الذي يتحدث مع الصديق نیابةً عنه في السرد- حقٌ في الکلام وهم يظهرون في حصتهم السردية ساردين، ويجري في القصة نوع من الحوارية الخفية حیث يمکننا أن نعتبر حصة الخفير السردية ردّاً علی العمدة والمتعهد کما أن حصة الصديق تعدّ ردّاً علی الخفير والعمدة والمتعهد معاً وقس علی هذا إلی الراوي الآخر. ومن ثمّ نجد فيها ما یشبه محکمةً يتحدث کلٌّ عن أفکاره وآرائه وفيها للخفير الذي یبدو أقل الشخصيات درجة في الرواية حصة أتیحت له فرصة مناسبة لإبداء رأیه. في حین أنّ الشخصیّات العدیمة الفائدة في الراوي المفرد یتمّ إقصاؤهم في العملیة السردیة ولایستمع إلی صوتهم علی الإطلاق وتبقی شخصيات مؤثرة وفاعلة في مساق الحوادث فحسب «ويظل الراوي وحده يصيح ويحکي عن نفسه دون أن يتيح الفرصة لأي إنسان آخر کي يقول، وهذا یعني أنّ الإنسان الوحید يتحول فيها غولاً يفترس کل الأصوات.» (الکردي، 2006م: 140) وفي الرواية الواقعية التي نواجه فیها أصوات الطبقة المتدنية في السرد لکنهم أيضاً من الشخصيات الهامة، شخصيات تملأ فجوات کبيرة وتنتمي إلی الأبطال لکن في رواية القعيد البولیفونیة ليس الخفير بطلاً بل شخصية عادية فحسب، منحت له فرصة ملائمة للتکلم والإفصاح عن معاناته. إنّ السرد البوليفوني نتجَ إثر أفول الراوي الشفهي أو التقليدي التراثي في العصر الحديث وهو تصغيرٌ لأهميته بما لم تعتبر من أسانيد الفعل القصصي مثلما حازته قبل الرواية الجديدة فهذه التقنية سلبت الراوي سطوته وقدرته علی السرد فلم يجد الروائي علی عاتقه أن يخلق مثل هذا العنصر الوثني القديسي المؤقر بل بتوظيف السرد البوليفوني وعرض تعددية الأصوات يتنزّل من أهميته وعتوّه ودیكتاتوريته ليزيل عن السرد ظل الراوي المفرد المرهق والمتعب. إنّ القعيد تصرّفَ في هذه الرواية رداً علی أفواه الراوي المفرد وسطوته وحطّ من هيمنته وقام بإنهاء قيمته فنجده یصرّ علی تشکیل نظامٍ جمهوريٍّ في العالم السردي ولا یوجد فيه أحد يحتکر الآراء بل للجميع حقٌ في إنشاء هذا العالم القصصي مثلما نجد في النظام الجمهوري حقاً لجميع الناس في تشکيل الحکم السياسي. إنّ الراوي المفرد یمکن اعتباره بمثابة هذا المثل الفارسي: "یک طرفه به قاضي رفتن" الذي یعادله في العربیة "مَن یأتِ الحکَمَ وحدَهُ یُفلِحُ" (العسکري، 2003م: 208)، ولکن السؤال الذي یثور هنا هو ما إذا كان الحکم عادلاً متناسباً في العصر الراهن وعصر الديمقراطية وحوار الحضارات؟ علی سبيل المثال في هذه الرواية حينما يسود موقف الراوي الأول وسطوته حتی نهاية الفصل الأول يعتاد القارئ علی رؤيته وموقفه إزاء الأرض واستملاکها وقضية مصريٍّ وإرساله مبدّلاً إلی التجنيد الإجباري، فربما يوافقه علی الرغم من المظالم التي حدثت من جرّاء هذه القضية. إذ إنّه لم یکن حتّی الآن موقف آخر يناهض موقف العمدة ویفضح تصرفاته اللاأخلاقية. إنّه بمفرده يعرض هذا الوجه البسيط ويورد في تقريره البراهين الخاصة وفقاً للدور التوثيقي للراوي حتی يشعر المتلقي الصدق في خطابه. هذا الأمر يقتضي أن يدخل الروائي مراراً في السرد وتتجسّد رؤيته أو الحقيقة تجاه هذه القضية ليوحي الثقة إلی المتلقي وربما تتسبب مداخلات الراوي العدیدة في السرد في انزعاج القارئ في مسار الکشف عن الحقيقة. وهذا أيضاً ينتهي إلی الذاتية أي تعبير الروائي عن مشاعره، والصحيح في الأمر أن يتخذ الروائي موقفاً محايداً. کما أن في هذا الصنف من الرواية التي يتخذ الروائي فیها عدة رواة، يستوعب المتلقي الحکمَ العادلَ وأنّ أي موقف من مواقف العمدة أو الخفیر یتوافق مع الحقیقة فیشاطره القارئ في الرأي، ویحصل ذلك الاستنتاج دون أي تدخل من جانب الروائي وإنّما بواسطة رواة کلٌّ منهم يبدون عقائدهم ومواقفهم بالحريّة التامة. إذن هذه التقنية آلیة مرغوبة لعرض المواقف المتعددة أو الحقيقة بواسطة إضفاء الموضوعية علی القصة ودفع المتلقين إلی استشفاف الحقيقة والموقف الصحيح. يمكننا أن نعطي مثالاً على ذلك في القرآن الكريم ونحن الیوم یمکننا أن نعدّه إحدی وظائف تعدد الرواة حیث نقرأ: ﴿الذين يستمعون القول ويتّبعون أحسنه﴾ (الزمر: 18). وتفسيره أنه يجب الإصغاء إلی المواقف العديدة؛ موقف الکفار والإسلام في عصر النبي حتی ندرك ونمیّز بسهولة ما هو أوضح حقيقةً وأجلی نوراً. النتیجة بعد ما درسنا وظائف السرد البوليفوني في روایة "الحرب في برّ مصر"، توصّلنا إلی أنّ هذا النسق السردي قد أحدث وظائف ودلالات متعددة وأنّ هذه الرواية المتعددة الأصوات مهّدت أرضية خاصة للصراع الدرامي والموضوعي ومن هذا المنطلق انتهت إلی تکوين فعل الدراما في أبهج مناظره وابتعدت الرواية عن الذاتية التي تعتبر من ميزات الشعر لا السرد. رغم أنّ الابتعاد عن الذاتية يوجد في کل رواية، إلّا أنّها أکثر وضوحاً في الرواية المتعددة وتبدو الذاتية فيها في أقل صورتها فیما تتجلّی الذاتية في الرواية المفردة بشتی أنماطها. إنّ استخدام التعددیة في هذه الرواية قد تسبّب في الإفصاح والشمولية أي ضبط جوانب القصة کافةً غير متروك أي من جوانبها، بحیث لانجد نقطة سوداء أو غامضة أو حقائق کامنة في التقارير السردية وشخصیاتها وأحداثها في الرواية وقد تمّ التعبیر عن جميعها أو أکثرها وأهمّها عبر هذه التعددية، إذ إنّه فيها لکلّ من الرواة وجهات نظر فهم التقطوا حصة تتناسب بوجهتهم واتّضحت الحکایة من خلال ستّ وجهات وهذا ممّا أدّي إلی الإفصاح والشمولية. کما أنه قد أتاح الفرصة لکل من الشخصيات حتی أحطّهم درجةً – أي الخفير- أن یعبّر عن مواقفه ومعاناته ممّا انتهی الي الحوارية والمساواة، والقعيد يحاول ألّايهمل صوت أيّ من الشخصيات في العملية السردية فيصبح الأمر مسکوتاً عنه، بل يعتزم أن یتسنّی لهم المجال للکلام ویعطي لکلّ منهم حقّاً في التعبیر حتی يستقصي المتلقي الحقيقةَ ولا يملي الکاتب بنفسه آرائه علی المتلقين.
[1] Polyphonic narration [2] . Dramatic and thematic conflict [3] . Disclosure and comprehensiveness [4] . Dialogue equality | ||
مراجع | ||
القرآن الکريم.
باختین، میخائیل. (1986م). شعریة دویستفسکي. تر: جمیل نصیف التکریتي. ط1. الدار البیضاء: دار توبقال للنشر.
بدیع یعقوب، إمیل ومیشال عاصي. (1987م). المعجم المفصّل في اللغة والأدب، ط1. بیروت: دار العلم للملایین.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ (2003م). قاموس السرديات. تر: سيد الإمام. القاهرة: ميريت للنشر والمعلومات.
بن تميم، علی. (2003م). السرد والظاهرة الدرامية. ط1. الدار البيضاء: المرکز الثقافي العربي.
التلاوي، محمد نجیب. (2000م)، وجهة النظر في رواية الأصوات العربية، سوريه: منشورات اتحاد الکتاب العرب.
جواد الطلال، مؤید. (2016م). «مفهوم تعدد الأصوات في السرد الروائي». الموقف الأدبي. العدد 539. ص36-17
جينيت، جيرار. (1997م). خطاب الحکاية. بحث في المنهج. تر: محمد معتصم وعبدالجليل الأزدي، لامک: المجلس الأعلی للثقافة.
دلشاد، شهرام وسید اسماعیل حسیني أجداد. (1396ش). «بررسی موتیف أرض در رمان "الحرب في برّ مصر" از یوسف القعید». نقد ادب معاصر عربی. السنة السابعة. العدد 13. صص195-175
دوجلاس، فدوی مالطي. (1984م). «يوسف القعيد والرواية الجديدة». مجلّة الفصول. العدد 3. الحداثة في اللغة والأدب، القاهرة: الهيئة المصرية العامة للکتاب.
روحي الفيصل، سمر. (2003م). الرواية العربية البناء والرّؤیا. دمشق: اتحاد الکتاب العرب.
زارع، ناصر ورسول بلاوي وزهرا هاشمی تزنگی. (1399ش). «تحلیل گفتمان رمان "الحرب في برّ مصر" اثر یوسف القعید (بر اساس نظریه تحلیل گفتمان انتقادی نورمن فرکلاف)». مجله زبان و ادبیات عربی. السنة الثانیة عشرة. العدد 1. صص 160-147
مصطفی جمعة رشوان، أبو الفتوح. (2020م). «موضوعیة الرؤیة وذاتیة السرد في روایة یوسف القعید الحرب في برّ مصر». حولیة کلیة اللغة العربیة بنین بجرحا. العدد 24. صص9977-9924
الشوابکة، سميّة سلیمان. (2013م). «الميتاقص تجريباً روائياً: قراءة في أعمال الروائي المصري یوسف القعید: "الحرب في برّ مصر"و"یحدث في مصر الآن "وثلاثیة "شکاوی المصري الفصیح"». مجلة جامعة النجاح للأبحاث. العدد 3. صص666-639
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ. (2010م). «البوليفونية في الرواية العربية "يوسف القعيد نموذجا"ً». دراسات العلوم الإنسانیة والاجتماعیة. العدد 1. صص93-81
صاعدي، أحمدرضا ورؤیا خبّازة. (1393ش). «بررسی مؤلفههای پسامدرنیسم در رمان "الحرب في برّ مصر" اثر یوسف القعید». مطالعات داستانی. السنة الثانیة. العدد 4. صص93-76
عامري، شاکر وصادق عسکري وعليأکبر نورسیده وزهرا بهشتي. (1397ش). «تجلیات السرد البولیفوني في روایة "اعترافات کاتم الصوت" لمؤنس الرزاز». إضاءات نقدیة. السنة الثامنة. العدد 31. صص110-87
العباس، محمد. (2009م). مدينة الحياة. جدل في الفضا الثقافي للرواية في السعودية. دمشق: دار نينوی.
العسکري، أبو هلال. (2003م). جمهرة الأمثال. الجزء الثاني. تحقیق: محمد أبوالفضل إبراهیم. صیدا- بیروت: المکتبة العصریة.
فتحي، إبراهيم. (1988م). معجم المصطلحات الأدبية. تونس: المؤسسة العربیة للناشرین المتحدين.
القعيد، يوسف. (1991م). الحرب في برّ مصر. ط5. القاهرة: مکتبة مدبولي.
الکردي، عبدالرحيم. (2006م). الرواي والنص القصصي. ط1. القاهرة: مکتبة الآداب.
لحمداني، حمید. (1991م). بنية النص السردي. بيروت: المرکز الثقافي العربي.
سعید، لعوج وزمیت جابر. (2020م). دراسة البنية السردية في رواية: الحرب في بر مصر- ليوسف القعيد. المسیلة: جامعة محمدبوضیاف.
موسی، خليل. (2013م). «دفاتر الزفتية بين السرد المشهدي وتعدد الرواة». مجلة جامعة دمشق. عدد خاص. صص203-181
مولوی، جلال الدين. (1393ش). مثنوي معنوي، چاپ دوم، تهران: فرهنگ جامع.
وادي، طه. (2002م). الکتابة السردية وأزمات الحرية، بحوث المؤتمر العلمي السادس لکلية الآداب والفنون. منشورات جامعة فيلادلفيا.
Geoffrey Leech & Mick Short (1983), Style in Fiction (A Linguistic Introduction to
English Fictional.
| ||
آمار تعداد مشاهده مقاله: 537 تعداد دریافت فایل اصل مقاله: 178 |