تعداد نشریات | 418 |
تعداد شمارهها | 10,005 |
تعداد مقالات | 83,622 |
تعداد مشاهده مقاله | 78,361,608 |
تعداد دریافت فایل اصل مقاله | 55,399,823 |
تحلیل زاویة الرؤیة في شعر رضا براهني وفاروق جویدة من منظار تودوروف | ||
إضاءات نقدیة فی الأدبین العربی و الفارسی | ||
مقاله 1، دوره 13، شماره 49، خرداد 2023، صفحه 9-36 اصل مقاله (328.96 K) | ||
نوع مقاله: علمی پژوهشی | ||
نویسندگان | ||
سید اسماعیل حسینی اجداد نیاکی1؛ حامد پورحشمتی* 2 | ||
1أستاذ مشارك، قسم اللغة العربية وآدابها، جامعة کیلان، کیلان، إیران | ||
2باحث ما بعد الدکتوراه في فرع اللغة العربیة وآدابها لمؤسّسة النخب الوطنية الإيرانية، جامعة کیلان، كیلان، إیران | ||
چکیده | ||
إنّ زاویة الرؤیة من المصطلحات الأكثر أهمیّة في الدراسات السردیّة الحدیثة؛ فهي محاولة حمیدة لتقلیل تفوّق دور السارد علی النصّ وطریقة فنّیّة فاعلة تُظهر نوع إدراك السارد ونظرته إلی موضوعات متداخلة یستهدفها والعلاقات الّتي یقیمها مع الشخصیات الأخری. یعتني تودوروف بالجانب المعرفيّ والفكريّ في زاویة الرؤیة ویسخّرها طریقة فنّیّة من طرق التحكّم في رؤی الشخصیّات خلال الأحداث المختلفة أو الإشعار بمدی إدراك السارد أمام الشخصیات الأخری. إنّ رضا براهني وفاروق جویدة من الشعراء المحدثین في الشعر الفارسيّ والعربيّ المعاصر وهما یحتفیان بأحداث السرد وما يجري على شخصياته من تغيّرات سلوكیّة عند صراعها مع قضایا مختلفة كما یولیان أهمیّة لمشاركة السارد في السرد بحیث یمتلك السارد في قصائدهما حرّية العمل وقوّة التنقّل إلی أيّ مكان وزمان، غیر أنّه بدلاً من أن یتدخّل في الأحداث مباشرة، يلخّصها أو يحلّلها بعد حدوثها عادة. بما أنّ لنظریّة تودوروف النقديّة في دراسة زاویة الرؤیة أثراً كبيراً في النقد الأدبيّ، جعل البحث الراهن هذا التأثير الملحوظ في ساحة التطبیق والمقارنة في نماذج شعریّة للشاعرین الإیرانيّ والعربيّ الحدیثین، وصولاً إلی رؤی السارد الجوهرية إزاء القضایا المتصارعة الّتي يعيشانها في عالمهما الحقیقيّ والتخييليّ. لقد انتهجت هذه المقالة المنهج الوصفيّ – التحلیليّ وترمي إلی دراسة أنماط زاویة الرؤیة في شعر فاروق جویدة ورضا براهني من منظار تودوروف مرتكزة علی دعائم المدرسة الأمریكیّة للأدب المقارن. تفید نتائج البحث بدینامیة ثلاث تقنیات رئيسة اعتبرها تودوروف في تصنیف أنواع زاویة الرؤیة، منها تقنیة "الرؤیة من الخلف" الّتي تمتاز في شعر فاروق جویدة بانهماك السارد في التعبیر عن عمق الموضوع، وبالعكس یبادر السارد إلی الهرب منه في شعر رضا براهني. تمتاز تقنیة "الرؤية مع" في شعر رضا براهني بتعایش السارد السلميّ مع الشخصیة أو مشاركته في شؤون حیاتها وتأتي في شعر فاروق جویدة في موضع نقاش السارد مع الشخصیة واستجوابها تجاه تصرّفاتها وأفكارها. أمّا تقنیة "الرؤیة من الخارج" فتقترب في شعر رضا براهني من حالة إخفاء السارد الحقیقة بتعمّد وتدلّ في شعر فاروق جویدة علی حالة عجزه عن اكتشافها. | ||
کلیدواژهها | ||
الشعر السرديّ؛ تودوروف؛ زاویة الرؤیة؛ رضا براهني؛ فاروق جویدة | ||
اصل مقاله | ||
لقد قطع الأدب السرديّ المعاصر أشواطاً متقدّمة إلی توسعة شكله وفحواه. تطوّر الشعر السرديّ في العصور المختلفة من نوعه المختلط وتبدّل إلی ما هو علیه الآن بوصفه بنیة مستقلّة تفتقر إلی وصف الأشیاء والشخصیّات ونقل الأحداث المختلفة بمشاركة سارد یقع فیه مشاركاً أو محایداً. یسع السرد أن یستوعب عناصر متعدّدة علی غرار الحبكة[1] والزمان[2] والمكان[3] والشخصیّة[4] و...، ولكن تتمیّز زاویة الرؤیة[5] بینها بأنّها انفتاح علی تطوّر الأداء الفنيّ للسرد أو طریقة تفاعلیّة یتمّ من خلالها إدراك السرد ومبتغاه علی أساس العلاقة المعرفیّة بین السارد وشخصیّاته في النصّ. تكون زاویة الرؤیة من منظار تودوروف[6] حالة معرفیّة من السرد یأتي فیها السارد من الخلف عالماً بكلّ تفاصیل النصّ بما فیها من الأشیاء والأحداث والشخصیّات الّتي ینغمس السارد في دواخلها ونزعاتها أو یظهر السارد في رؤیة مصاحبة ومساویة للشخصیة ویعرف مجرّد ما تعرفه، وفي نهایة المطاف یكون السارد أصغر من الشخصیّة إلماماً بحیث إنّ احتكاره الرؤیة یتضاءل أمام الشخصیة وهو یری الشخصیة ووقائع النصّ من الخارج ویسمعهما سطحیّاً دون أن ینفذ في عمق تفاصیله. تحظی زاویة الرؤیة من منظار رآه تودوروف في الشعر السرديّ المعاصر بمساهمة كبیرة في تطوّر أدائه الفنيّ لجدارتها الفنیّة بإنهاء استیلاء السارد علی النصّ؛ فیمكن للرؤیة متی ما تشاء، أن تجعل السارد أعلم من الشخصیات أو مساویاً لها أو أقلّ معرفة منها دون أن یمسّ بحبكة النصّ ویفصل القارئ عن متابعة النصّ. لقد كان فاروق جویدة[7] ورضا براهني[8] شاعرین كبیرین في الأدب العربيّ والفارسيّ المعاصر؛ فأصبحت ینابیع الرومانسيّة والواقعيّة كلتیهما متدفّقتین في قصائدهما وهما ينظران إلى الحیاة الإنسانیّة من منظور عالمها الداخليّ والخارجيّ وخاصّة ما یرتبط بعلاقة الإنسان المعاصر بمظاهر الوطنیة والحدیث عن المشاكل الاجتماعیة في البلاد. إنّ لدی الشاعرین موقفاً مشتركاً في النظرة إلی أحداث المجتمع وإنارة أحوال مضطربة منه وكذلك لهما طریقة فنّیة متقاربة في تشكیل الرؤی السردیة الّتي یتابعها ساردهما في وصف الأحوال والأمكنة والشخصیّات. فیما یخصّ التثبّت من ضرورة البحث وأهمیّته بالضبط وبالأحری من سبب اختیارنا نماذج مقارنة في شعر فاروق جویدة ورضا براهني علی تطبیق نظریة تودوروف في أنواع زاویة الرؤیة، كانت طریقة متقاربة یستخدمها الشاعران لإلقاء الضوء علی علاقة السارد مع الشخصیّات وتغیّر مدی معرفته أمامها. ظهرت أشكال متنوّعة من استخدام زاویة الرؤیة في شعر فاروق جویدة ورضا براهني - ولو أنّ معظم تركیزهما بات علی المعرفة الكلّیّة للسارد - غیر أنّ السارد قد یشارك في النصّ أو یغیب ویسمح بالمزید من التعرّف إلی الشخصیّة مباشرة ودون تدخّل مركزيّ من جانبه. یمكن للسارد في شعرهما أن یسرد الأحداث بعد وقوعها برؤیة مشرفة مشاركة في وقوعها أو یصبح شاهداً بعیداً عمّا یقع داخل النصّ ویسمع مجرّد صوته بخطاب یصدر عنه مسیطراً علی سائر الخطابات، وكذلك یجعل موقفه في مقام المواءمة أو المعارضة لموقف الشخصیّات الأخری. هذه الرؤی المختلفة الّتي یتّخذها السارد في شعر فاروق جویدة ورضا براهني بهذه الصورة أو بتلك، تعیّن موقف اتّجاهاته ومیوله مع حسبان الشخصیّات المرتبطة به وتجعل القارئ یزید من تعاطفه مع النصّ من ذي قبل.
أسئلة البحث تهدف هذه الدراسة إلی الإجابة عن سؤالین تالیین وهما یتمثّلان في:
فرضیّات البحث
خلفیّة البحث لقد كثرت الدراسات والبحوث حول وظیفة زاویة الرؤیة في الأدب العربي والفارسي المعاصر، منها كتاب «الراوي والموقع والشكل؛ (دراسة في السرد الروائي)» لیمنی العید سنة 1986م وهو بحث في السرد الفنّي العربيّ المعاصر وإظهار هویة الموقع فیه وبلورة قضیة الموقع للراوي الّذي یبدي دلالیة الشكل بإجلاء العلاقة العضویّة بین موقعه ونمط البنیة الّتي بها یقول. «تحلیل الخطاب الروائيّ (الزمن – السرد – التبئیر)» كتاب ألّفه سعید یقطین سنة 1997م وتناول فیه تحلیل الخطاب الروائيّ واقفاً علی ثلاثة مكوّنات مركزیّة یقوم علیها الخطاب من جانبیه المتقاطبین: الراوي والمروي له وهي الزمن والصیغة والرؤیة السردیّة. «نظریة السرد من وجهة النظر إلی التبئیر» لمجموعة من الباحثین سنة 1989م وهذا كتاب یضمّ ترجمات النصوص المختلفة من منظّري السرد لیعلن انحیازاً واضحاً حیال السردیّات كاتّجاه تحلیليّ له خصوصیّات تمیّزه عن باقي أنواع تحلیل العمل السرديّ كالسیمیوطیقا السردیّة وغیرها. مقالة «زاویه دید در شعر: زاویة الرؤیة في الشعر» لمحمّد حسین محمّدي الّذي نشرها في العدد الثاني للمجلّد 54 في مجلّة "دانشكده ادبیات و علوم انسانی دانشگاه تهران" سنة 1381ش ویدّعیه فیها بأنّه أوّل من درس مصطلح زاویة الرؤیة في الشعر وما يعنيه منها هو طریق نظرة الشاعر إلى موضوع أو ظاهرة، ممّا يؤدّي إلى تصوّرات مختلفة لحقيقة واحدة. علی الرغم من كثرة المحاولات العلمیّة في دراسة شعر رضا براهني وفاروق جویدة من الجوانب المختلفة، لم تكن دراسة حول وظائف زاویة الرؤیة في شعرهما ولم تجرِ مقارنة بینهما إلّا مقالة «أنماط التعدّد اللغويّ في شعر "فاروق جويدة" و"رضا براهني" من منظور "ميخائيل باختين"، (دراسة مقارنة)» الّتي انتشرت في العدد الثاني للمجلّد 18 لمجلّة "اللغة العربیة وآدابها" بجامعة طهران، والأخری «تقنیة الاسترجاع فی شعر فاروق جویدة ورضا براهنی علی أساس نظریّة جیرار جینیت، (دراسة مقارنة)» الجاهزة للنشر في مجلّة "كاوشنامه ادبیات تطبیقي" بجامعة رازي في مدینة كرمانشاه. كتبهما إسماعیل حسیني أجداد نیاكي وحامد پورحشمتي وحاولا في الأولی أن یطبّقا نظریّة میخائیل باختین[9] الحواریة حول التعدّد اللغويّ في شعر رضا براهني وفاروق جویدة، وقصدا في الثانیة تطبیق نظریّة الاسترجاع من أنواع تقنیة المفارقة الزمنیة عند جیرار جینیت. تختلف هاتان المقالتان عن مساعینا في هذه المقالة وتبتعدان من حیث المنهج والنظرة النقدیة عن هذا البحث الّذي یهدف إلی استكشاف تقنیة زاویة الرؤیة في شعرهما من منظار تودوروف.
زاویة الرؤیة عند تودوروف زاویة الرؤیة والرؤیة ووجهة النظر والمنظور والتبئیر والبؤرة والمركز والموقع وحصر المجال من مصطلحات سردیّة شائعة استُخدمت لنقد النصوص السردیة في أواخر الستّینیات وتتناول «الوضع الإدراكيّ أو المفهوميّ الّذي تقدّم به المواقف والأحداث.» (برنس، 2003م: 151) عرض تودوروف مصطلح الرؤیة مثل الرؤیا ویسندها إلی العلاقة بین السارد والعالم المشخّص لارتباطه بالفنون التشخیصیّة نحو التخییل والرسم التصویريّ والسینما، أو علاقته بفعل التشخیص مهما كان في صوغه أو في فعل التلفّظ. (تودوروف، 2005م: 129) أولی تودوروف عنایة فائقة بالرؤیة في الأدب واعتبرها مقولة هامّة للانتقال من الخطاب إلی التخیّل؛ فمن منظاره تحلّ الرؤیة محلّ الإدراك للوقائع الّتي یتألّف منها العالم التخیّليّ ویتمّ تقدیمها من منظور محدّد أو علی نحو معیّن؛ لذلك تصنع الرؤیتان لواقعة واحدة، واقعتین متمایزتین. (طودوروف، 1990م: 51و50) اعتبر تودوروف الرؤیة إمكانیة أخری لتفحّص السرد معتمداً علی عملیّة النطق أساساً ویلاحظ أنّ «مختلف أنماط الإدراك الملموسة خلال السرد ندعوها «الرؤی»، وبتحدید أدقّ: إنّ الرؤیة تعكس العلاقة بین «هو» (الفاعل المنطوق) وبین «أنا» (فاعل النطق) بین الشخصیة والراوي» (تودوروف، 1996م: 77)؛ فهي تبیّن موقع السارد بین سائر الشخصیات وتضع معرفته في معرض معارفها لعرض مختلف الإدراكات في عمل أدبي مخیّل حسب تعبیره. اعتمد تودوروف علی رصد میزات الرؤیة طبقاً لتصنیف بویون الثلاثيّ مع شيء من التصرّف فیها. أخذ جان بویون یتحدّث عن الترابط الواثق بین الروایة والرؤیة من وجهة علم النفس واستنتج ثلاث رؤی وهي الرؤیة مع والرؤیة من الخلف والرؤیة من الخارج. (یقطین، 1997م: 288) يحتفل تودوروف بدراسة السارد وعلاقته بمسروده ولم يضف في مقاربته لتصنيف بويون سوى ما أشار إلیه من بعض الرموز الرياضيّة علی أساس مدی معرفة السارد أمام معرفة الشخصیة وهي تعرض (> أكبر) و(= مساوٍ) و(< أصغر). (تودوروف، 1992م: 58و59) یتّخذ تودوروف ثلاثة أنواع لزاویة الرؤیة مشبهة للأنواع الثلاثة للرؤی السردیّة عند بویون وهي: الرؤیة من الخلف[10] (السارد > الشخصية) الّتي تعالج سارداً خارجياً غير موجود في السرد ولیس في الخطاب الجاري خارجه. الرؤیة من الخلف من أحد أبرز الطرق السردیّة الّتي یكثر استخدامها بین مختلف طرق السرد وخاصّة في السرد التقلیديّ والقصص القدیمة. یعتبر تودوروف السارد في موقع الرؤیة الخلفیة ویذهب إلی أنّه «في هذه الحالة یعرف الراوي أكثر من الشخصیّة ولا یهمّه أن یفسّر كیفیة حصوله علی هذه المعرفة: فهو یری عبر جدران البیت كما یری عبر جمجمة بطله ولا تخفی علیه أسرار شخصیّاته.» (تودوروف، 1996م: 78) الرؤیة مع[11] أو الرؤية من الداخل (السارد = الشخصية) تصرّح بدور سارد داخليّ موجود في السرد والخطاب، وهو یشارك في الأحداث ويقع داخل النصّ. السارد في الرؤیة المصاحبة یقف علی نفس الأشیاء الّتي تعرفها الشخصیات الأخری، یمكن تتبّع شخصیة أو عدّة شخصیّات برؤیة واحدة یمكن تمثیلها ریاضیّاً علی نحو الراوي = الشخصیة. (میرغني، 2008م: 106) الرؤية من الخارج (السارد < الشخصية) تكشف عن سارد خارجيّ موجود داخل السرد والخطاب بصفته مشاهداً للأحداث فحسب، كأنّما لا یوجد أثر منه في السرد وتكون الرؤیة بهذا السبب خارجیّة.
زاویة الرؤیة عند رضا براهني وفاروق جویدة إذا نظرنا نظرة شاملة إلی بعض قصائد فاروق جویدة مثل قصیدتي «النجم یبحث عن مدار» و«ماذا أصابك یا وطن»، نجد أنّ السارد أخذ فیها موقعاً راصداً لكلّ مجالات حیاة الشخصیة وكلّما زادت معرفته للشخصیة تزداد تعاطفه وتجاوبه معها. في قصیدة «رسالة إلی بوش من طفلة مسلمة بالبوسنة» تقع زاویة رؤیته في حالة التساوي مع الشخصیة الأخری أو في قصیدة "الصبح حلم.. لا یجيء" قد تقلّ رؤیة السارد أمام الشخصیة. في المقابل قد یشاهد تعدّد استخدام زاویة الرؤیة في شعر رضا براهني أیضاً؛ فتتناوب معرفة السارد تجاه الشخصیة في قصیدة «اسماعیل» الطویلة بین إحاطة السارد بكلّ حالات الشخصیّة وما یعامل ویحدث لها، واستتبابه في موقف التساوي المعرفيّ معه. لا تقلّ رؤیة السارد أمام الشخصیة في شعر رضا براهني علی غرار ما تقدّم التعبیر عنه عند فاروق جویدة إلّا في بعض مقاطع شعره كمقطع في قصیدة «حماسه معكوس» یقلّ فیه دوره في التعمّق في الكشف عن خبابا الشخصیة. وعیاً لتناثر النماذج الشعریة الّتي تضمّ وظائف زاویة الرؤیة عند تودوروف في قصائد الشاعرین، لا تضع الدراسة نقاطها علی قصیدتین محدّدتین، بل تأخذ من كلّ قصیدة مقتطفة من قصائد الشاعرین ما یناسب تطبیق النظریة وتحقیق المقارنة بینهما. انطلقت هذه الدراسة من الآن فصاعداً تحتفل بدراسة زاویة الرؤی في شعر فاروق جویدة ورضا براهني قائمة علی نظریّة تودوروف بأنواعها الثلاثة فیما یلي:
الرؤية من الخلف إنّ السارد في الرؤیة من الخلف[1]هو السارد الخلفيّ الّذي یلمّ بما يجري وراء كوالیس السرد ویعرف ما یحدث علی الشخصیّات ویخطر ببالهم، لكنّه لیس في السرد ویكون شاهداً عن بعدٍ علی ما یقع. الرؤیة من الخلف من أحد أبرز الطرق السردیّة الّتي یكثر استخدامها بین مختلف طرق السرد وخاصّة في السرد التقلیديّ والقصص القدیمة، كما یؤیّد ذلك تودوروف قائلاً إنّه «یستخدم السرد الكلاسیكيّ هذه الصیغة غالباً. في هذه الحالة یعرف الراوي أكثر من الشخصیّة.» (تودوروف، 1996م: 78) إنّها تشبه التبئیر عند درجة الصفر أو الرؤیة الّتي تحیط بكلّ شيء ویكون السارد أكثر معرفة ممّا تعرفه الشخصیّات الأخری. (برنس، 2003م: 180) في الرؤیة من الخلف تكون مسؤولیة السرد علی عاتق السارد العليم الّذي له معرفة غير محدودة بالشخصيات وأفعالها وأفكارها في أيّ زمان ومكان، وحيثما شاء يستخدم معلوماته ویقدّمها كأحجية للقارئ. تشكّل الرؤیة من الخلف مصدراً هامّاً في معرفة بواطن الشخصیّات وتطوّر أحداثها في شعر رضا براهني وفاروق جویدة وخاصّة تدلّ في شعر براهني علی معرفة السارد العمیقة لأحداث السرد، ولكن هذه المعرفة لا تعني أنّه قادر في النصّ علی قلب الأحداث بل هو الوسیط الّذي لا یخفی علیه شيء ویكون مدركاً منیراً لعدید من الخوالج النفسیة لشخصیّاته ورغباتها الكامنة وربّما ما لا تعرفه بنفسها. قد یتّخذ السارد لنفسه في قصیدة «اسماعیل» موقعاً شاهقاً یعرف ما یعرفه إسماعیل ویواجه ما یواجهه وربّما یعلو مستوی مدركات الشخصیة ویهدیها إلی طریق صائبة فقدتها؛ فیبدو في فقرات هذه القصیدة أنّ إسماعیل لا یعلم مصیره وحقیقة ما یقع خارج نطاق حیاته وربّما یحتاج إلی من یظهر له الصواب؛ لذلك یسطع عندئذ دور السارد العلیم بوصفه متحدّثاً وحیداً یجعل الشخصیة مشاركة مستمعة إلی صوت من لا یشاركه في الحدث، ولكن تُعرض الوقائع من منظوره. به گورستانها و سنگرها و بیمارستانها بگذر! / بیرون باغ نیست، زندگی نیست، مرگ هم در باغ نیست! / از اهواز تا سرخس پچپچهی شهدا با نمنم باران و چهچهی / چلچلهها میآمیزد/ ارهای تیز در پای زخمیها فرو میرود / و خمپارهها خانهها و خاكها را با هم به بالا میپرانند / و آدمها به پشت بامهای دورتر پرتاب میشوند. (براهنی، 1366ش: 21و20) إنّ ما جاء في النصّ الأعلی یدلّ علی درجة اتّساع المنظور الّذي تبنّاه السارد؛ لأنّ السارد في هذا النصّ عالم بكلّ شيء أكبر وأوسع من رؤیة إسماعیل. یحدّد السارد طریق إسماعیل كأنّها كانت مخطئة ویسوقه إلی المقابر والمتارس والمستشفیات لیعرف فیها حیاة جدیدة كان قد یبحث عنها بعیداً عن وقائع الحرب. في الرؤیة الخلفیة تظهر الأحداث من منظار تودوروف علی شكل یبدو أنّ واحدة من الشخصیّات لم تری الأحداث مجتمعة بل تحتاج إلی من یقوم بتفسیرها. (تودوروف، 1996م: 78) هنا یحاول السارد أن یبدي نفسه أعلم من إسماعیل وما برح یسعی إلی إقناعه وفرض رغباته القومیة الّتي تجیش في صدره علیه؛ فیعلّل له تعلیلاً اجتماعیاً مثیراً لروح المقاومة فيه ویزوّده بمعلومات جمّة عن كارثة حربیّة حاسمة تشمل بلاده من الأهواز حتّی سرخس حیث استُشهِد فیها المقاتلون بطرق متعدّدة كمناشیر حادّة تقطع أقدام الجرحی ویتمّ تدمیر البیوت بقذائف الهاون وإلقاء الناس على أسطح المنازل البعيدة. يتمتّع السارد في رؤیته بقوة كبيرة في تحدید الأماكن، عندما یهدي إسماعیل للذهاب إلى المقابر والمتارس والمستشفیات و... مشیراً إلی الأحداث الّتي وقعت في الأهواز وسرخس، وتسبّبت في دمار إیران وتشرید مواطنیها منذ غزو العراق لها. كلّ هذه المعلومات الّتي تجعل إسماعیل ینخرط في عمق الأحداث المعنیة بالحرب المفروضة، تعود إلی وعي السارد العالم بالأحداث والأفعال وتعلیقه الواسع علیها، وهو بحاجة إلی خبرة لا تتوفّر في شخصیة إسماعیل بل في السارد المحیط بكلّ جهات السرد. تأتي الرؤیة الخلفیة في نموذج آخر من قصیدة "اسماعیل" بطریقة أكثر تحدیداً وهي كالسابق تستمدّ الجزء الكبیر من جوهرها من التقاط الموقف المأزوم ونقله إلی سلسلة من المشاهد الموصوفة. یدرك السارد ما یدور حوله ویخبر عن الأحداث الصاخبة الّتي أثّرت علی نظام الطبیعة معلّقاً شاهداً علیها لیتحكّم في صیاغة السرد كلّه؛ إذ إنّ «الشهادة علی وقوع الحدث أو المشاركة فیه تعمل علی تقدیم دلیل مقنع علی صدق الأحداث، اعتماداً علی أنّ خیر من یروي الحدث هو من بشارك في صنعه أو یشهد وقوعه» (الكردي، 2006م: 124) كما یشهد السارد وقوع الحرب في إیران وینقل إلی الشخصیة إلمامه بذلك ویقول: جنگ است اسماعیل، جنگ / و كوسهها از خلیج فارس عقب نشستهاند / ماهیها كشته شدهاند / و از قشقرق موزون موسیقی الكترونیكی نهنگها خبری نیست / موشك زمین و موج را با هم میدرد / ولی هنوز نفتكشها دستنخورده باقی ماندهاند (براهنی، 1366ش: 23) هنا یستعین الشاعر بإفادة تداعي الوقائع المختلفة الّتي ینشط دورها في تفعیل الشخصیة ولفت انتباهه، فتتّسع رؤیة الشاعر وعلمه بكلّ مجریّات العالم عند اندلاع الحرب. یلاحظ في المقطع الأعلی أنّ سیطرة السارد العلیم وهیمنته علی السرد تتزاید؛ فیقوم بوصف مشبه لعین الكامیرا وینقل ما أمامه دون تعلیق متزاید علی ما حدث لیترك الشخصیة أن یستنتج ما یشاء، ولكن التحذیر الّذي یستخدمه في «جنگ است اسماعیل، جنگ» بوضع لفظة الحرب وتنضیدها مكرّراً بحانب أسلوب النداء، لا یترك للشخصیة خیاراً سوی قبول هذه الرؤیة في السارد. تتألّف زاویة الرؤیة من الجمل الّتي یصف فیها الشاعر الحرب ویسند إلیها التغیّرات الخارجیة في البیئة، وهي عند تودوروف ترتبط بالرؤیة المحض الّتي تكتفي بوصف أفعال یجب أن ندركها دون أن یرافقها أيّ تدخلّ من فكرة الشخصیة أو البطل. (طودوروف، 1990م: 52) إنّ ما یبیّنه السارد من الوراء هنا، لا یسبر أغوار شخصیة إسماعیل الداخلیة بل یجرّ علمه إلی المواضع الخارجیة كانسحاب الأقراش من الخلیج الفارسيّ وقتل الأسماك وتخویف الحیتان بصواریخ تشقّ البرّ والبحر ممّا یمنع عن تدفّق الحیاة فیهما، جلّها خارجة من معرفة إسماعیل؛ فیعبّر عنها السارد لغایة تنبیه الشخصیة وتسلیط رؤیته علیها. یلعب صوت السارد وطریقة معاملته للشخصیات في شعر فاروق جویدة دوراً كبیراً في الوقوف علی تفوّق رؤیته علی الرؤی الأخری حیث إنّ الوصول إلی هذا التفوّق یتمّ، عندما یقع الحادث أو الموضوع المثیر للمناقشة في نقطة محوریة لمواجهته للشخصیة الأخری؛ لأنّ مدار موضوع الرؤیة الّذي یعیّنه السارد یجعل البؤرة لا تتعرّض لتضییق أو انتفاء بل كأنّها تستمرّ وتدعی بالبؤرة الخارجیة الثابتة أو ما یدعوها جیرار جنیت بالبؤرة الصفر. (نعمة، 2012م: 6) بات خطاب السارد للشخصیة علی نمط رضا براهني یجرّ النظرة إلی عمق القضیة ویكشف عن رؤیته علی وجه التحدید ویشركها في الحالات النفسیة المتقلّبة بخلاف السارد في شعر رضا براهني الّذي یلتفت إلی الأحداث الخارجیة ویدعو الشخصیة إلی التعامل معها. في هذه الرؤیة لا یقترب السارد من الشخصیة مباشرة كي لا یشتركا في نظام إدراكي واحد، غیر أنّ موقعه من جهة الحضور ووصف الذات في النصّ أكثر من موقع الشخصیة الأخری وربّما یختفي عن العیون حتّی یكون وراء الستار ویَهدي الشخصیة إلی ما یراه ویطلبه من الموضوع الخلافيّ كموضوع الحبّ الّذي یعالجه بسعة في قصیدة «النجم یبحث عن مدار» عن طریق الرؤیة الخلفیّة تماماً: یا سَنْدبادَ العَصْرِ... ارجِعْ / لم یَعُدْ في الحُبِّ شَيْءٌ / غَیْرَ هذا الانْتِحارْ / إرْجِعْ .. فإنَّ الأَرْضَ شاخَتْ / وَالسِّنینَ الخُضْرَ یَأْكُلُها البَوارْ / إرجِعْ.. فَإنَّ شَواطيءَ الأَحْلامِ / أضْناها صُراخُ الموجِ / مِنْ عَفَنِ البِحارْ / هَلْ آنَ لِلْقَلْبِ الَّذي عَشِقَ الرَّحیلَ / بِأنْ یَنامَ دَقِیقةً.. مِثْلَ الصِّغارْ..؟.. (جویدة، لاتا: 10و9) هنا یعرض السارد رؤیته بطریقة التخیّل التأریخيّ[2]ویلجأ إلی تقنیة الاسترجاع[3] للجمع بین الأحداث الماضیة والحالیة. إنّ ما جعل هذه الفقرة قریبة ممّا تمّ تقدیمه في شعر رضا براهني، تعامل السارد البدائي مع الشخصیة من خارج السرد، لكنّها تختلف من حیث ملامحها الرمزیّة. تمتاز هذه الفقرة من القصیدة بابتعاد السارد عن فضاء السرد بصورة ظاهرة واضحة ووضع شخصیة فرضیّة بطلة ینادیها السارد ویری في قصّتها الحیاة الراهنة، لكنّ هذه الشخصیة لیست ذات ملامح ومعاملات معهودة تحظی بها بقیة الشخصیات بل هي شخصیة سندباد الأسطوریة الّتي لها مغامرات صادمة وخارقة تحكى قصصه والمصاعب الجمّة الّتي تواجهها وتتغلّب عليها بطلة. إنّ السارد لیكون خارجاً من السرد، یجري نوعاً من المونولوج ویجد شبیهاً بنفسه ویناديه ویعرض علیه رؤیته دون أن تصدر منه إجابةٌ وردّ علی ما یقتنع به؛ فهذه الرؤیة تضمّ طریقة المونولوج الدرامي[1] في قصيدة متخيّلة يخاطب فيها السارد مستمعاً خاصّاً صامتاً بصوت عالٍ ومباشر. (میرصادقی، 1394ش: 537) هنا یتمّ التعبير عن رؤیة السارد بشكل مباشر من خلال المتحدّث الّذي یلقي خطابه بطرق مختلفة كاستخدام النداء (یا سندباد العصرِ) والأمر (ارجعْ) وتقدیم الملاحظات أو التعليقات الّتي تلحق الأمر نحو (لم یَعُدْ في الحبِّ شيءٌ / غیرَ هذا الانتحارْ) و(فإنَّ شواطيءَ الأحلامِ / أضناها صُراخُ الموجِ)، ثمّ طرح السؤال في (هَلْ آنَ للقلبِ الّذي عشق الرَّحیلَ / بأنْ ینامَ دقیقةً.. مثلَ الصغارْ) تأكیداً علی رؤیته للحبّ. هذه الطرق تدلّ علی توقّع السارد لردود الفعل والإيماءات من المحاوَر؛ لكنّ هذه الرؤیة للسارد لیست إلّا ردوداً تُقدَّم إلى نظيره المرئي وتبتغي الآخر هادفةً إلی أن يصبح القارئ أكثر دراية برؤیة السارد ويستثير استجابة عاطفية شديدة منه لتقبّل موقفه الغالب علی النصّ. لقد ظهر استخدام هذه الرؤیة السردیة من الخلف في القصائد الأخری لفاروق جویدة أیضاً، والّتي تختلف ظاهرة، ولكن تشترك موضوعاً. إنّ السارد لا یختفي فیها عن عیون القارئ للغایة بل یمكن رصد آثار قدمه في طیّات معرفة مدركاته الغالبة علی الشخصیّات الأخری. في نصّ آخر یتمّ تقدیم رؤیة مختلفة عمّا وجدناها في شعر رضا براهني؛ إذ يطرح السارد رؤیة من لقي حتفه وذاق حبّاً نقيّاً لا مثیل له. یقع السارد خارج النصّ في بعض الأحيان ویعبّر عن تفوّق رؤیته علی الآخرین مشیراً إلی رفض الحبّ في الدنیا والحیاة، ويجيب علی هذه الرؤیة فوراً، ولو أنّ الإجابة تبدو واضحة ولا داعي للردّ عليها. من خلال الإجابة السريعة على الأسئلة، يغلق السارد الطريق أمام الشخصیّات الأخری للتعليق ولا يسمح لها بإعطاء إجابة، وربما خوفاً من إدانة أیدیولوجیته من قبل الجمهور، یسبقها ويغلق الأبواب أمامها للتعليق كي لا يسمح لها بذلك، قائلاً: ما أحْقَرَ الدُّنیا وَما أغْبَی الحَیاةْ / فَالحُبُّ فِي الدُّنْیا كَأثوابِ العُراة / فَإذا صَعَدْتُم لِلسَّماء.. / سَتَرَونَ أنَّ العُمْرَ وَقْتٌ ضائعٌ وَسطَ الضَّبابْ.. / سَتَرَونَ أنَّ النَّاسَ صارَتْ كَالذِّئابْ / سَتَرَونَ أنَّ النَّاسَ ضاعَتْ في مَتاهاتِ الخِداعْ.. / سَتَرَونَ أنَّ الأرضَ تَمْشِي لِلضِّیاعْ / سَتَرونَ أشْباحَ الضَّمائرِ / في الفَضاء .. (جویده، 1991م: 23) هنا یكون السارد وراء الستار خارجاً من محتوی السرد، لكنّ النصّ یوحي بأنّه علیم ذو معرفة كاملة لكلّ شيء. إنّ الهیمنة المطلقة في منظور السارد والشكل الّذي یدرك به عالمه السرديّ، أوّلها إشعار بالحدث حین یجعل القارئ منذ البدایة في دهشة من قیمة الحیاة والدنیا «ما أحقَرَ الدنیا وما أغبی الحیاة» لیتیح له فرصة سبر أغوار الرؤیة المتشائمة الّتي تكوّنت عنده. یذهب تودوروف في الرؤیة من الخلف إلی أنّ السارد علی الرغم من معرفته التامّة للشخصیّات، «لا ینشغل بأن یشرح لنا كیف اكتسب هذه المعرفة: إنّه یری ما یجري خلف الجدران كما یری ما یجري في دماغ بطله.» (تودوروف، 1992م: 58) هكذا تحمل رؤیة السارد الأولی للدنیا والحیاة موحیة بالشمولیة الغامضة لتبتدأ المرحلة الثانیة وهي التعلیق الأكثر غموضاً علی ما مرّ به حتّی تكوّنت فیه الدهشة. یقوم السارد باستعارض الحبّ بعد إعرابه عن الدهشة تعبیراً عن أحاسیسه بطریقة متفاعلة داعیة إلی تجربة الحبّ الحقیقيّ لمن لم یعرفوا ما عرفه علی وجه الخصوص. إنّ ما یمیّز رؤیته الخلفیة عن رؤی رضا براهني – فضلاً عن نوع الموضوع المختار - هو تقدیم جانبها الإدراكيّ في حنایا طبيعتها الزمنيّة أیضاً؛ فیتلاعب السارد بالزمن من خلال تقدیم الرؤیة الواحدة، فكان التفاته إلی الماضي في النموذج الشعريّ السابق والآن یركّز مراراً على المستقبل لیرفض الحبّ في الدنیا ویدعو الآخرین إلی ما هو أحقّ منه للتعلّق والإدراك البشريّ.
الرؤية مع یسمّي تودوروف "الرؤیة مع"[2] أو الرؤیة المصاحبة بالرؤیة المحایثة ویعتبرها واسعة انتشار في الأدب الحدیث لما فیها من مساواة ودیمقراطیة معرفیّة بین الشخصیات، ففيها يعلم السارد قدر ما تعلمه الشخصية الروائية ولا يقدّم تعلیقات مجهولة منها إلّا بعد أن تكون الشخصية نفسها قد توصّلت إليها. (تودوروف، 1996م: 78) إنّ السارد في هذا الشكل من الرؤیة شاهد علی الأحداث أو شخصیة مساهمة في السرد، في الواقع یكون فیها السارد «مصاحباً لشخصیّات یتبادل معها المعرفة بمسار الوقائع» (لحمداني، 1991م: 48)؛ فیتّبع السارد شخصیة واحدة أو شخصیّات مختلفة یجعلها في بؤرة العنایة ویبلغ غایة التعامل معها في مواقف سارّة ومحرجة. تدلّ هذه الرؤیة في شعر فاروق جویدة ورضا براهني علی أنّ السارد والشخصیات السردیة تتساوی رؤیتهما في النصّ وكأنّهما یسیران من جهة امتلاك المعلومات في خطّین متوازیین دون أن یسبق أحدهما الآخر ویغلب علیه. تتبلور هذه الرؤیة السردية عندهما كثیراً في السرد الذاتي وخاصّة عندما یكون الساردان في رؤیتهما موجودین في سير الأحداث، أو يكون أحدهما مشاركاً فيها وجزءاً منها. من النماذج الشعریة الّتي يمكن عرضها في مجال الرؤية السردية المصاحبة في شعر رضا براهني، ما ورد في قصیدة "إسماعیل" بقوّة متنامیة، إذ تفیض هذه القصیدة بالأحداث ویمیل السارد في بعض فقراتها إلی إجلاء وقائع مصیریّة أو تجارب مشتركة ذاقها السارد وتجاوزها برفقة صدیقه إسماعیل وحینئذ لا یمنح المزید من التفاصیل عنه بین الفینة والأخری، وكذلك لا یظهر في بعض الفقرات اطّلاعه علی خبایاه ورغباته المكنونة الّتي یجهلها إسماعیل بنفسه بل یحاول بهذه الرؤیة أن یقترب من موضوع السرد كإحدی شخصیّاته ویسرد الحدث من زاویة مشاركته فیه. مازال السارد یحاول في قصیدة «اسماعیل» عرض مشاهد مأساویة ممّا حصل في إیران قبل الثورة الإسلامیة وبعدها، وخاصّة یعالج فیها تصارع أحداث غیر متوقّعة قد تؤدّي إلی وضع فاصل شاسع بین السلطة والشعب. لقد جاءت نمط عرض الإعلان عن الرؤیة علی أساس التبئیر الداخليّ في قصیدة "إسماعیل" بالطریقة الثابتة وهي تعني «أنّ الرؤیة الداخلیة تقدّم من زاویة نظرة شخصیة واحدة ثابتة.» (علیپور عسكری والداغی، 1399ش: 233) یجلو السارد مرافقاً لإسماعیل وقریباً منه في ظروف مختلفة ویسرد قضایاه عن طریق الرؤیة الداخلیّة الثابتة. إنّ ما یأتي في التالي نموذج من الإعلان عن هذه الرؤیة بصراحة دالّة علی تمثیل مدركات السارد حول العدید من قضایا الشخصیة: ای آشنای من در باغهای بنفش جنون و بوسه! / ای درازكشیده بر روی تختخواب فنری بیمارستان "مهرگان"! / ای آزادیخواه فقیر بر روی پلههای مهربان! / ای اشكهای تنهای سپرده به نسیم باد تیمارستان! / ای شاعرتر از شعرهای خود و شعرهای ما! / ای تباهشده در دانشگاه، در مدارس، در كافهها، میخانهها / و در محبت زن و فرزند و دوستان نمكنشناسی چون ما! (براهنی، 1366ش: 10) بما أنّ من خصائص السارد في الرؤية الداخلية وصف الأحداث والأماكن والشخصيات وصفاً قریباً، فیستخدم السارد في هذا المقطع وصفاً ظاهرياً لا یرد في التفاصیل وما یدلّ علی استخدامها هي المؤشّرات الوصفیّة الّتي یذكر تشكیلها في صدیقه إسماعیل ممّا ینصّ علی معرفة السارد الجلیّة لهذه الشخصیّة بوصفها رجلاً مصاباً بتبعات الحرب المفروضة والظروف المرّة للمجتمع الإیراني آنذاك. إنّ الإطار السردي الّذي تسیر من خلاله الأحداث، لا یتجاوز رؤیة السارد الثابتة علی الرغم من تغیّر الأوصاف والخصائص؛ فتعدّد الأوصاف هذا في منظور تودوروف «یسمح للقارئ بتركیز انتباهه علی الشخصیّة الّتي یراها لأنّه یعرف الحكایة سابقاً.» (تودوروف، 1996م: 79) هنا لیس السارد خارجاً عن فضاء السرد، بل یقف علی كافّة قضایا الشخصیّة ومعاملاتها في الظروف المختلفة علی مرّ العصور ولو أنّه لا یلج في اللاوعي للشخصیة وفیما یخفیه في جلّ أحداث السرد. یفصح الشاعر عن درایته لخصائص إسماعیل عن طریق ندائه عدّة مرّات وهي الطریقة الخطابیة في التعریف بالشخصیة متمیّزة تماماً؛ فتعتمد علی الجوانب الوصفيّة الّتي تستمرّ في المنادی بدلاً من نداء إسماعیل بنفسه لغایة لفت انتباه المتلقّي كثیراً إلی ما وقع علی هذه الشخصیة بشكل متناثر دون اعتبار الترتیب الزمنيّ في وقوعه عندما كان في حالة الجنون ورقد في دار المجانین وطالب بالحرّیة ودخل المدارس والجامعة واختلف إلی المقاهي والملاهي وممّا یعرض رؤیة السارد النابعة عن التأثّر والمواساة لیترك في القارئ شعوراً بالمشاركة الوجدانیّة. یبدي السارد في بعض مقاطع من هذه القصیدة وقوفه علی طبیعة الآلام الجسدیّة والنفسیّة الّتي یكابدها إسماعیل آنذاك ویحرص علی نقل معاناته بمتابعة تطوّرات الأحداث المؤلمة الّتي وقعت علیه وخاصّة المأساویة منها، لكنّه لا یتنبّأ بأفكاره ولا یرد في اكتشاف ما هو المكنون في ذهنه بل ما زال یلتزم بعملیة الكشف والتعریف بما هو مشهود وواضح للعیان. بما أنّ الرؤیة المصاحبة قد تتزوّد من منظار تودوروف بمتابعة حدث واحد أو عدّة أحداث معاً (تودوروف، 1996م: 78)، یحرص السارد في بعض مقاطع من قصیدة «اسماعیل» أیضاً علی التركیز علی شخصیة واحدة ونقل صفاته ومعاناته بمتابعة تطوّرات الأحداث المؤلمة الّتي وقعت علیه وخاصّة المأساویة منها ویبدي وقوفه علی طبیعة الآلام الجسدیّة والنفسیّة الّتي كابدها إسماعیل آنذاك، لكنّه لا یتسلّل إلی أفكاره الخفیة ولا یرد في اكتشاف ما هو المكنون عنده بل ما زال یلتزم بعملیة الكشف والتعریف بما هو مشهود وواقع في المظهر الخارجيّ ممّا كان قد أثّر علی تكوین شخصیة إسماعیل: ای همسن شاه، معاصر اختناق، ای شهروند شكنجه! / ای گنجشك در بدر در خانههای اجارهای! / ای پسر واقعی "ابراهیم" و"نیما" با هم / ای بیخانه، ای بیآسمان، ای بیسقف، ای بیزمین / ای سایهنشین تنگدست این عصر تنگدل / ای شاعر نسلی تهیدست / گورت كجاست تا كه به مدد عشق تو را از اعماق آن بیرون كشم؟ (براهنی، 1366ش: 12) یحرص السارد علی إظهار الهموم والمصاعب الّتي تعرّض لها إسماعیل، ولكن لا یلقي الضوء علی مشاعره الداخلیّة وأوجاعها النفسیّة بل یقیم علاقة وطیدة بالمظهر الخارجيّ له وكثرة الظروف السیئة الّتي لحقت به في فترة القمع من جانب الحكومة البهلویة؛ فیراه من أجیال الملك الإیرانيّ، غیر أنّ معیشته تختلف عنه جدّاً؛ إذ كان معاصر ضیق وعذاب، ومشردّا لم یكن له سماء وأرض ومأوی. هنا يشارك السارد في النصّ قلیلاً وبدلاً عنه یقع إسماعیل في قلب الأحداث وینادیه السارد مراراً؛ فهذه الرؤیة تساعد على جعل السرد أكثر حميميّة وتصديقاً. في الحقیقة عندما كان السارد شاهداً له علاقة قلیلة بالأحداث، يشعر القارئ بهذه الطريقة أنّ إحدى الشخصيات تتحدّث إليه وتنادیه، من ثمّ يُطلق على هذه الرؤیة اسم الرؤية الداخلية؛ فیبدو أنّ هناك شخصاً ما يقوم بإبلاغ المخاطب من داخل النصّ وتتطلّب طبيعة مثل هذا السرد من القارئ أن يعتبر أحداث النصّ قابلة للتصديق، حتى لو كانت غير قابلة له إلى حدّ ما. (مستور، 1379ش: 73 نقلاً عن رشیدی ویحیایی، 1392ش: 136) بعد تتابع المعلومات الّتي یقدّمها السارد عن الشخصیة والرؤیة المتشائمة الّتي یبرزها من تلك الفترة، یصرّح بحضوره في نهایة النصّ ویتعاطف مع إسماعیل، في الواقع یبدو أنّ السارد وقف بجانب الشخصية مباشرة ويستذكر لها الوقائع الّتي شاهدها مع الشخصية بأمّ عینیه. تشبه رؤیة السارد المصاحبة في شعر فاروق جویدة لرؤیة السارد في شعر رضا براهني من حیث التركيز على شخصية واحدة لها دور رئیس في النصّ، وتصحب تذكّر الأحداث الماضیة لإظهار مدى وعي السارد أمام الشخصیة الحاضرة. إنّ النموذج الّذي یمكن فیه الوقوف علی الرؤیة المصاحبة في شعر فاروق جویدة طبقاً لمعاییر تفوّق علم السارد الّذي ینصّ علی معاییره تودوروف، قصیدة «رسالة إلی بوش من طفلة مسلمة بالبوسنة» الّتي یكون فیها السارد طفلة صغیرة ینقل الشاعر أفكاره ومعتقداته عن قضایا البلد إلی لسانها مباشرة ویجعل أمامها الشخصیة الأخری. تصبح مهمّة السرد في هذه القصیدة علی عاتق طفلة مسلمة تعیش في البوسنة وتعرف ما یجري في بلادها بالتساوي مع الشخصیة الّتي تنادیها وتستهدفها في النصّ غیر قلیل، قائلة: یا سَیِّدي بُوشُ العَظیم / یَوماً سَمِعتُك كُنْتَ تَحْكِي / عَنْ حُقُوقِ النَّاسِ / عَنْ قَتْلِ الشُّعُوبِ / عَنِ الجیاعِ الحائرِینْ.. / قَدْ كُنْتَ تَعْجَبُ مِنْ بِلادٍ / تَشْنُقُ الأشْجارَ.. / تَسْكَرُ مِنْ دِماءِ الحُلْمِ / تَسْخُرُ مِنْ عَذابِ الآمِنینْ.. (جویدة، لاتا: 103و102) هنا تصل الرؤیة إلی الشخصیة الساردة الّتي تساوي معرفتها لما یعلمه بوش وهي طفلة صغیرة مسلمة تنادي الشخصیة الأخری وتقع بجانبها في موقع مشترك ومساوٍ بخلاف رضا براهني الّذي مازال یظهر رؤیته بحضوره في النصّ ویندر تعیینه سارداً آخر يلتقي بالشخصیّة الأخری في بناء الأحداث. یختفي الشاعر في هذه القصیدة تماماً ویلجأ إلی التقنّع بقناع طفلة ساردة تعبّر عن مبتغاه؛ فتحمل الطفلة رؤیة السرد في جانب واحد بحیث إنّ مدی علمها ومعرفتها لمجریات البلاد یجلو علی قدر سیاسي شهیر یضطلع بمهمّة الرئاسة في أمریكا وهو السیّد بوش الّذي تنادیه الطفلة وتستعین به. تعرب الطفلة الساردة عن تعاملها مع بوش بندائه في بدایة الفقرة فحسب دون أن یواصل هذا التعامل اللغويّ ویكرّره كما سادت هذه الوتیرة تعبیر رضا براهني لاتّخاذ تمهیدات الرؤیة. هذه التقنیة عند تودوروف رؤیة مصاحبة یكون فیها السارد من شخصیّات السرد ویصبح الموضوع مدركاً من جانبه أو یأتي "استبطاناً" لدماغها» (تودوروف، 1996م: 78)، كما أنّ الشاعر جعل هذه الرؤیة بلسان الطفلة وخطّط الموضوع لدماغها؛ فتقع مدركات الطفلة علی عرضة لمدركات الرئیس الأمریكيّ علی مقام العظمة والسعة. في حنایا لغة الطفلة، تتمّ ملامة رؤیة بوش الّذي یعلن دفاعه عن حقوق الناس في أنحاء العالم، لكنّه لا یحرّك ساكناً لإنقاذ الشعب البوسنيّ من الأزمة الشاملة. في النصوص السردیة الحالیة الّتي یعالجها العديد من الشخصیّات، یتوسّع دور كلّ شخصية وتصبح معروفة في مواجهة الأخرى، في الواقع تقع كل شخصية في مرآة المواقف والسلوكيات والأفعال ونظرات الشخصيات الأخرى. طبقاً لهذه الطريقة أصبحت الساردة مكتوفة یدین لتحليل وتفسير كلّ المواقف والأحداث والأشخاص؛ إذ یتوسّع عالمها بقدر رؤية الشاعر. تمتاز هذه الرؤیة بتعریف الهویة المعقودة بخصائص قیّمة یقبلها بوش أیضاً مثل الدفاع عن حقوق الناس والجیاع الحائرین والامتناع عن قتل الشعوب، وهي تعرض بصیغة الخطاب واسترجاع الماضي لتمثّل بها الساردة موقفاً مشتركاً تشاركه وتوافقه لشخصیة مطّلعة ومن جهة أخری تفید رؤیة الطفلة بعلاقة رصینة بینها وبین بلادها الّتي تتجاهل فیها القیم الإنسانیة؛ فتُشنق فیها الأشجار ویُسكر من دماء الحلم ویُسخر من عذاب الآمنین. إنّ هذه الطریقة من الرؤیة السردیة تخلق الرؤیة لمجموعة من الشخصیات الخاصّة الّتي لیست غریبة بل تشمل أفراد بلد الطفلة الساردة الّتي هي جزء منهم، لكنّها تخالفهم تماماً، فهي تعرفهم بالضبط وترید أن تعبّر عن معرفتها الحالیة للآخر انتباهاً لتدهور شؤونهم. يتيح ذلك الأمر للجمهور فهم الدوافع الداخلية لكلّ شخصية بأشكال مختلفة للكشف عن خلفياتها وأوجه التشابه والاختلاف بینها. تشبه الرؤیة المصاحبة في نموذج شعري آخر عند فاروق جویدة ما لحظناه عند رضا براهني بحیث إنّ السارد جزء من السرد وجزء من شخصياته، لكنّه ليس عليماً لكلّ شيء فیه بأكمله بل تمّ تحويله مؤقّتاً إلى إحدى الشخصيات ویجلو دوره باستخدام المحادثة والنقاش والجدال بين شخصيتين. (همراز وآخرون، 1400ش: 81) ما زالت الطفلة الساردة في القصیدة المعنیة من فاروق جویدة تنضمّ إلی الشخصيات ضمن أحداث السرد الّتي تبیّنها من منظور شخص واحد، فترمي إلی نموذج مشابه للمكان الّذي یدافع عنه بوش في سابقة أعماله وتخاطبه هكذا: یا سَیِّدي بُوشُ العَظیمْ.. / حارَبْتَ یا مَولايَ یَوماً في الكُوَیتْ / وَجَنیْتَ مِنْها ما جَنَیْتْ.. / هَلْ شَعْبُ بُوسنةَ لا یُساوي / في ضَمیرِكَ .. بِئْرَ زَیْتْ.. (جویدة، لاتا: 119) تختلف الساردة في هذه الفقرة عمّا تقدّم عند رضا براهني في أنّها لا تتّصل بالشخصیة اتّصالاً وثیقاً ولا تدنو منها إشفاقاً علیها، بل تطلب منها الإشفاق والتعاطف، وربّما تعرب عن حاجتها إلی بوش في الخروج من أزمة بلدها. إنّ رؤیة الطفلة في هذا النموذج تعتمد علی استرعاء عنایة الشخصیة لصالح المكان في حین كانت الرؤیة في شعر براهني معتمدة علی مصالح الشخصیة وأهمیّتها للسارد، في الواقع لیست هنا الشخصیة بنفسها مهمّة عند الساردة بل تتابع بها مبتغی آخر، بینما باتت الشخصیة بنفسها هدفاً باسقاً في شعر رضا براهني. تتحدّث الساردة عن الرئیس الأمریكي بوش وتزیل الستار عن ماضیه ودوره الباسق في البلد الآخر «حاربتَ یا مولايَ یوماً في الكویتْ / وجَنیْتَ مِنها ما جَنَیْتْ» لكنّه یترك للقارئ كثیراً من الفراغات والفجوات عن تصرّفات بوش في الكویت لكي یقوم لوحده باستكشافها لاحقاً ویتبدّل إلی مشارك في النصّ. هذا مزید من إیلاء الساردة أهمیّة كبیرة لدور الشخصیة الفاعلة وتركیزها علی أفعالها ومعاملاتها في الماضي حول الكویت وفي الحال تصرّف نظیرها مع شعب البوسنة.
الرؤية من الخارج في الرؤية السردية من الخارج تكون معرفة السارد لما یقع في السرد أقلّ من الشخصية، فهو لا يعرف عن الشخصيات إلّا القليل. تعدّ الرؤیة الخارجیة في منظور تودوروف من أندر أنواع الرؤیة السردیة وتقوم علی أنّ السارد یعرف «أقلّ من أيّ واحدة من الشخصیّات ولا یستطیع أن یصف سوی ما یراه أو یسمعه... الخ، لكنّه یطّلع علی ضمیر أيّ واحدة من الشخصیّات. إنّ هذه الحسّیّة المجرّدة هي افتراض لأنّ ذلك النوع من السرد غیر مفهوم.» (تودوروف، 1996م: 79) تعرف هذه الرؤبة بالرؤیة الخارجیّة؛ «فقد تبدو الأحداث علی أنّها منظورة من الخارج فقط، أي أنّها تبدو من خلال الجزء الظاهر منها فقط، وتبدو كذلك علی أنّ لها وجودها الذاتي خارج نفس الراوي» (الكردي، 2006م: 127)؛ إذن لا یعرف السارد عن الشخصیّات إلّا ما راه أو سمعه من حركات ظاهرة سطحیّة لا تنخرط في أعماق الأحداث. إنّ ما یمكن أن ينجرّ إلی إنارة هذا اللون من ألوان الرؤية السردية في شعر فاروق جویدة ورضا براهني، هو أن يكتفي السارد بوصف خارجي یُشاهد بالعين، دون أن تتمّ محاولة لعرض ما يجول في ذهن الشخصیّات ويختلج في صدورها من مشاعر أو مواقف؛ فلا تتّضح فیها تفاصيل الشخصيات ولا یتمّ عندها عرض مكنوناتها ورغباتها المضمرة. قلّما وردت الرؤیة الخارجیّة في سردیّة شعر فاروق جویدة ورضا براهني؛ فهذا یعود إلی أنّ السارد في معظم قصائدهما یطلّ في الغالب علی أحداث النصّ ودوافع الشخصیّات وردود أفعالها ویحاول سردها واقعاً في خارج السرد وداخله. قصیدة "حماسه معكوس" مأخوذة من مجموعة القصائد الحبسیّة الّتي أنشدها رضا براهني في السجن لإجلاء ذكریات الظروف المرّة الّتي تحكم المنتصف الأوّل من الخمسينيات في إيران. هذه القصیدة تتناول قصّة أسرته المشرّدة والمضطرة إلی الرحلة من جرّاء القمع والفوضی السائدینِ آنذاك. علی الرغم من أنّ السارد في هذه القصیدة یمیل إلی إیضاح ذهن الشخصیّات وموقعها ویعلّق أحیاناً علی ردّة فعلها وكذلك ردّة فعل الآخرین تجاه الظروف المختلفة الّتي تدخل فیها الشخصیة مع عائلتها بنوع ما، لكنّه قد یتنازل عن موقعه المشرف ويكتفي بوصف خارجيّ يُرى بالعين عیاناً ویقع السرد بالكامل في الزمن المنصرم حتی یشیر السارد إلی أمّه الطاعنة في السنّ ویعرب عن عدم وقوفه علی ما تقوله: پدر دستانش را به سوی آسمان برداشته / بود و دعا می كرد و / باد، آفتاب را پشت ابریشم آسمان میلرزاند / مادر چادرش را كنار زده بود و به تركی چیزی میگفت / لكن حرفهایش نامفهوم بود / انگار حروف میخی زبانی كهنه را كشف / كرده بود و تنها با / جیغ میتوانست آن را به دنیا اعلام / كند (براهنی، 1385ش: 49) من الملاحظ أنّ السارد یسرد كل الأحداث للقارئ بالتفاصيل حتی ردّة فعل الوالد الّذي كان قد یرفع یدیه نحو السماء للدعاء وهبوب الریح وتأثیرها علی ضوء الشمس في السماء، غیر أنّه عندما یصل إلی الوالدة یقلّل من إشرافه علی كلّ السرد وهنا بالتحدید علی صوت الوالدة الّتي تقول كلامها بالتركیة بحیث إنّه كان له غامضاً ولا یفهمه بالضبط. هنا تبدو هویّة الشخصیّة مكشوفة لكنّ كلامها غیر واضح، فهذه الرؤیة تدلّ من منظور تودوروف علی أنّ السارد یصف ما یراه ویسمعه من الشخصیّة، ولو یطّلع علی ضمیرها فهي أمّه الشریكة معه في الألم. في هذه الرویة یذهب تودوروف إلی أنّ السارد «شاهد لا یعرف شیئاً بل أكثر من هذا، شاهد لا یرید أن یعرف شیئاً.» (تودوروف، 1996م: 79) إن هذا الضرب في الرؤیة، لدیه كثير من الترغیب للقارئ، فهو یعلم في البدایة قلیلاً عن دور الشخصیة في النصّ ثمّ يقرأ كثیراً للوصول إلى المزید من المعلومات الهامّة، وخاصّة ما هو المهمّ في هذا الصدد. هنا السارد لا یرید أیضاً أن یجهر كلام الأمّ في غیر أوانها، بل یزیل الستار عنه قادماً عندما یجعل صورتها مفلسة تأخذ وعاء التسوّل بیدیها أمام صور ملتصقة بجدران المدینة من كبار الثقافة الغربیة الّتي كانت الأمّ تنظر إلیها وكذلك الحركة الخائبة للثورة الدستورية الإيرانية: در عبور خود طپانچههای زنگزده انقلاب مشروطیت را / میدیدیم / آویزان از دیوارهای خیابانها / در پشت شیشههای كتابفروشیها / عكس عینكی چخوف / ریش بلند و چشمها گودافتاده یك تولستوی هفتادساله / سر تراشیده مایاكوفسكی / یك روز پیش از خودكشی / ریش سفید همینگوی / و چشمهای الكلی فالكنر دیده میشد / مادر، كاسه گدایی بدست به این عكسها نگاه / میكرد و به تركی میگفت / «بولاریندا هش بیری بیزیم كیشی لریمیزه اوخشامیر»، برادر به فارسی به عابران میگفت: «به این زن بیچاره رحم كنید / شوهرش تازه مرده خودش هذیان میگوید.» (براهنی، 1385ش: 51) هنا یبدو من الملاحظ أنّ السارد في عدّة فقرات تالیة من القصیدة یزیل الستار عن كلام الأمّ ویعبّر عن قصدها للمشاة. یهدف السارد بهذه الطریقة إلی تقدیم رؤیته لمعالم الجوع والفقر والتخلّف في المجتمع الإیرانيّ آنذاك أمام معالم التأثّر بالغرب ممّا كان قد یتبعه الملك الإیراني ویصرّ علی نشره في أنحاء البلاد، ولكن یرفضه السارد بالكامل ویسخر منه أثناء تقدیم الشخصیات واحدة تلو الأخری. من جانب آخر تتبلور هذه الرؤیة في شعر فاروق جویدة وفقاً لمنظور تودوروف حین يكون فيها السارد أصغر أو أضعف من الشخصیّات الأخری في السرد. تبدأ قصیدة "الصبح حلم.. لا یجيء" بالزمن الحالي وترافق رؤیة السارد المتشائمة للحیاة، ذاهباً إلی أنّ الإنسان یولد ویأتي الحیاة قسراً ثمّ یرحل مثلما یأتي. ما برح سرّ الولادة للسارد موضوعاً غامضاً وبقي هذا السؤال في ذاكرته غیر مجاب وإنمّا یتذكّر صوت أمّه الّتي تردّ علیه ببساطة تعبیرها وحفاوة لسانها لتمنحه نظرة متفائلة في ظروف صعبة: سَنَواتي الأُولی مَضَتْ كَصَباحِ عیدْ / مازِلْتُ أذْكُرُ صَوتَ أمِّي / عِندَما كانَتْ تُغَنّي اللَّیْلَ تَحْمِلُني إلَی أَمَلٍ بَعِیدْ / كانَتْ تَقُولُ بِأنَّ جَوفَ اللَّیْلِ / یَحْمِلُ صَرْخَةَ الصُّبْحِ الوَلِیدْ.. / وَغَداً سَنُولَدُ مِنْ جَدِیدْ / كانَتْ تَقُولُ بِأنَّ طِفْلَ الأَرْضِ سَوفَ یَجيءُ بِالزَّمَنِ السَّعِیدْ. (جویدة، 1991م: 239) حسب هذا النصّ لا یستطیع السارد أن یفهم غایة الولادة والتفاؤل بها في الطقوس والتقالید الّتي تنقلها الأمّ لولدها. هذه الطریقة السردیة في تقدیم الرؤیة عند تودوروف لا تضمّ الموضوعیة مطلقة بل تعتمد علی النزعة الحسیّة الخالصة. (تودوروف، 1992م: 59) وفقاً لمقصود تودوروف یصف السارد في الرؤیة الخارجیة ما یراه ویسمعه؛ فهنا تتبلور هذه النزعة الحسّیّة الّتي یعنی بها تودوروف، في وصف السارد تذكّر صوت الأمّ عندما كانت تغنّي في اللیلة وتأخذه إلی أمل بعید. أصبح السارد شاهداً لا یتدخّل في مسیرة السرد برفض كلام الأمّ أو تأییده بل یحاول أن یبدي الرؤیة الغالبة في الماضي كما هي ویواصل سردیة قول الأمّ واعتقادها بأنّ الصباح ینبثق من جوف اللیلة وتسهم ولادة طفل جدید في تجمیل الحیاة وإعطائها لوناً آخر. في هذا المقبوس الشعري یتمّ تقدیم منظور الشخص الأوّل علی قالب الحديث عن النفس لإنشاء مناخ حميم جعل القارئ یقبل الرؤیة ممّن وقعت الأحداث من أجله. هنا ظهرت الرؤیة الخارجیّة حین یتذكّر السارد طفولته الّتي وقعت في مرحلة الاكتشاف والحدس عن الولادة، فكانت معرفته آنذاك، أقلّ من الشخصیات الأخری ومن بینها الأمّ الّتي یقترب منها السارد كثیراً. یعود السارد إلی الزمن القدیم لیستذكر نظرة الأمّ إلی حیاة سعیدة تبتدئ بولادة طفل، لكنّه كان قد رفض هذا الرأي في فاتحة القصیدة. علی الرغم من أنّ هذا الإدراك ليس عميقاً قائماً علی الحجج الرسیخة جدّاً بل كان على مستوى عاطفة الأمّ، ولكن یفوق معرفة السارد. إنّ هذه الرؤیة تشبه رؤیة خارجیّة التقینا بها في نموذج رضا براهني في عرض الهموم والمسرّات والمشاكل الّتي تجاوزها الساردان كلاهما؛ لأنّها باتت مهمّة ومسجّلة في ذاكرتهما. تختلف رؤیة فاروق جویدة عن رؤیة نظیره المقارن في أنّها تعود إلی عالمه القدیم عودة عابرة ومقیّدة بصوت الأم ولا تقدّم شیئاً عن المشهد الخارجيّ بكلّ أوصافه، بینما جاء عرض المشهد والمناخ السائد علی السرد في نموذج رضا براهني بتفصیل. من جانب آخر تحصل في شعر رضا براهني رؤیة السارد الأقلّ معرفة والشخصیّة الحاظیة بمعرفة أكثر منه، كلاهما في الزمن القدیم، في حین هنا برزت رؤیة السارد في المستقبل وتمّت مناقشتها واستتبابها المقارن مع الرؤیة الأخری في الزمن القدیم.
النتیجة
تتمیّز الرؤیة الخارجیة في شعر رضا براهني بأنّها تشبه تقریراً یتبع فیه السارد الآثار الناتجة عن حدیث غامض للشخصیة القریبة منه وهو یرغب في إزالة الستار عن غوامضه خطوة فخطوة. تنفرد هذه الرؤیة في شعر فاروق جویدة بأنّ السارد یصوّب فیها إلی غلبة التقالید والمعتقدات القدیمة علی أفكار الشخصیات القریبة منه ثمّ تغلّبها علیه من خلال الأزمنة المنصرمة ولو أنّه لا یصوغها في صیاغة منطقیة.
[1]. Dramatic monologue. [2]. Vision avec.
[1]. Vision par derriere. [2]. The historical imagination. [3]. Flash back.
[1]. Plot. [2]. Tense. [3]. Place. [4]. Character. [5]. Point of view. [6]. Tzvetan Todorov. [7]. فاروق جویدة شاعر مصريّ کبیر وُلِد سنة 1945م بمحافظة کفر الشیخ، لکنّه لم یَعِش فیها لفترة طویلة بل غادرها إلی محافظة البحیرة لإتمام مراحل تعلیمه. درس اختصاص الصحافة وبدأ مهمّته في جریدة الأهرام بوصفه محرّراً في قسم الاقتصاد. (حفیظة، 2015م: 26) من أعماله الشعریة: دائماً أنت بقلبي، لأنّي أحبّك، ويبقى الحبّ، طاوعني قلبي في النسيان، في عينيك عنواني، كانت لنا أوطان، لن أبيع العمر و... کان له ید في المسرح الشعريّ أیضاً، فقدّم ثلاث مسرحيات کـ "الوزير العاشق، دماء على ستار الكعبة، الخديوي، هولاكو". [8]. وُلِد رضا براهني في تبريز عام 1935م وترعرع في أسرة بسيطة ودرس هناك. في غضون ذلك الحین، أمضى شبابه يعمل حتى بلغ من العمر اثنين وثلاثين عاماً. بعد حصوله على درجة الإجازة في اللغة الإنجليزية وآدابها، ذهب إلى تركيا وحصل هناك على الدكتوراه في هذا الفرع. بعد عودته إلى إيران وإكمال خدمته العسكريّة، أصبح على معرفة وثيقة بجمعية طهران الأدبية وشعراء مثل سيمين دانشوار وفروغ فرخزاد ومهدي أخوان ثالث وأحمد شاملو و... . (براهنی، 1368ش: 777) بدأ بنشر أعماله مثل قصيدة "ظل الله" وروايات مثل "البئر بعد البئر" و"ما حدث بعد الزفاف" و"أغنية القتلی" و ... توفّي براهني في 5 أبريل 2022م في كندا ودفن هناك بعد بضعة أيام. [9]. Mikhail Bakhtin. [10]. Vision par derriere. [11]. Vision avec. | ||
مراجع | ||
براهنی، رضا. (1363ش). غمهای بزرگ ما. چاپ نخست. تهران: چاپ نگاه. ______. (1366ش). اسماعیل (یك شعر بلند). تهران: مرغ آمین. ______. (1374ش). خطاب به پروانهها (شعر) و چرا من دیگر شاعر نیمایی نیستم (بحثی در شاعری). تهران: نشر مركز. ______. (1368ش). جنون نوشتن. چ1. تهران: انتشارات رسام. ______. (1385ش). ظلّ الله؛ شعرهای زندان. تهران: انتشارات امیركبیر. برنس، جیرالد. (2003م). المصطلح السردي (معجم مصطلحات). ترجمة عابد خزندار. ط1. القاهرة: المجلس الأعلی للثقافة. _______. (2003م). قاموس السردیّات. ترجمة السید إمام. ط1. القاهرة: میریت للنشر والمعلومات. تودوروف، تزفیتان (1992م). طرائق تحلیل السرد الأدبيّ، ط1، الرباط: منشورات اتّحاد كتّاب المغرب. _________. (1996م). الأدب والدلالة. ترجمة محمّد ندیم خشفة، حلب: مركز الإنماء الحضاريّ للدراسة والترجمة والنشر. تودوروف، تزفیطان. (2005م). مفاهیم سردیّة. ترجمة: عبد الرحمان مزیان. ط1. الجزائر: منشورات الاختلاف. جنیت، جیرار. (1997م). خطاب الحكایة بحث في المنهج. ترجمة محمّد معتصم وعبد الجلیل الأزدي وعمر حلّی. ط2. القاهرة: الهیئة العامّة للمطابع الأمیریة. _______. (2000م). عودة إلی خطاب الحكایة. ترجمة محمّد معتصم. ط1. بیروت: المركز الثقافيّ العربيّ. جویدة، فاروق. (1991م). المجموعة الكاملة. ط3. القاهرة: مركز الأهرام للترجمة والنشر. _______. (لاتا). آخر لیالي الحلم. القاهرة: دار غریب للطباعة والنشر والتوزیع. طودوروف، تزفیطان. (1990م). الشعریة. ترجمة شكري المبخوت ورجاء بن سلامة. ط2. المغرب: دار توبقال للنشر. الكردي، عبد الرحیم. (2006م). الراوي والنصّ القصصيّ. ط1. القاهرة: مكتبة الآداب. لحمداني، حمید. (1991م). بنیة النصّ السردي (من منظور النقد الأدبي). ط1. بیروت: المركز الثقافي العربي للطباعة والنشر والتوزیع. مستور، مصطفی. (1379ش). مبانی داستان كوتاه. تهران: نشر مركز. میرصادقی، جمال. (1394ش). عناصر داستان. چ9. تهران: نشر سخن. میرغني، هاشم (2008م). بنیة الخطاب السرديّ فيّ القصّة القصیرة. ط1. الخرطوم: شركة مطابع السودان للعملة المحدودة. یقطین، سعید. (1997م). تحلیل الخطاب الروائيّ (الزمن – السرد – التبئیر). ط3. بیروت: المركز الثقافيّ العربيّ للطباعة والنشر والتوزیع.
المقالات والرسائل الجامعیة حفیظة، قادي. (2015م). الصورة الشعریة في قصیدة بقایا لفاروق جویدة أنموذجاً. رسالة ماجستیر. جامعة البویرة. الجزائر. رشیدی، صفور السادات و یحیایی، محمّد. (1392ش). «بررسی چگونگی زاویه دید و انواع راوی در داستانهای خردسالان». نشریه ادب و زبان. دانشگاه شهید باهنر كرمان. س16. ش33. صص 151-133. علیپور گسكری، بهناز و الداغی، آنیتا. (1399ش). «چشماندازهای روایی چندگانه به مثابه پدیده روایی مدرن». فصلنامه روایتشناسی. س4. ش7. صص 254-225. نعمة، محمّد قاسم. (2012م). «التبئیر وموضع الذات المدركة (غرفة القیاس) أنموذجاً». مجلّة الخلیج العربيّ. ج40. ع1-2. صص 11-1. همراز، ویدا، محسنزاده، زهرا و اخگری، محمّد. (1400ش). «تأثیر زاویه دید مستندساز از واقعیت سوژه در مستند رادیویی بر پایه نظریههای روایت». فصلنامه علمی رسانههای دیداری و شنیداری. س15. ش2. صص 106-69.
| ||
آمار تعداد مشاهده مقاله: 191 تعداد دریافت فایل اصل مقاله: 84 |